رواية المحترم البربري الفصل الخامس والاربعون45الاخيربقلم منال محمد

رواية المحترم البربري
 الفصل الخامس والاربعون45الاخير
بقلم منال محمد
اندفعت واقفة من مقعدها لتراقب المشهد بتوترٍ بعد أن فسدت الأجواء الرومانسية في المطعم الراقي ليعود كل شيء إلى ما اعتادت عليه من عنف ونزاعٍ لا ينتهي مسببة فضيحة لها ولمن حولها، تحركت "آسيا" بتعجل لتقف خلف "معتصم"، انحنت عليه لتجذبه من ذراعيه بكل ما أوتيت من قوة بعيدًا عن والدها وهي تصيح به:

-ابعد عنه، سيبه يمشي
رمقه "شرف الدين" بنظرة متهكمة قاصدًا إيصاله لأقصى درجات الانفعال متسائلاً باستفزاز:
-هاتسمع كلامها؟
ثم هز رأسه بقوة متحديًا بسماجة:
-اضرب ووريني هاتعمل إيه
ردت عليه "آسيا" برجاء علها تستعطفه وقد تضاعف خوفها من حالة الهرج التي سادت في المكان:
-بلاش يا "معتصم"، سيبك منه!
ورغم احتقانه الداخلي إلا أن توسلات "آسيا" من خلفه جعلته متصلبًا في مكانه وكاظمًا بصعوبة ردة فعله الهوجائية تجاهه، تراجع عنه "معتصم" هادرًا به بنبرة شرسة دون أن يرف له جفن:
-مش هاسمحلك تخربلها حياتها، سامعني!
تشبثت "آسيا" بذراعه دافعة إياه للخلف وهي تهمس له بصوتٍ أقرب للبكاء:
-عشان خاطري، كفاية كده!
التوى ثغر "شرف الدين" بابتسامته اللئيمة التي تثير نزعة الغضب في أي شخص عقلاني، اعتدل من رقدته الإجبارية قائلاً بنبرة ذات مغزى:
-برافو عليكي يا "آسيا"، المرادي وقعتي واقفة!
تأكدت من كلماته المهلكة أنه يريد تدمير حياتها مهما حاولت الخلاص مما أثير حول سمعتها في السابق، لن يتركها لشأنها، سيظل كالشوكة في ظهرها ينغص عليها صفو حياتها، أجفل بدنها ونظرت إلى "معتصم" بتوجسٍ، الآن ستعبث شياطين رأسه بعقله ويتجسد له من جديد طيفها السيء، ارتخت قبضتيها عن ذراعه متراجعة للخلف وهي متوقعة الأسوأ، انحبست دمعاتها في حدقتيها ولمعتا بشدة وهي تصرخ بعصبية في وجهه:
-كفاية بقى، حياتي ضاعت بسببك
مد "معتصم" يده ليمسك بها فتشنجت صارخة به:
-متلمسنيش، مش عاوزة حد يقرب مني، سبوني في حالي!
هرولت هاربة من المكان وهي تبكي بحرقة مريرة على فساد كل لحظة سلام هادئة تقاتل للاحتفاظ بها، غلت الدماء في شرايين "معتصم" وهو يشعر بالألم الذي يعتريها حاليًا، كان متيقنًا أنها تصارع أزمة نفسية جديدة بسبب ظهور والدها، دس سريعًا يده في جيبه ليخرج ثمن الطعام ثم ألقاه على الطاولة، التفت نحو "شرف الدين" يتوعده:
-حسابك قرب، و"آسيا" هتفضل معايا مهما قولت!
ثم اندفع في إثرها ليلحق بها، تبتعهما أنظار "شرف الدين" الغاضبة، لملم شتات نفسه لينهض على قدميه، جلس على نفس طاولة الطعام التي جلس عليها الاثنين مشيرًا بيده للنادل:
-المنيو لو سمحت
مرر أنظاره على رواد المطعم المحدقين به باستنكار ليعلق بنبرة عالية ووجهه يعلوه ابتسامة سخيفة باردة:
-مشاكل عائلية، ماتخدوش في بالكم
حافظ على جمود تعابيره ليثير حفيظة من حوله أكثر، وضع ساقه فوق الأخرى ثم أشعل سيجارة أخرجها من علبة السجائر الموضوعة في جيب سترته، نفث دخانها في الهواء مرددًا لنفسه بثقة تامة:
-ملكيش إلا أنا يا "آسيا"، إنتي نسخة مني، لازم تصدقي ده!
مسحت بيدها دمعاتها الساخنة التي انهمرت بغزارة على وجنتيها، تلاحقت أنفاسها المختنقة مع تأوهاتها الموجوعة وهي تبحث بغير هدى عن طريق للهروب، ففي الوقت الذي تأمل فيه أن تنعم بحياة هادئة يظهر والدها ليمحو ببراعة محاولاتها لهذا، للحظة فقدت "آسيا" تركيزها وتوقفت في مكانها لتستعيد سيطرتها على نفسها، تنفست بعمق وقد شعرت بضعفها ووحدتها، انتبهت لصوت "معتصم" الأتي من خلفها المنادي باسمها:
-"آسيــا"!
التفتت عفويًا لتجده مسرعًا في خطواته نحوها، همَّت بالركض لكنه وصل إليها، أمسك بها من ذراعها ليوقفها ثم جذبها إليه متسائلاً بتلهفٍ:
-بتهربي مني ليه؟
دفعته بقبضتيها بقوةٍ في صدره صائحة بنبرتها الباكية:
-ابعد عني!
رفض التخلي عنها وتشبث أكثر بها، ضيق نظراته ليتأمل حالتها الفوضوية وهو يكاد يحترق لعجزه عن إيقاف إيلام الأخرين لها، همس لها برجاءٍ:
-"آسيا"، بصيلي
لم ترغب في مطالعة عينيه ليرى ذلك الانكسار جليًا فيهما، احتضن "معتصم" وجهها براحتيه مجبرًا إياها على النظر في حدقتيه، كز على أسنانه مؤكدًا بوعد قاطع:
-أنا مش هاسيبك
رفضت تصديق ما يقوله وصرخت معترضة:
-ليه؟ ها رد عليا؟
بكت أكثر وهي تجيب عنه:
-قولتلك أنا منفعكش، أنا غلطة في حياتك، ليه مش عاوز تفهم ده؟ سيبني بقى!
شدد من تمسكه بها وضغط بأصابعه على وجهها لتشعر بقوة لمساته عليها وليعزز ما يقول، همس مرددًا بتبرمٍ:
-فكرك أنا مصدق اللي باباكي قاله جوا؟ البني آدم ده كداب ومايتعشرش، ده غير إنه ....
قاطعته وهي تزيح يديه بعيدًا عنها:
-مش عاوزة أسمع حاجة
أشارت له بكفها متابعة بعصبيةٍ:
-كفاية مبررات، أنا تعبت من كل حاجة، ارحموني وسيبوني أعيش حياتي بعيد عنكم
أولته ظهرها لتركض لكنه استوقفها مجددًا باعتراض طريقها بجسده، نظر لها قائلاً بإصرار:
-لأ يا "آسيا"، إنتي مكانك معايا
ثم أمسك بها من رسغها متعمدًا إحكام قبضته عليها لتعجز عن الإفلات منه، أمرها بجدية:
-تعالي
شحنت ما تبقى من قواها لتتخلص من أصابعه الغليظة صائحة بانفعال:
-سيبني!
اتجه بها نحو السيارة رافضًا تركها وهو يرد بخشونة ظهرت في لهجته:
-هنتكلم في البيت ونتفاهم هناك!
أجبرها على السير معه نحو سيارته المصفوفة بجوار المطعم، أجلسها فيها عنوة مثبطًا أي محاولة منها للمناص منه، التف حول السيارة ليجلس خلف عجلة القيادة، وليتأكد من عدم إقدامها على فعل متهور أثناء تحركه بها أغلق القفل الالكتروني لجميع الأبواب فباتت حبيسته مؤقتًا.لم يعد بها مباشرة إلى المنزل، بل ظل يجوب الطرقات لساعات بالسيارة ملتزمًا الصمت وتاركًا لها الحرية لتبكي حتى ضعفت قواها واستسلمت للنوم لتهرب لبعض الوقت مما تعانيه، أوقف "معتصم" السيارة في منطقة هادئة شبه نائية مرخيًا رابطة عنقه عن باقته وفاتحًا لأول أزرار قميصه، ثم بحذرٍ شديد مال نحو "آسيا" ليحرك مقعدها للخلف لتغفو بأريحية، أحزنه رؤية عبوسها جليًا على ملامحها المستكينة قسرًا، وبعناية واضحة مسح بقايا عبراتها من على بشرتها ليحس بتلك الرجفة الخفيفة التي اعترتها، تراجع قبل أن تفيق ونظر لها بترقبٍ، تنفس بارتياح لكونها لا تزال مستغرقة في غفلتها، هز ساقه بعصبية راغبًا بشراسة في العودة للمطعم وتلقين من يحمل لقب والدها خطئًا درسًا قاسيًا، كور أصابعه بقوة وظل يزفر ببطء ليتحكم في أعصابه المتحفزة، استدار نحوها كالملسوع حينما هلوست بهمسٍ:
-ابعدوا عني، كفاية!
هاجت دمائه من جديد، ثم كز على أسنانه معنفًا نفسه بغلظة:
-أنا زيي زيه يا "آسيا"، مارحمتكيش!
أدرك أيضًا أنه أحد أطراف معاناتها، فإن كان والدها له السبق في هذا، فبالطبع أكمل هو عمله بالضغط المستمر عليها ليخرج أسوأ ما فيها، ولن تصدق بسهولة أنه ليس كما ادعى معها الفظ البربري، أرجع رأسه للخلف ضاربًا بها مؤخرة مقعده لعدة مرات وهو يردد بندمٍ:
-غبي، مفرقتش عنه في حاجة!
سمع تلك الآنة الخافتة منها فالتفت نحوها يتأملها باهتمام شديد، وبدون أي حذرٍ مد يده ليمسح على بشرتها برفقٍ قائلاً لها:
-أنا أسف!
أعاد تشغيل المحرك لينطلق بالسيارة عائدًا بها إلى المنزل.
ليلة مشحونة بدأت بتطلعات لساعات رومانسية حالمة وانتهت بصورة مأساوية مخربة لأي ذكرى طيبة، أفاقت "آسيا" من نومتها المزعجة لتجد نفسها لا تزال في السيارة، نظرت بعينين متورمتين إلى "معتصم" الذي أوشك على الوصول إلى طريق المنزل، سألته بصوتها المبحوح وهي تحدق باستغراب في الشفق الذي اعتلى السماء:
-إنت مرجعني هنا ليه؟
أجابها دون أن ينظر نحوها:
-ده بيتك
ردت نافية:
-لأ، أنا ماليش مكان هنا
أحست بوجود فارق زمني بين توقيت ذهابهما للمطعم وعودتهما للمنزل، سألته بارتياب:
-هي الساعة كام دلوقتي؟
نفخ قائلاً بثقلٍ:
-النهار قرب يطلع
سألته بانزعاج واضح:
-هو احنا كل ده كنا برا؟
أجابها باقتضاب:
-أيوه
خشيت أن يكون قد ارتكب حماقة ما أثناء غفوتها فرددت بتوجسٍ:
-إنت عملت إيه؟ رجعت المطعم تاني و....
قاطعها بصوتٍ متصلب وهو ينظر تلك المرة إليها:
-متخافيش، أنا مقربتش منه مع إنه يستاهل الـ ....
بتر عبارته كي لا يثير حنقها وهو بالكاد يحاول إعادتها لهدوئها الطبيعي، ابتلع ريقه ليتابع بحذرٍ:
-إنتي كنتي محتاجة ترتاحي وأنا كنت مخنوق ففضلت ألف بالعربية شوية، ودلوقتي احنا راجعين البيت
كانت "آسيا" مرهقة للغاية، يكاد الصداع يفتك ببقايا خلاياها المتيقظة، بدت غير قادرة على الجدال والاعتراض، أسندت رأسها على المقعد لتريح عقلها مؤقتًا من التفكير، أغمضت عينيها الملتهبتين لبرهة، كانت بحاجة لأحضان والدتها وكلماتها المطمئنة التي تبث لها الأمان، افتقدتها في تلك اللحظة كثيرًا، غرقت في تفكيرها عنها ولم تشعر بـ "معتصم" وهو يوقف السيارة وكأنها سرحت تلقائيًا في ملكوت يجمعها بها، استغرب من صمتها، لم يزعجها وتركها على حالتها تلك لدقائقٍ، اعتقد أنها ذهبت في سبات جديد فترجل من السيارة ليتجه إليها، فتح الباب الملاصق بها ثم انحنى ليحملها بين ذراعيه، في تلك اللحظة فتحت "آسيا" عينيها مدهوشة من فعلته، تذمرت عليه قائلة بضيقٍ وهي تركل بساقيها الهواء:
-سيبني يا "معتصم"!
رفض تركها قائلاً بجمود جاد:
-إنتي تعبانة، مش هاتقدري تمشي
ثم أغلق بيده الباب ليكمل سيره نحو المدخل، زوت ما بين حاجبيها بقوة وهي ترد بامتعاضٍ متجهمٍ:
-أنا ....
رمقها "معتصم" بنظرة صارمة قبل أن يقاطعها بلهجته الجادة رغم خفوت نبرته:
-شششش، بطلي تقاوميني، احنا خلاص وصلنا بيتنا!
حدقت أمامها لتتأكد مما قاله، وبعفويةٍ غير معتادة منها أسندت رأسها على كتفه لتتخلى عن جدالها العقيم معه، فمهما أبدت من تذمر ومشاكسة محتجة لن يصغِ لها، وهي بالفعل مرهقة وبحاجة ماسة للراحة والنوم، شعر "معتصم" بأنفاسها المنتظمة والساخنة تضرب عنقه وتلهب خلاياه، بل إنها أشعلت الرغبة في التودد لها بحميمية، أسبل عينيه ليتأملها بشغفٍ لم يقاومه، تمنى فقط لو تشعر بما يختلجه الآن من مشاعر حقيقية أنكرها في البداية، دق قلبه بقوة مع زيادة حماسه، ترك مشاعره الذكورية تتدفق في جسده لتغذي كل ذرة فيه بتوقه المتحمس لها.
كانت كالمطيعة لأوامره وهي شبه غافلة في أحضانه، مستسلمة لما قد يفعله بها، استحوذ على تفكيره أفكارًا حالمة ودَّ باشتياقٍ لو شاركته إياها وجدانيًا وحسيًا، سحب "معتصم" شهيقًا عميقًا حبسه لثوانٍ معدودة في صدره ليخمد به تلك الثورة المندلعة بداخله قبل أن يحرره بحرارة، أحنى رأسه طابعًا قبلة سريعة على رأس "آسيا" ثم خرج من المصعد متجهًا إلى باب المنزل واضعًا المفتاح في قفله، ولج إلى الداخل مغلقًا الباب بهدوءٍ حذر، صعد بعدها الدرج ليصل الطابق العلوي، وأكمل سيره حتى وصل بها إلى غرفتها، تردد في الدخول، وإذ به يقرر الإقدام على فكرة متهورة، لما لا يجعلها تعايش تجربة رومانسية تنسيها ما فات
تجمد في مكانه ليفكر برويةٍ وعمق فيما انتوى على فعله، وبخطا ثابتة وحذرة غيَّر "معتصم" وجهته ليسير في اتجاه غرفته، ولج إلى الداخل ثم برفق شديد مدد "آسيا" على فراشه، عاد إلى الباب ليوصده بالمفتاح والتفت ليرمقها بنظرات مطولة، خلع سترته وأسندها بإهمال على المقعد، ثم انتزع رابطة عنقه وحل أزرار قميصه بالكامل، زفر بصوت مسموع ليهدئ من الحماس المشتعل بداخله، اقترب منها ثم جلس على طرف الفراش ممررًا أنظاره بتمعنٍ شديد على تفاصيل وجهها، رفع يده ليتلمس جبينها برفق ناعم، همس لها بصوتٍ عذبٍ اخترقها:
-"آسيا"!
تنبهت لصوته ففتحت عينيها على الفور لتجده يطالعها من ذلك القرب المُربك، زحفت بعيدًا عن حصاره المريب وهي تردد بتوترٍ:
-إنت!
