رواية كبرياء رجل الفصل الرابع4 بقلم داليا السيد


 رواية كبرياء رجل الفصل الرابع4 بقلم داليا السيد
عرض
بالصباح التالي كانت تفتح ذلك البيت الريفي الكبير الذي كان بيوم ما بيت عائلة والدها وقد تركه الجد لابنته التي لم تتزوج حتى ماتت من المرض وأقفل البيت إلى أن فتحته هي، كان هادئ وكبير والتراب يغطيه من كل مكان، وضعت حقيبتها واتجهت إلى النوافذ وفتحتها ليدخل النور إلى المكان حتى تبتعد رائحة التراب وواجها منظر الأراضي الزراعية وتنفست الهواء النقي بعيدا عن التلوث السائد بالمدينة ثم عادت إلى الداخل وهي تتساءل من أين تبدأ؟  
عندما هبط الليل كانت قد انتهت من تنظيف البيت عندما دق الباب فجأة مما جعلها تفزع ممن يمكن أن يزورها هنا والآن؟
لم تفكر كثيرا وهي تفتح لتجد رجلاً بالخمسينات من عمره يرتدي ملابس رجال الأرياف ولكن بدت فاخرة حقا ومن خلفه ظهرت فتاة أيضا ريفية تحمل صينية مستديرة على رأسها
ابتسم الرجل وقال "بالطبع كان لابد أن أعرف أنك ابنة الرافعي أليس كذلك؟" 
هزت رأسها بانتظار أن تعرف الرجل الذي يعرفها ويعرف والدها، اتسعت ابتسامة الرجل وقال "أنا عمك إبراهيم السعداوي صديق والدك رحمه الله كنا أقرب صديقين، أنا أقيم بجوار بيتك لم أصدق نفسي عندما رأيت البيت مفتوح والحياة تدب فيه وعندما سألت عرفت أن شابة جميلة أتت بالصباح وهي التي تعيد إليه الحياة فلم أفكر كثيرا في أنك أكيد ابنة صديق عمري" 
تذكرت اسم الرجل على الفور فبالفعل كان والدها يتحدث كثيرا عنه وعن صداقتهم فابتسمت وقالت "أهلا عمي تفضل، سمعت عنك الكثير من بابا"
لم تذهب ابتسامته وهو يقول "أعلم يا ابنتي، هيا يا مفيدة أدخلي الطعام بسرعة"
تحركت الفتاة إلى الداخل وهي تتابعها بدهشة ثم هتفت "ما هذا يا عمي؟ ولماذا؟" 
قال الرجل "هذا أبسط شيء لابنة الغالي، بالصباح سأرسل من يحضرك إلى بيتي لا يجوز أن أدخل وأنت وحيدة، وإذا احتجت شيء.." 
وتوقف ثم عبث بجيوب ملابسه وأخرج ورقة صغيرة وأكمل "امسكي، هذا رقمي اتصلي بي بأي وقت وسأرسل لك أحد رجالي بالحال" 
ابتسمت وقالت "شكرا عمي لا أعرف كيف أشكرك حقا" 
قال بصدق "الشكر تمثل بوجودك هنا يا ابنتي وإعادة الحياة للبيت، هيا طابت ليلتك، أراك بالصباح"
شعرت بالراحة تدب داخلها أكثر وتأكدت أنها لم تخطئ عندما أتت هنا ربما تبدأ حياة أخرى تنسى بها ما كان
ما وقعت به كان خطأ، بدر المسيري ليس الرجل الذي يمكنها أن تحلم به وعليها إخراجه من حياتها هذا لو أمكنها أن تفعل وربما هو أدرك ذلك لذا لم يحاول حتى أن يهاتفها وأدرك أنه لن يناله من ورائها إلا المشاكل فابتعد أو ربما بعد ما حدث تحت المطر جعله يراها كامرأة سهلة لا ترغب سوى بالمال
ربما يمكنه أن يدرك الحقيقة الآن خاصة بعد ذلك الفيديو الذي سجلته ونشرته والذي تحدثت فيه عن الحقيقة التي جعلتها تفعل معه ذلك وشرحت فيه ما كان ونفت أي علاقة بينها وبينه وها هي ترى التعليقات، البعض يصدقها والبعض الآخر يسخر منها ولكنها لم تعد تهتم فقد تركت كل شيء ورحلت 
تناولت الطعام اللذيذ بشهية غريبة ثم أخذت حمام دافئ وألقت نفسها على الفراش لتغط في نوم عميق 
بالصباح استيقظت مبكرا وكأن المكان أسبغ عليها نشاط غريب غيرت ملابسها وتناولت بعض القهوة قبل أن يدق بابها فاتجهت إليه لتجد رجلا ينظر إليها ويقول "الحاج إبراهيم أرسلني لإحضارك يا آنسة" 
ابتسمت وقالت "دقائق وأكون معك" 
عندما دخلت بيت الرجل كان رائعا، كبيرا ومعدا على أحدث طراز، يشبه الفيلا والحديقة تحيطه من الخارج ومن الداخل استقبلتها امرأة سمينة وقصيرة بملابس الريف بابتسامة مريحة وقالت
"أهلا بابنة نادية ومحمد الرافعي أنا لا أصدق أني أخيرا رأيتك" 
احتضنها المرأة رغم أنها لا تعرفها ثم أبعدتها وقالت "لم يأت بك والدك هنا منذ ولادتك كان يأت وحده ولكن تحدث عنك كثيرا إلى أن انقطعت أخباره ولم نعد نعرف عنكم شيء حتى عرفنا بوفاته مؤخرا ولم نعرف مكانكم لنقوم بواجب العزاء، تعالي اجلسي يا ابنتي"
أمضت يوما جميلا مع المرأة والرجل وعرفت الكثير عن البلدة الصغيرة وقبل أن تذهب على العصر دخل رجل وقال "ناظر المدرسة يسألك عن المعلمة التي أخبرته عنها يا حاج" 
قال الرجل بامتعاض "لم تأت يا مسعد أخبره أنها تراجعت عن الحضور ولا أعرف سواها" 
لم تتبدل ملامح مسعد وهو يقول "والأولاد يا حاج؟ الوزارة لا ترسل مدرسين جدد والأمر أصبح صعب"
لم تقاوم الفكرة وهي تقول دون تردد "تحتاج إلى معلمة ماذا يا عمي؟"
نظر الرجل إليها بأمل وقال "أي شيء يا ابنتي، فالمدرسة لا تحظى بأي اهتمام من الوزارة ونحن الذين نفعل كل شيء وآخر معلمة تركتنا لأن الراتب ضئيل ولكن الناس هنا فقراء ولا يملكون الكثير"
هزت رأسها بتفهم وقالت "يمكنني أن أفعل، ليس لدي عمل بالوقت الحالي والأمر يغريني فهل تسمح لي بأن أحصل على الوظيفة؟"
تهلل وجه الرجل وهو سعيد لم حصل عليه
أيام اصطحبت وراءها أسابيع لتكون شهور حتى أتى الخريف الجديد، ستة أشهر تقريبا مضت وهي بالبلد عملت معلمة بالصباح وأتقنت عملها وأحبها الأولاد جدا وبالمساء كانت تتدرب على دورات تدريبية خاصة بأعمال السياحة ومارست بعض الأعمال على جهازها دون حاجة لتواجدها مما منحها خبرة جيدة وأموال أيضا
بالصيف كانت تعمل أيضا مدرسة للصغار بحضانة أشارت بها للحاج فوافق عليها وشجع ذلك بعض البنات بالقرية على مساعدتها وهي دربتهم ليقوموا بالأمر بشكل صحيح وتعرفت إلى أهل القرية كلهم تقريبا 
“صباح الخير أسيل"
أحمد ابن الحاج ابراهيم؛ مهندس زراعي تعرفت عليه بعد عودته من اجازة بأحد المرات ومن وقتها وهو يبحث عنها ولا يقضي إجازته إلا بالقرب منها، لم تنكر أنه كان شاب ممتاز ومهندس ذكي يعمل بإحدى الشركات الهامة بالمدينة وله مستقبل باهر وسيم ويكبرها بعامين وكانت تسعد بصحبته وقد ساندها ووقف بجوارها وقت وحدتها.
