رواية كبرياء رجل الفصل الثالث3 بقلم داليا السيد


 رواية كبرياء رجل الفصل الثالث3 بقلم داليا السيد
قبلة
أغمضت أسيل عيونها وهي تحاول استيعاب ما يحدث لها، لا يمكن أن يتهموها بذلك، هل يظنون أنها عشيقته؟ لا!، يا الله! هذا جنون
لم يبتعد محمود وهو يجلس أمامها محاولا إيضاح الصورة أكثر "هذا صحيح كما وأن بدر نفسه لا يقيم بمصر، إقامته الأصلية بميلانو ولا يأتي هنا إلا.."
قطع رنين هاتفها كلماته وعندما نظرت لهاتفها وجدته رقم بلا اسم فأجابت بدون تفكير "أسيل الرافعي"
جاءها صوت هادئ عرفته على الفور فجمدت ملامحها وارتجفت يدها التي تقبض على الهاتف وهي تسمعه يقول "أعتقد أننا لابد أن نلتقي آنسة أسيل الرافعي"
تراجعت في مقعدها وهي تبحث عن أنفاسها مدركة أنه هو الآخر رأى ما رأته. أدركت أن محمود يتابعها لأن صمتها كان مثير للاهتمام، جف حلقها قبل أن تقول "لا أعلم ولكن"
قاطعها بحزم "ولكن ماذا!؟ لقد تحول الأمر الآن إلى ما لا يمكن لكلانا تجنبه وأصبح الأمر شخصي ولابد من حل لإيقاف كل ذلك"
قالت بصعوبة "ألا يمكنك أن تفعل؟ أنت لك اسم ومكانة تمكنك من أن تفعل"
أجاب ساخرا "وكيف أفعل ذلك؟ بالمصباح السحري" 
رفعت شعرها من على وجهها وقالت بضيق "لا تسخر مني، أنا لا أعلم كيف كما لا أعلم ماذا سيفيد لقاءنا!؟" 
صمت قليلا ثم قال "سألتك من قبل عن أي أوراق خاصة بما حدث فلو تملكين شيء أحضريه معك سأمر عليك بالمنزل بعد السابعة ووقتها سنجد شيء نخرج به للجميع"
ثم أغلق الهاتف ولم يمنحها أي فرصة للاعتراض أو منحه رأيها
تأملها محمود بتساؤل من صمتها الغريب ونظراتها الزائغة حتى سألها "إنه هو أليس كذلك؟ بالتأكيد لابد أن يهاتفك، لم تخبريني ماذا فعل معك؟"
لم تنظر له وهي تقول "لا شيء محمود، أخبرته بما حدث مع شركة والدي وأنكر معرفته بالأمر"
أشاح بيده وقال بجدية "وأنت صدقتيه؟ هو صاحب كل شيء ولا يعرف ما يحدث حوله؟ "
أغمضت عيونها وصداع يكاد يفتك برأسها وهي تسمعه يلقي عليها الأسئلة حتى آخر سؤال "وماذا سيفعل الآن؟ كيف سيقنع العالم بأنكم لستم عاشقين؟ ألم يخبرك؟" 
ظلت عيونها مغمضة ترفض رؤية أي شيء حولها والتعب عاد يلاحقها وهي ترد بجفاء "لا، فقط يريد لقائي مرة أخرى ويريد الأوراق الخاصة بأبي" 
صمت مر قبل أن يقول محمود "هل لديك أي اقتراحات؟"
فتحت عيونها وتراجعت بمقعدها وقالت بحيرة "لا، ولا أعلم كيف سأحضر الأوراق إنها ببيت عمتي القديم بالشرقية، يا إلهي لم أتخيل أن يتطور الأمر هكذا" 
نهض وقال "بل كان عليك التفكير بذلك أسيل، بدر المسيري ليس برجل عادي، هو رجل عالمي والصحافة تلتصق به رغما عنه وتفرض نفسها على حياته وما حدث منك أصابه بمقتل ولابد أن يتصرف بحكمة خاصة الآن"
حدقت به وهي تدرك كل ما يقول وبعد ما رأته بالأمس أدركت صحة ما قال، هو بالفعل ليس برجل عادي بل هو رجل رائع، جذاب، غامض، مثير لكل المشاعر التي لم تعرفها داخلها من قبل ومع ذلك هي مشاعر مخيفة لها
عاد محمود يقول بتعقل "أسيل فكري جيدا فأنا لا أظن أن لقاؤكم الآن فكرة صائبة لأن الصحافة لن تترككم ولو تابعوكم.." 
