رواية علاقات سامه الفصل الثالث والعشرون23 بقلم سلوى فاضل


 رواية علاقات سامه الفصل الثالث والعشرون23 بقلم سلوى فاضل
سارت هائمة على وجهها بعقلٍ شارد، تسوقها قدمها من طريق لطريق بغير هدى، بدأ جَسَــدها يئن من الاجهاد الذهني والبدني؛ فنبَّه عقلها وأخرجها من حالتها، جالت بعينها ترى أين وصلت؛ فلم تعلم، وكيف لها؟! فهي مسْجُـونة داخل منزلها منذ أعوام، تجهل الطرقات، بل الحياة بأسرها، وكأنها طفلة صغيرة ضلَّت طريق الحياة، أغمضت عينها بإرهاق، لا تعلم أخطت للضياع أم الحرية؟! كل ما تعلمه، أن جَسَــدها روحها وعقلها جميعهم انهكوا وطالبوا مرارًا بتحْـريرهم ولملمت شتاتهم، رفعت رأسها للسماء التي تعانق بها اللونين الأحمر والأصفر، ينذرا بهروب الشمس ويحذرا من هجوم سواد الليل، لكن أيكري دجاه العقول أم يريح للوجدان؟! 

حرص ألا ينتبهوا له، حافظ على مسافة كبيرة مراعيًا ألا يفقد أثرهم، وجد والد شهاب يصف سيارته ثم يصعد مع حفيدته وخلفهما تخطو طيف تابعة، وقف على مسافة مناسبة عقله يطرح التساؤلات وقلبه يخبره بأن القادم فاصل، لمَّا طال انتظاره ارتاب أن يثير التساؤلات، دار بمقلتيه يتفحص المنطقة؛ ليجد مكان مناسب للانتظار، هي منطقة راقية بقلب القاهرة، شارع عريض به عمارات سكنية فاخرة وبضع محلات تماثل رقي المكان، ولحسن الحظ بالصف المقابل للعمارة يوجد مقهى عصري (كافيه) يجاوره مطعم إيطالي، جلس بواجهة المقهى بالداخل بحيث يكشف مدخل العمارة، هاجس داخله يطالبه بالانتظار يؤكد أنها بورطة، نبضات قلقة تتواتر يخفيها مع رشفات القهوة المُرَّة كحياته، لمح شهاب يصف سيارته؛ فانتبهت جميع حواسه خصوصًا مع ظهور أخرى ترافقه تتأبَّط ذراعه بأريحية وصعدت معه، تجعَّد حاجبيه بغرابة وعقله يتساءل: مَن هي؟ وهل وجودها يمس طيف؟ غرق ببحر الاحتمالات حتى رآها تهبط منفردة تسير بخطوات هائمة ضائعة، أسرع يضع على الطاولة مبلغ مالي مناسب ثم تحرك بسيارته خلفها، مر الوقت وهي تسير شعر بالريبة والخوف يتزايد بقلبه، ترى ما بها؟! صف سيارته بأقرب مكان مناسب وقعت عينه عليه حين وجدها تدخل بأماكن مزدحمة بالبشر، خشى أن تضيع وسطهم، ترجل ليسير خلفها، حين وقفت تطالع السماء شعر بانتفاضة فؤاده داخل ضلوعه، تسرب حزنها إليه، شعر برجفة بدنها، أهو إعياء أم بكاء؟! اقترب بخطوات محسوبة، يتابع تحركها.
 

انذرتها السماء بقرب انتهاء اليوم، عادت تخطو من جديد وعقلها يبعث لها رسالة عليها العودة، مهلًا، العودة! إلى أين، أين ستذهب؟ أتذهب لوالدها؟! اتسعت عينها بذعر وثبتت قدمها بالأرض، اعترضت كل خلية بجَسَــدها، سؤال آخر دار بذهنها، أتعود لذل شهاب؟ مجرد الفكرة جعلت قدمها لا تحملها فخَرَّت جالسة على طرف الرصيف، تهدجت أنفاسها، جاهدت لكتم بكائها، اخفضت رأسها تحْتَضـنها بين راحيتها تخفيها، وحقيقة تتكشف لها يوم بعد يوم «وحيدة هي بالعالم»، الحيرة تقاذفتها لا تعلم لها وجهة وقفت تسير نحو المجهول، تضغط على خلاياها، وعقلها يصدمها بأرض الواقع بقسوة، ليس لها سوى سجانها، لكن كيانها يرفض ويطالب بالموت رحمة لها، وبذكر الرحمة تذكرت ابنتها حلاها،  تشتاق لعناقها والارتواء من حنانها ودفئها، بسمة حزينة حاولت شق شفتيها؛ فعجزت، كادت توقف سيارة تقلها لأي واجهة تبيت فيها، فثبتت محلها، فليس معها أي أموال، تذكرت كلمات منذ سنوات حين طلبت منه على استحياء بعض النقود لتشتري أشياء خاصة: 
- فلوس أيه! أنتِ بتشتغلي بلقمتك، أكلك وشربك مقابل خدمتي ومزاجي، فوقي.

 تملكتها الحسرة، وتكالب عليها الوهن، ماذا تفعل؟! لا تملك المال ولا تعلم الطريق، تعصف الأفكار بعقلها تناجي الموت ليأتيها رحمة من الله؛ لينجيها من بطش البشر؟ وكأن الله استجاب لها تهدجت انفاسها بتعب وتمايل جَسَــدها مع الريح ينذر بسقوطها.

