
رواية كبرياء رجل الفصل الثاني2 بقلم داليا السيد
حصل على مكالمته وأنهاها ووضع يده بجيبه وظل واقفا بلا أدنى حركة وهو يعقد حاجبيه علامة التفكير، تلك الفتاة نالت الكثير من وقته وتفكيره، الرسائل تنهال على بريده الإلكتروني تنتظر منه تفسير. هاتفه العادي أغلقه كي يتوقف عن الرنين، البورصة تصرخ وتهلل على أسهم شركاته ما بين هبوط وصعود بلا استقرار وكل ما يفعله هو وقوفه هنا وعدوته خلف الجدران!؟
لم يتحرك وهو يردد داخل عقله، عدوته!؟ منذ متى وأعدائه بمثل ذلك الشكل الواهن؟ هو أبدا لم يتخذ الطرق الملتوية بعمله طريق للنجاح، هو يدرك أن ذلك لم يكن ليحدث بشركاته لو كان هو المسؤول لكن لو حدث فذلك لا يعني سوى شيء واحد. فقط عليه أن يتأكد من صدق كلماتها وبعدها سيضع كل شيء بمكانه الصحيح
لم يعد وحده عندما اخترق صوت ماري الصمت من حوله "أعتقد أن هناك أمر شديد الأهمية هو الذي جعلك تلغي سهرة اليوم فأنت كنت مهتم بها جدا"
لم يلتفت إليها وإنما قال "هذا ما اعتقدته أنا أيضا، خاصة عندما يمس الأمر اسمي وسمعتي ماري"
التفت إليها فكانت تحدق به بعيونها الدقيقة ولاح بداخلها أسئلة كثيرة هو ليس بحالة تجعله يرغب بالإجابة عليها وهي لم تختار الصمت "الأمر يخص تلك الفتاة بالداخل؟"
أومأ برأسه بحركة موافقة بسيطة وقال "بالتأكيد، وأظن أنه يخص وقت ذلك الحادث ماري لذا لابد أن أدرس الأمر جيدا كي أكمل الحساب وجودها هنا من أجل وقف المهزلة قبل زيادتها"
لكنها لم تكن توافقه وهي تقول "وجودها هنا قد يزيد الشائعات من أنك تحاول.."
ولم تكمل لأنه فهم ما أرادت التحدث عنه. لم ينظر لها وما زال متجهم الملامح بل أجاب ببرود "تعلمين أن لا أحد يجرؤ على اختراق القصر أو معرفة ما يدور به" ولف وجهه لها بنظرة صارمة وقال "وبالطبع أنت تدركين من أنا فلن أغتصبها، فقط أرغب بمعرفة كل شيء منها قبل أن تدخل جحر لا أعرف كيف أخرجها منه"
شحب وجهها من كلماته ومع ذلك لم تتراجع وهي تكمل "أنت تثق بصدقها؟"
عاد للنافذة التي تطل على ظلام عميق بالخارج لا نهاية له كالذي يسبح داخل أعماقه وقال "هذا ما أحاول معرفته ماري والمحامي يبحث به"
احترمت صمته ولكن ما زالت تهتم بكل ما يخصه ولم تبتعد وهي تقول "الجميع يعلم من أنت فلابد ألا تقلق"
لم ينظر لها، الجميع يعلمه جيدا لكن لكل فعل رد فعل وبمجال الأعمال ردود الأفعال تأتي بما لا تشتهيه السفن وهذا ما لا يحبه فأجاب "هذا لا علاقة له بمن أنا ماري، هذا له علاقة بمن فعل ذلك تحت ستار اسمي وشركاتي وكيف سأسدد الحساب رغما عني؟"
لوت شفتاها بألم وهي تتابعه وهو يتحرك عائدا ولكن ماري اعترضت طريقه بحركة بسيطة وواجهت نظراته القاتمة وهي تقول "لن تظل تدفع ثمن أخطاء غيرك"
التقى بنظراتها التي تحاول منحه الراحة رغم القلق الواضح بهما فهي أكثر من كان يهتم لأمره وهو يحمل لها ذلك بأعماق قلبه
الهدوء أخرس أي صوت حولهم وكأن لا مكان لأي متطفل يحاول اختراق الماضي، ماري دائما ما تفعل وهي تعلم أنه لن يثور بوجهها وهو بالفعل لا يفعل فقط لأنه يحفظ لها مكانتها داخله
رحل التفكير بعيدا وهو يرد بنفس الهدوء "وهل أملك البديل؟ تعلمين أن الأمر فرض وليس اختيار ماري مهما حدث فلن أتراجع، هو ليس بذنب الآخرين"
فتحت فمها لترد لكنه لم يرغب بالمزيد لذا خروجه أنهى الحوار وهي لن تجرؤ على إيقافه فهي تدرك تمام أن الثمن لابد من دفعه مضافا إليه فوائد التأخير..