ولم يكمل وترك لها أن تضع باقي الكلمات بمكانها واختار أن ينهض للخارج تاركا إياها في حيرة من أمرها ولا تعرف ماذا تفعل؟
****
دخل بلال إلى مكتب بدر وأغلق الباب خلفه وتحرك تجاهه وهو يقول "صباح الخير يا فندم"
لم يرفع رأسه له وهو يتابع الأرقام التي تتحرك أمامه على شاشة حاسوبه وأجاب باقتضاب "صباح الخير بلال، هل وصل المحامي؟"
ابتسم بلال وقال "نعم، ولكن ألا تظن حضرتك أن الأمر لا يستحق"
رفع عيونه له باهتمام وقال "وكيف ذلك؟" 
لم يتراجع بلال وهو يجيب رئيسه بصدق "نحن نترك النيران متوهجة وتأكل الكثير حولنا، كان يمكننا منحها بعض المال وتخرج بفيديو جديد تعتذر فيه عما صدر منها أو تعلن أنها أخطأت ولم نكن نحن المعنيين بالأمر"
نهض بدر من وراء مكتبه وتحرك إلى بلال حتى وقف أمامه والتقى بعيونه الهادئة وقال "ماذا تعرف عن الموضوع بلال؟"
ابتسم بلال وقال "ليس أكثر مما تعرفه حضرتك فأنا لم أكن موجود بذلك الوقت أم حضرتك نسيت؟"
رفع وجهه وقال "وهل أنت تعرفني جيدا أم لا؟"
شحب وجه الرجل من سؤال بدر قبل أن يقول "بالطبع مستر بدر، حضرتك مثال للشرف وقمة في الاحترام بل لم أعمل من قبل مع من هم مثلك" 
لم يترك عيون بلال وهو يرد بنفس الهدوء "إذن كان عليك أن تعرف أنني لم أكن لأفعل ما قلته بل علي التحقيق بالأمر ومعرفة المسؤول ثم حسابه وبعدها نعرض عليها التعويض المناسب هذا إذا قبلت هي به"
ابتعد بينما ظل التجهم واضح على وجه بلال وهو يدرك أنه سقط بالفخ ورئيسه يوقفه قبل التمادي بالخطأ فقال "وهل يمكن لفتاة مثلها أن ترفض؟"
أمسك بعض الأوراق من على مكتبه وظل يقلبها بين يديه وقال "لا أعلم، تلك الأوراق تحمل معاني كثيرة أحتاج لتفسيرات لها، دع المحامي يدخل وبعدها أريد كل من كان موجود بتلك الفترة هنا بمكتبي"
هز بلال رأسه وعاد هو إلى مكتبه إلى أن انتهى اليوم وقد وصل إلى كل الحقائق التي كان يحتاج إليها وأدرك كل الحقيقة، وقبل أن ينهي هذا الأمر ويضع له حد دق الباب واندفع بلال وهو يقول بضيق واضح 
"لا أظن أن ذلك سيعجبك يا فندم"
تراجع بمقعده وبلال يمنحه هاتفه ليرى تلك التعليقات والمنشورات التي تشير إلى نفس الفتاة وما ثار حولهم من شبهات حول وجود علاقة غير شرعية بينهم 
ضغط على الهاتف بيده وقال بغضب مكتوم "حقا!؟ أنا لا أصدق أن ذلك يحدث لي، من أين أتت تلك الأقوال ولماذا؟ اللعنة على الصحافة التي تتخذ من حياتي طعام مغذي لها"
وقذف الهاتف بقوة على المكتب مما جعل بلال يتراجع أمام غضب رئيسه وهو يقول "الأمر لن ينتهي إلا بتكذيب صريح من حضرتك أو منها هي شخصيا، أنت تتركهم يتمادوا"
نظر إليه وقال باشمئزاز واضح "وأنا لن أصرح بأي شيء، هذا لا يليق بي بلال"
هز بلال كتفيه وقال "نعم، إذن ربما هي تفعل فالأمر يمس سمعتها الآن وهي لن تقبل بالتأكيد هذا إذا كان الأمر يهمها"
ابتعد وهو يفكر بجدية فمعرفته بها لم تتعدى ذلك الوقت الضئيل ببيته وهو لا يكفي ليعرف من هي حقا رغم براءة نظراتها والألم الواضح بعيونها ونبرة صوتها
عاد وجذب هاتفه وأخرج رقمها الذي حصل عليه من رجاله ولم يتردد وهو يهاتفها وهو يخبرها بضرورة لقائهم ورغم جدالها إلا أنه لم يسمح لها بالرفض فلابد من إيجاد حل لكل ذلك. 
****
عند السابعة كان باب شقتها يدق فدق معه قلبها، لم تظن أنه سيأتي ولكنها أيضا عرفت أنه ليس رجل هزل أو إلقاء كلمات بلا هدف أو وعود بلا تحقيق
تحركت تجاه الباب بخطى مرتجفة حتى فتحت لتراه يقف أمامها بشموخ واضح وكبرياء لا يفارقه وكأنه ظله الملتصق به بلا فارق للنهار أو الليل هذا غير أناقته الواضحة وهدوء لم يتغير وهو يواجه عيونها بنظرات غامضة لا معنى بها ولا يمكن أن تفهمه حتى تحولت نظراته إلى قوامها المختفي خلف بدلة قطنية زرقاء أنيقة تدل على ذوق راق من صاحبتها التي تحاول أن تلتصق بفئة لا تتناسب معها وهي تقف أمامه بثبات تكاد تصل لقامته بالحذاء عالي الكعب وعاد لشعرها الذي رفعته بقصد على منتصف رأسها بلا أي خصلات لتمنح نفسها ومن معها جدية غير حقيقية ولم تفكر بوضع أي مساحيق لأنها كانت مشتتة الذهن
انتزعت صوتها من سجنه الداخلي وهي تقول "أعتقد أنك تريد أن تقتلني الآن"
ظل واقفا وقال بجدية "تستحقينها يا آنسة ولكني لست ذلك الرجل، هل نذهب؟"