ألقت نظرة خاطفة على تفاصيل المكان من حولها لتتأكد أنها ليست بغرفتها، زاد اضطرابها دقات وجهها وارتسم على ملامحها شبه المذعورة علامات القلق، سألته بنبرة مهتزة:
-أنا إيه اللي جابني هنا؟
أشار لها بيده محاولاً تهدئتها قبل أن تثير جلبة من لا شيء:
-"آسيا"، اسمعيني لو سمحتي
تحفزت حواسها لما سيحدث لاحقًا، استشعرت نية مبيتة لفعل ما تخشى التفكير في إمكانية حدوثه، رمقته بنظرات قلقة وهي تسأله:
-عاوز تقول إيه؟
دنا منها بحذرٍ، فهبت واقفة من على الفراش لتترك مسافة آمنة بينهما، توقف عن التقدم ليبث لها إحساس الثقة، منحها نظرات دافئة مليئة بالشغف ثم تابع موضحًا بخفوت:
-متخافيش مني يا "آسيا"، أنا غير أي حد
رفعت سبابتها نحو باب غرفته تأمره رغم ارتجاف صوتها:
-عاوزة أطلع من هنا
هز رأسه بالنفي وهو يرد عليها بهدوءٍ:
-مش هاينفع
شعرت بجفاف كبير يجتاح حلقها، فنظرات "معتصم" الغريبة نحوها تؤكد لها عزمه على تصعيد الأمور في علاقتهما، خفق قلبها بقوة حينما تابع:
-أنا عاوز أقرب أكتر منك، تعرفيني بجد وتفهميني
ردت محتجة بجمود زائف علها تنجح في التخلص منه:
-وده ماينفعش إلا في أوضتك؟
التوى ثغره قائلاً بابتسامة صغيرة:
-احنا متجوزين يا "آسيا"، طبيعي يبقى في أمور ومشاعر خاصة بينا
زاد يقينها بأنه سيتودد إليها بصورة حميمية، فمنذ ومتى وتلك المعاملة الرقيقة الراقية منه معها؟ حاولت المناص منه لتقول باعتراض واضح:
-بس بالشكل ده
حسمت أمرها بالرحيل فورًا من غرفته، فبقائها يعني استدراجها لما تخشاه، تحفزت واندفعت في اتجاه الباب بأقصى سرعتها، توقفت كليًا فجأة حينما سد عليها "معتصم" الطريق بذراعيه، أجبرها بذلك على التراجع خطوتين للخلف بعيدًا عنه، عبس وجهه وهو يتوسلها بحذرٍ:
-"آسيا"، استني من فضلك
صاحت فيه بنبرة أقرب للصراخ:
-عاوزة أطلع من هنا
أشار لها بكفيه يرجوها بعقلانية:
-اسمعيني بس للآخر
نظرت له بعينين حادتين فأكمل بتمهلٍ:
-أنا والله غير الشخص اللي اتعاملتي معاه خالص، أنا شخصية مختلفة
ردت بنفاذ صبر:
-أوكي، ماشي طلعني من هنا!
تقدم نحوها فتراجعت لا إراديًا للخلف، ابتسم مضيفًا بتنهيدة فهمتها على الفور:
-مش قبل ما تعرفي باللي حاسه ناحيتك!
ارتفع حاجباها للأعلى في اندهاش كبير، ردت بعدم تصديق:
-نعم
زفر بعمق قبل أن يستأنف حديثه المتيم:
-مهما حاولت أنكر ده في الأول بس فعلاً جوايا ليكي ....
قاطعته بحدة رافضة منحه أي فرصة للتعبير عن مشاعر لن تصدقها حاليًا:
-"معتصم" لو سمحت
أزعجه رفضها السماح له بالتقرب منها واسترقاق قلبها عله يتمكن من استمالة عقلها وإزالة تلك الغشاوة التي تعوق كلاهما عن رؤية مشاعرهما الحقيقية، اقترب منها هامسًا باسمها:
-"آسيا"
ظلت تتراجع للخلف حتى اصطدم جسدها بخزانة الثياب، باتت محاصرة منه، تقوست شفتاه بابتسامة ساحرة، رفع يده ليتلمس وجنتها بحنو وهو يسألها:
-بتبعدي ليه مني وأنا عاوز أقرب منك؟
توترت نظراتها وتحرك بؤبؤاها بعصبية ملحوظة، رجته بأنفاس متهدجة:
-سيبني أمشي من هنا
رد نافيًا بكلمة واحدة:
-صعب!
اتسعت حدقتاها الفيروزيتان أكثر، تورد وجهها بدموية مغرية ومحببة إليه، اقشعر بدنها من لمسة يده الأخرى على جانب عنقها، أغمضت "آسيا" عينيها مقاومة ذلك الإحساس المغري الذي عصف بأوصالها وهو يفرك بشرتها برقة مؤججة للمشاعر، ارتجفت خلاياها من لمساته، مال عليها "معتصم" برأسه ليطبع قبلة حسية عميقة على شفتيها أراد أن يعزز بها توقه لها، استمر في محاوطة وجهها بأصابعه مدعمًا قبلته بالمزيد من المشاعر الأكثر عمقًا ليدفعها للاندماج معه وجدانيًا، تراجع عنها هامسًا لها بتنهيدة حارة ألهبت وجهها المشتعل مسبقًا:
-شكلي وقعت في حبك يا "آسيا" وأنا مش دريان!
ورغم التخبط الهائل في أحاسيسها إلا أن كلماته كانت محسوسة بشكل غامض ومثير، تابع همسه العاشق مرددًا:
-خلينا نعيش اللحظة دي وننسى كل اللي فات
تلاحقت دقات قلبها مع همساته الملامسة لأوتارها، داعب طرف أذنها بأنفاسه مؤكدًا لها:
-إنتي مراتي ومشاعري من حقك زي ما مشاعرك من حقي أنا وبس!
انحنى عليها مجددًا ليمنحها قبلة أخرى أذابت ما بينهما من حواجز وهمية ومهدت الطريق لأمور أشد تأثيرًا، أدركت "آسيا" عند تلك النقطة أنه لا بديل عن الاستسلام له، فربما تلك هي طريقته للتأكد من عفتها حتى لو ادعى حبه لها، فقط تمتاز بكونها صورة إنسانية راقية بعيدة عن الحيوانية الغرائزية التي قرأتها في أعين من التقت بهم من أشباه الرجال، فإن اعترضت عليه وقاومته سيعاملها بخشونة وقسوة وفي الأخير سينال غرضه منها وستعاني من ذكرياتها، إذًا لتجعلها لحظة مميزة ومختلفة، لتمنحه ما يطمح إليه لتكون آخر ذكرى تجمعهما سويًا، بادلته بعد حسم مصيرها معه مشاعرها الحسية، فتضاعفت رغبته فيها مع تجاوبها المثير الذي شوقه للمزيد، وحدث ما تمناه
-جاهز؟
تساءل "شرف الدين" بتلك الكلمة المقتضبة موجهًا حديثه إلى غريمه الجالس في مواجهته وهو ينظر بخلسةٍ إلى أوراقه الرابحة، بدا الأخير مزعوجًا من خسارته المتلاحقة خلال ليلته المشؤومة، وضع ما تبقى معه من نقود في المنتصف ليرد بتأفف:
-أيوه
ثم أظهر أوراقه متوقعًا أن يقف القدر في صفه ويربح، خابت توقعاته مع إبراز "شرف الدين" لأوراقه الرابحة ليحقق فوزًا كبيرًا عليه، فرد ذراعيه ليضم النقود إليه لكن تجمد في مكانه مصدومًا حينما سمع الصوت الآمر بغلاظةٍ:
-ولا حركة!
ثبت أنظاره على الرجل المهيب الذي اقتحم المكان برجاله من ذوي الوجوه الصارمة، خمن سريعًا أنها مداهمة من قبل السلطات الأمنية على ذلك المكان السري الذي يمارس فيه رواده لعبة القمار، ادعى تماسكه متسائلاً ببلاهةٍ:
-إنتو مين؟
أجابه الضابط بابتسامة منتصرة:
-بوليس يا حضرت، وطبعًا مش محتاج أقولك احنا هنا ليه
ثم أدار رأسه للجانب ليأمر رجاله بصرامةٍ:
-هاتوهم وحرزوا الحاجات دي كلها!
هاج "شرف الدين" لتبخر حلم الفوز في ثانية، هدر محتجًا على إلقاء القبض عليه، قاوم رجال الشرطة صارخًا بتشنجٍ:
-سيبوني، أنا هوديكم في داهية، إنتو مش عارفين مين ورايا
نظر له الضابط شزرًا وهو يعلق عليه باستهزاءٍ:
-ابقى عرفنا في القسم، يالا على البوكس
ساقه رجال الشرطة إلى خارج المكان متلبسًا بالجرم المنشود لتنتهي فعليًا بالنسبة له حياة الترف والرفاهية.
انقضى ما يزيد عن ساعتين منذ لحظة تلاحم جسديهما معًا لكنها ظلت متيقظة الحواس واعية لكل شيء، فكرت مليًا في تبعات علاقتهما، وتخيلت الكثير من النهايات المأساوية لزيجتهما، حركت "آسيا" رأسها للجانب لتنظر إلى "معتصم" الذي غرق في سبات عميق، عاتبت نفسها بقسوة لضعفها، لخذلانها، لاستسلامها، ولرضوخها بسهولة لفيض المشاعر الناعمة التي نقلتها لعالم وردي سكنت فيه آلامها وجعلتها تحلق عاليًا متناسية كل ما مرت به في حياتها الماضية، أوهمت نفسها بأنها قد عايشت حلمًا جميلاً ستفيق منه على حقيقة مريرة حينما منحته في تمناه ورغب فيه بدون عناء، لحظة واحدة أشعرتها بالخوف من مستقبلها معه، حتمًا سيطفو ماضيها على السطح ليخلق المشاكل بينهما، قررت دون تفكير هجر "معتصم" والاختفاء من حياته قبل أن يذيقها ما لن تتحمله متسلحًا برغباته الانتقامية التي لن تخمد بين ليلة وضحاها، ستحيا بعيدًا عنه وبمساعدة نفسها فقط، ستتلاشى من حياته نهائيًا، تحركت بحذرٍ شديد من على الفراش كي لا توقظه، ثم تسللت على أطراف أصابعها لتخرج من غرفته.
عادت "آسيا" إلى غرفتها مهرولة، وبدون أي تأخير جمعت ما استطاعت أن تطاله يدها من متعلقات تخصها في حقيبة صغيرة، التقطت الصورة الفوتوغرافية التي جمعتها بوالدتها الراحلة نظرت لها بحزنٍ، مسحت عليها بيدها قائلة بندمٍ:
-مش هاينفع أكمل معاه، هو محبنيش من الأول!
دستها على عجالة وسط ثيابها، قررت أن تترك هاتفها على الكومود، ليست بحاجة إليه، سترحل بلا عودة وبدون أن يقتني أحدهم أثرها، وبتأنٍ حريص خرجت من الغرفة، أضاء عقلها بفكرة جهنمية، ستجبر "معتصم" على تذكر نبذها له دومًا، لذا دونت على ورقة صغيرة جملة حملت الكثير (طلقني، أنا بأكرهك)، أسندت حقيبتها بجوار باب غرفته وتسللت إلى الداخل لتضع الورقة على الوسادة بجواره، تخشب جسدها مع تلك الغمغمة البهمة التي صدرت منه، خشيت أن يكتشف أمرها ويفسد مخططها، حبست أنفاسها بترقب، وما إن تأكدت من استغراقه في النوم حتى عادت من حيث أتت لتهرول على الدرج ومنه إلى الطابق السفلي ثم إلى خارج المنزل، كان الوقت مبكرًا فخدمها ذلك الهدوء السائد في المنطقة إلى حد ما، سارت بخطوات أقرب للركض متجهة للطريق الرئيسي لتستقل سيارة أجرة، أمرت السائق بصوتها اللاهث:
-اطلع على موقف الباصات!
تنعم بمشاعر مشوقة مليئة بالآنات والأهات المستمتعة وهو يقدم باستفاضة حبه الجارف لها، تململ "معتصم" في الفراش مستعيدًا في عقله لحظاته الخاصة مع "آسيا"، وما زاده سعادة هو تأكده من نقائها فانهارت شكوكه وتبددت كليًا، شعر بالرضا والانتشاء الممتع مع اختباره لمشاعرها الأنثوية التي قدمتها له بكرمٍ كبير، تثاءب وهو يتقلب على جانبه آملاً أن يكون وجهها الساحر هو أول ما يراه في نهاره، فتحت عينيه ليتفاجأ بخلو الفراش منها، تحسس مكانها فوجده باردًا، انتفض من نومته متلفتًا حوله بقلق، هتف مناديًا بصوته الناعس:
-"آسيا"!
تنحنح بخشونة قبل أن يزيح الغطاء عنه ليتجه إلى الحمام، اعتقد أنها بداخله فدق الباب متابعًا ندائه عليها:
-"آسيا"، إنتي جوا؟
لم يحصل على جواب يشبع فضوله فاستأذن قائلاً:
-أنا هادخل لو مردتيش عليا
وبدون تردد أدار المقبض لينفتح الباب فظهر المكان خاليًا منها، انقبض قلبه بخوفٍ وأسرع بارتداء قميصه التحتي، تجمدت نظراته على تلك الورقة الملقاة بجوار الفراش، انحنى ليلتقطها ثم قرأ ما فيها لتتحول تعابيره للتجهم الشديد، خرج "معتصم" من غرفته متجهًا إلى غرفتها صائحًا بنبرة عالية:
-"آسيـــا"
اقتحم غرفتها فوجدها شاغرة، استشاطت نظراته من فعلتها غير المبررة، طوى الورقة بعصبية ثم مشى مهرولاً نحو الدرج وهو يتساءل بحنقٍ:
-ليه كده يا "آسيا"؟ بتبوظي حياتنا قبل ما تبدأ ليه؟
خرج والده من غرفته على صوته المرتفع متسائلاً:
-في إيه "معتصم"
التفت نحوه ليجيبه وشرارات الغضب تطاير من عينيه:
-"آسيا" سابت البيت يا بابا
احتل الاندهاش قسماته فردد مصدومًا:
-بتقول إيه؟ وإزاي ده حصل؟ وعشان إيه؟!!!
أجابه من بين أسنانه المضغوطة:
-معرفش حاجة!
اقترب منه "وحيد" بخطاه المتعجلة يسأله بعبوس يعلو وجهه:
-اوعى تكون ضايقتها بأسلوبك؟ مش أنا موصيك عليها
هدر منفعلاً:
-أنا معملتهاش حاجة، بالعكس احنا كنا مبسوطين أوي امبارح حتى بعد ما باباها ....
قاطعه أباه متسائلاً باستغرابٍ:
-قصدك "شرف الدين"؟ إنتو شوفتوه فين؟
توهجت نظرات "معتصم" بغضب مفهوم، تمتم بغيظٍ:
-أكيد الجبان ده كلمها وهددها وهي خافت منه، أنا مش هاسيبه لو عملها حاجة
أمسك به "وحيد" من كتفيه ليهزه وهو يسأله بحيرة انعكست في نظراته المتوترة نحوه:
-فهمني يا "معتصم" إيه اللي حصل؟
أجابه بغموض:
-نوصل بس لـ "آسيا" وهاحكيلك كل حاجة
أرخى والده قبضتيه عنه ليتابع بجدية:
-أنا هاكلم اللوا "موافي" جايز يقدر يفيدني بحاجة عن أبوها وممكن نوصلها عن طريقه
أومأ برأسه موافقًا:
-تمام، وأنا هاغير هدومي وأروح شقتها القديمة، احتمال تكون رجعت هناك
رد عليه والده بقلق كبير:
-ماشي، وخليك على اتصال معايا وبلغني بأي جديد يا "معتصم"
-حاضر
قالها ابنه وهو يعاود أدراجه إلى غرفته ليبدل ثيابه ويبدأ رحلة البحث عن حبيبته الهاربة "آسيا
مرت ليالٍ عليه وقد خاب مسعاه في العثور عليها في كل الأماكن التي من المحتمل أن تلجأ إليها، أهمل متابعة عمله وانشغل بها هي فقط، عاد "معتصم" خائب الرجاء وخالي الوفاض إلى منزله متحسرًا مهمومًا، ألقى بجسده المتعب من المجهود الزائد على الأريكة وهو يعتصر عقله محاولاً الوصول إلى شيء ما قد يمكنه من إيجادها، كز على أسنانه مغمغمًا بضيق حانق:
-روحتي بس فين؟
سأله "وحيد" الذي اقترب منه ليتفقده:
-برضوه ملقتهاش؟
خرج صوته متشنجًا وهو يجيبه:
-زي ما تكون فص ملح وداب
أرجع رأسه للخلف متسائلاً بغضبٍ لم يخمد للحظة:
-اللي هايجنني هي عملت كده ليه؟ اقسم بالله أنا عملتها كويس جدًا، كنت مستعد أخليها تعيش ملكة معايا
جلس والده بجواره ماسحًا على كتفه بحنو أبوي، تنهد معلقًا:
-جايز محتاجة فترة تعيد حساباتها فيها
نظر له بغل وهو يرد:
-هي لعبتها صح وانتقمت مني
اعترض والده على ظنونه السيئة قائلاً بصوته المتصلب:
-هترجع لشكوكك دي تاني؟ ما هو ممكن ده اللي خلاها تبعد عنك!