يتألم من أجلها ويشفق عليها، آهٍ لو يستطيع قطع كل الموانع والعراقيل ومداواة جراحها، آهٍ لو يستطيع ضمِّـها لصَــدره، أن يصرخ يخبرها «أنا هنا جوارك، لمَ لا تشعري بوجودي؟!» شعر بتثاقل جَسَــدها فقطع المسافة الفاصلة بينهما منتـفـضًا، ما أن وصل إليها تهاوى جَسَــدها، فالتقطها بين ذراعيه يحول سقوطها ويمنع الجميع من مس جوهرته الغالية، صرخ يمنعهم، يردد لسانه ما تمناه «أنها زوجتي» رغم صعوبة الموقف شعر بلذة الكلمة، تمنى أن تصبح واقعًا، ضمَّها باحتواء يخفيها من العيون، حملها للسيارة، حاول افاقتها ولما عجز تحرك إلى أقرب مشفى، طالت فترة الكشف، ثم خرج الطبيب متحفِّزًا:
- أنتَ جوزها؟
- هي فاقت؟
- أنا هبلغ البوليس.
- معاك الرائد مؤنس، مش جوزها، اغمى عليها في الطريق وجيبتها هنا، اسألها لما تفوق. 
- للأسف مش هتفوق دلوقت، دي غيبوبة سكر، والبلاغ لأنها تعرضت لعنف جسدي شديد، عمل جروح عميقة ومع عدم الاهتمام حصل التهابات وصديد.

كيف تحملت هذا الألم! جلس مع الطبيب يوضح حالتها بالتفصيل ويسرد له كل الاحتمالات، ترك بحسابات المشفى مبلغ كبير يغطي نفقات المشفى لفترة طويلة تحسبًا للظروف، دلف لغرفتها جلس جوارها، سكنت عينيه على وجهها تتشرب تفاصيله، تشكو إليها ومنها، لمَ تتقبل هذا الهوان؟! لمَ تهمل في صحتها؟! لمَ لا تَـثُور؟! بكل خطوة يدنو بها لحياتها تزيد وتضاعف رغبته في الفتك بشهاب، كيف لا يقدر الهدية التي اعطاه القدر إياها! حدثها كما لو كانت تسمعه:
- نفسي أعوضك عن كل اللي شوفتيه، سنين بدور عليكِ، مش عشان أخرب حياتك أو أسرقك منها، لا والله! كنت بشوفك في أحلامي تستنجدي بيَّ، ولما لاقيتك تأكدت أن الحلم والحقيقة واحد، أمَّا شهاب فوعد لو لقيت له ثغرة واحدة بس مش هرحمه، نفسي اقدر أدافع بدون ما أأذيكِ، متأكد إن اللي حصلك ده بسببي، لكن مستحيل اسيبك مغمى عليكِ في الشارع واسكت، ما حستش بنفسي وغير وأنتِ بين ايديا وبريحيك في سريرك، وتأكدت أنك بدأتي تفوقي، تمنيت أفضل معاكِ على طول، لكن القدر له رأي تاني، وعد هساعدك وأسندك سواء كنت معايا أو لأ.

غابت عن الحياة لمدة يومان، زارها مؤنس خلالهما يتابع حالتها مع الطبيب، وحين انتبهت أصبح يتابعها عن بعد، أوصى إحدى الممرضات لتهتم بها ولتطمئنها أن حساب المشفى دفع بسخاء، فقد توقع عدم امتلاكها للأموال، فشخصية كشهاب تدمن إذلال الآخرين.

تحاول فتح جفونها، تشعر بثقلهم وألم يزحف بأوصالها، بعد عدة محاولات استطاعت، حين انتبه طاقم التمريض استدعى الطبيب لفحصها، والذي طمأنها أن حالتها بدأت تستقر، تعجبوا لحالة الهلع التي أصابتها، وإصرارها على المغادرة، رفض الطبيب بقطعية وتلا مغادرته اقتراب الممرضة منها تقر وجوب بقائها وتخبرها أن مَن أحضرها دفع حساب المستشفى ويزيد، هدأت وازدادت حيرتها، مَن يهتم بها ويدفع المال مِن أجلها؟

أربعة أيام لم ترَ فيها حلا، لم تحدثها أو تنعم بضمها، اشتاقت لها وتخشى شهاب، تغلَّب شوقها؛ فاستجمعت قواها، واتصلت بابنتها: 
- وحشتيني قوي يا حلا.

أجابها بكاء ابنتها وتهدُّج أنفاسها، امتزجت كلماتها بعبراتها: 
- مشيتي ليه يا ماما؟ وحشتيني، هتسبيني خلاص، بابا قال مش هترجعي تاني.
- هرجع يا حبيبتي، هاجي أكيد وقتها مش هعيط زي ما بتطلبي مني دايمًا.
- أنتِ وحشتيني قوي، تعالي خديني في حضنك.
- حاضر يا حبيبتي، بطلي عياط عشان خاطري.

كيف طاوعها قلبها أن تؤذي ابنتها؟! ادمت قلبها الصغير وابكتها، أطبقت جفنيها بألم، لا تعلم ماذا عليها أن تفعل، تشعر بالتخبط ولا تستطيع أخذ قرار، لم تعتَد، طلبت من الطبيب وأصرت على الخروج، خلال ساعة كانت خارج المشفى ومعها باقي المبلغ الذي تركه لها منقذها المجهول -مؤنس- استقلت سيارة أجرة وترجلت منها أمام العمارة.