كلماته الهادئة دفعت الراحة بأوصالها فتراجعت وأحضرت معطفها فتحرك بأدب وأخذه منها ليساعدها على ارتدائه وارتجف جسدها عندما لمست أصابعه كتفها دون قصد ولم ترفع عيونها له وهي تجذب حقيبتها فتنحى لتتقدمه وهو يغلق الباب خلفه
عندما نزلت بحثت بعيونها عن السيارة الفارهة التي كانت معهم بالأمس ولكنها وجدت أخرى أصغر لكن حديثة جدا بشكل ملفت وأيضا تدل على ثراء صاحبها الذي فتح لها الباب بنفس الأدب الغريب وهي لا ترى سائق ليفعل بل هو فقط 
لفت وجهها له بتساؤل ففهم ما تنطق به عيونها وقال "أنا أقود السيارة هذه المرة"
هزت رأسها ولم تملك أي كلمات لتعترض فما الفارق؟ ربما هما فقط أفضل من تلك المظاهر الخانقة التي لفتهم بالأمس
دخلت السيارة واندفع إليها نفس الإحساس عندما تنفست عطره بالسيارة التي ما أن ركب هو وأدارها حتى دار المكيف معها وصار الدفء يعم المكان مما أسكتها عن أي حديث خاصة وهو كان يقود بمهارة وسط الزحام حتى قطع الصمت وقال فجأة 
"ربما أحتاج لإرشاداتك، لا خبرة لي بالبلد"
الحيرة تجمعت بسرعة داخلها وارتفعت لعيونها التي تحركت له ولم تمنع كلماتها وهي تسأله بدهشة "لا أفهم" 
أجاب دون أن يبعد عيونه عن الطريق "عشت حياتي بعيدا عن البلد وعندما عدت كان من فترة قصيرة والسائق يتولى الأمور"
تفهمت وهي تشير له بالطريق ثم سألته "قلت أنك عشت بعيدا عن البلد فأين عشت؟"
لم يعترض على سؤالها بل قال بهدوء "وأنا صغير كنت بمدرسة داخلية هنا ولكن بمحافظة أخرى ولم أخرج منها إلا بعد مرحلة الثانوية، أعدني والدي بعدها إلى ميلانو حيث أكملت دراستي هناك وعشت أيضا هناك"
تفهمت ومع ذلك قالت "لذا تتحدث العربية جيدا؟" 
قال بعملية واضحة دون تفاخر "والايطالية والإنجليزية والاسبانية وبعض الألمانية، كان لابد من ذلك لتنقلي بين دول أوروبا للعمل وتعدد اللغات من أهم صفات رجل الأعمال" 
قالت بإعجاب أخفته بصعوبة "الناجح؟"
لف وجهه لها لحظة والتقى بعيونها التي تدفعه لأشياء لا يفهما وكأنه لا يريد أن يرى سواها ولا يشعر إلا بوجوده معها، أفاق من تخيلاته وعاد للطريق وهي لم تتوقف وهي تقول 
"بدأت بشركات والدك؟"
نظر إليها وقال باستنكار واضح لاحظته "بل عملي أنا المستقل، بابا لم يمنحني أي وجه للمساعدة، لم يكن يريد شيء أو أحد ليقيده فتركني بالمدرسة الداخلية ثم نقلني إلى ميلانو فقط لأكون بجوار أمي قبل وفاتها وأرعى أخي"
عاد يسألها عن الطريق فأرشدته وتوقف الحديث حتى وصلا إلى مطعم معروف واتجها إلى الداخل وأجلسها بأدب فقالت وهي ترمقه بنظرة إعجاب من تحت رموشها الطويلة 
"هل المدرسة الداخلية تعلم كل هذا الاحترام والذوق؟" 
لم ينظر إليها وهو يقول "إذا كان القائمين عليها راهبات وقساوسة من إيطاليا فلابد أن يكون الأمر كذلك، تلك المدرسة كانت الوحيدة بنوعها بمصر ولم تعد موجودة الآن، زج بي أبي فيها بنصيحة من أحد أصدقاؤه للتخلص مني وهناك لا يمكنك أن تفكري حتى بتجاوز أي قاعدة"
نظراتها كانت تحمل معاني كثيرة من الأسى رفض أن يقبلهم فأبعد عيونه للفراغ البعيد بينما قالت "كنت طفل مزعج؟"
عاد لها بعيونه وهو يعلم أنه من فتح الباب للذكرى ولم يجد مانع من بعض الذكريات التي يعرف كيف يواجها وهو يسند ذراعيه على المقعد وقال "كنت مسؤولية هو رفض أن يتحملها، هو كالطير المهاجر يرفض الاستقرار بمكان، زواجه من والدتي لم يكن خطأ ولكنه لم يتقبل فكرة الاستقرار من أجل أولاد تحتاج لوجوده"
شعرت بالأسى تجاهه فقالت "كانت فترة صعبة؟" 
نظر لعيونها الجميلة وقال بصدق "بالنسبة لي كانت أفضل مرحلة بحياتي من بعدها عرفت معنى الصعوبة، ماذا تفضلين؟"
كان النادل قد اقترب منهما باحترام وهي تدرك أن المكان فاخر تقريبا لا يدخله سوى الأثرياء والشخصيات المعروفة وربما لو ارتدت شيء آخر غير ما ترتديه لكانت رفضت الدخول فمن حولها جميعا يرتدون من أشهر دور الأزياء العالمية حتى مضيفها بذلته كانت تعلن عن نفسها 
تناولت القائمة ولم تحاول تأمل الأسعار كما اعتادت أن تفعل لو صادف دخولها أي مطعم لتناول وجبة طارئة خارج البيت، انتقت وجبتها كما فعل هو بلا أي كلمات حتى ذهب الرجل بطلباتهم
تأمل عيونها الشاردة والتي لم تفارقه منذ الأمس، لم ينم ولم يمكنه أن يبعد بريق عيونها من ذهنه ورغم انشغاله بالعمل وبقصتها إلا أنه لم يتخلص من تأثيرها عليه 