برر له اعتقاده قائلاً:
-طب تفسرلي بإيه اللي عملته يا بابا؟ أنا واحد صحيت من النوم لاقيت مراتي سيباله ورقة مكتوب فيها طلقني وهربانة من البيت
كان إلى حد ما محقًا في هاجسه ورغم ذلك علل "وحيد" تصرفها موضحًا:
-ممكن تكون أعدة مع واحدة من أصحابها
هز رأسه بالنفي قائلاً:
-معتقدش، ماشوفتلهاش واحدة خالص
أضاف والده باهتمام جاد:
-طب مسألتش "أية"؟ هي كانت قريبة منها الفترة اللي فاتت، احتمال تكون قالتلها على مكانها أو ...
قاطعه "معتصم" بيأسٍ:
-برضوه متعرفش عنها حاجة
ربت والده على كتفه ليهون عليه قليلاً، ثم علق بهدوءٍ:
-إن شاء الله هنوصلها، متقلقش
استنكر حدوث ذلك متسائلاً:
-إزاي؟
تابع "وحيد" حديثه:
-اللوا "موافي" كلمني وقالي إنها مخرجتش برا مصر، ودي حاجة كويسة أوي، يعني هي لسه هنا!
دفن "معتصم" رأسه بين راحتيه لثوانٍ قبل أن يبعدهما ليزفر قائلاً بإحباطٍ جلي:
-أنا عامل زي اللي بيدور على إبرة وسط كوم قش!
ناولتها كوب النسكافيه الساخن لتحتسيه بعد أن اعتدل في جلستها على الفراش، ابتسمت "آسيا" لرفيقتها "جميلة" بامتنان كبير لحسن ضيافتها لها، فقد استقبلتها الأخيرة في منزلها حديث الطراز بتلك المدينة السياحية المواجهة لشواطئ البحر الأحمر لتمكث معها بعد أن فرت من "معتصم"، أشفقت عليها صديقتها معتقدة –مثلما أخبرتها- بأن زوجها قد عاملها بقسوة وعنف قبل أن يطرد من منزله لتقاسي بمفردها في الطرقات محتفظة لنفسها بهويته الشخصية، رفعت "آسيا" عينيها الذابلتين نحوها قائلة:
-تعبتك معايا
ردت بعبوس زائف:
-هو أنا عملت حاجة، المهم إنتي بقيتي كويسة دلوقتي؟
هزت "آسيا" رأسها بالإيجاب لترد بحرجٍ:
-الحمدلله، معلش هتقل عليكي كمان كام يوم لحد ما أظبط أموري و...
انزعجت "جميلة" مما قالته ووبختها قائلة برقة:
-ماتقوليش كده، والله أزعل منك
ثم رسمت بسمة ناعمة على شفتيها لتضيف بحماس:
-ده أنا مصدقت ألاقي حد أعرفه يقعد معايا هنا في المنفى ده
مالت "جميلة" على "آسيا" لتضمها بذراعيها من كتفيها، شعرت الأخيرة بالاحتواء من ضمتها الصغيرة، أضافت رفيقتها بامتنان واضح:
-وبعدين أنا مش ناسية اللي عملتيه معايا لما كنا في "دبي"
تذكرت "آسيا" لجوء صديقتها إليها لتطلب منها مساعدتها لإبعاد ذلك البغيض الذي حاول الاعتداء عليها أثناء مشاركتها في إحدى عروض الأزياء، لم يتركها ذلك الدنيء وشأنها، بل لحق بها إلى غرفة تبديل الثياب، وحينما حاولت اتهامه بالتحرش بها، اتهمها بسرقته، أنقذها فقط التسجيل المصور الذي التقطته له وهو في حالة شبه مغيبة لتنقلب الطاولة على رأسه، وتنتهي الأمور لصالح "جميلة" وحينها قررت العودة إلى وطنها لتستقل بعملٍ بعيد عن ذلك الوسط الذي لا يلائمها، عادت "آسيا" من شرودها السريع لتربت على يد رفيقتها مرددة بابتسامة مجاملة:
-حبيبتي، تسلميلي، احنا مش بس أصحاب لأ اخوات من زمان أوي
تحولت تعابير وجه "جميلة" للجدية لتعلق بتبرمٍ وهي تسلط أنظارها عليها:
-بس كان المفروض تبلغي البوليس يا "آسيا" عن الهمجي ده، إزاي تسيبه يضربك ويرميكي في الشارع من غير ما يتحاسب على وحشيته؟
ارتبكت "آسيا" لوهلة من جملتها المباغتة تلك، فإن صارحتها بالحقيقة لربما رفضت حينئذ مساعدتها، لذا كان عليها الادعاء بكونها ضحية اضطهاد لتتمكن من مساعدتها دون تردد، همست قائلة بصوت شبه مهتز:
-أنا مش عاوزة مشاكل مع حد، كفاية اللي شوفته
وافقتها الرأي هامسة بأسفٍ:
-أه يا حبيبتي، ما أنا كنت متابعة أخبارك، بجد أنا مش مصدقة الناس اللي بتنشر أخبار كدب عن غيرهم
تنهدت "آسيا" بزفير حزين مستعيدة مشاهدًا مجمعة مما لاقته في الأشهر الماضية، لاحظت "جميلة" شرودها العابس فندمت على زلة لسانها، عضت على شفتها السفلى بحرجٍ ثم حاولت مواساتها قائلة:
-كله بيعدي وبيتنسى
ردت عليها بتنهيدة موجوعة:
-ايوه
-أما تفوقي بقى نفكر سوا هنعمل إيه
-حاضر
تابعت بحماسٍ ظاهر:
-أنا عندي أفكار كتير حلوة ممكن تفيدك، المكان هنا تحفة بصراحة مع إنه بعيد وموسمي، زي ما إنتي فاهمة مش بيتزحم إلا في الأجازات ومواسم الصيف والأعياد، بس مع الوقت هتتعودي عليه، ده غير إن الناس طيبين أوي ومحترمين
حملقت "آسيا" فيها معلقة بفتورٍ:
-وأنا مش عاوزة إلا كده، مكان محدش يعرفني فيه
حركت "جميلة" رأسها بإيماءات رقيقة وهي تكمل:
-اوكي نتكلم في التفاصيل بعدين
أمسكت بها "آسيا" من رسغها لتضغط برفق عليها وهي تقول بنبرة شبه مختنقة وقد لمعت عيناها بعبرات خفيفة:
-شكرًا يا "جميلة" على وقفتك دي، إنتي اسم على مسمى فعلاً
زمت صديقتها شفتيها لتقول بحزنٍ مصطنع:
-بليز، بلاش كده، هتخليني أعيط وأنا دمعتي قريبة!
احتضنت الاثنتان بعضهما البعض لبعض الوقت كتعبير عن تقديرهما لتلك الصداقة العميقة التي نشأت بينهما في الماضي واستمرت حتى الآن رغم الانقطاع الكبير في تواصلهما معًا، ومع ذلك التزمت "جميلة" بالحفاظ على الوفاء بوعدها برد الجميل حينما يحين الوقت لهذا .
مضى ما يقرب من شهرين منذ انتقالها للعيش في تلك المدينة السياحية المطلة على البحر الأحمر، اختلفت حياتها كليًا عما عاشته من قبل رغم الذكريات التي ظلت ملازمة لها، تحولت "آسيا" إلى شابة أخرى بسيطة المظهر ترتدي العباءات المزركشة التي تماثل ثياب أهل النوبة وتضع ما يشبه غطاء الرأس على خصلاتها، ومع ذلك ظلت محتفظة بجمالها الطبيعي، تأقلمت من جديد على وحدتها وكتم أحزانها في صدرها، وأخفت عن رفيقتها أغلب ما يخص حياتها، لم تعطها إلا القليل من المعلومات الغامضة التي لا تفيد بشيء لتضمن عدم وصول "معتصم" إليها إن لعب القدر دوره وعرف طريقها.
كذلك أشرفت بنفسها على العمال المكلفين بتجهيز بازارها الصغير في منطقة المزارات، فضلت أن تُنشأ مشروعًا خاصًا بها تعرض فيه على الزائرين الحلي والإكسسوارت يدوية الصنع بحكم خبرتها في مجال الأزياء والموضة، وساعدتها رفيقتها في ذلك بتأجيرها لأحد المحال التي تمتلكها، ورغم التعب الذي ظهر عليها مؤخرًا إلا أنها لم تتقاعس عن متابعة التجهيزات النهائية من أجل افتتاحه، أحضرت لها "جميلة" الطعام الجاهز لتتناوله معها، هتفت عاليًا ومشيرة لها بيدها:
-تعالي يا "آسيا"، الأوردر وصل
بدت الأخيرة فاقدة للشهية إلى حد ما، أزعجت أنفها رائحته القوية، رفعت كفها هامسة باعتراض:
-ماليش نفس
أصرت على إطعامها قائلة:
-يا بنتي إنتي واقفة على رجليكي من الصبح مع العمال، مش معقول هاسيبك كده لحد ما تقعي من طولك؟
هزت رأسها بالنفي وقد بدا عليها التأفف والنفور:
-مش قادرة صدقيني، بطني تعبانة، وجسمي همدان
توجست "جميلة" خيفة من إصابتها بفيروس ما فهتفت بقلقٍ:
-ماتسكتيش على نفسك، احنا بالليل نروح لدكتور يطمنا، ويديكي دوا مناسب
لم تجد بدًا من الاعتراض فهي بحاجة إلى ما يعيد لها صحتها الواهنة، ردت بخفوتٍ:
-اوكي
لم يتوقف عن التطلع إلى صورها التي ملأت ذاكرة هاتفه المحمول ليؤكد "معتصم" لنفسه أن وجودها معه لم يكن وهمًا أبدًا، اختفت "آسيا" من الساحة الفنية ولم يعد هناك ما قد ينشر عنها في أي من المواقع الإخبارية بالرغم من بحثه اليومي عما يخصها، إذ ربما تكون وسيلته الوحيدة للحصول على طرف خيط يمكنه من الوصول إليها، ولج "نبيل" إلى داخل مكتبه ليسأله:
-هاتروح الموقع ولا أطلع بدالك؟
نظر له بعينين لم تتذوقا طعم النوم منذ فترة طويلة، نفخ قائلاً:
-اطلع إنت يا "نبيل"، أنا مش فاضي
دققت ابن عمه النظر في وجهه الواجم ليقول بضيق:
-يا "معتصم" اللي بتعمله في نفسك ده حرام، عمو "وحيد" اشتكالي من تصرفاتك و...
قاطعه بعصبية كبيرة:
-ملكش فيه، أكيد أنا مش بأهزر لما أدور على مراتي
رد عليه بهدوء ليمتص غضبته الواضحة:
-حقك، بس لازم تعرف إنها لما اختارت تبعد كان بسبب أسلوبك العنيف معها، يعني إنت ليك اليد في هروبها
صرخ به محتجًا:
-إنت جاي تحاسبني دلوقتي؟
صحح له موضحًا بنبرته العقلانية:
-أنا بأفكرك إني حذرتك وقتها، وإنت مسمعتش كلامي
كان "معتصم" على وشك فقدان أعصابه والتلفظ بما لا يليق، أثر كظم غضبه في نفسه ليقول بصوتٍ محتقن على الأخير:
-اطلع دلوقتي يا "نبيل"، أنا مش هاستحمل أتناقش معاك، لأن ممكن نخسر بعض فيها
كان تحذيره شديد اللهجة، ومع ذلك لم ينزعج ابن عمه منه، بدا متفهمًا للغاية للحالة النفسية التي يمر بها، تنهد قائلاً:
-ماشي، أنا هاخلص الشغل بدالك، سلام!
تركه بمفرده في مكتبه ليحدق "معتصم" من جديد في شاشة هاتفه محركًا الصور الفوتغرافية بتوتر متعصب ظاهر في حركة إصبعه، نعم لقد أمعنت في هجرها وبُعدها حتى ظن أنها وارت الثرى مع والدتها الراحلة تاركة له ذكرى لحظات رومانسية حميمية اعتصرت قلبه وألمته بابتعادها، انكوى بغيابها المريب، واحترق ببقايا أثرها، ألقى هاتفه بعصبية على سطح مكتبه متوعدًا إياها:
-لو طال الزمن يا "آسيا"، وعرفتي تهربي مني، هايجي يوم وأوصلك!
-مش معقول
انفرجت شفتاها بتلك الجملة المدهوشة بعد أن صارحها الطبيب بخبر حملها والذي هبط على رأسها كالصاعقة، نظرت له "آسيا" بعدم تصديق، بدا على تعبيراتها الجزع ثم حدقت في وجه "جميلة" بنفس الذهول المصدوم، ابتلعت ريقها لتضيف باستنكارٍ كبير:
-استحالة ده يحصل يا دكتور
سألها الطبيب متعجبًا من ردة فعلها المستغربة:
-ليه يا مدام؟ ده أمر طبيعي
اشتعل وجهها بحمرة شبه غاضبه وهي تجيبه برفض قوي:
-إنت مش فاهم، أنا مابخلفش، أكيد في غلط في الموضوع
نظر لها بغرابة معلقًا عليها:
-مين قالك كده؟ أنا متأكد من اللي بأقوله، وحضرتك لما تعملي التحاليل ونشوف بالسونار صور الجنين هتتأكدي
ظلت على حالة الاستنكار للحظات مرددة بين جنبات نفسها بصدمة:
-طب إزاي؟
حدقت "آسيا" في الطبيب من جديد لتقول له بجدية شديدة:
-بص يا دكتور أنا عملت حادثة من كام شهر، وعرفت بعدها إني مش ممكن أخلف لأن عندي مشاكل في الرحم و...
قاطعها مشيرًا بإصبعه:
-يا مدام اللي ظاهر قدامي عكس اللي اتقالك، وارد إن الحادثة دي يكون من أثرها منع الإنجاب، بس محدش يقدر يقف قدام إرادة ربنا
مالت عليها "جميلة" لتسألها بهمسٍ:
-هتعملي إيه يا "آسيا"؟
بدت كمن أصيب بشلل مؤقت في تفكيره، ردت بحدةٍ طفيفة وقد توترت نظراتها:
-أنا مش عارفة أفكر دلوقتي
دون الطبيب بعض الملحوظات في الورقة الطبية الموضوعة أمامه وهو يضيف بنبرته الرسمية:
-أنا هاحولك لدكتور نسا متخصص تتابعي معاه حالتك وإن شاء الله يكمل الحمل على خير، ومبروك يا مدام
تجاهلته "آسيا" كليًا، كانت غير واعية لما قاله، تناولت "جميلة" من الوصفة الطبية لترد بحرجٍ:
-احم الله يبارك فيك يا دكتور، ميرسي على تعبك
عاونت رفيقتها على النهوض وتأبطت في ذراعها لتخرج معها من غرفة الكشف، شردت "آسيا" متسائلة مع نفسها بحيرة:
-طب إزاي يحصل من ليلة واحدة قضيناها سوا؟ و"معتصم" قالي إني ش هاخلف مهما عملت، أنا مش فاهمة حاجة!
نظرت لها "جميلة" باستغراب وهي تسألها:
-إنتي بتكلمي نفسك يا "آسيا"؟
لم تعلق عليها وظلت منخرطة في همهماتها الشاردة، أردفت صديقتها قائلة:
-احنا لما نروح للدكتور اللي قالنا عليه احيكله كل حاجة وأكيد هيفيدك!
وافقتها "آسيا" الرأي، فمشورة المتخصصين ستذيل ذلك الغموض الذي أربك كافة مخططاتها بل وأحدث اضطرابًا في القادم من حياتها.
اتضحت لها الرؤية كاملة بعد زيارتها للطبيب النسائي المتخصص الذي أكد لها وجود تمزق في جدار الرحم جراء الحادث الذي تعرضت له، ورغم هذه الإصابة إلا أنها لم تمنع حدوث الحمل، بقيت "آسيا" على وضعيتها المصدومة لبرهةٍ، ترك الخبر وقعه عليها، رافقتها "جميلة" في مشوارها ولم تتركها بمفردها، ظلت ملازمة لها حتى عادت كلتاهما إلى المنزل، أعدت لها حساءً ساخنًا فتناولته على استحياء ثم غفت الأخيرة في الفراش بعد إرهاق عقلها في التفكير، أو هكذا ظنت رفيقتها فتركتها منسحبة من الغرفة بهدوء تاركة الإضاءة الخافتة مُنارة بها، فتحت "آسيا" عينيها لتنظر في الفراغ أمامها بنظرات غامضة، أمن الممكن أن تحظى بطفلٍ بعد خسارتها لكل من حولها؟ رفعت حدقتاها لتحدق في صورة والدتها بحزنٍ، رددت بانكسار:
-أنا هابقى زيك ... ماما!
كانت الصدمة أكبر من قدرتها على التصديق أو الاستيعاب، لاح بصيص جديد من الأمل بالنسبة لها، فهي لم تعد وحيدة، هناك قطعة صغيرة منها تنمو بداخل أحشائها، وعما قريب ستكون واقعًا ملموسًا، ابتسمت لنفسها بسعادة رغم انسياب دمعاتها الفرحة، أخفضت يدها لتتلمس بطنها من أسفل الغطاء مستشعرة تلك النبضات الخفاقة في رحمها، همست لنفسها متعهدة بقوة نبعت فيها:
-إنت بتاعي لوحدي، عمري ما هفرط فيك!