وقفت أسيل أمام نافذة عالية وقد أزيلت عنها الستائر المخملية الثقيلة وبدا الليل الحالك بالخارج لا يمنح أي شيء لمن يراه سوى المجهول. الأمطار عادت تهطل بشكل سيء، الشتاء قارص وممطر هذا العام وهو يفرض جو من الكآبة على من حوله
فجأة تذكرت محمود وكيف تركته بلا سابق إنذار ثم تخليه عنها تحت تأثير المسيري ورجاله ومع ذلك عليها أن تجده
جذبت هاتفها من حقيبتها وحاولت الاتصال به ولكنه لم يجيب، أغمضت عيونها وهي تتساءل هل هذا يعني أنها فقدت وظيفتها بعد ما كان اليوم؟
ما حدث أمر شخصي لا يجب أن يلتصق بالعمل ولكنها لم تكن بوعيها، الماضي سيطر على كل كيانها وألقى بأي تعقل داخلها بصفيحة القمامة
أغمضت عيونها وهي تحك جبينها وتخبر نفسها بأن ما فعلته جعلها تحيد عن مهمتها الأصلية التي كانت بطريقها لها الليلة لصالح شركتها بل بالعكس؛ هي تسببت بمشاكل لم يتوقعها أحد لنفسها ولذلك الأسد الكامن بمكان ما الآن وربما لشركتها وهي لا تعرف ماذا سينتج من كل ما حدث وما زال يحدث؟
أغمضت عيونها وأراحت رأسها على أصابعها الرفيعة ولاحظت أنها ترتجف، ماذا سيكون مصيرها مع ذلك الرجل؟ فتحت عيونها وهي تمرر نظراتها على كل ما حولها، رائحة الثراء تفوح من كل جزء من المكان، هو على حق بسؤاله مما إذا كانت تعرف حجم أعماله فهي حقا لا تعرف. هي بالأساس لم تحاول حتى معرفة خصمها قبل أن تشن هجومها عليه، اكتفت بالرقود بركن مظلم والنواح بلا فائدة وما أن رأته حتى وثبت عليه بلا أدنى تعقل وخربشته بلا فائدة فما فعلته الليلة لا يعدو مجرد خدش بسيط بكيان لا يبدو أنه سيهتز أمام ما فعلته. هي مجرد فأر حقير أمام أسد لا يعرف الرحمة
هل هو كذلك حقا!؟ هي حتى لا تعرف..
أعادها فتح الباب إلى الواقع ورأته يتقدم بخطى ثابتة إلى الداخل وقوامه المتناسق يشد كل انتباها، خطوات واثقة وثابتة مع حذاء لامع كلاسيكي إيطالي يدل على أنه باهظ وليس من التخفيضات التي تنتظرها هي كي تشتري منها
صوته قطع نظراتها المتأملة وهو ينظر إليها بعد أن جلس بثبات خلف مكتبه وهو يقول "العشاء بعد قليل، هل لديك أي أوراق خاصة بالأمر ربما تساعدنا بالبحث؟"
كانت تحدق به كالتائهة وهي تستوعب ما يقول، أوراق؟ لا، بل نعم، ولكنها لم تعد ترغب بكل ذلك، هي انتهت
نهضت لتواجه ولكنه أشار بيده بحركة بسيطة وقال بطريقة ودية تغلف نبرته الآمرة "من فضلك ارتاحي، مازال الأمر طويل"
ضاقت عيونها وهي لا تفهم كلماته!؟
أي أمر الطويل؟ هي لا ترغب بالبقاء تحت رحمته أكثر من ذلك، هل يبقيها حتى تصل لجنة التحقيق وتخضع للتعذيب و..
لا!! انتفضت ولم تجلس وهي تقول بصوت أدرك هو نبرة الغضب داخله "لن أجلس ولا أرغب بالبقاء أكثر من ذلك، ما حدث قد حدث وانتهى ولن يعيد بحثك أي شيء لذا من فضلك دعني أذهب فالوقت تأخر وأنا أريد أن أعود لبيتي، يكفيني ما حدث حتى الآن"
تراجع بمقعده وهو ينظر إليها قبل أن يقول "والآن ماذا؟ لا أفهمك حقا! أنت من أثار كل تلك الزوبعة عندما تجرأت علي أمام العالم كله وجعلت مني علكة بفم كل من يرغب بالتشهير بي والآن ترغبين بإنهاء الأمر وكأنه كان مزحة سخيفة وكأني لست المعني بالأمر، ربما أنت من بدأ الأمر ولكن أنا من سينهيه وبطريقتي ولكن عندما أعرف الحقائق كلها، ولو كنت ترغبين بالتعويض فتأكدي أن لو لك حق عندي فسأمنحه لك وبفوائد أكثر مما يمكن أن يستوعبه ذهنك"
احمر وجهها وتجهمت ملامحها وارتفعت الحرارة بجسدها تنفض البرد الذي كان يحيط بها من قليل وشعور الإهانة يغلي داخلها، هل يجرؤ على اتهامها بأنها تطمع بالمال؟ هل هذا هو كل ما فهمه من كلماتها؟ ليس حزنها والألم والوجع الذي عاشته بفقدان والدها بعد معاناته مع الظلم والافتراء؟
تحركت تجاهه وقد فقدت العقل مرة أخرى من كلماته ولم تعد تعرف أين هي وامام من، فقط أرادت إيقافه عند حده ولكن هل له حد يمكنها ان تضعه عنده؟
مكتبه كان حاجزا صلبا يفصلهم عندما استندت عليه وهي تواجه نظراته الغامضة والتي لا تمنحها أي شيء مما هز شيء داخلها لم تعرفه ولكنها هتفت دون اهتمام "اسمع يا سيد، أنا لا يهمني ما تظنه بي، أنا حقا لم أعد أهتم بأن تعرف الحقيقة من عدمها، أنا فعلت ما فعلت من أجل والدي وليس من أجل أموالك فهي لا تعنيني بشيء ولا أرغب بها من الأساس وإلى هنا وانتهينا. بالنسبة لي لقد وصلت للنهاية"
ولم تنتظر كي تسمع منه أي رد بل التفتت كي تتحرك تجاه الباب لتبتعد من هذا المكان ومن أمام ذلك الرجل الذي تشعر أمامه أنها ضئيلة ولا نجاة من قبضته وعليها أن تسرع بالفرار قبل أن يقتص منها بلا هوادة.