يقف بشرفته بعدما انهى الاتصال الذي ورده وأخبره بمغادرتها المشفى، يطالع الطريق بعقلٍ شارد متحيِّر، أين ستذهب؟ هل ستعود لشهاب أم لوالدها؟!!! وقع نظره عليها فاستدعى كامل تركيزه، ثقل خطواتها وترددها لدلوف العمارة جعله يضع تصورات عدة وجميعها تصب في حاجتها للعون، لكن يختلف السبيل، بلمح البصر تحرك يبدل ملابسه، ثُمَّ هبط للشارع يراقب ما سيحدث عن كثب.

أمام باب المنزل راودها الخَــوف والتَّوتُّر، دقَّت الجرس ففتحت لها حلا، لم تطاوعها قدمها لدخول المنزل، فسحبت حلا إليها تضمها وترتوي منها، انسابت دمعاتهما بسخاء وارتفعت شهقاتهما، أنَّبتها حلا بعَتب:
- كدة يا ماما تسيبي حلا، قولتي عمرك ما تبعدي عني، وحشتيني قوي، صالحي بابا عشان زعلان منك، وارجعي.

قبل أن تجيب سمعت صوت شهاب من الداخل يعنفها:
- أيه اللي جابك؟ صحيح أنا اللي غلطان عشان سلمت اسمي لواحدة زيك، وأنتِ يا حلا، ازاي تفتحي الباب من غير أذني! حسابك بعدين، أنتِ يا هانم ارجعي مكان ما كنتِ، أنا طلقتك غيابي، روحي في داهية، أو شوفي كنتِ في حضن مين الأيام اللي فاتت!

حضوره بعثر ثباتها المزعوم والذي حاولت استحضاره طول الطريق، نبرته الحادة مع نظرته المُحْتَقِرَة زعزعتا دواخلها وزلزلتا كيانها؛ فنسيت أن هناك شخص رغم عدم معرفتها له إلَّا أنه يهتم ويدعمها، بأحرف مرتجفة متقطعة وقفت تدافع عن نفسها: 
- كنت محجوزة في المستشفى، غيبوبة، عمري ما خنتك وراعيت ربنا في كل خطوة.

استفزَّه دفاعها عن نفسها، دفعها واقتنص حلا من بين ذراعيها ولم يرحم دموع طفلته، رد مستنكرًا بصوت حاد عالٍ بدأ يتجمع الجيران على إثره: 
- ربنا! أنتِ واحدة رخِيــصَة ماشية على هواها، افتكرت إني ربيتك، لكن اللي زيك محتاج الحَـرق، الدَّفْن بالحياة، غُــوري لا لكِ بيت ولا بنت، مش هتلمحيها باقي عمرك.

لا ينطلق لسانها إلَّا للحفاظ على ابنتها، انسَلَخَت مِن رضُـوخِها وتلبسها رداء الشجاعة الوقتية، انطلق لسانها بمعتقد طالما بثَّته لحالها:
- بنتي هترجع لي بعد ما أعالج نفسي مِن اللي عملته فيَّا، أنا مش عايزة سِجْـنَك اللي تعذبت وتقتلت فيه بدل المرة مية وألف، هاخد هدومي وأسلم على بنتي، اللي مهما طال الوقت هترجع لي وتسيبك.
- لمَّا تكبر وتفهم اللي عملتيه؛ هتقرف منك وتشكرني لأني بعدتها عنكِ، أما هدومك فأنا اللي شاريها، اللي أبوكِ جابه تخلصت منه ادامك، تحبي أفكرك!

اتسعت مقلتيها تطالع الوجوه التي تجمعت حولهما بذعر، أسيقص ما فعله على مسامع الجميع؟! ومن ضمنهم حلا التي احتقن وجهها من شدة البكاء، انسحبت مرتجفة، لا تعلم وجهتها، تركت العنان لأقدامها تسوقها ودموعها تغسل ألم روحها لعله يهدأ قليلًا! عادت بذاكرتها ليوم فعلته، تعاد كلماته المستهزئة بعقلها:
- ذوقك وحش قوي يا طيف، أبوكِ استخسر فيكِ الفلوس، ولا ذوقك كده.

كلماته مهِــينة فصلتها عمَّا حولها لثوانٍ، تلوم والدها الذي أعطاها مبلغ شحيح بالكاد استطاعت شراء هذه الأشياء، وزوجها رماها بكلمات ثِقَال، انتبهت على رائحة حريق تملأ المكان، وتوقف عقلها لا يستوعب فعله، فقد جمع ملابسها جميعًا ثُمَّ أضرم فيهم النيران بداخل إناء معدني، بصوت متقطع نطقت:
- دي هدومي!! كلها!

رمقها ببسمة شيطانية أخافتها:
- يومين وأجيب لك هدوم تليق بمركزي.
- يومين!!

عادت لواقعها تغلق عينها بألم؛ بالفعل تركها يومان منكمشة على نفسها، تلف جَسَــدها بأغطية الفراش، كم شعرت بالإحراج وكأنها فتاة متعة! كانت تلك أول إهانة سددها لها منذ يومها الأول معه.
 ظلت تجوب الطرقات لا تعلم وجهتها، أتحاول العثور على مكان لها في الحياة؟ أم تحاول العثور على الشخص المجهول الذي يساعدها؟ أم تريده أن يجدها؟!! 