مسحت بالمنشفة القطنية التراب العالق بالأنتيكات والتحف التي ضمتها إلى البازار الخاص بإكسسوارتها لتغدو نظيفة وجديدة، ألقت عليها "آسيا" نظرة متفحصة متجاهلة ملاحقة "جميلة" لها والتي لم تتوقف عن تعقبها على أمل أن تنجح في إقناعها بإعادة لم الشمل مع زوجها من أجل الرضيع القادم، ملت من ثرثرتها التي لا تنتهي فاستدارت نحوها لتنهرها بنفاذ صبر:
-مش هارجعله، هو صفحة واتقفلت من حياتي
حزنت من إصرارها على عدم إخباره، حاولت إثنائها عن رأيها لترجوها:
-بس ده حرام، مش جايز لما يعرف يـ .....
قاطعتها بحدة وقد التهبت نظراتها:
-"جميلة" الموضوع ده يخصني لوحدي، أنا أكتر واحدة عارفة مصلحتي فين!
ابتلعت ريقها موضحة غرضها:
-أنا مقصدش، أنا نفسي البيبي لما يتولد يلاقي مامته مع باباه
رمقتها "آسيا" بنظرة نارية حانقة متوقعة ردة فعله إن علم بذلك، سينكر الأمر كليًا وربما يتهمها في شرفها ويسيء إليها لتنهار من جديد مع احتمالية كبرى لخسارة جنينها قبل أن تكتب له الحياة، تحول وجهها للقساوة وهي تصيح بصوتٍ شبه متشنجٍ مستحضره صورته القاسية في مخيلتها:
-عشان تبقي عارفة "معتصم" عمره ما هيعترف بالبيبي ده ولا هيصدق إنه باباه
كانت المرة الأولى التي تصرح فيها باسمه لها، لطالما رفضت الإفصاح عن أي شيء متعلق به، لذا تساءلت "جميلة" باندهاش بائن عليها:
-هو طليقك اسمه "معتصم"؟
ندمت "آسيا" لخطئها العفوي فأولتها ظهرها قائلة بوجوم:
-ممكن نقفل على السيرة دي
لم تضغط عليها رفيقتها كي لا ترهق أعصابها المتعبة، ستكتفي اليوم بنقاشها معها، ردت بابتسامة صغيرة ومتكلفة:
-أوكي، براحتك
تركتها بمفردها في بازارها لتتوقف "آسيا" عن استكمال عملها، تهدل كتفيها للأسفل باستياء كبير، عادت الهموم لتجثم على صدرها بقوة، بدت كالمغلوب على أمره، وضعت يدها على بطنها هامسة لجنينها:
-لازم أحميك منه، مش هاستحمل أخسرك، إنت الحاجة الوحيدة اللي فضلالي في الدنيا!
رتب له المحامي زيارة استثنائية لـ "شرف الدين" في محبسه، خاصة بعد أن تملكه اليأس من فشله في الوصول إليها، لم يترك "معتصم" بابًا إلا وطرقه طامعًا في معرفة أي معلومة قد تفيده عنها، وتبقى له رؤية ذلك المقيت، فرك والدها طرف ذقنه مطالعًا وجهه بازدراء قبل أن ينطق ساخرًا:
-وأنا لو أعرف مكانها تفتكر هاقولك؟
لم يتحمل "معتصم" سخافاته المستفزة، استنزفت قدرته على تجاهل تهكمات الأخرين من كثرة البحث والمجهود الضائع، هدر بها بانفعالٍ:
-إنت معندكش ضمير، حس بغيرك يا أخي، هي مش بنتك برضوه
أومأ برأسه قائلاً بابتسامة ماكرة أظهرت اصفرار أسنانه:
-أيوه، "آسيا" بنت أبوها
ثم أحنى نفسه للأمام ليبدو صوته قويًا واضحًا رغم خفوته:
-بتعرف تضرب الضربة اللي توجع صح حتى لو ماموتتش اللي قدامها
ثم غمز له كتعبير عن تشفيه فيه، هب "معتصم" واقفًا ليحدجه بنظراته المستشاطة، أشار لها قائلاً بتعنيف:
-تصدق أنا غلطان إني جيت أسأل واحد زيك عنها
تراجع "شرف الدين" بظهره للخلف مكتفًا ساعديه أمام صدره، رمقه بنظرة باردة قبل أن يرد مبتسمًا:
-وأنا مبسوط إني شايفك كده عاجز مش عارف تعمل حاجة
ضاقت عينيه المشتعلتين نحوه قائلاً بغيظٍ وهو يبتعد عنه:
-إنت ماتستهلش إن الواحد حتى يحرق دمه بسببك
خطا بتعجل خــارج المكان المخصص لزيارة السجناء معاتبًا نفسه على لجوئه إليه، فلم ينل من لقائه إلا المزيد من الحنق والغضب.
الأصعب من ألم الفراق هو ألم الانتظار المرعب، لم تظن "آسيا" أن لياليها الطويلة ستتحول إلى شريط من الذكريات الحزينة التي تتجرعها قبل أن تنام، حتى لحظاتها الحميمية المعدودة باتت كالشوكة التي تذكرها بضعفها واستسلامها، ابتلت وسادتها بدمعاتها الآسفة على حالها، وبالرغم من رغبتها الشديدة في إنجاب تلك الرضيعة التي عرفت جنسها إلا أنها كانت تخشى عليها من متاعب الحياة وقسوتها، أنهكت نفسها في العمل بالبازار لتلهي عقلها عن التفكير في "معتصم" الذي أصبح ضيف أحلامها يوميًا لينغص عليها نومها.
مازال صدى صوته المعنف لها يتردد في أذنيها، وشراسته الواضحة معها تتجسد مع خوضها لكوابيسها المزعجة، أصبحت شبه خائفة من الالتقاء به ولو حتى مصادفة، وخاصة إن علم بوجود بحملها، حتمًا سيعبث شيطان رأسه به ويلقي عليها التهم جزافًا وربما في لحظة طيش منه يحرمها من رضيعتها، بكت بتوترٍ غير مدركة للماء المنساب من بين ساقيها ولا منتبهة للآلام التي أخذت تضرب ظهرها بين فنية وأخرى، شهقت "جميلة" عفويًا حينما رأت البقعة المبتلة أسفل قدميها، هتفت بهلعٍ:
-"آسيا"، إنتي بتولدي ولا إيه
تنبهت لجملتها الأخيرة فأخفضت نظراتها لتحدق في المياه السائلة، انتابتها نوبة من القلق المرتعد وهي ترد:
-الظاهر كده، الحقيني يا "جميلة"!
أسرعت رفيقتها بإسنادها من خصرها وسارت بها بتمهلٍ إلى خارج البازار لتجلسها في سيارتها قبل أن تهرع بها إلى المشفى القريب، فقد حان موعد ولادة الرضيعة.
-حمدلله على السلامة!
قالتها الممرضة بابتسامة بشوشة وهي تضع الرضيعة –حديثة الولادة- على صدر والدتها، تلقتها "آسيا" ببسمة سعيدة لكنها باكية، خفق قلبها بقوة حينما شعرت بها بين أحضانها، انهمرت عبراتها بغزارة على وجنتيها وهي تتأمل وجهها الملائكي، رفعت عيناها الباكيتان لتنظر إلى "جميلة" وهي تهمس لها بنحيبٍ:
-بنتي!
ردت عليها بحماسٍ:
-ماشاء الله، جميلة أوي، ربنا يباركلك فيها
داعبت "آسيا" أناملها الصغيرة بحذرٍ شديد، كانت تخشى أن تؤذيها بلمساتها الحنون، ثم مالت عليها لتطبع قبلة رقيقة مطولة على جبين الرضيعة، تنهدت بعمق وهي تضمها برفق إليها هامسة لها بحنوٍ:
-إنتي أغلى ما في حياتي
سألتها "جميلة" باهتمامٍ دون أن تخفي ابتسامتها الصافية:
-هاتسميها إيه؟
رفعت "آسيا" عينيها لتلقي عليها نظرة عابرة قبل أن تعاود التحديق في وجه صغيرتها، شعرت بأن أنهارًا من الحنان العذب قد فاض في قلبها لمجرد وجودها بين ذراعيها، أجابتها دون تردد وهي مستمرة في التطلع إلى رضيعتها:
-"نــــادية"
أفسدت لياليه باختفائها الذي أحرق روحه وزاد من عذاب ضميره، لم يترك بقعة يمكن أن تتواجد بها إلا وذهب للبحث عنها فيها، ظن من تابعه من على بعد أنه حريص بما يختص بأمور الموضة، لكن القريب منه مُدرك لسبب متابعته الزائدة بتلك الأخبار عله يجد بين العارضات ضالته المنشودة، ورغم مرور الأشهر إلا أن "معتصم" ظل محافظًا على جدية بحثه عن "آسيا"، لام نفسه مئات المرات لتفريطه بها، هي فقط نفذت ببساطة ما طلبه منها مرارًا وتكرارًا لينكوي بعذاب هجرها له، حدق من جديد في صورتها الموجودة بهاتفه متسائلاً بحرقةٍ ومرارةٍ:
-ليه يا "آسيا"؟ للدرجادي كرهتيني؟
انحبست الدمعات المغلولة في عينيه تأثرًا بما اقترفه في حقها من تحميلها ما لا تطيق في أصعب ظروفها ليجني الآن ثمرة كراهيته السابقة لها، تنفس بعمق ليمنع نفسه من البكاء، أعاد وضع الهاتف في جيبه ليحدق من جديد بشرود في الفراغ مستعيدًا تلك الذكرى الحميمية التي منحتهما سكينة مؤقتة، ولكن ما لبثت أن تحولت إلى ذكريات شك وصدام وعنف وبغضٍ لا حدود له ليتضاعف عذاب ضميره، خشي أن يخسر ما تبقى له من أمل لملاقاتها، فقد اختارت الهجر والرحيل وبرعت لأقصى درجة فيه.
نقلتها الرضيعة بحضورها الملائكي إلى عالم آخر مليء بالسعادة والتطلعات لغدٍ مشرق تتشاركان فيه حياتهما سويًا، تناست "آسيا" أحزانها وعكفت على رعاية طفلتها موفرة لها كل ما تحتاجه، شعرت بأن وجودها في ذلك التوقيت تحديدًا هو نعمة من الله لتستطيع المضي قدمًا، تغلبت على خوفها من المجهول وخبت أحزانها مع براءة الصغيرة التي استحوذت على كامل تفكيرها، فأولتها اهتمامها بالكامل بجانب متابعة عملها، تحمست كونها امتلكت لون عينيها وبشرتها البضة، حتى خصلاتها الصغيرة المتناثرة كانت سوداء داكنة مثلها، بدت الرضيعة "نادية" نسخة مصغرة منها.
شاطرتها رفيقتها المقربة "جميلة" في تربيتها واعتبرت نفسها في منزلة الخالة وإن لم يكن يجمعهما رابط الدم، التفتت "آسيا" نحوها حاملة الرضيعة من خصرها لتقول لها بلهجة شبه صارمة:
-ده دورك تغيريلها البامبرز
عبست قائلة بتذمرٍ:
-اشمعنى لازم تحطيني في الحاجات دي؟ على فكرة أنا بتاعة الفرفشة
هزت رأسها بالنفي وهي تأمرها:
-اتعلمي يا خالتو، يالا استلمي
تناولت "جميلة" الرضيعة منها لتنظر لها بنظراتٍ حزينة، وما لبث أن تحول حزنها الزائف إلى نظرات فرحة، داعبت طرف أنفها بإصبعها هامسة لها:
-عشان خاطرك يا "نادو" بس!
غمزت لها "آسيا" معلقة:
-مين أدك يا "نادو"، الدلع كله من "جميلة" هانم!
-طبعًا، هي سكرتنا!
راقبتها وهي تبدل حفاضها بآخر نظيف، تعلقت عينيها بحركاتها العفوية الملهبة للقلوب، عادت الابتسامة لتطفو على صفحة وجهها وهي تتخيلها تكبر رويدًا رويدًا أمام ناظريها، حتمًا ستستمتع بكل لحظة تمضيها معها، اتسعت بسمتها لتتحول إلى ضحكة مرحة بعد أن غابت عنها لأشهر كثيرة، شغلت بالها بأدق التفاصيل فتناست تدريجيًا مخاوفها، كما دفنت في أعماقها ذكرى ما عاشته ذات يوم من ليلة حالمة مع العاشق البربري "معتصم".
بعد مضي ما يقرب من أربع سنوات،
لم يتخيل مرور سنواته العجاف في ذلك البلد الغريب عنه ليعود أخيرًا إلى موطنه ولو في عطلة قصيرة، تحمس "مصطفى" كثيرًا لقضاء وقت فراغه متنقلاً بين المحافظات المختلفة لينعش ذاكرته بما افتقده خلال بعثته الخارجية، كان الترشيح الأول له هو الذهاب إلى ذلك البلد السياحي الشهير، بالطبع شاهد معالمه المميزة في الكتيب الصغير فتشجع أكثر لرؤيته على الطبيعة، كما حمسه كثيرًا للمكوث هناك لبضعة أيام رغبته في التمتع بأمواج البحر والشمس الساطعة التي اشتاق إليها، مر بالمزار السياحي ملقيًا نظرات شمولية على المحال والبازارات به، فكر في أن يبتاع هدايا مميزة لأصدقائه القدامى ليهديها لهم حينما يلتقي بهم، لوح لأحد رفقائه في الرحلة القصيرة قائلاً له:
-أنا هاروح أشوف حاجة هناك، نتقابل في الكافيه كمان ساعة
رد عليه رفيقه مبتسمًا:
-أوكي، على تليفونات، سلام!
واصل "مصطفى" سيره بين حشود الزائرين المتوافدين متأملاً المعروضات باهتمام، لمح من على بعد امرأة تشبه تلك الشابة الجامحة التي التقاها قبل سنوات في منزلها وفي المشفى الذي عمل به، لم ينسَ ملامحها، فوضعها كان مختلفًا للغاية ويمس واحدًا من أعز أصدقائه، قطب جبينه مرددًا لنفسه باندهاش:
-هي دي "آسيا"؟ شبهها خالص
وليقضي على بذور شكه اقترب أكثر منها ليمعن النظر فيها عن قرب، التوى ثغره بابتسامة صغيرة هاتفًا بنبرة عالية ليلفت انتباهها:
-"آسيا"
التفتت الأخيرة نحو صاحب الصوت الذكوري الذي ناداها، رأت شخصًا ملامحه تبدو مألوفة إلى حد ما رغم عدم تذكرها لهويته، وقف قبالتها متسائلاً بحماس وقد تدفقت الدموية إلى وجهه:
-إنتي "آسيا" صح؟ مش فكراني
ردت عليه بحيرة واضحة في نظراتها إليه:
-بصراحة مش أوي
مد يده لمصافحتها مقدمًا نفسه:
-أنا الدكتور "مصطفى" اللي كنت متابع حالتك من كام سنة، وقت ما عملتي حادثة في ....
تذكرت على الفور هويته، انتابتها حالة من القلق المرتعد، واختفت تلك النضارة المشرقة من على بشرتها، تحرك بؤبؤاها بعصبية طفيفة معتقدة أنه قد جاء بصحبة "معتصم"، صافحته بيد مرتعشة، وبلا وعي سألته بتوترٍ:
-إنت جاي هنا لوحدك؟
أجابها مبتسمًا:
-لأ مع أصحابي من البعثة، من أصلي سافرت برا وفضلت هناك كام سنة ولسه راجع من كام يوم، بس قولت أغير جو.