قطع الصمت بكلماته "بالتأكيد لديكِ حل لم نشر اليوم"
احمر وجهها وقالت "ظننت المثل تجاهك"
تراجع مرة أخرى بمقعده وقال "للأسف لم أصل لحل مناسب وهو ما سبب لي الكثير من الضرر خاصة حياتي الشخصية"
واندفعت الكلمة من فمها بلا تفكير فهي المنطق الوحيد لكلماته "زوجتك؟"
حدق بعيونها لحظة وقال "ألم يضرك الأمر أنتِ أيضا؟" 
لم يمنحها رد قاطع مما جعلها تخفض رموشها لتخفي خجلها من اندفاعها وهزت رأسها بالإيجاب وهي تتذكر نظرات نظرائها بالشركة وكلمات محمود وقالت "نعم، خاصة بالعمل، فقد رأيت نظرات الاتهام بعيون الجميع وكدت أسمع كلماتهم عني ولكني أعلم أني من تسبب بكل هذا" 
عاد الرجل بالأطباق وضعها وكلاهم صامت حتى ذهب وبدأوا بتناول الطعام بصمت كما المكان من حولهم رغم ازدحامه بالكثيرين ولكن لا ضوضاء من هنا أو هناك بل موسيقى هادئة تصدر من مكان ما وهمهمات خافتة من كل مائدة ولا أحد يهتم بالآخر
انتهى الطعام ورفع رجلان الأطباق ووضعوا قهوة وعصير بناء على طلبه واختفوا عندما بدأ هو الحديث من حيث انتهوا "من الواضح أن ما حدث ضرنا نحن الاثنان لذا سيكون من الأفضل لكلا منا أن نصل إلى حل مناسب" 
وافقت بلا جدال وقالت "معك حق ولكن ما هو ذلك الحل؟ ربما أنت يمكنك العودة إلى الخارج ووقتها سينتهي الأمر بالنسبة لك فأنت بالنهاية رجل ويمكنك حتى تجاهلها، تلك الأمور تضر المرأة هنا أكثر"
لم يمنحها أي شيء بملامحه ولكنه قال "ربما ولكن رجل بمكانتي تلك الأمور تهزني وتقف على أعتاب سمعتي مما يجعل عملائي يفكرون قبل الاستمرار بتعاملاتهم معي"
تفهمت كلماته ومع ذلك قالت "رحيلك من مصر لن يوقف الأمر؟"
تناول القهوة قبل أن يقول "قد يفعل ولو كان الحل بالسفر فما زال عرضي لك قائم بشركة السياحة وقتها سينتهي الأمر باختفائك ولن يهم أمر زملائك بالعمل"
نظرت إليه بشدة قبل أن تقول "لماذا تفعل معي ذلك؟ أنت لم ينالك مني إلا الضرر فلماذا تساعدني؟"
ضاقت عيونه وقال "كنتِ تتحدثين معي عن طريقة نشأتي ألم تمنحك إجابة على سؤالك؟"
أخفضت وجهها كي تخفي إعجابها به وبنشأته وقالت "من الصعب أن يقابل المرء رجلا بأخلاقك أستاذ بدر بالوقت الحالي"
هذا الخجل بوجهها يأخذه لمكان آخر، همسها كنمسة تحرك الأوراق برقة بصباح مشرق معطر بنسيم الزهور، رموشها التي ترفرف فوق عيونها تجعله يرفرف معها راغبا بخطفها له وكأنه صقر يطارد أنثاه حتى تقبل به فينطلقا معا بعيدا عن العالم وفقط هما الاثنان
ارتفع رنين هاتفه ليعيده من أحلام اليقظة التي كان يتيه بها فنظر إليه ليرى رقم نفس المرأة فأغلق الصوت وأعاد الهاتف للجاكيت وهو يمنحها اهتمامه قائلا 
"ربما لست بتلك الصورة يا آنسة فأكيد لي مساوئي"
ابتسمت برقة وقالت "كلنا لنا مساوئ، أنت طبعا عرفتها بي" 
ما زال ينظر إليها قبل أن يقول "لم أر سوى شجاعتك عند مواجهتي أمام عدد لا بأس به من المتطفلين، والآن هل لديك نفس الشجاعة لمواجهة متطفلين آخرين؟" 
لم تفهم سؤاله ولا المعنى الذي يقصده إلا عندما لاحظت تحول عيونه عنها لمكان آخر فرمشت بعيونها والتفتت إلى حيث ينظر فأدركت ما كان يعنيه
ارتجف قلبها وتساقط قناع الشجاعة الذي ظنت أنه سيلتصق بها وتهشم لألف قطعة وتركها ترتعد كالجبناء فمن أين لها تلك القوة التي لازمتها بالأمس وقد ضاعت منها الآن وهي ترى ذلك التجمع من رجال الصحافة والمصورين وهم يندفعون إليهم بآلات التصوير بين أيديهم حتى التفوا حولهم والجميع يتساءلون بذات الوقت دون أن تفهم سؤال واحد منهم
شحب وجهها ولم تستطيع مواجهة الأضواء التي كانت تضرب عيونها من الكاميرات واختنقت من الأنفاس الكثيرة من حولها ولم تراه وهو ينهض متحركا تجاها وقبض على ذراعها ليساعدها على استجماع نفسها لتنهض معه بلا اعتراض وقد بدا الذعر بعيونها وهي لا تتخيل أنها مركز هذا التجمع 
سمعته يقول بقوة "اهدئي، لن يأكلك أحد" 
لم تشعر وهو يقودها بحزم مخترقا الزحام دون أن يعبأ بأي أسئلة مما انهالت عليهم وهو ترك ذراعها ولفها بذراعه ليحميها منهم ولكن لم يكن الأمر بالسهل عندما أحكموا عليهم الدائرة وصرخ به أحدهم 
"بدر بيه هل ستتزوجون أم أنكم بالفعل كذلك؟"
شعرت بالخوف والغضب مما تسمعه ولكنه أجاب "لا دخل لك ولا لأحد بحياتنا الشخصية"