أجابت بابتسامة جميلة "صباح الخير يا باش مهندس متى عدت؟" 
ابتسم ابتسامة زادته جاذبية ولمعت عيونه لرؤيتها وهو يقول "منذ دقائق، افتقدتك جدا أسيل" 
احمر وجهها وزاغت عيونها وهي تبتعد من أمامه إلى داخل الفصل بعدما رحل الأولاد وقالت "أنت تكثر من الاجازات هذه الأيام، ألا يمانع مديرك؟" 
كان قد تبعها إلى الداخل وقال وقد اقترب منها كما اعتاد أن يفعل فتضطر هي إلى الهروب منه "بلى يمانع ولكن أنا يمكنني الفرار منه" 
شغلت نفسها بترتيب كتب الأولاد وهي تقول "ولماذا كل ذلك ألا تخشى أن تخسر وظيفتك؟" 
فجأة أمسك يدها ليوقفها عما كانت تفعل وليجذب اهتمامها له فرفعت وجهها له بدهشة ولكنه قال "أنت تعلمين أنني سأفعل أكثر من ذلك من أجلك" 
جذبت يدها من يده وابتعدت دون أن يرى تبدل ملامحها وهي تقول "أحمد لابد أن تذهب الناس.." 
قاطعها بحزم "تعلمين أني لا أهتم بأحد"
تحرك ليقف أمامها مرة أخرى وقال "إلى متى أسيل؟ أنت تعلمين مشاعري تجاهك وكلما تحدثت هربت من مواجهتي فلماذا؟"
زاغت عيونها وهي تعلم أنه على حق هي تهرب منه، لا ليس هو بالذات هي تهرب من أي رجل ليس بدر المسيري؛ الرجل الوحيد اعترفت بعد صراع طويل مع قلبها تارة وعقلها تارات لا حصر لها، أنه استولى على كل كيانها ولم تعد ترى سواه حتى وإن كانت تعلم أنه نساها ولم يعد حتى يذكرها وأنها لم تمثل له أي شيء، أو مجرد نقطة سوداء تخلص منها بسهولة وعاد إلى حياته لكنها مع ذلك لم تستطيع أن تنساه أو تسمح لسواه بأن ينال ولو جزء بسيط من اهتمامها
أعادها صوت أحمد وهو يقول "أسيل لم لا تجيبي؟ لماذا تهربين مني؟" 
نظرت إليه بقوة وقالت "لا أفعل يا أحمد بدليل أننا أصدقاء مقربين وتقريبا أنا لا أصادق سواك" 
ابتعد وقال بجدية "أنا لا أتحدث عن الصداقة أسيل، كلانا سيكون كاذب لو سميناها صداقة" 
ابتعدت هي الأخرى وقالت بحزن "ولكننا اتفقنا على أن نكون كذلك"
عاد إليها وواجه عيونها والحيرة تملأ نظراته وقال "لماذا؟ إذا كنت أنا لا أستطيع أن أتوقف عند حد الصداقة فلماذا لا يكون الأمر أكبر من ذلك؟" 
ظلت تحدق به لحظة قبل أن تجد رد مناسب "وكيف يكون أكبر من ذلك؟ أنا لا أفهم ماذا تريد يا أحمد!؟" 
قال بنبرة مختلفة امتلأت بالحنان "بل تفهمين، أنا أريد أن أتزوجك أسيل، أنا أحبك نعم أحبك والحب نهايته الزواج" 
شحب وجهها وتسارعت الدقات داخل صدرها وتملكها شعور لا تعرفه إلا أنها ابتعدت من أمامه ولم ترد، كانت تخشى من تلك المواجهة، هي تعلم أنه يكن لها تلك المشاعر لكن هي؟
هي لن يمكنها منحه أي شيء فقلبها ليس ملك لها والأمر ليس بيدها، عندما لم ترد سمعته يقول "ماذا بك أسيل؟ انا لا أفهم هذا الصمت، ظننت أن حبي لك سيسعدك وأنك تبادليني نفس المشاعر"
لم ترد أيضا، لا يمكنها أن تؤلمه فهي تكن له مشاعر حقيقية لكنها ليست حب
اتجه إليها ونظر بعيونها الزائغة لحظة ثم قال "هناك رجل بحياتك أليس كذلك؟"
أبعدت وجهها وقلبها يزيد من دقاته وعقلها يحاول إيقافها عن جنونها بلا فائدة، كادت تبتعد ولكنه أمسكها وقال بقوة "أجيبي من فضلك من حقي أن أعرف، هل هناك رجل بحياتك؟"
نظرت إليه بعيون دامعة لحظة ثم قالت "أحمد أرجوك"
أخفضت وجهها فترك ذراعها وقال بضعف "ترجوني بماذا أسيل؟ عيونك لا تعرف الكذب، هل هذا هو سبب وجودك هنا؟ تهربين منه، من ماضي مؤلم أم ماذا؟" 
قالت برجاء "أحمد من فضلك لا أريد أن أتحدث بذلك الأمر"
ولكنه قال بقوة "من حقي أن أعرف"
نفضت الضعف كما اعتادت وبادلته القوة وهي ترد "ليس لك أي حق في التدخل بحياتي الشخصية فهي ملكي أنا فقط ومن فضلك أنا متعبة ولا أريد أن أتحدث بأي شيء"
ولكنه لم يتراجع وهو يقول "من هو؟ ماذا حدث بينكم كي تتركي عالمك وتأتي هنا؟ هل تحبينه أم انتهى الحب بينكم؟ و.."