تنفست الصعداء لكونه قد أتى بمفرده بدون ذاك الذي تخشاه، حاولت أن تحافظ على هدوء تعبيراتها أمامه كي لا تثير ريبته، ابتسمت له رغم كون بسمتها شبه باهتة ومضطربة، تفرست في وجهه لتتأكد من عدم شكه في أمرها، تابع سؤاله عنها قائلاً:
-إنتي أخبارك إيه؟ وبتعملي إيه هنا؟
أجابته بتمهلٍ:
-يعني .. ماشية
شكت في كونه على غير علمٍ بتطورات العلاقة الشائكة بينها وبين "معتصم"، معلوماته بدت محدودة للغاية، انتشلها من تفكيرها الشارد سؤاله الفضولي وهو يلقي نظرة عابرة على الإكسسوارات المميزة الموضوعة عند مدخل البازار الخاص بها:
-ده المحل بتاعك؟
اضطربت من إخباره بالحقيقة فادعت كذبًا:
-لأ
ثم تابعت موضحة بارتباك:
-آ.. البازار ده بتاع صاحبتي، وأنا بأعدي عليها كل فترة نقعد مع بعض
أومأ برأسه متفهمًا وهو يقول:
-تمام، وأنا مش هاعطلك، بس مبسوط إني شوفتك، رجعتيني لكام سنة ورا
ردت برقةٍ:
-وأنا برضوه يا دكتور "مصطفى"، وميرسي على اللي عملته معايا زمان
علق عليها مجاملاً:
-يا فندم ده واجبي، وفرصة سعيدة، عن إذنك
حافظت على ابتسامتها الصغيرة مودعة إياه:
-ميرسي، باي باي
تابعته بعينيها القلقتين حتى اختفى من أمام ناظريها، أحست بقلبها يتقاذف بين ضلوعها من التوتر المرتعد، فقد أنعش حضوره ذاكرتها بما توهمت أنها تناسته واقتحم عقلها ذكريات مزعجة اختلطت بلحظات مميزة، ضمت يدها إلى صدرها مستشعرة النهجان الذي أصاب صدرها، اضطربت أكثر مع رؤيتها لصغيرتها وهي تركض ببراءة نحوها، تلفتت حولها بهلع لتتأكد من عدم عودة " مصطفى"، حمدت الله في نفسها أنه لم يكن موجودًا ليراها وإلا لوضعت في مأزق حقيقي، ولاحقها بأسئلته الفضولية فكشف أمرها على الفور، تعلقت "نادية" بثوب والدتها تجذبها منه مرددة بعفوية:
-مامي
انحنت "آسيا" لتحملها بين ذراعيها، ضمتها إليها بقوة وكأنها تخشى ضياعها، تعجبت "جميلة" من العبوس الظاهر على وجهها، ومن حالة الارتباك المسيطرة عليها، لذا سألتها باهتمام:
-في إيه مالك يا "آسيا"؟
ردت بغموض وهي تحدق نحوها بحدقتين متوترتين:
-ولا حاجة
زوت "جميلة" ما بين حاجبيها متابعة تساؤلاتها الفضولية:
-بس وشك لونه مخطوف؟ حد ضايقك أو ..؟
قاطعتها بجمودٍ:
-عادي، تلاقيه إرهاق من الشغل والجو
ثم صمتت للحظة لتفكر مليًا في أمر ما قبل أن تصرح علنًا:
-بأقولك يا "جميلة" أنا هاخد أجازة كام يوم كده أرتاح فيهم في البيت
أثار قرارها الغريب والمفاجئ الريبة في نفسها فردت متسائلة:
-ليه في حاجة؟
هزت رأسها بالنفي معللة:
-لأ، بس حابة أقضي وقت مع "نادو"
رسمت "جميلة" ابتسامة ناعمة لطيفة على وجهها الضاحك لتقول لها:
-أوكي يا حبيبتي، اللي يريحك!
بادلتها "آسيا" ابتسامة متكلفة ثم أحنت رأسها على ابنتها لتنهال عليها بقبلة عميقة مطولة، أغمضت عينيها للحظة لتستعيد ثباتها، بدا ذلك الخيار الأسلم حاليًا للاختفاء ولو مؤقتًا من أنظار "مصطفى" فينسى أمرها، أو هكذا اعتقدت في نفسها.
انتهت عطلته القصيرة فعاد إلى القاهرة ليلتقي مع رفاقه القدامى، بالطبع كان مقدرًا لـ "مصطفى" الالتقاء بأعز أصدقائه "معتصم" بعد أن انقطع عن التواصل معه لفترة طويلة، فرح الأخير كثيرًا برؤيته، واتفق على مقابلته في النادي لقضاء بعض الوقت سويًا، وفي الميعاد المتفق عليه كان رفيقه ينتظره على أحر من الجمر، استقبل "مصطفى" صديقه بابتسامة حارة قائلاً له:
-واحشني يا "معتصم"
رد عليه الأخير بودٍ كبير وهو يحتضنه:
-وإنت أكتر، عامل إيه؟ ووصلت لفين كده في دراستك؟
أجابه بابتسامته العريضة التي تنم عن الرضا:
-الحمدلله كله تمام
جلس الاثنان على المقاعد الخاصة بهما ليشرع بعدها "مصطفى" في سؤاله باهتمام وهو يدقق النظر في ملامح وجهه التي تبدلت للخشونة ولذقنه التي نبتت وبات يهذبها بعناية:
-بس إنت شكلك اتغير، ده من إيه بقى؟
أجابه "معتصم" بزفير مرهق:
-الحياة ومشاكلها مش سايبة حد في حاله
وافقه الرأي مرددًا:
-على رأيك، المهم إنت عامل إيه في شغلك؟
أومأ برأسه قائلاً:
-بخير
رن هاتف "معتصم" المسنود على الطاولة فالتقطه بيده ثم رفع سبابته معتذرًا:
-أنا أسف يا "مصطفى"، مضطر أرد على المكالمة دي
تفهم عذره قائلاً:
-خد راحتك يا "معتصم"
وضع الأخير الهاتف على أذنه ليجيب برسمية جادة وقد قست تعبيراته المرتخية:
-ألوو، أيوه، ها إيه الأخبار معاك؟
صمت للحظات ليصغي للطرف الآخر قبل أن يتابع بنفس الجدية الصارمة:
-تمام، قوله أنا هاتكلم مع المقاول وأتصرف بنفسي معاه، ماهي مش ناقصة خراب، خلاص، سلام!
حك "مصطفى" طرف ذقنه قائلاً بهدوءٍ:
-واضح إنك مشغول!
رد عليه "معتصم" بامتعاض:
-محدش بيريح حد أبدًا، لو مكونتش أقف على دماغهم مافيش حاجة بتخلص
-على رأيك
لم ينتبه كلاهما لـ "أية" التي انتهت لتوها من تدريب الأسكواش الخاص بها، تفاجأت بوجود ابن عمها في النادي بعد فترة انقطاع طويلة، اقتربت أكثر منه لتتأكد من صحة ما رأته عيناها، تهللت أساريرها صائحة بحماسٍ:
-"معتصم" ازيك، بقالي كتير مشوفتكش في النادي!
رد ببرود وهو ينظر لها بطرف عينه:
-أهلاً يا "أية"، أخبارك؟
ابتسمت قائلة:
-أنا تمام
لم يكن ليأتي ببال "مصطفى" مطلقًا أن يلتقي بها ولو مصادفة حتى في أحلامه، خفق قلبه طربًا لمجرد التطلع إلى وجهها المشرق، خطفته بنظراتها وإيماءاتها العفوية، مثلت له العالم وما فيه، عاد من شرود حينما سمع "معتصم" يقول بجدية:
-سلمي على الدكتور "مصطفى"، فاكراه؟
تحرجت "أية" كثيرًا لعدم انتباهها لوجوده، فهي على معرفة ودودة به، تورد وجهها بحمرة طفيفة حينما التقت عيناها بعينيه اللامعتين، تنحنحت قائلة برقةٍ:
-د. "مصطفى"، ازي حضرتك؟
ألقى نظرة سريعة متفحصة لأصابعها ليتأكد من خلوها من خاتم الخطبة قبل أن يرد بتلعثم واضح عليه:
-آ.. الحمدلله، إنتي عاملة إيه يا آنسة "أية"؟ ولا إنتي اتجوزتي ولا ...
قاطعته مرددة بضحكة صغيرة:
-لأ جواز إيه؟ أنا خلاص توبت من المواضيع دي
بينما علق "معتصم" بتجهمٍ:
-هو الجواز بيجيب إيه غير الهم والنكد
استغرب "مصطفى" من جملته الأخيرة، فلم يكن رفيقه بتلك الكآبة أبدًا، ربما لابتعاده عنه لفترة طويلة فبات لا يعرف عنه إلا القليل المقتضب، عاد ليحدق من جديد في وجه "أية" حينما أردفت قائلة:
-هستأذنكم بس أغير هدومي وأرجع تاني، مش هتأخر
رد مجاملاً وقد اتسعت بسمته حتى برزت نواجذه:
-على أقل من مهلك
لم يكترث "معتصم" بردة فعل صديقه المبالغ فيها مع ابنة عمه أو حتى قد لاحظ اهتمامه الزائد بها، فقد كان مشغولاً بمتابعة أخبار أعماله، أخرجه من التحديق في هاتفه سؤال "مصطفى" المهتم:
-فرصة حلوة إني شوفتك، وشوية كده وهاقابل "نبيل"، أكيد إنت فحته معاك، صح؟
أجابه بإرهاق وهو يحرك عنقه للجانبين:
-ماهو مين هايشيل الشغل غيرنا
هز رأسه متفهمًا:
-ربنا يعينكم، شغل الإنشاءات مش سهل!
تابع "معتصم" تحديقه في شاشة هاتفه المحمول معتذرًا بجدية:
-معلش هارد على الايميل ده
لم يبالِ "مصطفى" بعزوفه عن الحديث الودود معه قائلاً باقتضاب:
-براحتك
اندمج "معتصم" لدقائق في هاتفه حتى انتهى من أعماله العالقة، ثم أسند هاتفه بإهمال على الطاولة ليمرر أنظاره بشرود على الجالسين من حولهما، استطرد "مصطفى" حديثه من جديد قائلاً بعد أن ارتشف القليل من مشروبه البارد:
-مش هاتصدق أنا قابلت مين في أجازتي
سأله "معتصم" بعدم اكتراث وهو ينظر له بعينين فارغتين:
-حد من أصحابنا القدام؟
هز رأسه بالنفي قبل أن ينطق ببساطةٍ:
-لأ، خالص، دي "آسيا"، عارفها بنت طنط "نادية"
وكأن كلماته الأخيرة وقود اندلاع الحرب حيث تبدلت تعابير وجه "معتصم" واشتدت على الأخير، اشتعلت نظراته وتوهجت حدقتاه بطريقة مريبة، التفت نحوه كالمسلوع الممسوس مرددًا بصدمة حانقة:
-بتقول مين؟
قطب "مصطفى" جبينه متعجبًا من التحول المخيف في ملامحه، ردد بتوترٍ:
-"آسيا"
لم يصدق الأخير أذنيه، فبكل بساطة يعلن له عن رؤيته لمن فقد الأمل في إيجادها بعد سنواتٍ بائسة وكأن وجودها والعدم سواء، صرخ بلا وعي وقد اكتسى وجهه بحمرة مخيفة:
-انطق يا "مصطفى" إنت شوفتها فين بالظبط؟
توجس رفيقه خيفة من أسلوبه العدائي، ازدرد ريقه متمتمًا:
-حاضر
قاطع الأجواء المشحونة حضور "أية" التي تساءلت بنعومة مدللة:
-اتأخرت عليكم؟
تحركت أنظار "مصطفى" نحوها ليشرد في قسماتها الآسرة التي أنعشت روحه بحبٍ ظن أنه دفن ووارى الثرى، هدر به "معتصم" بهياج ليجبره على النظر نحوه:
-ركز معايا هنا، هاتلي عنوانها بالظبط
استشعر رفيقه وجود خطب ما بسبب طريقته الهوجائية في الحصول على معلومات كاملة عنها، رد عليه بحذرٍ وهو يطمع أن يهدأ من انفعاله غير المفهوم بالنسبة له:
-ما أنا مش متأكد إنت كانت عايشة هناك ولا لأ، أنا شوفتها صدفة
تساءلت "أية" بفضول حائر بعد أن عجزت عن تفسير سبب عصبية ابن عمها:
-إنتو بتحكو عن مين؟
التفت الأخير نحوها ينهرها:
-ولا كلمة دلوقتي
خافت "أية" من طريقته الحادة معها وحدقت في "مصطفى" بحيرة، أشار لها الأخير بعينيه كي لا تتجادل معه حاليًا، فهمت نظراته وصمتت، لحظة دون فيها "معتصم" العنوان ليقوم بعدها بجمع متعلقاته الخاصة ثم هرول مبتعدًا عن المكان، همت ابنة عمه باللحاق به متسائلة:
-"معتصم" إنت ماشي ولا إيه؟
لم تتمكن من ملاحقة خطواته المتعجلة فتوقفت عن السير لتستدير نحو "مصطفى" الذي تبعها متسائلة بقلق مزعوج:
-هو ماله؟
أجابها موضحًا:
-اتقلب أول ما قولتله إني شوفت "آسيا"
انفرجت شفتاها عن اندهاش كبير بعد أن شهقت عفويًا لتضيف متسائلة:
-إنت لاقيتها؟
حملق فيها بتعجبٍ شديد، لم يختلف حالها عن صديقه كثيرًا، غمغم مستفهمًا:
-هو في إيه؟ الكل مستغرب من ده!
ردت عليه بقليل من الغموض المثير:
-أصل حصل حوارات جامدة مع "آسيا" و"معتصم"
ضاقت نظراته قائلاً:
-للدرجادي فاتني حاجات كتير!!
هزت كتفيها في حيرة فلم تعرف بماذا تجيبه، في حين تابع "مصطفى" معلقًا:
-الحقيقة أنا كنت مقصر مع "معتصم"، يعني كل كام شهر لما أتصل وساعات هو مابيردش، بس كنت عاذره عشان الشغل
هزت رأسها بإيماءة متفهمة، انتابته حالة من القلق معتقدًا أنها ربما تكون متحرجة من وجوده معها، فسألها بحذرٍ آملاً في نفسه أن تكون شكوكه واهية:
-أنا خايف أكون معطلك عن حاجة يا آنسة "أية"
ابتسمت قائلة:
-أنا مش ورايا حاجة مهمة، كده كده أنا بأقضي معظم وقتي هنا
عادت البسمة لتشرق على وجهه من جديد، أردف قائلاً بحماسٍ:
-حلو، يبقى ده من حظي عشان أقعد معاكي، قصدي أفهم اللي حصل لـ "معتصم"، هو برضوه صاحبي ويهمني أمره
توردت بشرتها من جديد من اهتمامه الملحوظ بها رغم تلاعبه بالكلمات لينكر ذلك، ردت عليه باقتضاب دون أن تخفي ابتسامتها الصغيرة:
-أكيد
أشار لها بيده ليتحرك الاثنان في اتجاه الطاولة، سحب لها المقعد لتجلس عليه فشكرته على ذوقه، ثم جلس قبالتها كي يمتع عينيه بحضورها، علق مادحًا إياها في صورة غزل متوارٍ:
-بس إنتي لسه زي ما إنتي متغيرتيش، حلوة ورقيقة
أحست "أية" بتلك السخونة التي انبعثت من وجنتيها من تأثير كلماته لترد بخجلٍ:
-ميرسي أوي
أسبل عينيه نحوها مضيفًا بتأكيد:
-دي حقيقة فعلاً، إنتي إنسانة رقيقة جدًا
رمشت بعينيها باستحياء من تغزله الحذر بها، لو قيل له قبل ساعات أنه سيلتقي مجددًا بحب عمره لما صدق ذلك، ولكنه الآن يعايش من جديد حالة من العشق الملهب للقلوب، خفف من وطأة الأمر على "أية" حينما لاحظ ارتباكها الذي انعكس عليه أيضًا بالإيجاب المتحمس ليميل نحوها متسائلاً:
-تحبي تشربي إيه؟
أجابته دون أن تنظر نحوه:
-أي حاجة
ثرثر معها في أحاديث عامة ليحافظ على وجودها معه أطول فترة ممكنة، ثم تشجع أكثر ليطلب منها بجرأة:
-ولو مافيهاش إزعاج ممكن أخد رقم تليفونك، مش لحاجة والله بس ممكن أستشيرك في اللي يخص "معتصم"، صعب الواحد يتفاهم معاه في حالته دي
لم تعرف ما الذي انتابها هي الأخرى لتشعر بتلك السعادة الخفية ولا الحماس المثير في خلاياها بعد أن استرسلت في الحديث معه، لكنه منحها شيئًا افتقدته مؤخرًا، اهتمام أحدهم بها دون زيف أو تجميل، لم تتردد في الاستجابة لطلبه وردت مبتسمة:
-أوكي، مافيش مشكلة
اختلج صدره المزيد من المشاعر الدافئة لموافقتها البسيطة، فذلك سيعطيه الفرصة للتقرب أكثر إليها وتعويض ما فاته كي لا يخسرها مجددًا، بادلها ابتسامة عذبة قائلاً لها بامتنان:
-شكرًا أوي لذوقك يا آنسة "أية"!