خوفه على سمعتها وما سيصيبها هو العائق الوحيد الذي منعه عن شهاب بعدما سمع ما دار بينهما وما رماها به، ود أن يفتك به وبالكاد منع نفسه، تبعها دون أن تشعر أو يلاحظ أحد كما ظن، خطواتها بطيئة غير متزنة، ثم وقفت تطوف المكان بمقلتيها، بعدها واصلت ترحالها لواجهة مجهولة غير محددة، وهو خلفها اقترب منها شيئًا فشيئًا، يخشى سقوطها يتردد بأذنه كلمات الطبيب بوجوب الراحة والاهتمام بجروحها ونظامها الغذائي، وبلحظة شعر بجسدها يتهاوى؛ فأسرع إليها يحتويها بين ذرعيه، متوجهًا لأقرب مشفى.

للمرة الثانية شخص مجهول ينقذها يهتم ويعالجها ويتكفل بمصاريف علاجها ويترك لها ما تنفق منه، جلست بردهة القسم كالتائهة، لا تعلم ما عليها فعله، يبدو أن انعزالها الأعوام الماضية أفقدها قدرتها على تدبر أمورها واعتادت على تنفيذ ما تؤمر فقط، ضاقت بها الأرض ولن تلجأ لولدها، اخفضت رأسها بين كفيها تحاول وضع تصور لما ستفعل، لكنها عجزت فبقيت كما هي.
 
يراقبها عن كَثَب، يفصلهما بضع أمتار، حان وقت ظهوره يمهلها فقط بعض الوقت لتتمالك، علم أنها عزمت ألَّا تعود لوالدها وإلَّا كانت بطريقها إليه الآن، خطى خطوته الأولى إليها، جلس قربها، طالعها بإشفاق وبنبرة حنونة حدثها:
- بقيتي أحسن؟

رفعت رأسها أليه، تذكَّرته؛ فأخفضتها مسرعة باستحياء:
- الحمد لله.
- فاكراني؟
- حضرتك جارنا.

ليس هذا ما سأل عنه، تمنى إجابة مختلفة، أغمض عينيه بإحباط ويدور بالعقل سؤال، هل تشوش إحساسها به؟ أم كان واهمًا؟ أكان ينشد حب سكن خياله فقط؟ تمالك نفسه سريعا، وأتخذ قراره بكل الأحوال سيمد لها يد العون، يكفي أنَّه يحبها وسيسعد براحتها، وإن كانت بعيدًا عنه، تنحنح بإحراج:
- آسف لتدخلي، هتعملي أيه؟ تحبي اوصلك مكان.

لحظات صمت أو حيرة مرَّت، ولم تحسم أمرها: 
- مش عارفة، مش عايزة اتعب حضرتك، شكرًا.
- هتقعدي فين؟

فترة صامتة مرَّت أخبرته بألَّا وجهة لها:
- أعرف حد عايز يأجر شقته، هي هنا، منطقة بعيدة شوية، لو تحبي أكلمه، إيجارها بسيط.
- مش هينفع، شكرًا.

تعثر كلماتها واختناق صوتها عكسا ضيقتها ووحدتها، فدأب يقدم لها الحلول ويقنعها بها:
- هاياخد الإيجار آخر الشهر ومش عايز مقدم أو أي حاجة تانية، طيب عندك بديل.

أومأت نافية؛ فاسترسل مؤكدًا:
- يبقي أكلمه وأوصلك، ثواني وراجع.

عاد إليها بعدما انهى المكالمة موضحًا:
- الشقة موجودة الحمد لله، فيه شرط لصاحبها.

رفعت وجهها مترقبة باقي كلماته، قتلته دمعاتها التي شقت سبيلها بصمت، احتفظ بمشاعره داخله كي لا تؤذيها أو تثير تخوفها واستطرد موضحًا:
- فيها عفش بسيط وهيفضل فيها، استخدميه كأنه حاجتك.
 
رسمت بسمة مرتعشة على وجهها تناقض حالة البكاء التي تملكتها، وسيطرت على باقي ملامحها؛ فأسرعت تخفض وجهها تخفي حالتها، آهٍ لو يستطيع ضمها وإخفائها بين ضلوعه، قاوم حالته منهيًا الموقف: 
- يلا، القاعدة مالهاش لازمة.
ترددت لثواني هي بفوضى داخلية، لا تعلم ما عليها ان تفعل؟ هل ما يحدث يأخذها بالاتجاه الصحيح أم انها تخطو للهاوية؟ ولكن هل هناك هاوية أكثر مما مرت به وعاشته منذ الصغر؟ وانتبهت علي سؤاله
- تعبانة اسندك!
أومأت له نافية، نظرت إليه شاكرة

عدة دقائق مرت حتى وصلا إلى مكان المنزل، باستحياء وخجل طالعت مكان العمارة، شارع هادئ وعمارات ذات نفس الطابع، الشارع مفروش بالأشجار مدها ببعض الراحة النفسية، تحركت خلفه بصمت مخالف لضجيج عقلها.