تنفست بقوة وقاطعته بضيق واضح "كفى يا أحمد، كفى، ليس بحياتي أحد ولكني لا أريد أن يكون بها أحد الأمر ليس شخصي ولكني لا أريد أي علاقة من أي نوع، لا الآن ولا بعد ذلك، أنا أحب حياتي هكذا ولا أريد سواها" 
اسود وجه أحمد واحمرت عيناه من الحزن وبح صوته وهو يقول "وحبي؟ وقلبي الذي لم يعد يعرف الحياة إلا بجوارك، أسيل أنا حياتي بدونك أصبحت جهنم، لم أعد أريد البقاء بها بدونك، دعينا نجرب، نعم أخطبك ووقتها نرى ما إذا كان قلبك سيقبل حبي لك أم لا، أعطني فرصة طالما أن لا رجل بحياتك، من فضلك أسيل" 
الضعف يعود لها تجاه رجل هي السبب بتعذيبه وهي تشعر بالأسى من أجله، سكنت الأفكار عقلها، هل يمكن أن تتحرك مشاعرها إليه وهي لا تفكر إلا بذلك الرجل الذي سلب عقلها قبل قلبها بسرعة غير منطقية؟ لا يمكنها وهي تعلم ذلك، لن تنسى بدر المسيري حتى ولو كان حلم حلمته واستيقظت على كابوس مفجع هو أنها لا يمكن أن تكون لرجل مثله 
الحقيقة أفضل من الخيال، الواقع ألطف أن نعيش به بدلا من أن نغوص بالأحلام حتى نغرق بلا شط للنجاة
أين هي من ذلك الرجل الذي جعلها تدرك أنه من زمن الخيال والأحلام ولا يوجد رجل مثله على وجه الأرض؟ هل يمكنها اليوم أن تمنح قلبها لسواه؟ وحتى لو أرادت هل سيطاوعها قلبها؟ 
انتفضت على صوت أحمد "أسيل، لماذا لا تردين؟ إذا لم يكن بحياتك أحد فدعينا نجرب ربما أكون جدير بقلبك وبحبك فقط خطوبة وإن لم يحبني قلبك تحرري مني" 
مسحت دموعها وقالت "أحمد الأمر ليس بهذه السهولة، أحتاج وقت لأخذ القرار" 
للحظة ظل واجما ولكنه سرعان ما تنهد وابتسم وكأنها وافقت وقال بسعادة "سيكون حبيبتي وستوافقين لأنك تعلمين أني أحبك وأنا أعلم أنك ستحبينني فأنا أستحق أليس كذلك؟"
نظرت إلى ابتسامته وشعرت بالأسى تجاهه وبالغضب من نفسها لأنها لم تستطع أن تحبه وألقت بنفسها في غيابات المجهول 
بالطبع لم يتركها أحمد طوال اليوم كالعادة إلا عندما تنتهي من عملها وهو يعيدها إلى بيتها ووقف أمام الباب وهو ينظر إليها بهيام واضح وفجأة أمسك يدها ورفعها لفمه وطبع قبلة رقيقة عليها جعلتها ترتجف وتسحب يدها بلا وعي وبطريقة غير جيدة وهي تهتف بارتباك وضيق
“أحمد من فضلك لقد وعدتني"
ابتسم وقال "حاضر حبيبتي أنا آسف، ولكني لا أستطيع أن أكون معك وأمنع نفسي من أن أعبر عن كل ما بداخلي تجاهك، أسيل أنا أعشقك بجنون ولم أعرف الحياة إلا بعد أن عرفتك ولا أريد أن أعود لحياتي بدونك"
لم تبعد عيونها عنه واختنقت أنفاسها لكل تلك المشاعر التي تنبض بعيونه وكلماته ولكنها شعرت بالخوف أكثر لأنها لا ترغب بها ولا تشعر تجاها بأي قبول ولكنها لم تنطق فعاد يقول "أنا أعلم أنك ستوافقين على الخطوبة طالما أن لا أحد بحياتك، سأكون رجلك الأول والأخير، لن أنام الليلة وسأنتظر النهار بفارغ صبر حتى تخبريني قرارك وأنا أعلم أنه سيكون بصالحي لأن قلبك الرقيق هذا لن يتحمل أن يؤلمني"
تراجعت بألم وأخفضت عيونها وقالت "كفى أحمد، أرجوك توقف وهيا اذهب لقد تأخر الوقت، طابت ليلتك" 
وتحركت إلى البيت ولكنه أمسك يدها مرة أخرى وقال "سأذهب حبيبتي لكن لا تنسي أني أحبك ولن يحبك أحد مثلما يحبك قلبي"
جذبت يدها مرة أخرى وهو تحرك إلى سيارته وانطلق بها بعيدا واستدارت هي لتفتح الباب عندما سمعت صوتا تعرفه تماما ينطق من الظلام "يبدو إنه يحبك حقا يا آنسة فلم تصعبين الأمر عليه؟" 
ارتفعت الدماء إلى رأسها مما سبب لها صداع مفاجئ، كما نهض قلبها متطلعا إلى ذلك الصوت الذي تمنى أن يسمعه فأعلن عن سعادته بضربات قوية تشق صدرها، وتحجرت الدموع بعيونها وتسمرت قدمها بالأرض دون أن تقوى على الالتفات إليه لتتأكد أنها لا تحلم مرة أخرى.. 
عندما لم ترد تحرك من الظلام الذي كان يقف فيه واقترب منها عندما جذبت أي قوة من أي مكان لترفع وجهها وتراه، ومن ضوء القمر استطاعت أن تفعل، ما زال كما هو بقامته المهيبة وأناقته التي أخذتها، ولمعت شعراته البيضاء على جوانب رأسه مما منحه وقار غير طبيعي أما عيونه، آه من عيونه ما زالت أكثر عيون جميلة رأتها بحياتها خاصة وهي تتأملها بهذه الطريقة وأكثر عيون لم يمكنها أن تقرأ ما بها ولكنه أدركت أنها اشتاقت له، اشتاقت له بجنون
نعم هو الجنون من جديد..