سمعت آخر يقول "وماذا ستخبر زوجتك بعلاقتك هذه؟ أم أن واحدة هنا والأخرى هناك؟"
وهنا تفاجأت حقا عندما وجدته يلكم الرجل بوجهه بقوة أسقطته أرضا فتراجع الجميع مما أمكنه من أن يدفعها إلى الخارج بعيدا عن كل ما كان وهي لا تصدق أنه خرج عن هدوئه المعهود
أوقف سيارته بمكان هادئ، لم يكن القمر يضيء بتلك الليلة والغيوم تأكل السماء بلا رحمة وتنتزع أي لمعان للنجوم الغائبة فبدا الظلام شديد السواد وخيم صمت مخيف عليهم فترة إلى أن قالت بهمس يكاد لا يصل لأذنه لكنه سمعه وهو يفهم مشاعرها
"أريد أن أعود إلى بيتي من فضلك"
فتح تابلو السيارة أمامها وأخرج علبة سجائر من نوع لا تعرفه ثم أشعل واحدة ونفخ دخانها وهي أول مرة تراه يقوم بالتدخين ولكنها لم تستطع أن تضيف كلمة أخرى قبل أن يقول "
كنت أتمنى أن أفعل، ولكن بالتأكيد سنجد البعض منهم هناك لقد أصبحنا وجبة شهية لهم"
أبعدت وجهها إلى الظلام الخارجي وشعرت باختناق أنفاسها من كل ما يدور حولها خاصة وهي من جلب كل ذلك وأسقطت نفسها فريسة سهلة لهؤلاء الصيادين ممن لا قلب لديهم ولا رحمة
احتاجت لهواء بعيدا عن دخانه الغاضب ففتحت الباب ونزلت لتواجه البرد الذي صدم وجنتيها وتنفست بقوة ربما تستعيد توازنها بعد ما كان، تحركت مبتعدة عن السيارة فنزل هو الآخر وتبعها وما زال يدخن سيجارته حتى وقف بجوارها 
لم تلتفت له ولم تحاول مواجهة نظراته التي تعرف أنها لم تمنحها أي شيء ولكنها قالت "أنا لا أعرف ماذا يجب علي أن أقول أو أفعل؟"
ثم التفتت إليه وواجهت نظراته وقالت "أقصد بالنسبة إلى زوجتك لقد أفسدت حياتك بالتأكيد؟ أنا آسفة"
هو الآخر لم يواجها وهو ينفث دخان السيجارة وكلماتها تحمل معاني يقدرها جيدا، أومأ برأسه وقال وهو يعلم أن كلماته لا تعبر عما داخله بشكل كاف ولكن بالنسبة لها ربما كانت كافية 
"ليس الأمر بهذه الأهمية على الأقل بالنسبة لي"
لفت وجهها لترى جانب وجهه الجامد وبشرته التي تماشت مع الظلام المحيط وفكه الحاد مما يدل على صرامة صاحبه وهي عرفته جيدا
قالت بحيرة واضحة "لا أفهم، ألن يسبب كل ما يحدث مشاكل لك معها؟" 
ابتعد وقال دون اهتمام بسؤالها وأحاط نفسه بدائرة واسعة من الدخان لم تحاول اختراقها فمن الواضح أنه يرفض ذلك "هل فكرتِ في عرضي بالعمل؟ أعتقد أنه أفضل حل، لو لديك جواز سفر يمكنك أن تكوني بميلانو بعد الغد على الأكثر وهناك سيتولى رجالي ارشادك لكل ما يلزمك" 
لا تصدق أنه يفعل معها ذلك وهي سبب كل مشاكله بل مشاكلهم "ألا تدرك ما يحدث لنا أم أنك ترفض مواجهته؟"
ظل يواجه الظلام المواجه له وهو يقول "تعلمين أن ذلك غير صحيح أنا فقط أبحث لك عن منفذ"
تعصبت ونفخت من كلماته فهي ليست أنانية لتفكر بنفسها وتدعه جانبا بلا اهتمام، هذا ليس من الأخلاق بشيء
قالت بعصبية "وأنت؟ أقصد هل ستبقى وتواجه كل ذلك وحدك"
وأخيرا التفت ونظر بعيونها التي لمعت له ببريق جذاب لا يفهم لماذا يعجبه بتلك الدرجة، تلك المرأة بها شيء غريب يقتلعه من جذوره التي ترسخت بمكان واحد طوال سنوات عمره، العمل
منذ رآها وهي تدفعه لطريق آخر لم يسمح لنفسه بأن يخطو له، الآن هي كالمغناطيس، تجذبه لها بلا هوادة ولا رحمة وهو يقاوم ولا يعرف إلى متى سيظل جسورا بمعركة هو لم يخوضها من قبل؟ 
 اقترب منها بخطوات مثقلة بأفكار لا تخرج خارج عقله قبل أن يقول "يمكنني التعامل معهم، لن يكون الضرر لي بنفس درجة الضرر بالنسبة لك فأنت فتاة جميلة ورقيقة ووحيدة ولا قبل لك بالتعامل معهم"
احمر وجهها من كلماته وارتجف جسدها ونظراته تقيدها بقوة أجبرتها على أن تسجن بسلاسل من حديد فلا تفارق عيونه الجميلة وما زال يقترب حتى توقف بالقرب منها وهي ترفع وجهها لتصل لوجهه الذي كان لا يرى سواها
سمعته يقول وهي لا ترى يده التي خرجت من جيبه ولا الورقة التي كانت بها "أنا عرفت أن لك حق فيما يخص والدك وشركته ولكن بالطبع الأمر كان من دون علمي و..، أعتقد أن هذا الشيك ربما يمثل اعتذار عما حدث"
ظلت تنظر إليه لحظة ثم سقطت نظراتها لترى الشيك الذي بيده وظلت تحدق به لحظة وأفكار تلطمها ومشاعر تتلاعب بها وتذوقت وقتها طعم الجراح ومرارة الذكريات وألم الفراق الذي عاشته برحيل والدها والآن لطمة جديدة منه
امرأة تسعى للمال!؟ هذا تفكيره بها.