قطع الطريق أشواطًا ليصل إلى وجهته المنشودة وهو متحفر بالكامل لرؤية من لقنته الدرس جيدًا، امتلأ رأسه بالكثير من الأفكار المشحونة، لم يعرف تحديدًا ما الذي سيفعله معها فور أن يراها، لكن لن يتركها تتسرب من بين أصابعه وتهرب، صف "معتصم" سيارته بعيدًا عن منطقة الزحام ليترجل على قدميه سائرًا بين زوار منطقة المزارات، حدق في لافتات البازارات المختلفة باحثًا عن ضالته المنشودة حتى وجد المكان المقصود، دق قلبه بعنفٍ واشتدت قسماته بقسوة، أكمل سيره إلى أن ولج إلى داخل البازار، كان المكان خاليًا من الزوار، زكم أنفه بقوة رائحتها التي عرفها جيدًا، كان الهواء معبقًا برائحة عطرها الذي لم تغيره، تأكد أنه لم يضل طريقه، تصلبت عروقه مع لمحه لامرأة تنحني للأسفل لترص بعض الأشياء، اقترب أكثر منها لينطق بكلمة واحدة وبصوت رخيم حمل في طياته الكثير من اللوم والعتاب والحنق والغيظ:
-"آسيــــا"
تخشبت الأخيرة في مكانها فور أن سمعت نبرته تخترق مسامعها، هوى قلبها في قدميها رافضة تصديق أنه بالفعل هو، استدارت ببطء للخلف لتقع عيناها على وجهه المتعصب ونظراته العدائية الشرسة، تجمدت الكلمات على طرف لسانها فعجزت عن البوح بكلمة واحدة، ارتعشت نظراتها، وارتجف جسدها بالكامل، لم تتحمل صدمة رؤيته فتخلت عن وعيها بإرادتها لتسقط فاقدة للوعي، وقبل أن ترتطم "آسيا" بالأرضية كانت ذراعي "معتصم" الأسرع في بلوغها، حاوطها بذراعه من خصرها ليسندها وقربها إليه أكثر، تأمل كل تفصيلة في وجهها الذي افتقد التطلع إليه بنظرات مزجت بين الاشتياق والغضب، اللوعة والاحتقان، تلمس بيده بشرتها ليشعر بتلك الرجفة الخفيفة التي اعترتها وهي في إغماءتها المؤقتة.
انحنى قليلاً ليتمكن من رفعها بين ذراعيه ثم تلفت حوله باحثًا عن مقعد ما ليضعها عليه، وقعت نظراته على الأريكة المنزوية في جانب البازار حيث من المفترض أن يكون ذلك مكتبها، اتجه إلى هناك ثم بحذرٍ واضح أسندها عليها، جثا قبالتها ليمعن النظر فيها عن قرب، كم افتقدها كثيرًا وتعذب لبعدها، وامتلأ قلبه بالغضب لهجرها له دون أي مقدمات، ومع ذلك مجرد العثور عليها أعاد له الشغف القديم بقوة، تنفس بعمقٍ كي يضبط انفعالاته الثائرة بداخله، نهض من جلسته ليعتدل في وقفته مديرًا رأسه للجانب، سحب أحد المقاعد الجلدية ووضعه في مواجهة الأريكة الممددة عليها مترقبًا بصبر كبير إفاقتها، لن يبذل مجهودًا في إفاقتها، سيجلس في صمت يشاهدها ممتعًا عيناه بالنظر إليها مطولاً عله يشبع حاجته لها.
تأوهت وهي تحرك رأسها ببطء للجانبين مستعيدة وعيها، تخيلت "آسيا" أنها عايشت أحد كوابيسها المزعجة والذي سينتهي فور أن تفيق من سباتها، ارتسمت علامات الهلع على وجهها حينما تجسد الوهم حقيقة أمام ناظريها، انقضى عصر الأحلام وباتت في مواجهة واقعها الذي ترقبته، شهقت بخوفٍ وقد رأت نظرات "معتصم" الحادة نحوها، هبت ناهضة من رقدتها لتصاب بدوار طفيف من الحركة المفاجئة، سألته بنبرة مهتزة وقد تركز بصرها عليه:
-إنت عرفتي مكاني منين؟
نظر لها مليًا قبل أن يعلق بنبرة حملت العتاب الشديد:
-يـــاه يا "آسيا" للدرجادي كنتي قاسية معايا؟
وقفت على قدميها لترد مدافعة بقوةٍ:
-بلاش تحاسبني، أنا عملت الصح
نهض ليواجهها متسائلاً بحدة وقد برزت عروقه المحتقنة في جانب عنقه:
-أنهو صح اللي تسيبي فيه جوزك وترميله ورقة تقوليله فيها طلقني؟!
استجمعت جأشها لترد بعدم خوفٍ:
-جوازنا كان غلطة من الأول
صاح متسائلاً باستنكارٍ:
-ومين أقنعك بده؟
ردت دون تردد وهي محدقه فيه بنظرات نارية:
-إنت يا "معتصم"
نظر لها في صمت ليسبر أغوار عقلها المشبع بأفكاره الكارهة له فتابعت هجومها عليه:
-تصرفاتك معايا، كرهك ليا، حبك إنك ترد انتقامي بانتقامك مني، أوعى تنكر إنك كنت تتمنى أختفي من حياتك؟ وإنت طلبت ده بنفسك!
رمقها بنظراته الحادة دون أن يرف له جفن مُعقبًا:
-مأنكرتش، بس أنا اتغيرت
نظرت له باستخفاف قبل أن ترد متهكمة:
-بين يوم وليلة؟ عاوز تقنعني إن في شخص بيتحول 180 درجة في لحظة؟ ده اسمه غباء أو استعباط
كانت إلى حد ما محقة في تلك الجزئية، فليس من السهل أن تصدق كونه شخصًا عاديًا يمتاز بمعاملته الراقية للجنس اللطيف بعد العدائية المتبادلة بينهما على مرأى ومسمع من الجميع، حاول إقناعها بالعكس فعاتبها على هروبها قائلاً:
-إنتي اللي حرمتينا من سعادة كان ممكن ....
قاطعته بحدةٍ وهي تشير بيدها:
-بلاش تعيش الوهم
اعترف لها بسوء تصرفاته معللاً:
-ماشي أنا غلطت، ومكونتش مدي نفسي فرصة أعرفك أو حتى أفهمك، بس على الأقل حاولت أعمل الصح، وإنتي ماصدقتي تهربي حتى بعد ما قربنا من بعض و....
عادت لتقاطعه دون منحه الفرصة لتبرير موقفه المتغير معها هاتفة:
-صدقني مكوناش هنعرف نكمل مع بعض، أنا عملت اللي كنت هاتعمله بعد كده!
قبض على ذراعيها يهزها منهما بعصبية وهو يصيح بها بنفاذ صبر:
-إنتي غلطانة
نفضت يديه عنها قائلة بإصرار عنيد:
-إنت اللي رافض تقتنع
نظر لها بجمود مؤكدًا لها بقوة وهو يكز على أسنانه:
-"آسيا"، أنا مش هاسيبك، حطي ده في دماغك
حدجته بنظرة مستهترة معلقة بثقةٍ:
-مش هايحصل يا "معتصم"
توقف قلبها عن النبض للحظة حينما سمعت صوت صغيرتها ينادي من الخارج:
-مامي
شحب لون وجهها بدرجة ملحوظة ونظرت بارتياب إلى "معتصم" الذي شك في تحولها السريع من الثقة والشجاعة إلى الخوف والاضطراب، تجمدت في مكانها خائفة مما سيحدث لاحقًا، خاصة إن اكتشف أمر إنجابها لطفلةٍ منه، ولجت "جميلة" إلى داخل البازار ملقية نظرة خاطفة على ذلك الغريب الواقف في مواجهتها وهي تحمل الصغيرة على ذراعها متسائلة بفضولٍ:
-إنتي عندك ضيوف يا "آسيا"؟
رمقتها بنظرة متسعة في رعب وهي تهمس لها بصوتٍ مرتجف:
-"جميلة"
بالطبع التقطت أذني رفيقتها اسم الضيف بسبب صوت "آسيا" المرتفع، تساءلت ببلاهة وهي تجوب بنظراتها على هيئته:
-هو ده "معتصم" .. طليقك؟
صحح لها خطئها قائلاً بغيظٍ:
-لأ جوزها يا مدام
نظرت له "جميلة" بحرجت ثم عادت لتحدق في وجه "آسيا" الشاحب المذعور، انقبض قلبها بخوف شديد مع ترديد الصغيرة "نادية":
-مامي، مامي!
تحولت أنظار "معتصم" لتلك الطفلة التي حملت الكثير من الملامح المشابهة لـ "آسيا"، تساءل بحدة وقد زادت شكوكه بدرجة كبيرة:
-دي مين؟
ردت "آسيا" بنبرة مهتزة آمرة صديقتها:
-خدي "نادية" يا "جميلة" وامشوا دلوقتي من هنا
هتف معترضًا بغلظة:
-محدش هايمشي، مين دي يا "آسيا"؟
استبسلت رغم خوفها لترد بتحدٍ:
-مايخصكش
عبست "جميلة" بوجهها مبدية استيائها من تأزم الأمور بين "آسيا" وزوجها، وما ضاعف من ضيقها جهل الأخير بوجود طفلة صغيرة أتت من صلبه، رددت عفويًا:
-حرام بجد ميعرفش إنها بنته
زجرتها "آسيا" هادرة بعصبيةٍ مستنكرة زلة لسانها التي ستفتح عليها أبوابًا من الجحيم:
-"جميـــلة"
توقف قلبه عن النبض للحظة ليستوعب حقيقة الأمر، هو لديه ابنة صغيرة لا يعلم بوجودها، ووالدتها قد حرمته من أبسط حقوقه في معرفة ذلك، صرخ بهياجٍ:
-معناه إيه الكلام ده؟
توسلت "آسيا" لرفيقتها لتأخذ ابنتها من البازار قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة قائلة:
-ارجوكي امشوا من هنا
هدر "معتصم" آمرًا بصوتٍ جهوري غاضب:
-قولت محدش هيتنقل من هنا قبل ما أفهم بالظبط اللي حصل من ورا ضهري
استشعرت "آسيا" تهديدًا حقيقيًا منه، تشجعت لتقول دون أن تظهر خوفها:
-أيوه دي "نادية" بنتك، بس ملكش دعوة بيها و....
مجرد تأكيدها لحقيقة وجودها أثار فيه الحنق المضاعف، انفعل عليها بتشنجٍ:
-كمان خلفتي من ورايا، يا قسوة قلبك، قدرتي تعملي ده فيا؟!!!
اضطرت "جميلة" أن تتراجع بالصغيرة للخلف حتى لا تشاهد ذلك الشجار الدائر بين والديها فيؤثر على نفسيتها بالسلب، في حين دافعت "آسيا" عن تصرفها مبررة:
-ومستعدة أعمل أي حاجة عشان أحمي بنتي من أي حد يأذيها، حتى لو كان منك إنت!
نظر لها باندهاش غير مصدق أنها بالفعل تعامله كما لو كان غريمها الشرس، بل إنها رسخت في ذهنها تلك الفكرة كي تقضي على أي فرصة لهما معًا، حدجها بنظراته النارية متسائلاً بهياجٍ:
-إيه التفكير ده؟ إزاي يجي في بالك تعملي كده؟
ردت عليه بصراخٍ محتد:
-اطلع من حياتي يا "معتصم"، احنا مش لبعض، إفهم بقى!
منحها نظرة قوية معلقًا عليها بلهجة غير قابلة للتفاوض:
-لأ يا "آسيا"، أنا مش هاسيبك لو اتطربقت السما على الأرض، وهترجعيلي إنتي وبنتي، وهنتحاسب على ده!
تحدته قائلة:
-مش هايحصل، ولو مطلقتنيش بالذوق، هاخلعك في المحكمة
استفزته جملتها الأخيرة ومع ذلك حافظ "معتصم" على انضباط أفعاله أمام تصرفاتها المحفزة للاشتباك ليرد بصلابةٍ:
-هانشوف!
ألقى عليها نظرة متوعدة قبل أن يلتفت ليحدق في وجه ابنته الصغيرة متمتمًا بكلمات متبرمة، خرج من البازار متوعدًا إياها باسترداد كل ما يخصه دون تفريط في أدنى حقوقه معها، انهارت "آسيا" على الأريكة دافنة وجهها بين راحتيها وهي تشعر بذهاب ما فعلته سدى، فكل شيء قد ضاع في لحظة، وما خططت له قد فسد بظهور "معتصم" من جديد في حياتها، تأكدت الآن أن رؤية "مصطفى" لها مصادفة جرت عليها المشاكل
احترقت أعصابه وتلفت خلاياه العقلانية بعد أن علم مصادفة بوجود صغيرة من صلبه أتت إلى الدنيا دون أن يعرف عنها شيئًا، أو حتى يختبر معها مشاعر الأبوة منذ لحظة ميلادها، حُرم "معتصم" من كل شيء يخصها، من تلمسها، شم رائحتها الزكية، من ضمها إليه، ومن هدهدتها بين ذراعيه لتغفو، ومن رؤيتها تكبر أمام عينيه وذلك بسبب أفكار "آسيا" السوداوية عنه، وبخ نفسه بقسوة لعدم امتلاكه للشجاعة الكافية لأخذ ابنته قسرًا ليحتضنها ويغدق عليها من عطفه الأبوي الذي افتقدته بابتعاده الإجباري عنها، شلت المفاجأة الصادمة تفكيره وحجبت عقله عن التصرف بمنطقية مع من تحمل لقبه، توقف خـــارج البازار ملتفتًا للخلف ومترددًا فيما سيفعل، فإن اقتحم المكان من جديد لنشبت مشادة أخرى حامية، وإن انسحب الآن لن يتحمل عذاب ضميره لعدم احتوائه لصغيرته، حسم أمره بالعودة إلى "آسيا" واستقبال ابنته في أحضانه حتى لو عنى ذلك اندلاع الحرب من جديد.
اقتحم البازار الخاص بها ليجدها تضم طفلتهما، سيطر على غضبه هاتفًا بصوتٍ جهوري:
-"آسيا"
ارتعدت لرؤيته من جديد وناولت صغيرتها لرفيقتها "جميلة" الواقفة بجوارها ثم تقدمت عدة خطوات للأمام لتحول بينه وبين "نادية"، سألته بحدة وقد توهجت عيناها الفيرويتان:
-رجعت ليه؟
نظر لها بعينين مشتعلتين من فعلتها الحمقاء التي كلفتهما الكثير ثم أجابها بجمودٍ مقلق:
-أشوف بنتي، ولا ده كمان مش من حقي
ردت عليه بنبرة أقرب للصراخ رافضة طلبه:
-لأ مش من حقك، دي تخصني أنا وبس
راقبت الصغيرة اشتباك الاثنين بخوف جلي في نظراتها نحوهما، أدمعت عيناها تأثرًا بالصراخ المرعب، وتعلقت أكثر بـ "جميلة" وكأنها تحتمي بها من الخطر المجهول، اهتاج "معتصم" من جملة "آسيا" الأخيرة التي ألهبت نيرانه المتأججة بداخله ليرد بحنق مضاعف:
-فرقتي إيه عن "شرف الدين" باباكي اللي حرمك من مامتك؟
وكأن في كلماته العفوية التي عبرت عما يدور في عقله الناقوس الذي أوقظ فيها ما حدث معها في سنوات عمرها الصغيرة، مر في عقلها شريط ذكرياتها مع والدها الجاحد الذي ملأ قلبها بالقسوة والجفاء، هدرت مستنكرة بشراسة وهي تلوح بيدها في الهواء:
-أنا مش زيه
نظر لها بغيظ قبل أن يؤكد لها بشاعة فعلتها:
-إنتي بنته، وعملتي بالظبط زي ما عمل فيكي زمان
انفعلت من إصراره على لومها صارخة:
-ماتقارنيش بيه
انخفضت نبرته نوعًا ما لتحمل العتاب وهو يسألها:
-هان عليكي بنتي تتربى بعيد عني؟
ألمتها كلماته الموجعة التي كانت محقة دون ريب، لم تتحمل المزيد من ضغطه عليها فأولته ظهرها صائحة:
-كفاية
تابعت "جميلة" تأزم الموقف واشتعاله بقلق كبير، تدخلت قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة لتقول بنبرة عقلانية:
-ماتضغطش عليها يا أستاذ "معتصم"، هي كان عندها أسبابها الخاصة
رد عليها مستنكرًا تهميشه:
-وفين حقي لما ما أعرفش إن عندي بنت؟
حاولت إقناعه بالتريث وتهدئة الأوضاع قائلة:
-نتكلم في ده بعدين، بس مش وقت خناق ولا عتاب قصاد "نادية"
ثم أشارت له بعينيها ليحدق في وجه الطفلة المذعور، تمالك "معتصم" نفسه كي لا يصعد الوضع أكثر من هذا، دنا من صغيرته مسلطًا أنظاره الدافئة عليها، ابتسم لها قائلاً بودٍ:
-متخافيش يا حبيبتي، أنا مش هاعملك حاجة، أنا بابي
أخفت الصغيرة "نادية" وجهها في رقبة "جميلة" متجنبة التحديق فيه، استاء "معتصم" للغاية من خوفها منه ومن نظرات الارتعاد الواضحة عليها، مد يده ماسحًا على ظهرها برفق حنون متابعًا بخفوت:
-أنا رجعت يا حبيبتي ومش هاسيبك، بابي مستعد يعمل أي حاجة في الدنيا كلها عشان تكوني مبسوطة
ثم رفع أنظاره لـ "جميلة" لتقرأ في عينيه رغبة صريحة في حمل طفلته، بدت مترددة في تنفيذ أمره الصامت خشية من ردة فعل "آسيا" التي كانت تغلي في مكانها، حسمت أمرها بإعطائها له، فمن حقه ضم طفلته والشعور بقطعة منه بين أحضانه، ناولتها له رغم تشبث الصغيرة بها، حملها منها "معتصم" وربت عليها بلطف متجاهلاً ركلاتها وأنينها الباكي، تغلغل فيه شعورًا عظيمًا بالسعادة لمجرد احتضانها، ضبط انفعالاته التي اهتاجت بسبب حرمانه من حقه في التمتع بها، وتسلح بالهدوء الشديد، قبل أعلى رأسها وشدد من ضمه لها هامسًا:
-أنا مش هاعملك حاجة يا حبيبتي، بابي بيحبك!