اتجه إلى طارق الذي ينتظره أمام المبنى، دخل ثلاثتهم العمارة ثم إلى الشَّقة تاركين بابها مفتوح لأخره، تنحيا من أمامها تاركين لها حرية استكشاف المكان، بالواجهة مجلس بسيط تتوسطه منضدة خشبية صغيرة، وبأحد الأركان منضدة صغير يعانقها أربع كراسي، أثاث بسيط مريح للعين ويبعث الرَّاحة للنفس، تابع مؤنس تعبيرات وجهها، سعد بنظرات الإعجاب التي غَزَت حدقتيها وشعر بالراحة، أمَّا طارق فيراقبهما غير مرحب بما يحدث، يخشى على صديقه ومنه، قطع مؤنس الصَّمت:
- أتمنى تكون عجبتك!

لا تدري كيف تخبره، الموقف شديد الاحراج، بالتأكيد لن تستطيع دفع قيمة الإيجار، ظنت أن بالمكان قطع أثاث بسيطة، وبالواقع فالمفروشات شبة جديدة وكثيرة، ومهما كان بالداخل خالي فما يوجد كافي للمعيشة، لمَّا طال صمتها أدرك فيما تفكر، فتحدث يرفع عنها الحرج ويطمئنها:
- ما تقلقيش إيجارها بسيط، ادفعي أي وقت، ولو مش معاكِ مش مشكلة.
- مش قصدي، هو الإيجار كام؟
حروفها متقطعة كما لو كانت تعاني مرض التَّلعثُم، ومع سؤالها نظرت إلى طارق منتظرة إجابته، لكن مؤنس مَن أجابها:
- ٨٠٠ وممكن ولو كتير أقلل شوية.

تساءلت نظراتها المندهشة ليس عن سبب مراعاته لظروفها، وإنَّما عن أيهما مالك المكان؟! أجاب تساؤل مقلتيها الصامت:
- شقتي، ولو قولت من البداية كنت فهمتي غلط، طارق صاحبي وجارك اللي فوق، ساكن مع أسرته، لو احتاجتِ حاجة، ما تتردديش في طلبه، هجيب لك العقد بكرة، إن شاء الله.

لم يتح لها مجال للرفض، وضع المفتاح على المنضدة، ثُمَّ غادر مع صديقه، أصبحت وحيدة حالتها كوجدانها، وقفت تجول بناظريها المكان، رغم سكون الحزن قلبها، إلَّا أنها ولأول مرة تشعر ببعض الراحة والأمان، لفت نظرها شنطة بلاستيكية صغير موضوعة على المنضدة ثُبِّت عليها ورقه مدوَّن عليها جملة واحدة «أتمنى تناسبك»، لا تتذكر متى أحضره وكيف لم تنتبه له قبل هذه اللحظة، أيًا كام ما به فهي بأشد الحاجة إليه، ابتسمت بامتنان، تشعر أن الله أرسل لها هذا الجار رحمة بها، فماذا لو لم يكن موجود اليوم؟ 
بخطوات لا حياة بها دلفت الغرفة لتبدل ملابسها لعلها تحط معه ما تلبس بعض احزانها، ولم يخلف ظنها فأثاث الغرفة الأساسي موجود، تكوَّرت على أحد كراسي المجلس تضم جسدها، وعقلها يعيد سيل ذكرياتها واشتياقها لابنتها، حتى غلبها النوم باكية، راودها ذلك الحلم الذي يزورها منذ قتل شهاب جنينها كاشفًا تفاصيل لم ترَها قبل.

الحلم 
«فتحت عينها بمكان مظلم تكاد لا ترَ كف يدها، وبأذنها بكاء حاد، صوت مألوف تكاد تعلم صاحبته، لكن ذاكرتها لا تسعفها، تحرَّكت ببطء وحذر، شعرت أنها تقترب ممن تبكِ، واصلت خطاها نحوها حتى شعرت بها أمامها؛ فرفعت نظرها إليها، فرأت وجهها مُسلَّط عليه شعاع مِن نور، امعنت نظرها، تأكدت أنها والدة شهاب، طالعتها طيف بحزن واخفضت رأسها، فعاتبتها والدته:
-    ليه يا طيف؟ وعدتِني أنك مش هتدعي عليه.
-    الوجع وخوفي على ابني نساني.

ظهر خلفها وجه شهاب بدا مخيفًا وكان جيده أحمر كاللَّهـب، وتحيطه إضاءة حمراء خافتة، مد يده واقتنص منها شيئًا ألمها؛ فصرخت متوجِّعة، وبنفس اللحظة ظهر بيد والدته وليد بقماشة بيضاء تضوي، وسمعت كلمات الأم الباكية تطمئنها:
-     هيكون معايا يا طيف، يؤنس وحدتي.

سالت دموع طيف واختفى شهاب، بنفس اللحظة بدأ يتنامى لسمعها نداء خافت باسمها، حثتها الأم لإتباعه؛ فدارت حول نفسها تبحث عن الطريق إليه، وجدت نفسها وحيدة اختفت الأم ولم يخفتِ صوتها تدفعها للتقدم، تحسست طريقها المظلم، مع كل خطوة يتضح الصوت أكثر فأكثر، حتى وصلت إلى باب مغلق، موصد بإحكام، حاولت فتحه عدة مرات دون نتيجة، لم تيأس وواصلت محاولاتها غير عابئة بألم كفيها، فاستيقظت منتفضة تشعر بألم يدها، كما لو كان واقعًا.»