تستحق..
لكنها عادت بعيونها له رافضة هذا الاتهام الغير صحيح، هي ليست تلك المرأة وعليه أن يدرك ذلك فقالت بلا تردد "وهل سيعيد ذلك الشيك أبي إلى الحياة؟ هل سيعيد لي الحياة الهادئة التي كنت أحياها؟ احتفظ بأموالك أستاذ بدر فلم تكن هي ما كنت أريده صدقني"
وتحركت لتبتعد قبل أن تهاجمها الدموع وتسقطها بدائرة الضعف التي تكرها وتجعله يظن أنها تستدر عطفه وشفقته ولكن يده قبضت على ذراعها فأوقفها، أغمضت عيونها وهو يعيدها أمامه وهو يهمس باسمها بصوت مبحوح 
"أسيل" 
تساقطت قطرات المطر تضرب جبهتها فجأة مما جعلها تفتح عيونها ولكنها تناست القطرات عندما اصطدمت بوجهه قريبا منها لدرجة أنها شعرت بأنفاسه على وجهها وهو يثبت بعيونه على عيونها ويتجول على كل ملامح وجهها وعاد يهمس وقد نسى الشيك وكل ما جمعهم بالأساس ولم يذكر سوى تأثير تلك المرأة عليه منذ رآها
"لا أعلم ماذا حدث لي منذ رأيتك؟ أشعر وكأننا التقينا بدنيا أخرى، وكأني كنت أشتاق إليك وفجأة التقيت بك فأشبعت شوقي برؤيتك"
اهتز كيانها من كلماته وهي تدرك أنه تحدث بما تشعر به هي أيضا، ذلك الفراغ من حولهم مخيف، الظلام سكن لكل ما يتخبط داخلهم، الهمس الذي حولها كان يخيف، لكن دقات القلوب كانت تدوي بلا منافس لتعلن عن وجودها خلف صدر كل منهما وتغطي على كل ما سواها
ارتفعت يده لتلمس نقطة المياه التي لمست وجنتها فأبعدها ولمس نعومة بشرتها وتجمد جسدها من لمسته، شرارة سرت بكل كيانها وهي فقدت القدرة على الحركة وهو عاد يهمس 
"أنت فقط جميلة، جميلة جدا بدرجة قاتلة"
عادت ترتجف عندما تسربت يده حول خصرها وتجمدت يداها بجوارها لا تعرف كيف ترفعهم لتدفعه بعيدا عنها فما يحدث لا يجب أن يحدث ولكنه يحدث
هذا جنون!؟
لم يعد فقط جنون بل ضياع، فقدان للجاذبية فقدان حتى للشعور بأي شيء سوى هذا الرجل الذي يحتويها بين ذراعه ويضرب وجهها برقة بأنفاسه الدافئة ويأخذها لبعيد، بعيد عن العالم الذي يحيطهم 
فقط عندما وضع شفتيه على شفتيها برقة مستجيبا للنداء الخفي منها له منذ عرفها وها هو يستجيب، نعم، كانت تناديه ليحصل على تلك القبلة الرقيقة والتي منحته شعور غريب بالرضا، الراحة وفقدان السيطرة وهو ما لم يجربه من قبل وكأنه؟؟
ضياع!؟ 
هذا هو شعورها وهي ترحل بلا مقاومة إلى حيث جذبتها شفتيه، تحلق معه بمكان لم تعرفه، حرية عطره تلفها، تضمها بحنان افتقدته ونست به كل شيء حتى ضاعت حقا بين ذراعيه ودفء غريب سرى بكل جسدها من ذراعه الذي يلفها 
لأول مرة لها بحياتها يمر بها كل ذلك السيل من المشاعر المنجرفة بلا حدود لمجرد أنه لمس بفمه شفتيها ولم يتركها وهو يعمق قبلته بلا تردد أو تفكير بالتراجع مما جعلها ترتجف بين ذراعيه ونسمة باردة تضربها لتعيدها للوعي وتسقطها على أرض الواقع بعد التحليق بسماء الأحلام فتستعيد نفسها وترفع قبضتيها وتدفعهم بصدره الصلب لتبعده بعيدا عنها وتتراجع وقد التهب وجهها من الحرارة رغم برودة الليل وتستوعب تلك الأمطار المنهمرة بلا توقف مما بلل ملابسها وجعلتها تلتصق بجسدها 
المواجهة كانت مستحيلة!