لم تكد تلتفت حتى أوقفها صوته الحازم وكأنه أسقط جليد عليها جعلها تتجمد "توقفي، والآن"
لا تعرف ما التأثير الذي يمارسه عليها وكيف انسحب منها الإصرار الذي كان داخلها من قليل على الفرار، كيف يخيفها وهو يعاملها بكل هذا الاحترام؟
لم تأخذ وقت كافي للتفكير وهو يكمل بهدوء لا تصدقه "أنا لم انتهي بعد يا آنسة، وأظن أنك كبيرة بما يكفي لمواجهة نتيجة أفعالك وحتى لو لم يكن المال غرضك فأظن أنك لو صاحبة حق فلابد أن تناليه، أو أنال أنا حقي من الاعتذار لو ثبت العكس أم أنك تخشين ألا تصدق اتهاماتك واضطر إلى رفع قضية تشهير ضدك؟"
التفتت إليه وقد هزتها كلماته وأدارت عقلها من مكان لآخر وكأنه يقذفها بركن بعيد لا يمكنها أن تخترقه
التقت بالنظرات الحادة التي تتصدر عيونه وأيضا لم تقرأ منها أي شيء وهو ظل جالساً بنفس العظمة والكبرياء مصاحبا الهدوء ودون أن يتحرك فظلت صامته لحظة محاولة أن تبحث عن نفس الهدوء داخلها بلا فائدة فهو أفقدها سيطرتها على نفسها ورغم أنها اعتادت مواجهة الرجال بعملها وابتسامتها لم تكن تفارقها إلا أن ذلك الرجل كان مختلف، كان يسرق منها حتى أنفاسها
لم تعرف كم مر عليهم وهما يتواجهان فقط بالنظرات قبل أن تجذب أنفاس ثقيلة من بين ضلوعها وهي تفكر برد مناسب "لا، أنا لا أخاف من أي شيء فأنا لا ألقي التهم جزافا أستاذ بدر ولو رجالك يؤدون عملهم جيدا سيصلون إلى الحقيقة ولو حضرتك كنت أيضا متابعا لشركاتك لأدركت ما يحدث حولك أو ربما تعرف بالأمر وتشارك به وما تفعله معي الآن ربما تمثيلية لتنتقم مني لم فعلته الليلة، بكل الأحول أنا لا أهتم، فكر كما تشاء ولكن كما أخبرتك أنا لا أخاف وعلى أتم استعداد لتحمل نتيجة ما فعلت"
ظلت عيونه جامدة عليها ومن داخله اعترف بشجاعتها كامرأة تواجه مصيرها بقوة ولا تفر من مصيرها
نهض وتحرك بنفس طريقته المتعالية وإن كان بحركته شيء غريب لا تفهمه ولم تهتم به بل لم تتابعه وهو يتحرك لينتهي أمامها، لم تظل جامدة بل اعتدلت لتواجه ووقتها فقط أدركت كم يعلوها بقامته الفارهة وطوله الشاهق. كم بدا صدره الذي واجها عريضا تحت سترته الفاخرة وقميصه الذي لا تشوبه شائبة وربطة العنق ثابتة بمكانها وكأنها لا تجرؤ على أن تتحرك من مكانها، رائحة عطره تخترق أنفها بعناد لتثبت أنه عطر ثمين حقا يناسب قوة هذا الرجل الثابت كالجبال أمامها
حاولت أن تتماسك وحتى لو ضعفت من داخلها إلا أنها ظلت تدعي القوة أمامه وهي ترفع رأسها وتنظر بعيونه وللحظة أدركت جمالها وفتنتها حقا فتورد وجهها غصبا عنها وهو يبادلها النظرة ولكن هو لم يلاحظ ذلك وهو يسقط نظراته عليها ويرد متجاهلا شجاعتها وقوتها أمامه
"أعتقد أني لست بحاجة للإجابة على كلماتك هذه، لأنني لو كنت قد شاركت بهذا الأمر لما اهتممت به من الأساس وكنت تعاملت معك بطريقة أخرى تماما، من الواضح أنك لا تعرفين من أنا جيدا، بالنهاية أنا ما يهمني هو سمعتي وسمعة شركاتي لأني لم أسمح بأي يوم بأي تجاوزات ولو حدث فلابد أن يحاسب المسؤول عنها"
لم تبعد عيونها الجميلة عنه وما زالت نظرات الغضب تملؤها ولكن الأفكار تتضارب برأسها عن هذا الرجل الغامض أو ربما هي من صنعت غموضه بجهلها عن غريمها، خطأ هي من وضعت نفسها به ولا تلوم سوى نفسها
كان عليها أن تمنحه أي كلمات ولكن العقل ما زال لم يتركها "اهتمامك هذا يدهشني حقا ويجعلني أتساءل هل حقا تهتم؟ كيف إذن حدث ما حدث؟"
لحظة مضت وهو يواجها وهو يعلم أن لها كل الحق لتتساءل ولكن هو فقط من لديه توقعات للإجابة لكنها لا تخصها لذا ابتعد وهو يقول "مرة أخرى يا آنسة؟ من الواضح أنك لا تستوعبين حجم مجلس إدارة الشركات ولا حجم أملاكي، صحيح أن الخطأ عندي غير مقبول ولكنه بالنهاية وارد وأنا أبحث وأكيد سأصل لنتيجة"