منحها قبلة أخرى أبوية آملاً أن ينظر إلى وجهها، رمقته الصغيرة بعينين باكيتين وهي تنتحب بخوف مبررٍ منه، تلقتها "جميلة" بيديها لتضمها إليها، رمق "معتصم" ابنته بنظرات متلهفة لها، طامعة في عدم تركها أبدًا، شعر بيدٍ تدفعه بغلظة فاستدار برأسه للجانب ليجد "آسيا" تأمره بصراخٍ:
-امشي من هنا، بــــرا
رد عليها بوعيد وهو ينتزع قبضتها ليعتصرها بأصابعه قائلاً لها:
-أنا راجع تاني يا "آسيا"، ومش هاسيبكم، إنتي مراتي وهي بنتي، حطي ده في دماغك!
تأوهت من الألم فأرخى قبضته عنها ثم حدق في طفلته ليقول لها:
-حبيبتي أنا أسف، كنت بعيد عنك الفترة اللي فاتت دي، بس هاعوضك إن شاء الله
تلمس شعرها بحذرٍ والتفت نحو زوجته ليلقي عليها نظرة غاضبة مليئة بالإصرار العنيد قبل أن يخرج من البازار، شعرت "آسيا" بالتخبط والحنق، لم تكن تتمنى حدوث تلك المواجهة قبل أن تستعد لها، ورغم هذا راودها إحساسًا غريبًا بالارتياح لكونه لم يشكك في بنوة الطفلة أو حتى يثير ذلك الأمر، تأملت "جميلة" حالتها مرددة بحذرٍ:
-إن شاءالله النفوس تهدى وتتصافوا
جمدت "آسيا" نظراتها الحادة عليها، أشارت لها قائلة بصوتها المتحشرج:
-هاتي "نادية"
ناولتها إياها دون تفكير لتضم الأخيرة طفلتها إلى حضنها بقوة رافضة تركها، انهالت عليها بعشرات القبلات وهي تحاول طمأنتها هاتفة:
-بس يا "نادو"، مافيش حاجة حصلت
طوقت الطفلة عنقها بذراعيها وأسندت رأسها على كتفها شاعرة بالأمان معها، للحظة فكرت "جميلة" في إصلاح ذات البينِ بين الزوجين المتخاصمين، خاصة بعد تأكدها من عدم تطليق "معتصم" لها، أسرعت خلفه لتلحق به آملة في نفسها أنها ستفعل الصواب.
-تسيب اللي في إيدك وتجيلي على طول
قالها "معتصم" بصيغة شبه آمرة لابن عمه الذي تفاجأ بعثوره على زوجته الهاربة، مكث الأخير في فندق قريب من منطقة المازارت تاركًا ما خلفه من أعمال ليتفرغ لتلك التطورات الهامة، فلو كان كالماضي يعاملها بعصبيةٍ وهمجية لأطبق فورًا على عنقها وعنفها بشراسة لفرارها وتعذيبها له قبل أن يجدها ويكتشف وجود طفلة تحمل لقبه، عاد ليأمر "نبيل" بخشونة:
-متتأخرش لأني مش هاصبر كتير
رد عليه ابن عمه برجاء:
-حاضر، بس إنت اهدى، وكل حاجة هتتحل
بدا غير مقتنع بجملته ومع ذلك رد باقتضاب عابس:
-أما أشوف، سلام!
أغلق هاتفه ليتجه إلى النافذة، أزاح الستائر ليتأمل حركة السير وهو ينفث غضبًا من تعابيره، كز على أسنانه محدثًا نفسه:
-بقى كده يا "آسيا"؟ انتقمتي مني صح!
أتى إليه على عجالة مؤجلاً كل أعماله ليعاونه في مسألة استعادة زوجة ابن عمه بعد اكتشاف مكان اختبائها، سرد "معتصم" على "نبيل" تفاصيل ما حدث لتبدو الصورة واضحة بالكامل له، رفع حاجبه للأعلى مرددًا باندهاش:
-لحد دلوقتي أنا مش مصدق اللي إنت بتقوله ده!
حدجه "معتصم" بنظرات مغلولة قبل أن يعلق بغيظٍ:
-أومال أنا اعمل إيه؟
تنفس بعمق ليهدأ من صدره الثائر ثم أضاف بحنق:
-"آسيا" قدرت ببساطة تخبي البنت عني لسنين، وأنا ولا على بالها، مفرقتش معاها للحظة
رد عليه معللاً تفكيرها الخاطئ:
-بص هي معذورة برضوه، من اللي شافته منك!
احتقنت نظراته صائحًا بتشنجٍ:
-وأنا عملت فيها إيه يخليها تحرمني من بنتي؟!
أجابه بنظرات جادة:
-شكلك نسيت، ده كفاية مرض الشك اللي كان عندك!
صرخ فيه بعصبيةٍ:
-إنت بتدورلها على مبررات وخلاص
أردف قائلاً بنبرة عقلية وبثبات كي يحجم ثورة ابن عمه قبل أن تطغى عليه وتعميه من رؤية الأمور من منظورها الحقيقي:
-لأ، بس عاوزك تعذرها لما تتصرف كده معاك أو مع غيرك، اللي شافته مش قليل ولا هين، وأظن إنت شوفت باباها كان عامل إزاي، فطبيعي إنها تخاف وتهرب وتخبي عليك إنها مخلفة أصلاً
صمت "معتصم" ليفكر مليًا وبرويةٍ فيما قاله، في حين أكمل "نبيل" قائلاً:
-حل الموضوع ده يكون بالعقل والحنية، طالما إنت متمسك بيها وعاوز تكمل معاها، ده غير إنك لازم تبص لمصلحة بنتك وتحطها في اعتبارك!
كور "معتصم" أصابع يده ليضغط عليها بغيظ وهو يقول:
-أنا هاموت ياخي من الحكاية دي، بنتي ومتعرفنيش وكمان خايفة مني بسبب أمها
حاول تهدئته معلقًا:
-كل ده مقدور عليه، بس نصيحتي ليك حل مشاكلك مع "آسيا" بالتفاهم والأسلوب الودي، العداوة والعنف مش هايجيبوا نتيجة، وأديك شوفت حصل إيه، ولو مش عاوز المشاكل تتكرر تاني ولا "آسيا" تهرب منك خليها تعرفك على حقيقتك، تشوف الجانب الطيب الحنين اللي فيك، وساعتها هاتكسبها
أثرت كلماته العقلانية فيه بدرجة ما وأثبطت حالة الغضب التي اعترته ليضع نصب عينيه الخيارات الأفضل للم شمل أسرته من جديد، فما جناه من التهور والتصرف ببربرية همجية هو الجفاء والهروب والمقاطعة، زفر مرددًا:
-ربنا يسهل
أراد "نبيل" أن يصرف انتباهه عن رغباته الانتقامية التي تبحث عن جذوة للاشتعال من جديد مضيفًا بابتسامة شبه ساخرة:
-في حاجة تانية كنت عاوز أقولك عليها، هي صحيح مش وقتها بس لازم تعرف
رد ابن عمه متسائلاً بوجه ممتعض:
-في مصيبة تانية؟
اتسعت ابتسامته قليلاً وهو يرد نافيًا:
-لأ، خبر كويس
-خير؟
أجابه باقتضاب:
-"مصطفى"!
سأله بجدية وقد انعقد ما بين حاجبيه:
-ماله؟
فرك "نبيل" طرف ذقنه متابعًا:
-عاوز يخطب "أية" بنت عمنا
التوى ثغر "معتصم" للجانب مرددًا بنبرة شبه مزدرية:
-نعم، "أية"؟!
استأنف "نبيل" معلقًا:
-هو فاتحني في الموضوع ده، الظاهر إنه معجب بيها ومن زمان بس مكانش قايل، وطبعًا مش هنلاقي أحسن منه ليها، صاحبنا وبنثق فيه ده غير أخلاقه و...
لم يصدق "معتصم" أذنيه، ففي خضم ما يمر به من مشكلات تحتاج لمجهود مكثف للوصول إلى حلول مرضية يحدثه ابن عمه عن زواج "أية" من صديقهما المقرب وكأنه يعيش فترة سلام لا ينقصها إلا تلك الأخبار، رد باستنكار عابس:
-مش وقته الموضوع ده يا "نبيل"، خلاص مش قادر يصبر أما أتنيل أخلص البلاوي اللي عندي
رد مازحًا:
-الراجل نفسه يفرح
اعترض بتذمرٍ:
-بس مش وقته
وافقه "نبيل" الرأي قائلاً بابتسامة هادئة:
-تمام، أنا معاك، بس بأديك فكرة، وهو فاهم الظروف كويس
نظر له بضيق من عينيه المحتقنتين ليرد بتهكمٍ ساخط:
-ماهو باين عليه!
قررت ألا تترك الأمور معلقة، هي عايشت أحوال رفيقتها ومدركة لأبعد الحدود رغبتها في الاستقرار والتنعم بأجواء أسرية دافئة مليئة بالعطف والحب لتعوضها عما قاسته، لكن خوفها من المجهول دفعها للهروب ولارتكاب أخطاء كبيرة في حقها وحق صغيرتها، لذا عقدت "جميلة" النية على إعادة روابط الود بين الزوجين المتشاحنين وإزالة الحواجز الجليدية بينهما ليحيا كلاهما في أحضان الآخر، وقبل رحيل "معتصم" من البازار طلبت رقم هاتفه لتتواصل معه خلسةً بعيدًا عن "آسيا" من أجلها، اتفقت على مقابلته في أحد المطاعم لتتفاهم وديًا على الطريقة التي يمكن أن تساعده في التودد إليها، استطردت "جميلة" حديثها قائلة بارتباك طفيف:
-هي طبعًا غريبة إني أطلب أقابلك وأتكلم معاك، بس لو أنا مش متأكدة من إن "آسيا" بتحبك مكونتش عملت ده
رد عليها بتبرمٍ وقد بدا غير مقتنع بما تقوله:
-وهي بقى اللي بعتاكي
نظرت له بقوة قبل أن تحتج باعتراضٍ:
-لأ طبعًا، دي لو عرفت ممكن تقاطعني فيها!
أضاف بازدراءٍ:
-يا مدام .....
قاطعته ببسمة رقيقة:
-اسمي "جميلة"
بدا فظًا وهو يتجاهل جملتها ليسألها مستفهمًا:
-إنتي تقبلي باللي عملته؟
أجابته بالنفي:
-لأ طبعًا
ثم تابعت مضيفة بنبرة هادئة:
-وعشان كده أنا جاية أفهم منك إيه اللي حصل بالظبط، جايز أقدر أساعدك
تنهدت "جميلة" بعمق مراقبة بتفرس ردة فعله، بدا وجهه غير مقروء رغم احتداد نظراته، عضت على شفتها السفلى مكملة:
-أنا صعبان عليا "آسيا" و"نادية"، مش حابة يكون ده وضعهم، الاتنين محتاجينك معاهم حتى لو كانت "آسيا" معاندة ورافضة ده
صمت مليًا مما أوجسها خيفة من رده القادم، لكنه بدد شكوكها الواهية قائلاً بجدية:
-ماشي، وأنا معاكي!
اختلست النظرات نحو "آسيا" الجالسة في الشرفة بشرود لتعاود الحديث في هاتفها بصوت خفيض وهي تتسلل إلى المطبخ، فقد أعدت "جميلة" خطة بسيطة مع "معتصم" هدفها وضع مخدر في مشروبها لتغفو فيتمكن الأخير من اصطحابها بهدوء وإعادتها إلى منزله بالقاهرة دون أي مقاومة وبصحبتهما ابنتهما، سألها مؤكدًا عليها بجدية:
-إنتي متأكدة إنها مش هاتشك؟
أجابته بهمسٍ:
-لأ طبعًا، بس خليك قريب من البيت وأنا هاكلمك
هوى قلبها في قدميها حينما التفتت "جميلة" لتجد "آسيا" واقفة عند عتبة المطبخ، للحظة توهمت أنها كشفت أمرها، تجمدت ملامحها وحدقت فيها برعبٍ، سألتها رفيقتها بفتور وهي تفرك مقدمة رأسها:
-بتكلمي مع مين يا "جميلة"؟
ابتلعت ريقها في حلقها الجاف ثم أجابتها بتلعثمٍ طفيف:
-لأ ده واحد من الموظفين بأخلص شغلي معاه
أومأت برأسها قائلة:
-أوكي
ولجت "آسيا" إلى داخل المطبخ ثم سحبت المقعد لتجلس مستندة بمرفقيها على الطاولة التي تنتصفه، وضعت "جميلة" يدها على كتفها متسائلة باهتمام:
-شكلك لسه مضايق؟
أجابتها "آسيا" بنبرة مهمومة:
-مش عارفة أعمل إيه
حاولت طمأنتها فردت مبتسمة:
-متقلقيش، كل حاجة هتتحل
تابعت "آسيا" قائلة بتوترٍ لم تخفه:
-خايفة من "معتصم"، مش هاسيب "نادية"، وهياخد الموضوع عِند فيا وأنا مش هاستحمل حد ياخدها مني
ردت عليها بحذرٍ:
-بس هو باباها
صاحت بعصبية بائنة:
-أنا اللي تعبت فيها
أوضحت لها خطئها قائلة:
-ماهو إنتي من الأول معرفتيهوش عنها
استنكرت "آسيا" دفاعها عنه فوبختها متسائلة:
-إنتي معايا ولا معاه؟
مدت "جميلة" يدها لتمسح على وجنتها برفق ثم أجابتها بتريثٍ:
-حبيبتي أنا عاوزة مصلحتك، وحابة تكوني مبسوطة وسعيدة في حياتك
أخرجت "آسيا" تنهيدة مليئة بالضيق من صدرها معلقة عليها:
-ماظنش هاشوف راحة تاني
ثم ســاد صمت متوتر بين الاثنتين للحظات قطعته "جميلة" بسؤالها:
-بأقولك إيه، أعملك نسكافيه معايا يروق دماغك
كانت "آسيا" بحاجة لما يخمد توتراتها وقلقها المستمر، ردت بإيماءة خفيفة:
-أوكي
شرعت رفيقتها في تنفيذ خطتها بحرص شديد متأكدة من وضع الأقراص المخدرة في المشروب الساخن، قلبته جيدًا بعد أن أضافت ملعقة زائدة من السكر كي لا تشعر بالمذاق الغريب فيه، ناولتها الكوب وهو تجاهد للحفاظ على هدوء تعبيرات وجهها، جلست إلى جوارها وراقبتها بعينين حادتين كالصقر وقد بدأت في ارتشاف القليل منه، نفخت "آسيا" قائلة بحيرةٍ:
-بأفكر ماوديش "نادو" الـ nursery (حضانة) اليومين الجايين، خايفة "معتصم" يكون بيراقبنا ويعرف مكانها ويخطفها
ردت مستنكرة سوء تفكيرها:
-مش ممكن يعمل كده، ده برضوه باباها
لوت شفتيها مرددة بوجه متجهمٍ:
-أنا مش ضمناه
لم تعقب عليها فقد كانت عيناها تتابعان بترقبٍ ارتشافها للمشروب، رويدًا رويدًا بدأت "آسيا" تشعر بذلك الثقل الذي اجتاح رأسها، نهضت من جلستها قائلة بتعبٍ:
-مش قادرة، دماغي وجعاني، أنا محتاجة أنام
ردت "جميلة" بجمود:
-وماله يا حبيبتي!