 مشاعر مختلطة عدة تجوب دواخله، جعلته غير قادر على البقاء بنفس المبنى دون أن يذهب إليها ويخبرها بكل ما غاب عنها، ذهب إلى مقهى قريب (كافيه) بعد إصرار طارق الشديد أن يتحدث معه، بدأ الحوار وقد ضجر من تصرفات مؤنس التي يراها غير مبررة:
-      وبعدين يا صاحبي! بتدمر نفسك وحياتك.
-      مش وقت نصايح، حقيقي مش قادر، أنتَ كل مرة تعيد نفس الكلام، حقيقي أعصابي مشدودة.
-     طيب ناوي على إيه؟
-    مش عارف، كل اللي عارفه إني استحالة أتخلى عنها، هاساعدها وأمنع عنها أي اذى، وقت ما تحتاجني تلاقيني، ده كل اللي متأكد منه وناوي عليه.
-     وحياتك! ومراتك! والدتك كل يوم تطلب مني أكلمك، قلقانة عليك وعلى مستقبلك.

تنهد بإحباط واسترسل: 
-     أنتم الاتنين سبب جوازي من سارة، مش عارف ألوم عليكم ولا عليَّا، أنتم مش عارفين حياتي شكلها أيه؟
-    احنا زكيناها لك، لكن ما فرضنهاش عليك.
-    مش هنعيد القديم يا طارق ومش وقته، أنا ماشي، خلي بالك منها، ولو طليقها أو أبوها عرفوا مكانها، كلمني وخليك معاها لحد ما أوصل.
-    طليقها! هي أطلقت إمتى؟ 
-    الندل طلقها غيابي وهي في المستشفى، اتهمها في شرفها، وهي كانت غايبة عن الدنيا باللي فيها.

صمت طارق وقد أيقن أن الفترة القادمة ستكون عصيبة مليئة بالعواصف والصراعات، ومن المؤكد أن مؤنس سيكون بخضمها، لا يعلم أيشعر بالشفقة عليه أم الحنق.

 لم يتوقف عقله عن التفكير، فجزء منه يشعر بسعادة غامرة  لانفصال طيفه عن ذلك الشهاب الذي حال بينهما في الماضي، وعقله يحدثه باستمرار البعد والجفاء، تمنى لو يستطيع إخراس صوت عقله، يتمنى ألَّا يجد سارة بانتظاره وقت عودته؛ فلا طاقة له بمجادلتها، كل ما هو بحاجة إليه هو الهروب إلى النوم لينال قسط من الراحة، تبخَّرت أمنيته مع دلوفه البيت.

سحابة دخانيَّة تتبع خطاها، ورغم كثافتها إلا أنها لم تخفِ وهج مقلتيها الحانقة، تتحرك ذهابًا وإيابًا لا تستطيع الجلوس لفرط غَضَبها، انهت ما يقرب من مغلفي سجائر، تنفث فيهما سَعِيرها المُلْـتَهِب، تنتظر عودته لترشقه بسهام كرامتها التي دعثها أسفل قدميه، انتبهت على حركة المفتاح بباب الشقة؛ فوقفت متَحَفِّـزة تعد عُدتها، وبدلوفه انطلقت ثَــوْرَتها:
-    خلاص سيادة الرائد بقى العاشق الولهان، ضرب بكل المقاييس عرض الحائط، للدرجة دي عينك معمية عن اللي حواليك، حتى عن اسمك وسمعتك، ولا فارق معاك شكلي ولا شكلك قدام الجيران.

هيئتها وطريقة حديثها واضحة ولا طاقة له بما تريد؛ فتجاهلها واتجه لغرفته لعله يستطيع النوم ليخمد حَـرب أفكاره، لكنها لم تعطه الفرصة للفرار وجذبت ذراعه بكل ما لديها من قوة، وبالكاد أدارته ليواجهها، أشعلت نِيـران غضَـبه واججتها:
-    احترمي نفسك، وإياكِ تفكري تتعاملي بالطريقة دي تاني.
-    أنا اللي أحترم نفسي! وأنت لمَّا مشيت ورا الهانم ولا همك حد، والشارع كله اتفرج عليكم عادي، سيادة الضابط المنفلت اللي كل شوية يشيلها ولا فارق معاه، أول مرة طلعتها لاوضة نومها بكل بجاحة، والمرة دي وديتها فين؟ 

قطع المسافة الفاصلة بينهما في لمح البصر، قبض على ذراعيها غَـاضبًا:
-     إيَّاكِ شوفي إيَّاكِ تجيبي سيرتها على لسانك، فاهمة! وتلميحك ده أوهام في دماغك.
-    صح، أوهام، عشان كدة جوزها طلقها غيابي، عشان تبقي عارف، أنا اللي صورتكم وهي في حضك وبعتها لجوزها، وممكن ابعتهم لرؤسائك كمان وتبقي فضيحة! مش أنا اللي تفضل عليا واحدة بايعة نفسها.

نفض ذراعيها ودون مقدمات نالت صفعة مدوية ارتج صداها بالأرجاء، وقبل أن تتجاوز صدمتها عاجلها بتهديده، رفع أصبعه بتحذير:
-    إيَّاكِ تجيبي سيرتها على لسانك، طيف انضف من مليون زيك، تحملت جوزها سنين، خلفت منه مرة والتانية هو اللي قتل ابنه زي ما أنت قتلتِ كل حمل قبل ما يكمل، كان عندها استعداد تتحمل كل حاجة عشان بنتها، عملتك دي كان تمنها موت جنينها، عارفة أنت وهو زي بعض، أنت طالق يا هانم، طالق.