هو لن يمنحها أكثر من ذلك، حجم أملاكه سبب قد يقنعها لو أرادت أن تقتنع وهي لا تهتم، حاولت أن تهدأ فلا فائدة من تهورها وانفعالها مع رجل مثله لن تنال منه إلا ما يرغب بمنحه لها على الأقل ليس بعد ما تسببت له به بسبب ما فعلت
هدأت قليلا بينمة كان هو قد وصل إلى مكتبه وأكمل "الآنسة مازالت تدرس أم..؟"
لم يكمل ففهمت أنه يدير الحديث بطريق آخر ربما يجلب أجواء أخرى على المكان من حولهم وعليها ألا تمانع فلديه جاذبية خطيرة تجعلها كالمنومة مغناطيسيا وتنصاع لأوامره بلا وعي
ردها كان تلقائي "أنا تخرجت من سياحة وإعلام، عملت بشركة سياحة لفترة محدودة ثم الآن أعمل مندوبة بشركة إعلانات، أقصد كنت فأكيد بعد ما حدث اليوم فقدت وظيفتي، محمود رئيسي المباشر كان ينتظرني لإجراء مقابلات هامة الليلة ولا أعتقد أنه سيغفر لي ما كان"
دق الباب يقطع استرسالها مما جعلها تبلع ريقها وتتوقف بينما أذن هو فانفتح الباب وظهرت الفتاة وهي تقول "العشاء بدر بيه"
هز رأسه ونظر إليها وقال "حسنا، شكرا سهير، هل تتفضل الآنسة!؟"
كانت تندهش من طريقته المفرطة في الاحترام والهدوء الذي يتميز به مما يوقف لسانها عن الاعتراض على أي أمر ينطق به يظهر وكأنه رجاء وليس أمر. تحركت أمامه إلى الخارج ولا تملك سوى طاعته فربما هي أسيرته وهي لا تدرك ذلك..
كان العشاء رائع وشهي حقا ورغم أنها لم تتناول أي طعام منذ وقت طويل باليوم إلا أنها لم تقبل على الطعام بشهية كبيرة. الأفكار كانت تقفز أمامها تفقدها شهيتها وسؤال يدق برأسها؛ ماذا أفعل هنا؟
توقفت عن محاولة إكمال ما تفعله بلا رغبة ووضعت شوكتها والسكين مما جعله يرمقها بطرف عيونه وكأنه لم يكن يراقبها وهي تتناول الطعام ببطء وبلا رغبة وكأنها تائهة
"لا عجب أنك تمتازين بهذا القوام النحيل آنسة أسيل"
نظرت إليه واندهشت أنه ما زال يذكر اسمها. أبعدت عيونها عن عيونه الجذابة خوفا من السقوط ببئر جاذبيته المظلم وقالت "ذم هذا أم إطراء"
لم ينظر إليها بل أبعد نظراته عنها وهو ينهي طعامه وينهض مرددا "تفضلين الجلوس بغرفة الجلوس أم نعود إلى المكتب؟"
أدركت أنه لم يجيب سؤالها مما جعلها تتساءل أين النساء بحياته؟ اللعنة كيف لم تعرف عن عدوها أي شيء؟
ظلت ترمقه بعيونها دون أن تنهض وقالت "لو لم تمانع أفضل أن تفرج عني"
توقف والتفت إليها بدهشة واضحة واستنكار لكلماتها وقال "أفرج عنكِ؟ هذا يعني أنكِ بالسجن ولست ببيتي وعلى مائدة ضيوفي وتحظين باهتمامي الشخصي؟"
أصابتها كلماته بالصميم ولكن بدلا من أن تمنحها الراحة دفعت تساؤلات أكثر لذهنها خاصة لماذا تفعل معي ذلك بدلا من أن تلقيني فريسة للذئاب؟
لم تبعد وجهها عن نظراته ولم تظهر ما بداخلها على وجهها الصغير بل أجابت ببرود لاحظه "وهذا يزيدني حيرة أستاذ بدر، من المفترض أنني عدو لك بعد ما تسببت لك فيه ولا يمكن أن تعامل عدوك بهذه الطريقة"
عاد يتابع تحركه بلا اهتمام لسؤالها وهو يجيب بكلمات باردة "أعتقد أن هنا ليس المكان الملائم للحوار فلكل مكان ما يناسبه. من فضلك اتبعيني"
اضطرت أن تتبعه عبر باب الغرفة إلى باب آخر انتهى بها إلى غرفة أكبر ولكن بها مقاعد مريحة وموائد كثيرة واستعدادات للمشروبات الخاصة حيث اتجه هو الى أحدهم وقال "عصير"
كان إقرار وليس سؤال وهي لم ترد وهو يصب العصير لهما، ثبتت بجوار الباب فقال دون أن ينظر إليها "أتذكر أنك تحدثت عن مرض والدتك فهل أعطلك عنها؟"
تحركت بلا هدى حتى ثبتت بركن قريب به مائدة مستديرة طويلة استقر عليها أباريق بدت وكأنها من الفضة أو ربما فضة أصليه تأملتها بإعجاب وهي ترد بلا إدراك وكأنها تغوص بأعماق أحزانها بلا رغبة بأن تطفو على سطح الواقع "لا، أنت لا تمنعني عن أحد فليس لي أحد، أنت فقط لا تذكر فقد أخبرتك أن ماما ماتت بعد أن عانت من المرض شهور طويلة ثم تبعها بابا حزنا وقهرا بعد ما حدث لها ولشركته وهكذا.."