زاد قربه حتى انتهت المسافات بينهم فقال بنبرة لم تعهدها بصوته من قبل "وأظن أنك أيضا تبادلينه المشاعر أليس كذلك؟" 
حاولت أن تستوعب ما يحدث لها من وجوده المفاجئ وما سمعه وما يجيش داخل صدرها حتى تجد ما ترد به عليه
أبعدت عيونها عنه، بعيدا عن سيطرته التي تجمدها بمكانها وتفقدها كل قوتها كي يمكنها أن تستعيد نفسها ونظمت أنفاسها المتلاحقة قبل أن تجد كلمات "أظن الأمر لا يستدعي أن تمنحه اهتمامك بدر بيه فأنا أكيدة أن بحياتك ما هو أهم مني بكثير" 
صمت فترة وهو ينظر إليها، هل يمكن أن تدركي ما هو المهم حقا بحياتي منذ عرفتك؟
رفعت وجهها إليه تتساءل عن سر صمته فرأت عيونه تواجهها وتذكرت تلك الليلة وتلك القبلة تحت المطر وشعرت أن عيونه تخبرها بأشياء كثيرة ولكنها لم تفهم أيا منها، استدرك نفسه فجأة وأبعد نظراته عنها وقال 
"المكان رائع ولو كنت أملك الوقت لأمضيت هنا الكثير منه"
لم تفهم وقالت "بالتأكيد لم تقطع كل تلك المسافة لتخبرني عن إعجابك بالمكان بدر بيه فوقتك أثمن من ذلك"
ابتعد وأخرج سجائره التي عاد إليها منذ تلك الليلة، نفخ الدخان ثم قال "لا أظن أن من اللائق أن نتحدث هنا أليس كذلك؟"
قالت بضيق "للأسف لا أملك غرفة جلوس كتلك التي بقصرك ولا مائدة تتسع لعشرين فرد ولا مكتب دافئ وفخم كمكتبك، كما وأنه لا يمكنني أن أدعوك للدخول بهذا الوقت وأنا أعيش وحدي بالبلد" 
نظر إلى ساعته وقال "لا ضرر من أن تدعيني لفنجان قهوة لمدة نصف ساعة فقط ونترك الباب مفتوح فالسيارة ستعود بعد نصف ساعة، أم لديك مانع؟"
صمتت قليلا فاقترب وقال بهمس لا يسمعه سواها لأنه لها هي "لم تمكنني الظروف من أن أعتذر عما حدث بتلك الليلة وها أنا أعتذر وأعدك ألا يتكرر فهل نتحدث قليلا بالداخل؟ لا أظن أن من اللائق البقاء هكذا، أبعدي هذا الخوف بعيونك فهو إهانة لي" 
خوف!؟ هل تسخر مني؟ أنت الأمان الوحيد لي بهذا العالم بدر المسيري وليتك تعلم..
تورد وجهها لحظة من ذكر تلك الليلة واندهشت أيضا أنه يذكرها مثلها ولم يفاجئها باعتذاره فهي تعلم مدى أدبه وذوقه، ثم شحب مرة أخرى وهزت رأسها باستنكار وهي تردد "أنا لا أخاف منك"
والتفتت وفتحت الباب ودعته للدخول. 
رغم صغر بيتها إلا أنها كانت تعتني به جيدا وجددت به الكثير خلال الأشهر الماضية فصنعت منه بيتا رائعا يثير الراحة والسكينة وكأنها ستقيم به للأبد وهو ما شعر به بدر عندما أضاءت النور وتقدم يتبعها وهو يتأمل المكان وسمعها تقول 
"الجو ما زال دافئ، وأنا أفكر بشراء دفاية قبل الشتاء، اجلس حتى أعد القهوة أنت تفضلها؟" 
نظر إليها من بين الدخان وقال "مضبوطة من فضلك" 
ككل شيء بحياتك أليس كذلك؟ هكذا فكرت وتساءلت بسرها
هزت رأسها وابتعدت تاركة إياه وحده ولكنه لم يجلس وإنما دار بعيونه بالمكان وشعر بالراحة بعد قلقه الذي تملكه، منذ الأمس ورجاله تبحث عنها ولم ينال أي قسط من النوم منذ أن ذهب إلى شقتها القديمة ولم يجدها. 
أخيرا جلس على الأريكة النظيفة وشعر أنه لم يدخل مكان مريح إلى هذه الدرجة من قبل، بحث عن شيء يطفأ به سيجاره فلم يجد نهض واتجه إلى حيث تحركت فوجدها تقف تتابع القهوة فتحرك حتى وقف خلفها ثم قال 
"أعتقد أن بإمكاني أن ألقيها هنا" 
فزعت من صوته القريب وانتفضت وهي تستدير لتسقط بين ذراعيه لضيق المكان وهو لم يفكر وذراعيه تلتف حول جسدها الذي عرفه من قبل واشتاق له 
أسقط عيونه على عيونها التي امتلأت بالذعر ووجدت يداها تصطدم بصدره العريض وهي الأخرى ترفع وجهها لتلتقي ببحر عيونه وارتفعت دقات قلبها أكثر بطريقة مؤلمة وانتهت أنفاسها وهي تحاول أن تدرك ما يحدث لها. 
لم يبعدها ولم يفكر بفك أسرها بل اقترب بوجهه منها وهمس "أخبرتك من قبل أني لا أعلم ماذا يصيبني بوجودك؟ وظننت أن مرور الوقت سيغير شيء ولكني الآن تأكدت أنه لم يفعل" 
أفاقتها كلماته من سحره الذي يلقيه عليها بمجرد أن يلمسها فخلصت نفسها منه وابتعدت وهي ترتجف وتقول "القهوة" 
بالطبع أدرك تصرفها وتراجعها فلم يعترض ولكنه ظل واقفا يتابعها وهو لا يرغب بالابتعاد مرة أخرى عنها فهو أتى ليعيد لنفسه الهدوء الذي فقده منذ افترقا بتلك الليلة
لماذا وكيف؟ لا إجابة
يريدها؟ نعم، لماذا هي بالذات؟ هذا ما لم يجد له أي رد ولا يهمه، فقط هي
سبقها إلى الخارج وهو يجدد سيجارته بواحدة أخرى وهي تلحقه بوجه شديد الاحمرار محاولة أن تعيد الهدوء إلى نفسها رغم ما يحدث لها بوجوده.. 