راقبتها وهي تسير بتمهلٍ شديد نحو غرفتها لتتبعها بحذرٍ حتى تأكدت من سقوطها على الفراش واستسلامها لتأثير المخدر، عاودت الاتصال بـ "معتصم" هامسة له بجدية رغم اضطراب نبرتها:
-تعالى بسرعة، هي خلاص نامت
وقفت قبالة صديقتها، تلمست كفها برفق ثم همست لها بندمٍ:
-سامحيني يا "آسيا"، بس أنا عارفة إنك هتشكريني على ده بعدين
سهلت له رفيقتها الطريق ليتمكن من التسلل إلى المنزل، ولج "معتصم" إلى داخل غرفة "آسيا" ليجدها غافية، رمقها بنظرة مطولة تحمل الكثير، قاوم إحساسه الغاضب ليضع مصلحتها ومصلحة صغيرته في قائمة أولوياته، لن يدع الشك يفتك باستقرار حياته ولا بالقسوة لتفسد ما يحاول بنائه، انحنى عليها ليحملها بين ذراعيه، في حين تولى "نبيل" حمل الصغيرة وحقيبة بها متعلقات الاثنتين مما استطاعت "جميلة" جمعهما في ذلك الوقت القصير، اتجه "معتصم" بزوجته النائمة إجباريًا نحو سيارته المصفوفة بجوار المنزل، أجلسها على المقعد الأمامي وأحكم ربط حزام الأمان، بينما جلس "نبيل" بالخلف واضعًا الصغيرة على حجره، وفي أقل من دقائق كانت السيارة في طريقها للعودة إلى القاهرة.
خافت "نادية" من الوجوه الغريبة المتطلعة إليها خاصة حينما رأت سكون والدتها المزعج، رددت ببراءة وهي تشير بيدها الضئيلة نحوها:
-مامي
مسد "نبيل" على رأسها قائلاً بلطفٍ محاولاً إزالة الرهبة الطبيعية منها:
-حبيبتي متخافيش مامي نايمة شوية، ها قوليلي إنتي اسمك إيه؟
أجابته بصورة عفوية:
-"نادية"
كان متعجبًا وفي نفس الوقت معجبًا بتسميتها على اسم جدتها الراحلة، فقد دل ذلك على مسامحة "آسيا" لوالدتها ورغبتها في تخليد ذكراها، همس لها مبتسمًا:
-اسمك جميل أوي
ثم تأمل وجهها وملامحها الطفولية التي قاربت بدرجة كبيرة لملامح والدتها، ردد بصوت خفيض:
-سبحان الله، فولة واتقسمت نصين
حدق "معتصم" في المرآة الأمامية متأملاً وجه ابنته، بالفعل كانت مشابهة لـ "آسيا" كثيرًا، حملت سماتها الجسمانية فبدت نسخة مصغرة عنها، انتبه لسؤال "نبيل" الفضولي:
-فين بابا بقى؟
ردت الصغيرة ببراءة وهي ترفع سبابتها للأعلى:
-فوق!
قطب جبينه متسائلاً باستغراب:
-فوق فين؟
أجابته دون تردد:
-مع عصفور
انتاب "نبيل" الحيرة من ردها الغريب، فسألها مستفهمًا:
-بيعمل إيه معاه؟
ردت بنفس البراءة المحببة:
-يطير فوق
حملق "نبيل" في ابن عمه يسأله بمزاحٍ:
-إنت طلعت مع العصافير امتى يا "معتصم"
تجاهل الأخير الرد عليه مبديًا انزعاجه من مزاحه السخيف، شعر بيده تمتد لتتلمس ظهره بخشونة، احتدت قسمات وجه "معتصم" متسائلاً بضيق:
-إنت بتعمل إيه؟
أجابه بمرحٍ:
-بشوف طلعلك ريش ولا لسه
نهره بتوبيخ شديد وقد قست نظراته:
-بلاش استرخام
علقت الصغيرة ببراءة وهي تنظر بعبوس لوالدها:
-عمو زعلان
صاح باستنكار شديد بعد أن فاض به الكيل من جهل ابنته له:
-مين ده اللي عمو؟ أنا بابا يا "نادية"، بابا! قوليها كتير عشان تحفظيها
كركر "نبيل" ضاحكًا من الموقف برمته، فعلى قدر كونه مخيبًا للآمال إلا أنه كان عفويًا ومرحًا، كز "معتصم" على أسنانه متمتمًا مع نفسه بغيظٍ:
-استغفر الله العظيم، بقيت عمو، عملتي الواجب معايا يا "آسيا" وزيادة!
شعرت بصداع ثقيل يعصف بخلايا عقلها المتعبة وقد بدأت في استعادة وعيها، تململت "آسيا" على الفراش محركة رأسها للجانب، فتحت عينيها ببطءٍ لتجد ذلك الطيف المشوش محدقًا بها، رمشت بعينيها لعدة مرات لتعتاد على الإضاءة، اتضحت لها ملامح ذلك الوجه جيدًا، كان "معتصم" يطالعها بنظرات غامضة، هبت منتفضة من نومتها لتلقي نظرة خاطفة على الغرفة، قفز قلبها رعبًا بين ضلوعها بعد أن تأكد لها وجودها بغرفته، سألته بخوفٍ وهي تتراجع للخلف على الفراش:
-أنا إيه اللي جابني هنا؟
أجابها بهدوء مريب:
-أنا يا "آسيا"
صرخت فيه بحدةٍ وهي تنهض على قدميها منزوية بعيدًا عنه:
-إنت عملت فيا إيه؟
رد بنفس الهدوء الملبك للأبدان وهو يدنو منها:
-رجعتك بيتك
هدرت بتشنجٍ:
-ده مش بيتي
هز رأسه بالنفي مصححًا:
-لأ يا "آسيا"، المرادي مش هتهربي مني!
أقبل عليها قاصدًا الإمساك بها، صرخت فيه بجنون:
-ابعد عني
لم يجد "معتصم" صعوبة في الوصول إليها، أحاطها بذراعيه مجبرًا إياها على البقاء تحت حصاره وفي أحضانه، جاهدت لتتملص منه وتتخلص من قبضتيه المحكمتين عليها لكنها فشلت، نظرت له شزرًا هادرة فيه:
-سيبني
شدد من ضمه لها قائلاً:
-لأ
انتبهت لعدم وجود صغيرتها معها فسألته بخوفٍ:
-بنتي فين؟
ثبت نظراته عليها ممتعًا عيناه بقربها الذي افتقده، غلب الشوق غضبه، وهزم الحب مشاعره الانتقامية منها، أرخى ذراعه عنها ليتمكن من تلمس بشرتها، ارتجفت من لمساته الحنون وأغمضت جفنيها متجنبة نظراته التي ضيقت عليها الخناق، عادت لتسأله بصوتها المنفعل رغم تلك الهزة الخفيفة البائنة فيه:
-أنا عاوزة بنتي، هي فين؟
أجابها بابتسامة صغيرة:
-متخافيش مع جدها "وحيد"
أدركت أنه يحاول اتباع طريقته الماكرة في إضعافها، فلجأت إلى جفائها الجامد لتحمي نفسها من تأثيره، رمقته بنظرة حادة صارخة فيه:
-إنت عاوز إيه يا "معتصم"؟
على عكسها كان هادئًا لأبعد الحدود، متماسكًا لدرجة تثير الريبة والشكوك، بادلها بنظرات عميقة قائلاً لها:
-عاوزك يا "آسيا"
توترت من جملته التي أوحت بالكثير، ومع ذلك استنكرت استمالته لها مرددة:
-بأمارة إيه؟ إنت عمرك ما حبيتني!
هز رأسه بالنفي موضحًا:
-غلطانة، جايز أسلوبي كان غلط معاكي من الأول وإنتي عارفة ده ليه، بس إنتي مادتنيش فرصة أصلح غلطي وتعرفي ....
قاطعته بحدةٍ:
-مش مصدقاك، إنت بتكرهني و...
ركز أنظاره عليها هامسًا لها دون أي مقدماتٍ:
-بأحبك
ورغم المفعول السحري لتلك الكلمة العجيبة إلا أنها قاومت تأثيرها الذي أجفل بدنها وأنعش مشاعرها المرهقة، نهج صدرها قائلة بارتباكٍ:
-مش عاوزة أسمع حاجة
تابع همسه المحفز لها:
-"آسيا"، أنا كنت بأموت في بعادك، إنتي معرفتيش أنا كنت بأعمل إيه عشان أوصل لأي حاجة توصلني ليكي
حدقت فيه بحدقتيها المتوترتين وقد بدأت مقاومتها تخبو، مسح بنعومة أشد تأثيرًا على وجنتها ليكمل بعتابٍ لطيف:
-ليه عاوزة تحرمينا من إننا نعيش حياتنا؟
أجابته بصوتٍ شبه مرتجف:
-إنت من الأول حكمت على جوازنا بالفشل، ماتجيش دلوقتي وتقول العكس
حاوط عنقها بكف يده فاقشعر جسدها بالكامل من لمساته الخبيرة عليها، شعر بتلك الرجفة التي انتابتها، ثم مال على أذنها هامسًا لها بصوته العذب قاصدًا أن تحس بأنفاسه الساخنة والناطقة بمشاعره لها:
-كنت غلطان، مريض بالشك وغضبي عميني، ليه ماننساش اللي فات ونبدأ من أول وجديد؟
ردت بصوتها المرتبك وهي تتحاشى اقترابه الذي أوشك على إذابة ما تبقى من مقاومتها:
-عاوزني أمسح كل حاجة كده بأستيكة؟
رد عليها بنفس الهمس الملبك:
-ادينا فرصة نقرب من بعض من أول وجديد ونعرف بعض صح، من غير انتقام ولا كره ولا عداوة
أشعلت أنفاسه الحارة بشرتها فتلون وجهها بحمرةٍ قوية، قبل وجنتها بشفتيه متابعًا حديثه بصوته الخفيض:
-لا إنتي هاتحبي تعيش بنتنا نفس تجربتك مع باباكي، ولا أنا عاوزها تتربى بعيد عن حضني، من حقها إنها تكبر وسطنا وتدوق حنان باباها وحبه، وتشبع من وجود مامتها معاها
أغمضت عينيها بقوة وهي تقاتل ذلك الصراع الدائر بداخلها، ارتجفت من إحساسها بقرب تلمس شفتيه لشفتيها، ألهبتها أنفاسه وهو يضيف:
-احنا الاتنين عاوزين فرصة تانية لينا
تأكدت أنها باتت قاب قوسين أو أدنى من الاستسلام لذلك الإحساس المغري الذي تسرب تحت جلدها وأعاد إليها ما افتقدته من مشاعر عايشتها لمرة واحدة، ابتلعت ريقها مرددة بارتباك:
-عاوزة أشوف بنتي
رد عليها بخفوتٍ:
-مش قبل ما توعديني إنك مش هاتهربي مني يا "آسيا"
تفاجأت به يقبلها من شفتيه متعمدًا تعميق قبلته الحسية لتشعر بما يعصف به من مشاعره، تراجع عنها ليتأمل وجهها الذي أشرق مع جزءٍ مما أرادها أن تتذكره، اعتذر لها هامسًا:
-أنا أسف على كل حاجة
فتحت عينيها لتنظر له بجمودٍ، مال "معتصم" عليها ليقبلها بقوة من جديد مؤكدًا على عمق مشاعره، ابتعد بتمهل عنها ليهمس بأنفاسه المتهدجة:
-بأحبك
اختل كل شيء واختلط بأحاسيسها وعادت لتحلق في حلمها الوردي الذي افتقدته وظنت أنه حلمًا صعب المنال، ردت عليه بصعوبةٍ:
-إنت ...
وضع إصبعه على فمه مقاطعًا إياها بصوته الخفيض ونظراته المشتعلة بالرغبة والحب:
-شششش، مش وقت كلام
ابتسمت لها الحياة من جديد وحلقت في فضاء العاشقين متناسية تلك الأوجاع التي أرهقت كاهليها، انغمست "آسيا" في ملذات الحب وأذاقها "معتصم" مشاعره المتيمة التي أشعرتها بالذنب لهجرها له دون أن تفكير عقلاني، كانت بحاجة لاحتواء خوفها، لإكسابها الثقة في الأخرين، للشعور بالأمان، للتنعم بالجو الأسري الدافئ المستقر، كم افتقدت تلك الأمور كثيرًا والتي عايشتها في لحظات مميزة للغاية أشعرتها برغبتها الشديدة لعدم التخلي عنها من جديد، احتضن وجهها براحتيه قائلاً لها بصوته العذب المثير:
-وحشتيني
ردت بابتسامة أشرقت وجهها:
-وإنت كمان
-أنا مكونتش متخيل إني هاتعلق بيكي كده
ابتسمت هامسة:
-ولا أنا كنت أصدق ده
سحبها من يدها ليقول لها:
-طيب تعالي سلمي على بابا
أومأت برأسها موافقة وسارت معه إلى خارج الغرفة، انتبهت لصوت الضحكات الطفولية التي ملأت أركان المكان، سارت بتلهفٍ نحو مصدرها لتجد ابنتها تلهو ببراءة مع جدها "وحيد"، تأملتهما للحظات في صمت عاجزة عن إيجاد التفسير والمبرر الذي يقنعه بسبب تصرفها الأرعن ويحسن من صورتها أمامه، خاصة بعد الذي قدمه لأجلها، فهو لا يستحق منها ذلك، رفع الأخير عينيه نحوها مرحبًا بها بودٍ:
-حمدلله على السلامة يا "آسيا"
خجلت منه فأطرقت رأسها قائلة بحرج كبير:
-ازي حضرتك؟
أمرها "وحيد" بهدوءٍ:
-بصيلي يا "آسيا"
نظرت له بتوترٍ فتابع قائلاً بجدية:
-احنا مش هنتعاتب، لأن الكل غلطان، بس أتمنى إنك تكوني فهمتي إن "معتصم" لسه متمسك بيكي بعد اللي حصل!
تحركت رأسها عفويًا نحو زوجها الذي كان في حالة انتشاء واضحة بسبب مدح والده له، عززت كلماته الطيب الموقف وخففت من وطأة العتاب القاسي، تهللت أسارير "معتصم" صائحًا ببسمة متسعة:
-أخيرًا، الله يكرمك قول كمان كلمتين حلوين في حقي
ركضت الصغيرة "نادية" نحو والدتها هاتفة:
-مامي!
انحنت "آسيا" نحوها لتحملها بين ذراعيها، ضمتها إلى صدرها وهي تدور بها بسعادة، ثم توقفت عن الدوران لتقبلها بعطف أمومي كبير من وجنتيها:
-"نادو"
علق "وحيد" على اسمها قائلاً بنبرة شبه متأثرة وقد ترقرقت عبرة حزينة في عينه:
-إنتي مش متخيلة إحساسي عامل إزاي وإنتي مسمياها "نادية"، خلتيني أتعلق بيها أوي
نظرت له "آسيا" بأسفٍ حزين، فاسم صغيرتها يعد تخليدًا لذكرى والدتها الراحلة، تنهدت بعمقٍ ثم التفتت نحو "معتصم" الذي لف ذراعه حول كتفيها ليقربها إليه، ابتسم مضيفًا:
-ولسه يا بابا لما تقعد معانا وتعرف جدها أكتر
ثم سلط أنظاره على صغيرته قائلاً:
-هاتي "نادو" أشيلها شوية
ناولتها إياه دون جدال ليشعر "معتصم" بأنه امتلك الدنيا وما فيها وهو يضم صغيرته إليه، مال برأسه للجانب ليطبع قبلة أبوية على وجهها، لكن بادرت الصغيرة "نادية" بخدشه بعنف وكأنها تتقاتل معه، أمسك بقبضتها الصغيرة متعجبًا من ردة فعلها:
-آي، طب ليه كده بس؟
تشكل على ثغر "آسيا" ابتسامة عابثة معلقة عليه:
-مابتحبش حد يبوسها
ضيق نظراته معترضًا:
-بس أنا باباها
هزت كتفيها قائلة بدلال واثق:
-مش مبرر يا "معتصم" بيه
هز رأسه بالإيجاب مرددًا بعبوسٍ زائف:
-عندك حق
ثم وزع نظراته بين الاثنتين راسمًا على وجهه ابتسامة بشوشة، تمنى في نفسه أن تسود السعادة جدران ذلك المنزل الذي افتقد تلك الأجواء الدافئة، فعلاقته لم تكن بالسهلة المفهومة، هي كانت المعنى الحرفي للتعقيد والتشابك، فلو تسرع في قراره وانفصل عنها مثلما رغبت لما كسب ثقتها بسرعة حينما تأكدت من تمسكه بها رغم هجرها له لفترة طويلة باحثًا عنها في كل حدب وصوب، والأهم من ذلك نبذه للعنف والعدائية مستعيضًا عنه بالود وإظهار الحب الشغوف، تشكلت علامات الرضا على وجه "معتصم"، فقد حان الوقت لنسيان الماضي بما فيه، عادت الصغيرة "نادية" لخدشه وهي تضحك بعبثٍ، تنهد قائلاً باستياء:
-تاني؟ شكلك هاتتعبيني زي مامتك!
ورغم توقعه لحدوث المصادمات لاحقًا مع "آسيا" على أبسط الأمور لكونها تناقضه في كل شيء، لكنه كان على استعداد كبير لخوض ذلك بأريحية والتمتع معها بنقاشاتهما الهادئة والمحتدمة، بل وربما ستحوي في بعض الأحيان لمحات بربرية تذكرها بقوته معها وتحذره في نفس الآن من شراستها العنيدة التي يمكن أن تودي به للهلاك 
      تمت بحمد الله
تعليقات



<>