وانتهت الكلمات مع عبراتها التي فاجأتها، كما تفاجأت أنها تحكي لعدوها ما يؤلمها وهي لم تفعل من قبل مع أحد فليس لها أحد.
كان قد اقترب منها بأكواب العصير حتى توقف أمامها وهو يلقي نظرات قاتمة على عيونها الدامعة وعندما لمست الدموع بشرتها الشاحبة مسحتها بعناد وهي ترفضها وهو أدرك ذلك، أدرك أنها تحارب أحزانها وأوجاعها، ترفض ضعف الدموع ونواح البكاء، أعجبته قوتها ومع ذلك همس برفق
"أنت تحاربين الدموع! هذا يعني أنك لم تبكين وقت موتهم!؟"
رحلت من الواقع لحظة عندما كانت تواجه نظراته التي تواجها، بحر أزرق عميق يتماوج أمامها يرفعها تارة ويسقطها تارة أخرى وهي تتهاوى دون أن تجد ما يوقفها
أخفضت وجهها والألم يضربها فجأة، نعم هي قاومت، حاربت، صارعت كل الألم والوجع والحزن، رفضت الدموع والبكاء على رحيل من كانوا كل شيء لها، رفضت الاعتراف بأنها أصبحت وحيدة بعالم لا يعرف الرحمة لذا الضعف سيسقطها تحت الأقدام لتدهسها فعليها التخلي بقوة نابعة من داخل نفس محطمة والآن هو يعيدها للحقيقة
تحارب الدموع!؟
الآن تسقط مهزومة ولا تعرف لماذا الآن؟
ربما لأنها صفعته كنوع من إشباع الانتقام داخلها؟
أم لأن نبرة صوته جعلتها تشعر بحنان افتقدته فجأة!؟
الآن توقفت الحرب وأعلنتها مهزومة وهي تقف عاجزة أمام تلك الدموع التي انهمرت كتلك الأمطار التي تتساقط على زجاج النافذة، هل حقا تبكي؟
لمست يدها ذلك السائل المالح الذي يحرق وجنتها وتأكدت أنها دموع ولم تصدق أنها انهزمت استدارت لتبتعد من أمامه لن يرى ضعفها
ليس هو، عدوها اللدود أو من ظنت أنه عدوها
لم يوقفها بل واحترم لحظاتها وإن شعر بالصدق في مشاعرها واندهش من قدرتها على تحمل ما فات بلا بكاء والنساء لا تقوى على مواجهة الدموع
أخفضت وجهها لتحكم على مشاعرها الواهنة بلحظة ضعف كرهتها حتى توقفت عن البكاء وهي تؤنب نفسها، انتهت اللحظة بمجرد أن استوعبت كل شيء وعادت تمسح دموعها مستنكرة ما كان وهي تنطق بكلمات واهية
"آسفة لم أقصد إفساد الأمر"
ارتفع شيء غريب داخله لم يعرفه، لأول مرة لا يكره دموع امرأة بل يتعاطف معها ويرغب بأن يربت عليها أو يجذبها ليضمها بصدره ويدفع يده بخصلاتها ليهدأ منها
تنفس بقوة وهو لا ينفض عنه هذا الجنون واستعاد نفسه وهو يقول بنفس الأدب الذي اعتاد عليه منذ سنوات نسى عددها ولم تندهش هي منه "ليس هناك أي إفساد للأمر فقط ليس من الصواب إيقاف آهة ألم حينما يتطلب الأمر إطلاقها"
التفتت إليه لتواجه عيونه التي اعتبرتها تمثل قمة الجاذبية لها وهي تحدق بها فشعرت بالخجل من نفسها واستعاد وجهها بعض الاحمرار وهي تبلل شفتيها بلسانها وترد "ربما إيقاف الآهة يوقف معه الألم ويمنعه من الاستمرار"
دارت عيونه بملامح وجهها الرقيقة مستمتعا بعيونها الواسعة التي تلقيه بنظرة بريئة ملونة بالبني الصافي وتلك الأهداب الطويلة المبللة ببقايا الدموع ترتفع فوق عيونها بشكل غاية بالجمال والرقة، شعرها البني الذي يصل إلى كتفيها يلفها بطريقة ساحرة
فقط بلا أي تصنع، جميلة ومثيرة خاصة جرأتها التي أعجبته رغم أنه يدفع ثمنها.