وضعت القهوة على مائدة صغيرة وقالت "أتمنى أن تنال القهوة إعجابك" 
التفت إليها وقال بجدية "ماذا تفعلين هنا؟" 
لم تتفاجأ من سؤاله وابتعدت وهي تقول "أعيش"
نفخ الدخان وعاد يقول "هنا؟ أسيل هل تسمعين ما تقولين؟"
هتفت بقوة حاولت ألا تغلفها بالغضب الذي كان بداخلها "وماذا كنت تنتظر مني بعد أن أصبحت سمعتي مثار للجميع وفقدت وظيفتي؟ لم يكن بإمكاني مواجهة نظرات الناس من حولي" 
ابتعد وقال "ولكنك لست متهمة، الاشاعات نالت منا ولم يكن من المفترض أن نمنحهم النصر، كان لديك أبواب كثيرة غير الهروب لمكان كهذا"
قالت بغضب "يمكنك أن تقول ذلك لأنك رجل ولن يضرك الأمر بشيء ولديك من الامكانيات ما يسمح لك بالعودة للحياة وكأن شيء لم يحدث بدليل أنك لم تهتم بل واختفيت مثلي تماما على الأقل أنا خرجت لهم بفيديو ولكن أنت؟"
لم تكمل وابتعدت فأدرك كلامها وقال "لم يكن الأمر بيدي كان لابد أن أعود ميلانو بنفس الليلة التي تركتك بها ولم أعد مصر إلا أول أمس وعندما لم أجدك كلفت رجالي بالبحث عنك حتى وجدتك"
التفتت إليه وقالت بيأس غريب ملأها بالمرارة "لماذا؟ لماذا بحثت عني؟ ماذا تريد مني؟"
ابتعد وهو يأخذ نفس عميق من سيجارته أطلقه بعد ذلك في الهواء ثم قال "أحتاج إليك، شركة السياحة التي أخبرتك عنها تعمل بشكل سيء منذ ذلك الحين وقد نالت اهتمامي منذ فترة قصيرة ولكني غير متفرغ لها ولابد من أحد يتولاها ولكني لا أثق بأي أحد لذا فكرت بك"
قالت وهي لا تصدقه "لم تجد بميلانو كلها من تثق به، كيف تدير شركاتك إذن؟"
لم ينظر إليها وهو يقول "من يدير الأمور أشخاص أعرفهم منذ سنوات ولست بحاجة لأختبر ثقتي بهم خاصة بمجالي الخاص لكن خارج العقارات يكون الأمر صعب خاصة وأن الشركة بكل من كان يعمل بها يدين بالإخلاص لصاحبها القديم لذا تكاتفوا على أن يفسدوا الأمر انتقاما لرئيسهم ولولا أني أتابع كل شيء بنفسي لخسرت الكثير بسببهم"
صمتت ولم ترد فالتفت إليها وقال "أنا عائد ميلانو بعد الغد أسيل وأريدك معي فهل توافقين؟"
شعرت بالغضب بدون مبرر وقالت "لا، أنا لا أريد ان أكون سوى هنا لن أذهب لمكان مجهول لا أعرف أحد به، لا أريد أن أترك بلدي"
تراجع كاظما غيظه من رفضها وقال بنفس الهدوء ولكنه كان زائف "هذا هو السبب أم أن الأمر يتعلق بذلك الشاب وقصة حبكما؟" 
التفتت إليه وكادت ترد باندفاع ولكنها اقتبست منه بعض الهدوء وقالت "لا أظن أن أموري الشخصية تهمك بدر بيه"
قاطعها بهدوء "بدر، لم يعد هناك مجال للرسميات أسيل ولا مجال لكل هذا الغضب الذي أراه بعيونك ولا أعرف سببه"
ظلت تحدق به وهي تعلم أنه على حق ولكن هي تعلم سبب غضها، ابتعدت من أمامه وقالت "أنا لست غاضبة أنا فقط أذكرك بأن وجودي بحياتك لم تكن نتيجته إيجابية وإنما تعلم ماذا كانت وأنا أيضا تضررت من الأمر لذا لن أعيد الخطأ مرة أخرى"
نظر إلى ساعته ثم عاد وقال "هذا أمر فات وانتهى ولا مجال لذكره الآن، أنا أعرض عليك العمل بمكان يليق بك وبشهادتك وبمرتب مجزي، لم يعد لك أحد هنا أسيل وعليك التفكير جيدا قبل أن ترفضي عرضي لذا سأمنحك نفس المهلة التي منحها لك حبيبك لتفكري بالأمر وسأتصل بك غدا لأعرف رأيك"
استدارت إليه واندفعت تقول بغضب "ليس حبيبي؛ أحمد مجرد صديق وقف بجانبي عندما أتيت هنا ولكن لا شيء بيننا"
حدق بعيونها الغاضبة والمثيرة وقال "ولكنه يحبك ويطلبك للزواج"
جف حلقها وضاعت منها الكلمات فابتعدت من أمامه ولم تمنحه رد يعيد له بعض من الراحة، سمع صوت السيارة فقال "أعتقد أن السيارة وصلت وأنا لابد أن أذهب أرجو أن تفكري بالأمر"
نظرت إليه وهو يتحرك إلى الباب فقالت "لماذا تفعل معي ذلك؟ لماذا أنا؟" 
توقف دون أن ينظر إليها وقال "متى ستتوقفين عن هذا السؤال؟" 
قالت "عندما تمنحني إجابة" 
التفت ونظر إليها وقال "تحدثتِ مرة عن الإحساس بالذنب، أليس كذلك؟"
ثم تركها وذهب وهي تشعر بحيرة مغلفة بالغضب ولا تعلم أين الصواب الآن؟
سمعت السيارة وهي تذهب فاقتربت من الأريكة، جلست وهي تشعر بضعف يجتاحها وأسئلة لا تعرف إجاباتها، أغمضت عيونها وهي ترى كلا الرجلان أمامها 
لا تنكر أن أحمد كان نعم الرفيق طوال الشهور الماضية ومنحها الكثير وما زال لديه ما يرغب بأن يمنحها إياه ولكنها لم تستطع تقبل ذلك لم يمكنها التفكير به كزوج أو حبيب ولكنها أيضا تعلم أن ذلك الرجل قد سرق كل مشاعرها وحرمها من أن تهنأ بحياة سعيدة وأصبحت حياتها الآن سلسة من العقد لا يمكنها أن تفك أيا منها
هذا ليس عدل..
وماذا بحياتها كان عادل؟
ما ذنب أحمد الذي أحبها بصدق واختصر الطريق وطلب الزواج منها؟ 
ما ذنبها هي الأخرى وهي لا تريده كزوج ولا تستطيع تسليمه قلبها والإخلاص له؟ لن يمكنها أن تفعل به أو بنفسها ذلك، لن تخدعه..
نهضت دون أن تصل لأي شيء ولكن ما كانت متأكدة منه أنه لن يمكنها أن تتزوج رجلا لا تحبه لمجرد أنه وقف بجانبها يوما ما.. 