لم تملك أي قوة للنظر بعيونه ورؤية الاحتقار بهما لامرأة استسلمت له بتلك الطريقة، تحركت بلا هدى وهي تقاوم الدموع والرؤيا تكاد تنعدم أمامها من المطر، الدموع أو حتى شعورها بالخجل من نفسها 
لحق بها وهو يقبض على ذراعها ليوقفها بقوة وهو يهتف "أسيل اهدئي"
نزعت ذراعها من قبضته والغضب لاح بنظراتها بعيدا عن الدموع وهي تقول "لا تلمسني، فقط ابتعد عني"
لم يتركها تتحرك مرة أخرى وهو يقول بحزم "فقط توقفي ولا تتصرفي كالأطفال"
كانت تحدق به وهي لا تجد كلمات وهو يكمل "لنعد للسيارة، المطر لا يتوقف"
كانت تعلم أن لا مجال لها بأي شيء بهذا المكان سوى سيارته لذا تركته وتحركت للسيارة وفتحت الباب ودخلت بغضب واضح وصفعت الباب خلفها بقوة جعلته يدرك الجنون الذي انجرف له ويتساءل كيف فقد عقله وهو لم يجن بتلك الدرجة حتى بشبابه؟ 
دفع شعره المبلل إلى الخلف بيده ليفيق مما أصابه وتحرك إلى السيارة بغضب مكتوم من نفسه لأنه يوم خرج عن مساره المعتاد كان لامرأة لم يكن يعرفها إلا بالأمس لساعات لا تعد، امرأة كانت سبب بجلب كل الدمار معها ومع ذلك كل ما فعله أن قبلها بمكان منعزل تحت المطر
جنون..
معك فقدت العقل يا امرأة.. بين شفتيك فقدت قواي العقلية، رحلت مني نفسي ونسيت كل ما رسمته لحياتي وحدت عن الطريق..
لم يتحدث أيا منهما ولم تلتقي العيون وكأن كلا منهم كان غارق بأفكاره ومشاعره التي اصطدموا بها لأول مرة وصدمة أخرى؛ أن تعارفهم كان ساعات لا يمكن أن تبني خلالها كل ما حدث
عندما أوقف السيارة أمام بيتها لم تواجهه بل فتحت الباب وخرجت لتلوذ بالفرار من جواره وتختفي بعيدا عن نظراته التي تحرقها لأنها مذنبة
تابعها بنظراته وهو جامدا مكانه حتى اختفى ظلها نهائيا من أمامه ففك ربطة عنقه وتراجع بمقعده ودفع يداه الاثنان بشعره وهو يحاول أن يستوعب ما فعله ولا يصدق أن بدر المسيري تخلى عن مبادئه وقيمه وقبل امرأة لا يعرفها تحت ظلام الليل وأمطار الشتاء
رن هاتفه مرة أخرى ولكنه لم يفكر حتى بالنظر أو الرد
****
أغلقت باب الشقة وظلت واقفة تستند عليه بظهرها لحظة لتلتقط أنفاسها التي تسابقت مع بعضها البعض لدرجة جعلتها تتألم ورغم ملابسها المبللة وشعرها الملتصق بوجهها والذي تساقطت المياه من خصلاته إلا أنها كانت كالمخدرة ولا تشعر بأي شيء
ضياع..
تحركت بخطوات بطيئة إلى أقرب مقعد وتركت جسدها ينهار عليه في صمت وكأنها لا تشعر بأي برودة من تلك التي سرت بجسدها وإنما تملكتها الأفكار والأسئلة 
هل حقا قبلها!؟ 
كيف فعل بها ذلك!؟
وكيف استسلمت له هكذا؟
ماذا يريد منها؟ بل كيف تسرب هكذا لحياتها وأصبح كالدماء تسري بعروقها وهي لا تقوى على دفعه بعيدا عنها؟
أغمضت عيونها وهي تسترجع لحظات اقتصتها من الحياة، لحظات كانت لا تشعر فيها سوى بأنها امرأة، امرأة على قيد الحياة فهي لم تمنح أي رجل من قبل نظرة رضا أو تقبلت الغزل من أي واحد مر بحياتها إلا هو
متى اخترقها؟ كيف صرعها بلا حرب؟ 
رن هاتفها ليفزعها ويخبرها أنها عادت للواقع، أخرجت الهاتف من حقيبتها التي كانت ملتصقة بها كملابسها لترى اسم محمود فلم تفكر وهي ترد "مرحبا محمود" 
أجابها بتردد "أسيل أين أنتِ؟"
نبرة صوته جعلتها تعتدل وهي ترد "بالبيت محمود لماذا؟ ما الذي حدث؟"
صمت قابلها للحظة حتى عاد يقول "ما الذي حدث اليوم أسيل؟ بذلك المطعم؟ أسيل صورك معه تملأ كل مواقع التواصل والشائعات تزداد بشكل لن يعجبك"
أغمضت عيونها وهي تتذكر ما حدث بالمطعم وكلمات الرجال عن علاقتهم وهي لم تجد وقت لتفكر فيما يمكن أن يحدث ولكن ها هو يحدث
قالت بلا معرفة بما تقول "كنا، محمود أنت تعلم أننا كنا نبحث عن حل، محمود أنت لا تصدق ما قيل عني، محمود أنا.!"