أنهى كلماته وتحرك ليغادر المكان، أما هي فتجاوزت صدماتها قبل وصوله للباب ببضع خطوات فصرخت به وقد احتقن وجهها وأكفهر: 
-    تضربني وتطلقني عشان خاطر الهانم، فاكر عشان سيادة اللوا مات بقيت لقمة سهلة لا يا مؤنس، لأ، بتحلم، أنا هاخد حقي منك، وهعمل كل حاجة عشان أبعدك عنها وقلبك يفضل محروق كدة، حتى لو قتلتها.

التفَّ برأسه وتحدث باستهزاء ولا مبالاة:
-    اعملي اللي تقدري عليه، أما أنك تقتليها فلا أنا هسمح لك ولا أنت هتضحي بصحتك وجمالك عشانها، أنتِ ضحيتي بأمومتك عشانهم، فمش هتضحي بهم وفوقهم حريتك كمان عشان تنتقمي.

رحل وتركها لحقدها يأكلها، ظلت تجوب المكان بلا هوادة، تفكر كيف تنتقم لكرامتها، الخطوة الأولى شهاب، أرسلت له رسالة موجزة:
«الطلاق مهد لهم طريق سعادة ما يستحقوهاش، ردَّها وسيبها زي البيت الوقف، وحيدة وذليلة الباقي من عمرها»

الخطوة الثانية والدة مؤنس، سحبت نفس طويل ثُمَّ هاتفتها، بكت كما لم تفعل من قبل، شكت لها أفعاله وآخرهم تطليقها بسبب اعتراضها على ما فعله بمرأى جميع سُكَّان شارعهم، وبعد أنين، شهقات ودموع تحدثت بنبرة مثَّلت فيها الانكسار:
-    مش بعيد تكون في شقته التانية، ما هو من زمان بيقول محدش يدخلها غير حبيبته الغايبة، وهي ما بقتش غايبة وكمان تطلقت، وهو مش فارق معَاه حد، آسفة يا طنط، أنا مجروحة قوي وما حدش حاسس بيَّا، كل ده عشان بابا مات وبقيت وحيدة.
-    وحيدة ازاي يا بنتي وأنا فين؟! صدقيني هجيب لك حقك، ولو هي هناك فعلًا هطردها، ما بقاش غير الاشكال دي تدخل بيتنا، إذا كان أبوها رمى طوبتها، إحنا هنشيل همها!

اعتلت وجهها بسمة ماكرة منتصرة، وصلت لما بغَت. أما والدة مؤنس فهاتفت طارق لتقطع الشك باليقين، سألته مباشرةً دون مراوغة، وُضِع في موقف سيئ وقفت الحروف على لسانه، بدأت المشاكل مبكرًا، شعر بالغَـيظ مِن سارة، فبالتأكيد هي مَن أثارت تلك الجلبة في هذا الوقت مِن اللَّيل، وبالنهاية تحدثت الأم بحدة وصرامة بما سيقلب الأمور ويضعها على حافة الهاوية:
-    طارق يا تنزل حالًا تطلعها برة، يا أنا هاجي أرميها.
-    يا طنط اهدي، ده مش حل ومؤنس مش متحمل كلميه بهدوء، مدام سارة غلطانة أنَّها توصل الأمور للمرحلة دي، على الأقل كانت انتظرت للصبح.
-    أنا جاية يا طارق.
-    يا طنط الوقت متأخر.
-    مش هتبات في الشقة وده آخر كلام، هتصرف أنا؛ لأن واضح أنك هتجامل صاحبك.

انتهت المكالمة وكلاهما يضغط للاتصال، فطارق اتصل بمؤنس يخبره ليمنع حدوث فضيحة تتناقلها الألسن لأيام طويلة، أمَّا والدة مؤنس فاتصلت بسارة تؤكد دعمها لها وأنها لن تجعل الأخرى تمكث ولو ساعة واحدة بالمنزل.
أغلق مقلتيه بتعب، كل ما يريده هو فترة صغيرة يستعيد فيها ثباته؛ ليستعد لما هو قادم، لكن سارة بدأت نِزالها معه مبكرًا، ذهب لوالدته وقد هيَّأ نفسه لنقاش طويل لن يكون له فائدة سوى منعها عن مضايقة طيف ولو مؤقتًا، استقبلته متحفِّزة، رمته باتهامات عديدة يدرك جيدًا أن طليقته السبب بها، طالب نفسه بالهدوء والتَّروِّي لأقصى مدى:
-    ماما شقتي أجرتها، لمين؟ مش مهم، هي معاها عقد، أما سارة فهي حقوده ومستهترة، لو فاكرة أنها زعلانة عشان تطلقت تبقي غلطانة، ولا فارق معاها، مشكلتها أنَّها شايفة طيف أحسن منها؛ فبتغير منها وتتحداها.
-    سارة بنت اللواء ياسر منسي هتغير من دي وكمان التانية أحسن منها! بتحاول تقنعني بأيه؟!
-    طيف أحسن منها فعلًا وكفاية إن سارة نفسها عارفة ده.