رفع الكوب إليها وقال مغيراً الموضوع لها ودافعا أفكاره المجنونة بعيدا "ذكرتِ أنك تخرجت في كلية الإعلام والسياحة فلم تراجعت عن العمل بالفنادق أو شركات السياحة؟"
تذكرت ما أمضته من أيام وشهور وهي تبحث عن عمل بأي مما قال دون فائدة حتى ابتسمت بسخرية وقالت بمرارة "وكأنني كنت أملك الاختيار، ببلدنا هنا لا نعمل بشهاداتنا وإنما بم تمنحه لنا الفرص وقد انتهت فرصتي بالعمل بشركة أبي ولم تأتيني فرصة أخرى سوى تلك الشركة"
استوعب كلماتها بتفهم وهو يعلم السوق هنا جيدا وهي على حق، تحرك إلى أقرب مقعد ووضع جسده القوى به ورغم أنها كانت تظن أن تلك المقاعد ضخمة إلا أن المقعد بالكاد استوعب صاحبه بجسده الضخم وهو يقول "معك حق، يمكنني توفير فرصة جيدة لكِ لكن بميلانو، إيطاليا هي مقر أعمالي وإقامتي، لدي شركة سياحة وقعت بطريقي من سنة تقريباً، كانت تسديد دين من أحدهم، وبالطبع لأنه ليس مجال عملي فهي لا تنال الكثير من اهتمامي لكن ربما معك.."
صمت ولم يكمل ثم رفع العصير وتجرعه مرة واحدة وكأنه يتجرع معه مرارة لا يريد تذكرها ثم نهض وهي صامتة تنتظر ان يكمل ولكنه قال "أرجو ألا أكون أزعجتك باستضافتي يا آنسة"
اندهشت منه ومن تقلب مزاجه المفاجئ واستوعبت معنى كلماته فأجابت بسرعة "لا، بالطبع لا وإنما على العكس أنا أندهش كرمك الزائد معي وربما أشعر أنك ربما تحاول إزالة الشعور بالذنب تجاهي"
نظر إليها لحظة قبل أن يقول "ربما، أعدك أن أعرف من المسؤول عما حدث لكم وسيحاسب بالتأكيد"
وضع كأسه فقالت وهي تضع كأسها هي الأخرى بعيدا وأدركت أن وقت تحريرها قد أزف فقالت بنبرة ضعيفة "أظن أنني لابد أن أذهب فالوقت تأخر كثيراً والأمطار توقفت"
هز رأسه باستسلام غريب وكأنه يرغم نفسه على تقبل الأمور كما هي "نعم تفضلي"
أشار تجاه الباب واندهشت وهو يتبعها حتى وصلت بإرشاداته إلى الباب الخارجي فقالت "هل تسمح للسائق بأن يعيدني البيت ف"
تحرك إلى الباب وقال مقاطعا إياها بتصميم عرفته بنبرة صوته ولم يعد بجديد عليها "لن يذهب معك وحده آنسة، الوقت تأخر ولن أتركك بمفردك. تفضلي"
نظرت إليه بدهشة وهي لا تصدق شخصية هذا الرجل النادرة الوجود، كادت تعترض أو تبدي أي دهشة لأفعاله لولا أنها شعرت بالبرد يجتاحها من الخارج مما يعني أنه لا يسمعها من الأساس بل وتوقف ممسكا الباب كي تتقدمه للخارج فأسرعت إلى السيارة التي فتح السائق بابها لها فركبت ثم أسرع ليفتح له الباب فاستقرت بجواره وقالت
"لم يكن هناك داع لوجودك"
نظر إليها وقال بلا أي تعابير على ملامحه الجامدة "كما أحضرتك أعيدك، العنوان من فضلك"
ظلت صامتة، فاقدة للنطق بل عاجزة عن فهم ما يحدث لها ولا الأفكار التي تطاردها، بل تساءلت هل تمنحه عنوانها أم.. قاطعها صوته العميق "لا أعتقد أن هناك خوف يسكن عقلك تجاهي لو أردت أذيتك لفعلت وأنت ببيتي"
كان على حق مما أوقف كل ما يدور بداخلها لذا منحته العنوان فقال "سمعت يا صابر أليس كذلك؟"
أجاب صابر باحترام "نعم بدر بيه"
لف وجهه لها مرة أخرى وما زال لديه ما يقوله "لو أعجبتك فكرة العمل بالشركة لدي أخبريني فما زال العرض قائما"
والآن ماذا؟ هل هذا الرجل من على كوكب الأرض حقا؟
أنا من صفعتك على وجهك منذ ساعات قليلة أمام صحافة العالم، أنا من أتهمك بتهم أنت لا تصلح لأن تكون متهم بها وأنت ماذا تفعل معي؟
هل أنت حقا موجود بالواقع أم أنني أتخيل أشياء وبعد ساعات سأعود للواقع وأصطدم بصخر الحقيقة المؤلمة؟
تفهم نظراتها الحائرة ولكن هو لا يجد أي حيرة بالأمر فقال "أنا رجل أعمال آنسة أسيل، أقدر الفرص الناجحة وأقتصها بلا تردد وما حدث بيننا كان بدافع الماضي الذي سأعرف سببه أما الحاضر والمستقبل فهو ما يهمني ويستحوذ على تفكيري"