بالطبع لم تنال قسط وافر من النوم وإنما ظلت الأفكار تطاردها، نهضت مبكرا وتناولت إفطارها وقبل أن تتحرك إلى المدرسة سمعت دقات على الباب، عندما فتحت وجدت أحمد أمامها بابتسامة جميلة يقول 
"كان لابد أن تكون عيونك أول عيون أراها كي يصبح يومي جميلا مثلها" 
شعرت بالخجل من نفسها مما تكنه له وهو يمنحها كل هذا الحب 
حاولت أن تبتسم وهي تقول "أنت لم تنام إذن؟"
تحرك بجوارها إلى سيارته وقال "بصراحة لا، الانتظار أصعب شيء بالدنيا"
لم ترد وهو يركب بجوارها ويقود وقد أدركت أن عليها أن تقرر الآن وليس بعد ذلك، لن تخدعه أكثر من ذلك، رن هاتفها فأخرجته من حقيبتها وهي ترى رقم ولا تعرف لماذا شعرت أنه هو فلم ترد 
التفت لها أحمد باهتمام وقال "لماذا لا تجيبي؟"
أبعدت الهاتف وقالت "ليس الآن، إلى أين؟ هذا ليس طريق المدرسة؟"
ابتسم وقال "نتناول بعض العصير قبل الذهاب ما زال الوقت مبكرا ما زلت انتظر ردك أسيل"
قالت بضيق "لا أحمد من فضلك، أخبرتك كثيرا أني لا أحب ذلك أهل القرية يعرفونا ولا أريد التشهير بي أم تريد أنت ذلك؟"
نظر إليها وقال "أسيل ماذا بك؟ أنت ترفضين كل شيء وملامحك غير طبيعية ماذا حدث؟"
أوقف السيارة فجأة فشعرت بالضيق أكثر وهي تقول "والآن لماذا توقفت؟ أحمد من فضلك أريد أن أذهب إلى المدرسة"
نظر إليها بحيرة أكثر وقال "لم كل هذا الغضب أسيل؟ أنا فقط أردت أن نتحدث بعيدا عن ضوضاء الأولاد، وأنت لم تجيبي على طلبي بعد"
نظرت إليه وقالت وهي تحاول أن تبدو باردة أو هادئة "أي طلب؟" 
بدت نظرة غير مريحة بعيونه وقال "تعرفين ما أتحدث عنه أسيل، طلب الزواج" 
حدقت بعيونه لحظة قبل أن تبعد وجهها دون أن ترد فقال "بالعادة السكوت يفسر بالرضا ولكني لا أرى ذلك بعيونك أسيل فهل تتحدثي كي أفهم" 
كان عليها أن ترد وتنهي الأمر فقالت "أحمد أنا لم أفكر يوما بأن ما بيننا يمكن أن يكون حب وينتهي بالزواج، أنا ظننت أننا أصدقاء وأنك تساندني لأن والدك كان صديق والدي لا لأنك أحببتني" 
أبعد وجهه قبل أن يقول "كان كذلك يوم عرفتك ولكني أحببتك"
لم ترد فنفخ بقوة وهتف "كلماتك تعني أنك لا تبادليني المشاعر، ولكنك أيضا لا ترفضيني" 
نظرت إليه بقوة وقالت "لا أفهم معنى كلماتك"
لم يفر من مواجهتها وقال "أعني أن الخطوبة فترة كافية لتتلاقى قلوبنا وفرصة جيدة لأعلمك أن تحبيني"
اندهشت من كلامه وقالت "لا أحمد لا يمكنني أن أفعل ذلك، أمنحك الأمل بشيء أنا لا أثق أن بإمكاني أن أفعله"
شعرت بيده تقبض على المقود بقوة وقال من بين أسنانه "رفضك هذا له علاقة بالرجل الذي كان ببيتك أمس بعد أن رحلت أنا"
تراجعت بقوة ودهشة وتسارعت الأفكار برأسها وهي تردد بأنفاس متقطعة "رجل!؟ أي رجل؟" 
لم يبعد عيونه عنها وهو يقول "صاحب السيارة الفارهة التي كانت أمام منزلك وركبها ذلك الرجل بعد أن خرج من بيتك" 
تلجم لسانها لحظة ولكنها تداركت نفسها، لن تفقد قوتها الآن فتسمح له بجرها لأرض الجريمة فهتفت بهجوم يداري مخاوفها "أنت تراقبني يا أحمد، أنا لا أسمح لك بذلك إنها حياتي ولا يحق لك أو لسواك التدخل فيها"
وفتحت الباب وتحركت مبتعدة ولكنه لحق بها ولم يهتم كلاهم بالناس التي تتحرك حولهم وهو يقف أمامها ويمسكها من ذراعها ليوقفها ويقول برجاء بدلا من الغضب "أسيل انتظري، أنا لا أراقبك أحد رجال أبي رآه وهو من أخبرني بذلك، أسيل صدقيني أنا أحبك ولن يحبك أحد مثلي" 
أبعدت يده عنها وقالت بنفس الغضب "الحب ليس تملك يا أحمد وأنت تظن أنك تملكني لأنني قبلت بوجودك بحياتي ولابد أن أحبك لمجرد أنك تحبني ولكن الأمور لا تصير هكذا، أنا اعتبرتك أخ وصديق لا أكثر ولا أقل لكن بعد الآن انتهى كل شيء ومن فضلك دعني وشأني"
تحركت ولكنه أوقفها مرة أخرى برجاء وهو يقول "لا أسيل، لم ينتهي شيء أنا لن أتركك أنا أحبك ولن أتنازل عن حبي لك ولابد أن تفكري جيدا، حسنا لنؤجل طلب الزواج حتى أعيد ثقتك بي ولكن لا يمكنك إنهاء أي شيء"
للحظة أشفقت عليه وتمنت لو يلين قلبها تجاهه ولكنها لم تستطع وعليها إنهاء الأمر الآن فهي لن تخدعه لأنها لا تحبه ولن تفعل ليس بعد أن تأكدت بالأمس أن ذلك الرجل ملك كل مشاعرها فقالت "أحمد أنا لا يمكنني أن أفعل صدقني حاولت ولكني لم أرك إلا أخ أو صديق لذا سامحني"
ظل جامدا من كلماتها وهو يقول بنبرة خافتة يائسة "أسيل أنا.."
كان عليها أن توقفه وتقطع عليه طريق الرجوع فقالت بآخر كارت لها "أنا راحلة" 
تراجع ورمش مما قالت وردد "راحلة؟ ماذا تعني راحلة هذه؟ إلى أين؟ ولماذا؟"
أبعدت عيونها عنه وقالت "حصلت على عمل بشركة سياحة وقبلت العمل بها لذا لابد أن أذهب"
ضاقت عيونه وظل ينظر إليها قبل أن يقول "لن تفعلي بي ذلك، لن تتركيني الآن بعد أن أصبحتِ كل شيء بحياتي، لا أسيل لستِ بحاجة للعمل أنا يمكنني أن.." 