بعد أن انصرف جلست والدته تفكر فيما دار بينهما لا يعجبها تصرفه، تبغض طيف تراها سبب دمار حياته، ثم هاتفت سارة خجلة منها:
-    حقك عليا يا بنتي، مؤنس أجر لها الشقة ومعاها عقد، أي كلام مني هأذي ابني مش هي، لكن اللي مُتأكدة منه أني لا يمكن أقبل أو أوافق على ارتباطه بها أبدًا.

لم تتعجب، بل توقعت ما دار، وهي بالفعل حققت هدفيها، أوقعت بينه وبين والدته كما تأكدت من مكان طيف، أصبح ما ظنَّته يقينًا، لم تتوانَ عن مراسلة شهاب، أرسلت إليه تثير تحفُّزِه 
«عشان تتأكد إن طلاقك لها صب في مصلحتها وقربت ما بينهم، طليقتك قاعدة في شقة الظابط، كتبت لك العنوان لو عايز تتأكد بنفسك"

ابتسمت بخبث، أكيدة أنه سيتصرف بما يرضيها، ربَّما أكثر.

لم يوجه أي لوم لحلا؛ فما دار بينه وبين طيف أيَّد موقفه واستطاع تلفيق ما جعلها مذنبة بنظر ابنتها، وبالكاد احتوى حزنها وبكائها حتى غفت، شعر بالرَّاحة لفضحها ثم طردها ذَلِـيلَة، يوقن أن عقلها أعاد عليها ما حدث بتلك الليلة مرارًا، مكتفيًا بفرارها إلى الشارع أو عودتها لوالدها؛ فكلاهما الجَـحِـيم بعينه، لم يبالِ بالرسالة الأولى، لكن الرسالة الثانية أثارت تحفُّزه وغضبه، ليست غيرة وإنما أكدت  ظنونه كما كره لها الرَّاحة أراد هلاكها وألا تهنأ أبدًا، جلس ينظم أفكاره ليتربص بها ويوقعها بشر أعمالها، بعد فترة لم تطُل اتسعت بسمته بوميض شَيْطَـاني، استقر على ما سيفعل، فقط سيمهلها بعض الوقت، القليل منه.

جلس وسيم ببسمته البشوشة مع شيماء ووالدها، دار خلالها حديث تقليدي دار حول تجهيزاته لشقة الزوجية وبعض التفاصيل الأخرى، أبدى وسيم كامل استعداده وإشرافه على كل ما ذكر وكل التفاصيل، تابعت شيماء حماسته، سعدت باهتمامه رغم غصة الألم التي تطـعنْـها، ليست مستعدة للحياة معه وهناك دومًا مشاعر قلقة من المجهول تدق قلبها، حاولت التغلب على شعورها واكتفت ببسمة رقيقة تعبر عن امتنانها لتغيره؛ فهذه المرة الأولى التي يجيب على والدها دون ضجر، بل يجيب باهتمام وتلقائية، ها هو يعمل بنصيحتها ويعطي لهما فرصة للتقارب، ورغم ذلك فكل ما بها يرفع صفارات الخطر وينذرها بخطر مجهول.

حدجه والدها  بنظرات مبهمة، ثم تركهما ودلف غرفته، تقابلت نظراتهما كجلستهما، اهدته بسمة رقيقة هادئة معربة عن امتنانها:
-    أول مرة تتكلم بالحماس ده عن تجهيزات الفرح.
-     مبسوطة.

أومأت مؤيدة واحمر وجهها بإحراج، جلس جوارها يضمها إليه؛ فانتفضت واقفة، وتحدثت بغَضَب، وصوت جاهدت إلا يصل لوالدها:
-    بردو، نفس التفكير ونفس الطريقة.

جاورها بوقفتها واتسعت بسمته، أحتوى كفها بين راحة يده يدها، جذبها بلطف لتعاود الجلوس مرة جاورها تاركًا مسافة بسيطة بينهما:
-    بنكشك يا سيتي، بحب اشوف تحول حالتك ده، المهم بس بعد الجواز ده يتغير.

رنت إليه بناظريها تحاول استكشاف نواياه، لكنها فشلت، حدثها في موضوعات عدة، لم يحاول الاقتراب بأي طريقة ترفضها، أو تثير غَضَبها، فقط أحيانًا يمسك كفها بهيام يقبله، أحيانا يمسد على رأسها، ويمدح في طريقة تصفيف شعرها، مر الوقت فنهض ليرحل، التف إليها بعد خطوته الأولى يغمز لها بإحدى ناظريه:
-    أنا محضر لك مفاجأة بكرة، لكن جامدة جدًا.
-     بجد! أيه هي؟

حرك ظهر كفه بلطف على وجهها، وتحدث بعذوبة:
-    طيب لو قولت لك تبقي مفاجأة إزاي.
-    عندك حق هنتظر بكرة بفارغ الصبر.
-    طيب بما أننا كاتبين كتابنا يعني جوزك، ممكن طلب صغير وما فيهوش حاجة والله.

ابتسمت وأومأت موافقة.
-    بوسة أخوية مكافأة ليا، لأني أكيد مش هقدر أخدها بكرة.

توهَّج وجهها خجلًا ولم تعترض، قطع الخطوة الفاصلة بينهما وتخللت أصابعه خصلاتها رمقها هائمًا، وطبع على وجنتها قبله طويلة رقيقة، فتملكّها الخجل وازدادت توهُّـجًا، تعمقت نظراته، علق على حالتها قبل رحيله:   حقيقي أول مرة أقابل الخجل ده
يتبع 
تعليقات



<>