ربما بكلماته ما يمكن أن يقنعها ومع ذلك قالت "إذن لا داع لذلك فكما قلت أنت، ما حدث نتيجة ماضي أنت لم تعرف سببه بعد وقد تثبت أنه لا علاقة لك به، لذا من الأفضل التراجع بعرضك لأنه غير مناسب لوضعنا كما وأنني لا أملك من الخبرة ما يكفي لتحمل مسؤولية ما تريده، ليس بميلانو"
هز رأسه ولم يجادلها، ما زال أمامه الكثير مما يخص هذا الأمر فهو لم ينتهي ولا يعرف إلى أين سينتهي لذا ترك الأمر عند ذلك الحد وقال "كما تشائين، ربما نحتاج للقاء مرة أخرى لنتناقش في ما سيصل إليه رجالي فهل يمكنني الاتصال بك؟"
مرة أخرى ترتفع الأسئلة بجوار الحيرة والدهشة داخلها، من أنت أيها الرجل الذي يقتلني بأخلاقه وأدبه الزائد؟
احمر وجهها وهي تنظر إليه وقالت "أنت جاد إذن؟"
ضاقت عيونه وانكمش جبينه وقال "وهل يبدو علي الهزل يا آنسة؟ لا أظن أنه بعد كل ما حدث يمكن ألا أكون جادا؟"
أبعدت وجهها عن جاذبيته الطاغية ولم تعد ترغب بالبقاء بجواره وهي تحمل كل تلك الطاقة التي تكاد تفجرها من الغضب بلا سبب رئيسي سوى أنها تجهل كيف تتعامل معه
تنفست بقوة لتفرض الهدوء على نفسها وقالت "آسفة، لم أقصد التقليل من شأنك"
رن هاتفه فأخرجه ورأى ذلك الاسم الذي لا يرغب برؤيته لا الآن ولا أي وقت ولكنه فرض كما هي أشياء كثيرة فرضت عليه بلا قدرة على رفضها
أبعد وجهه للنافذة وهو يضع الهاتف على أذنه وأجاب بهدوء لا يفقده إلا قليلا "نعم سلمى"
التفتت أسيل إليه عندما نطق باسم امرأة، كانت قد تساءلت عن المرأة بحياته فهل هذه هي الاجابة؟
ظلت ملامحه جامدة دون أي تعبيرات وهو يقول "لا، أخبرتك أني مشغول"
سمع صوت تلك المرأة وهي تقول على الجانب الآخر من الهاتف بل من عالمه الحالي "أكيد مشغول بتلك المجنونة التي صفعتك أمام الجميع!؟ لابد ألا تتركها تفلت بفعلتها هذه وإلا ضاعت سمعتك بدر"
لم تكن كلماتها تؤثر به بأي يوم ولن تفعل الآن لذا قال بنفس الهدوء "لست بحاجة لكِ لتخبريني بم علي أن أفعله"
قالت "بدر لا تفعل"
لم تبرح نظراته الظلام الذي يلمع خلف النافذة وهو يرد ببرود "لن أفعل ولن تفعلي ومن الأفضل أن نغلق"
أسرعت المرأة تقول "متى ستعود؟"
قال بثبات لا ينم عن الضجر الذي بداخله "لا أعلم، هل هناك شيء؟"
قالت بدلال يدركه ويكرهه "وهل لابد أن يكون هناك سبب لاتصالي؟ أنا فقط افتقدتك حبيبي"
أغلق عيونه لحظة وكأنه متعب من كل ما يحدث وهو ينفخ بهدوء قبل أن يرد "انتهينا سلمى أنا لدي عمل ولابد أن أذهب"
أسرعت تقول "الأولاد يسألون عنك"
قال بصبر "هل هم بخير؟"
قالت "نعم، بابا أخذهم برحلة وسيعودون بانتهاء الأجازة هل ستأتي بالعيد؟"
لف وجهه وأسقط نظراته على الفتاة الجميلة التي بدت منهكة بجواره ولكن الفضول بدا بعيونها الجميلة التي كانت تواجه وهو لم يفر من مواجهتها وهو يجيب "لا أعلم بعد ربما، ماريان مع بابا أم بالبيت؟"
أجابت "معه من أجل الأولاد"
هز رأسه وقال "حسنا سأهاتفهم، إلى اللقاء"
ولم يمنحها فرصة للحديث أكثر من ذلك فهو من ينهي الحديث وقتما يحلو له بينما لم يمكنها هي أن تظل صامتة فقالت "من الواضح أنك لست وحيد كما ظننت أنا؟"
لف وجهه للأمام وأسقط قناع الجليد على وجهه وقال بجدية لم تتغير وتمنت هي لو تبدل هذا القناع الجليدي الذي يضعه ولكنها تدرك أنه لن يفعل، ليسمعها على الأقل
"لا يمكنك أن تظني شيء بشخص لا تعرفيه يا آنسة، أليس كذلك؟"
كان رده جافا مما جعلها تلتزم الصمت وقد شعرت أن لا مزاج له للحديث بعد مكالمته الأخيرة
وصلا إلى بيتها فتوقفت السيارة، لم تجد أي كلمات عندما فتح السائق لها الباب فلم تنظر إليه ولم تتحدث ولكنها تفاجأت عندما رأته ينزل هو الآخر ويتجه إليها فتابعته بنظرات تمتلئ بالدهشة وقالت "والآن ماذا!؟"
لم يفهم معنى اعتراضها أو سببه وهو يمد يده بذراعها ويدفعها داخل باب المبنى الذي به شقتها وقال بلا تبدل بنبرته "الوقت تأخر ولا يمكن أن تصعدي وحدك"