قاطعته بقوة وإصرار "كفى أحمد، أرجوك توقف وافهمني، أنا لابد أن أرحل من أجلك ومن أجل نفسي، أنا لا أصلح لك وقلبي لن يكون لك، أنت تستحق الأفضل لذا لابد أن أختفي من حياتك كي تبدأ حياة جديدة مع من تستحق قلبك الطيب هذا"
تحولت نظراته إلى حزن عميق وهو يقول "ولكني أريدك أنت، المرأة التي تمنيتها هو أنت وليس سواك"
دمعت عيونها من أجله وقالت بحزن "آسفة أحمد ليت الأمر بيدي"
ثم تركته وأسرعت مبتعدة والدموع تلحقها وقبل أن تصل إلى المدرسة رن الهاتف مرة أخرى بنفس الرقم فالتقطت أنفاسها وقالت "ألو" 
جاءها صوته الهادئ وهو يقول "ظننتك نائمة" 
لم تتفاجأ عندما سمعته وقالت "لا" 
قال "هل سأحظى بإجابتك الآن، أمامنا العديد من الإجراءات قبل السفر" 
اندهشت وقالت "أنا لم أوافق بعد"
رد بهدوء لم يتغير "هذا في حالة موافقتك"
أغمضت عيونها وهي تعلم أنها أضعف من أن تقاومه بينما عاد يقول "أسيل أنا لابد أن أعود ميلانو غدا ولا أريد أن أعود بدونك فقد كلفت أحدهم بالمجموعة هنا ولن أعود في الفترة القادمة فهل لي بقرارك؟" 
صمتت ودق قلبها هل يمكنها أن تتحمل بعده مرة أخرى؟ لماذا لم يخبرها أنه يريدها هي من أجلها؟ لو طلبها لأسرعت له بلا أي جدال أو أعذار لكنه لم يفعل وهي تعلم أن عليها الرحيل بسبب ما حدث مع أحمد 
سمعته يناديها "أسيل، هل ما زلت معي؟" 
قالت "نعم" 
سألها "وماذا؟" 
قالت "حسنا" 
رد بتساؤل "حسنا ماذا؟ أنا لا أفهم" 
قالت وقلبها يدفعها لذلك أما عقلها فيحاول أن يمنعها ولكنها انصاعت لقلبها وقالت "حسنا أنا موافقة"
سمعته يتنهد ويقول "حسنا السائق سيكون عندك بعد ساعتين، كنت أتمنى أن أكون أنا ولكن للأسف عندي اجتماع هام ولا يمكن تأجيله سيأخذك إلى بيتي وارسلي معه جواز سفرك واتركي الباقي لي، ماري ستعد لنا عشاء شهي بمناسبة رحيلها معي" 
ابتسمت ولكنها لم تشعره بذلك وقالت "يمكنني الذهاب إلى شقتي بعدها"
قال "نتناقش بالأمر عندما نتقابل لابد أن أذهب"
بالطبع تقبل الجميع خبر رحيلها المفاجئ بضيق ودهشة ولكنها هربت من مواجهتهم وعادت لتعد نفسها للذهاب 
استقبلتها ماري بوجه بشوش وهي تقول "من الجميل رؤيتك مرة أخرى يا آنسة" 
ابتسمت بود وقالت "أنا أيضا سعيدة برؤيتك مدام ماري"
قالت وهي ترشدها للطريق "غرفتك جاهزة لترتاحي قليلا قبل العشاء، بدر بيه سيتأخر قليلا وربما تحتاجين لتغيير ملابسك، وسهير ستأخذ الحقائب إلى أعلى" 
نظرت إليها بدهشة وقالت "غرفتي!؟ لا داعي لذلك، أنا لن أذهب لأي مكان" 
ابتسمت ماري وقالت "أنا أفهم سبب رفضك يا آنسة فالعادات بمصر واضحة كالشمس لكن بالقصر هنا الأمر مختلف، لا أحد سوانا يعرف بوجودك ونحن نعرف بدر بيه جيدا كما نعرفك أيضا ثم غرفتك بعيدة عن غرفة بدر بيه وسهير لن تكون بعيدة عنك حتى تمنحك أي شيء ترغبين به" 
هزت رأسها ولم تدخل في جدال فقد شعرت بتعب مفاجئ وصداع يدق رأسها وتحركت معها إلى تلك الغرفة الجميلة والمثيرة للراحة، تركتها ماري ولحظات وتبعتها سهير بالحقائب 
غيرت ملابسها بعد أن اغتسلت بالحمام الملحق، رن هاتفها فاتجهت إليه لترى رقمه فأجابت عندما قال "هل كانت رحلتك مريحة؟" 
جلست على طرف الفراش وقالت "جدا ولكن لم يكن هناك داع للغرفة" 
صمت قليلا وكأنه يتحدث لشخص آخر ثم عاد إليها وقال "ربما تحتاجين للراحة فقط أردت إخبارك أني سأتأخر على موعد العشاء فأرجو ألا يضايقك ذلك" 
دق قلبها من أخلاقه التي أسرتها ثم قالت "لا، بالطبع لا، لا تشغل بالك بي أعلم أن لديك الكثير مما يشغلك"
قال بهدوء "ولكنها لا تشغلني عنكِ، أقصد عن موعد العشاء" 
ارتجف قلبها من كلماته وتمنت لو أنه كان يقصد ما قال ولم يتراجع عنه فهي تهيم في هواه وتتمنى لو أنه يفكر بها مثلما تفكر به ولكن أين هي منه؟
****
شعرت بيد تهزها وصوت من بعيد يناديها، فتحت عيونها لترى سهير تبتسم وتقول "آسفة آنسة ولكن بدر بيه يخبرك بأن موعد الطائرة بعد ثلاث ساعات ولابد من الاستعداد وهو ينتظرك بمكتبه" 
غيرت ملابسها بسرعة وقد شعرت بالانتعاش بعد النوم الكثير الذي نامته مما منحها طاقة إيجابية عالية، أسرعت بالنزول وهي تحاول أن تتذكر طريقها بالبيت إلى أن تذكرت باب المكتب فدقت الباب ودخلت ولكنها لم تجده وترددت قبل أن تبقى وتتحرك بدون هدى ووجدت نفسها تتجه إلى مكتبه ورائحة عطره ما زالت بالغرفة
كان المكتب كبير بالنسبة لها ولكن مناسب لرجل له قوامه، لم تعبث بأي شيء ولكن لفت انتباهها صورة عائلية لرجل وامرأة وشابان بالعشرينات وبالطبع عرفت بدر فملامحه لم تتبدل كثيرا فقط تلك الشعيرات البيضاء بشعره الأسود وفمه المذموم وانتبهت إلى الشاب الآخر، كانت له نفس الملامح ولكن عيون سوداء قاتمة يشبه والدته جدا على خلاف بدر الذي يشبه والده و.. 