أبعدت يده بلا تفكير فلمسته تلهب كل جسدها، توقفت فجأة بحدة لتجبره على الوقوف وفعل وهو يسد الطريق أمامها ويكاد يختفي جسدها الضئيل بجواره
تنفست بعمق محاولة ألا تصيح بوجهه بل قالت من بين أسنانها "إلى هنا وكفى، أستاذ بدر أنا لست بحاجة لرعاية أحد، أنا كبيرة بقدر يمكنني من رعاية نفسي ولا تنسى أني أسكن وحدي ولا يجوز أن يرى الجيران رجلاً يصحبني إلى شقتي بعد منتصف الليل، شكرا لك على ما فعلت وأظن أننا انتهينا من بعضنا البعض"
لم يطرف له رمش من كلماتها وإنما قال بهدوء "لا، نحن لم ننتهي بعد، سأتصل بك لأخبرك عن تطور الأمور، هل تصعدي الآن؟ سأنتظر حتى يصعد المصعد بك نسيت للحظة أننا بمصر وليس ميلانو"
ملأتها الدهشة من اهتمامه وجديته بالحديث وهو لم يفهم ما كانت تعنيه من وجوده معها بوقت كهذا، كل ما فكر به أن الوقت تأخر وهي بحاجة للحماية وأنهم ليسوا ببلده
ظلت تنظر بعيونه كما كان يفعل إلى أن هزت رأسها ولم تفكر أن تسأل أو تثير أي حوار جديد بعد ما قاله فتحركت دون حتى كلمة وداع تاركة إياه يتابعها حتى اختفت من أمامه
ما أن دخلت شقتها الصغيرة التي تبقت لها بعد وفاة والدها حتى أخرجت هاتفها واتصلت بمحمود الذي أخذ وقت طويل حتى أجاب ويبدو أنه كان يغط في النوم عندما قال "أنت تمزحين، لا يمكنك ترك اليوم كله لتهاتفيني الآن أسيل"
ألقت نفسها على أقرب مقعد وهي تحاول التقاط أنفاسها وقالت "لو لم تبيعني للمسيري لما فعلت"
وضح صوته قليلا وقال "هذا لأني أعرفه ولو لم يحصل مني على ما أراد لحصل عليه من سواي، ماذا فعل بكِ؟ لقد لطخت سمعته بفعلتك هذه"
أغمضت عيونها بتعب واضح وقالت "وأنت هل طردتني من العمل بعد ما حدث؟"
أجاب "تعلمين أني لا يمكن أن أفعل، هيا نامي الآن وبالصباح انتظرك بمكتبي لا تتأخري"
ابتسمت وتنهدت براحة وقالت "شكرا محمود طابت ليلتك"
لم يمكنها أن تنال أي قسط من النوم وكلما أغمضت عيونها رأته أمامها بنظراته الثاقبة وهدوئه المثير للأعصاب وجاذبيته التي صعب عليها مقاومتها
كانت بلحظة تعود إلى ما فعلته وقت الحفلة ويرتجف جسدها عندما تتذكر يدها وهي تلمس وجهه ثم تقشعر عندما تتذكر أنه كان معها في منتهى الأدب والذوق والاحترام عكس ما يمكن أن يتوقعه أحد. وفوق هذا لم يتزحزح كبرياؤه قيد أنملة بل زاده وقار بشكل غير طبيعي
باليوم التالي تغاضت عن الفضول الذي رأته بعيون الجميع وهي تدخل مقر العمل بل وفهمت أنهم حصلوا على إجابات من أي مكان بعيدا عنها مما جعلها تشعر بالراحة
اندمجت بالعمل وتقريبا نست ما حدث بل وتناست ذلك الرجل ولكن بالطبع لم يمكنها وقف الأخبار التي تناقلتها مواقع التواصل
ظلت صورتها وهي تقف أمامه أو وهي تصفعه بغضب تنتشر على معظم المواقع ومع ذلك لم تجد أي تصرف منه بل صمت لا تفهم سببه أو الغرض منه
بنهاية اليوم ظهرت نتائج فعلتها عندما بدأت تأتي التعليقات بما لا يمكن توقعه ودخل محمود مكتبها مندفعا وهو يهتف "أسيل هل قرأتِ آخر التعليقات؟"
رفعت نظرها إليه وقالت "أي تعليقات؟"
اقترب من مكتبها وقال وهو يفتح هاتفه "تعليقات على ما حدث مع بدر المسيري"
هي تجنبت قراءة أي شيء كي توقف عقلها عن التفكير بالأمر يكفيها ما نالته بالأمس ولكن من الواضح أن عليها أن تجني ما زرعته
منحها الهاتف لتقرأ حتى تتسع عيونها ونهضت وهي تصرخ "لا، هذا جنون، لا يمكن أن يحدث ذلك لي"
كان يتابعها بنظراته بلا رد وهو يدرك ثورة غضبها لكن كان عليه أن يخبرها والآن عليها أن تتصرف
"للأسف أسيل؛ انقلب الأمر عليكِ وبدأت الشائعات تنال منك ومنه أيضا"
تركت الهاتف على المكتب وهي تحدق به ثم قالت بذهول "هل يمكن أن يفعلوا بنا ذلك؟ يدعون أننا كنا على علاقة وعندما اختلفنا فعلت به ذلك؟ متى كانت لي علاقة به وأنا أول مرة أراه بتلك الحفلة؟"
وانهارت على مقعدها وهي تفكر هل حقا يحدث لها ذلك؟