سمعته يقول "إنها العائلة" 
التفتت إليه وقد فزعت من وجوده، بدا جذابا في بدلته البيج، مما منحه سنا أصغر لم تتحرك وهو يتقدم منها ووقف أمامها وقال 
“ماما وبابا وقد تزوجا بسن صغير لذا يبدو صغيرا رغم أني لست صغيرا كابنهم الأكبر وهذا باسم أخي"
ثم عاد ينظر إليها وقال "أعتذر عن العشاء"
هزت رأسها وقالت "لا داع للاعتذار فأنا أيضا نمت"
حدق بعيونها قبل أن يقول "كان لابد أن تنامي فالنوم منحك جمالا فوق جمالك"
احمر وجهها وعادت دقات القلب تشيع الخوف داخلها فأخفضت وجهها وقالت "كنت متعبة وبحاجة للراحة أمس كان يوم شاق" 
لم يرحمها ويبتعد عنها وإنما قال "بالتأكيد، هل يحق لي أن أسأل ماذا فعلت مع أحمد؟" 
رفعت وجهها اليه بعيون حائرة قبل أن تقول "وهل يهمك الأمر؟"
لم يتراجع وهو يقول بدون تفكير "أكثر مما تتخيلين" 
تراجعت من كلماته وهمست بضعف واضح "لماذا؟"
قال "ألا تملين من هذه الكلمة، الرجل كان يحبك بجنون وظننت للحظة أنك ربما تضعفين وتقبلين مشاعره أو ربما تبادلينه إياها" 
ظلت تنظر إليه وقالت بضيق من إجابته "أخبرتني مرة ألا أظن شيء بشخص لا أعرفه أليس كذلك؟"
ضاقت عيونه لحظة قبل أن يقول "أنتِ على حق، هو فقط فضول ربما لا حق لي فيه، لن يمكننا تناول الإفطار هنا فلابد أن نذهب هل نفعل؟"
لم يذهب غضبها ككل مرة ولكنها هزت رأسها وتحركت أمامه إلى الخارج وهو اكتفى بأنها معه وليست مع أي رجل سواه 
بالطائرة قالت "أشعر أني أحلم وأني سأستيقظ لأجد نفسي بفراشي بالقرية" 
نظر إليها وقال "وهل تريدين الحلم أم الواقع؟"
واجهت نظراته وقالت بصدق "لم أعد أعلم ماذا أريد، ولكن على الأقل القرية كنت أعرفها وأعرف كل من بها واستقرت حياتي هناك، أما الآن فأنا حتى لا أعرف أين سأقيم وهل يمكنني أن أنجح بعملي هذا أم لا، أسئلة كثيرة تنغص علي رحلتي" 
أبعد عيونه وقال "ستأتين إلى بيتي لأنهم لم ينتهوا بعد من إعداد بيتك، والشركة ستتعلمين كل شيء عنها بسهولة؛ ديفيد صديق قديم لي استعنت به مؤخرا ليديرها مؤقتا حتى أجد البديل"
سألته والسؤال يلح عليها "هل كنت تثق في أني سأوافق؟"
عاد ينظر إليها وقال "قبل أن أعرف بموضوع أحمد وسفرك هذا للقرية كنت أثق من موافقتك، لكن رحيلك أشاع الفوضى بأفكاري حتى عثر رجالي عليك، واصطدمت بأحمد ووقتها تسرب الشك إلي في موافقتك خاصة إذا كنت ستوافقين على عرضه"
أبعدت وجهها وقالت بغضب مكتوم "ستة أشهر ليست قليلة"
أدرك كلماتها فقال "أخبرتك أن ظروفي كانت صعبة ولم أعد إلى مصر خلالها"
نظرت إليه بضيق وقالت "وهل كان من المفترض علي أن أنتظر ستة أشهر لأعرف تلك الظروف"
حدق بها ثم قال "كنت أتمنى أن تفعلي"
تراجعت من كلماته وكادت تسأله لماذا ولكنه قال "من فضلك لا تكرريها مرة أخرى، أسيل هناك الكثير عني مما لا تعرفيه فلا تصدري أحكام ربما تكون ظالمة بحقي" 
تاهت بنظراته ثم قالت "أنا لا أعرف عنك أي شيء، من حقي أن أسمعك"
أبعد وجهه وقال "بالتأكيد ستسمعين وستشاهدين بعيونك"
ابتلعت مرارة تراجعه الواضح حتى لاح سؤال آخر بذهنها فعادت له وقالت "كيف ستأخذني بيتك وزوجتك هناك؟" 
لم ينظر إليها وهو يجيب "سلمى سافرت مع والدها برحلة طويلة ولن تعود الآن وحتى لو كانت موجودة فلن يهمني الأمر أنت ضيفتي والأمر يخصني ولا يملك أحد أن يوقفني"
تراجعت وشعرت لأول مرة بالخوف منه فالتفت إليها وأدرك ما يجوى داخلها بل وفهم مخاوفها فقال "لست بهذا السوء، وإنما أحيانا ما يدفعني البعض لأبدو هكذا"
ظلت تتجول على أعتاب عينيه حتى قالت "لم أرى أي سوء بك ولكن للحظة شعرت بأنك غاضب وهو أمر لم أراه بك من قبل"
تأملها لحظة ثم قال "تعلمنا بالمدرسة أن الغضب طريق الضياع، والهدوء سبيل للتفوق وبينهما جسر واهي قد نسقط من فوقه بلحظة فنخسر كل شيء"
هزت رأسها وقالت "معك حق، لم تحدثني عن أخيك أخبرتني أن والدك أخرجك من المدرسة بسببه"
أبعد عيونه وصمت قليلا قبل أن يقول "نعم، كانت مرحلة صعبة بحياته بل بحياتنا جميعا عدا بابا فقد اختار أن ينزع المسؤولية عن كاهله ويلقيها على ابنه الكبير ليتعلم كيف يتحمل المسؤولية، شاب ما زال بالسابعة عشر يتولى رعاية أم مريضة وأخ لم يحظى إلا بالتدليل مما أفقده الكثير كما وأنني كان لابد أن أنجح بالدراسة الليلية لأن أبي لن يمنحني أموال إذا ما رسبت لأكمل"
وصمت ولم يكمل تلك مرحلة أغلق عليها ملايين من التروس بلا رغبة باستعادتها ولكن معها كل شيء تبدل وانسحق
شعرت بالأسى والحزن من أجله ووجدت نفسها تضع يدها على يده فنظر إليها فابتسمت وقالت "وأنا التي كنت أظن أنني عانيت الكثير بفقدان بابا وماما" 
أطبق على يدها بطريقة أدهشتها وهو يقول "كل شخص يرى مشاكله من وجهة نظره هو أسيل وهي بالنسبة له جبل يثقل كاهله" 
هزت رأسها فهو على حق، لم يترك عيونها وقال "أسيل، أنا لا علاقة لي بما حدث لشركة والدك هل تصدقيني؟"
هزت رأسها وقالت "نعم"
لاح شبح ابتسامة على شفتيه عندما أبعدها بسرعة وانتبه ليدها فانتبهت هي الأخرى لها وجذبتها وقد ارتبكت واحمر وجهها دون أن تتحدث وهي تبعد عيونها 

تعليقات



<>