ولم تكمل وتوقفت الكلمات بجوفها فهي لن تدفع عنها تهمة ليست حقيقية ولكنها سمعته يقول "أنا آسف أسيل ولكن أحمد بيه.." 
ولم يكمل وهي لم ترد وقد فهمت كلماته وسمعته يتنفس بقوة قبل أن يكمل "أنا حقا آسف أسيل، ولكن الموضوع أكبر مني ومن أي كلمات يمكن أن أدافع بها عنك، سأرسل إليك كل ما يخصك" 
سقط الهاتف من يدها وظلت صامتة، هم حتى لا يرغبون بأن تذهب لتأخذ ما يخصها
لم تتحرك من مكانها وكل حياتها تمر أمامها ولكنها فجأة أدركت أنه حياتها كانت نقية جدا بلا أي كبوة بها حتى تلك الليلة، كل شيء انهار بلحظة ضعف
برد.. وحدة!؟
نعم وحدة، لكن ليست نفس الوحدة التي كانت تعرفها بل أخرى قاسية وقاسية جدا 
لأول مرة تحرقها نيران الوحدة حتى تفحمت كل ذكرياتها التي امتلكتها سنوات كانت تحتمي خلفها ما بين ضحكات أمها وحنان والدها، ما زالت أصواتهم ترتج بين تلك الجدران حتى أنها كانت موسيقاها التي تنام وتصحو عليها لكن الآن
لا شيء.. 
صمت الجدران مؤلم
ماما.. نداء صامت مزقها لنصفين رافضا أن ينطلق على لسانها، أنا بحاجة ماسة إليك
ماما.. آه ماما أنا متعبة، تائهة!! 
أنا أكره الموت.. 
هو الحرمان، البرودة، الوحدة
أنا أكره الموت 
هو الضعف الذي يتركه لنا بعد أن يسرق منا أحبابنا، آه أنا بحاجة لكما لم تركتماني وحدي؟
لم يجيبها غير صمت الجدران مرة أخرى وابتلع معه كل الأمان الذي كانت توهم نفسها أنها تلتف به، رحلت الرفقة والهدوء واستقر الألم ملكا متوجا من اليوم على عرش حياتها 
انزعيه من عرشه إن أمكنك
****
عاد إلى قصره بلا تفكير بالذهاب لأي مكان، أوقف السيارة خلف تلك السيارة التي يعرفها، تراجع بمقعده وهو يغمض عيونه
بحق الله ليس اليوم
لم لا يتركوه بحاله؟ حياته ولا يستطيع أن يعيشها بحرية، قيود تلتف حول عنقه بلا قدرة على تحرير نفسه منها 
فقط اليوم، الليلة، بين ذراعيك يا امرأة تحررت وما أن ابتعدت حتى عدت للقيد
فتح عيونه وهو يحدق بالسيارة مدركا أن عليه الاستعداد لمواجهة هو لا يرغب بها الآن، هو بالأساس لا يرغب برؤية أحد، فقط أن يكون وحده بلا أي وجوه من حوله لكن هذا هو المستحيل، هذه هي حياته وليس بالإمكان تبديلها.. 
أخذت منه ماري جاكته المبلل وقالت وهي ترى ملامحه المتجهمة "ينتظرك بالمكتب منذ ساعتان" 
هز رأسه وقد استعاد بدر المسيري وقال "نصف ساعة وأعدي لي الحمام من فضلك" 
تحرك فقالت "العشاء!؟" 
قال وهو يبتعد "تناولته ماري، فقط أريد قهوة قوية من فضلك" 
كادت تعترض ولكنه ابتعد إلى مكتبه وهو يستعد للمواجهة عندما فتح الباب ودخل ليرى رجلا بنفس قوامه الفاره ولكن أكثر نحافة وله نفس لون البشرة ونفس العيون الزرقاء يواجه بها وهو يقول بعصبية
"وأخيراً عدت؟ متى كنت سترد على اتصالاتي أو اتصال زوجتك؟"
ألقى بجسده المتعب على أقرب مقعد وقال ببرود واضح "بالتأكيد عندما تسمح ظروفي كنت سأفعل" 
اقترب الرجل منه وقال بضيق واضح "هل يمكن أن أفهم ما الجنون الذي تفعله هذه الأيام؟ من تلك الفتاة بدر؟ وكيف تفعل بنفسك وزوجتك ذلك؟" 
لم يرد ولم ينظر حتى له وهو يخرج السجائر من بنطلونه وأشعل واحدة وقد دخلت ماري بالقهوة ثم خرجت فتراجع الرجل للحظة وهو يحدق به حتى صرخ به "متى عدت إلى التدخين؟"
نفخ الدخان بقوة وقال "بابا هل يمكن أن تتوقف عن طرح الأسئلة لأني لست بحالة تسمح لي بالإجابة؟"
وقف الرجل أمامه وأكمل غضبه بكلماته "بل عليك أن تجيب يا بدر، لم أترك زوجتي والأولاد وآتي هنا من أجل لا شيء، من تلك الفتاة؟ أهي نزوة لم تعيشها بالصغر فتفعلها الآن؟ هل نسيت زوجتك و.."
الغضب منطقة عاش عمره كله يتجنب الدخول بها ويدرب نفسه جيدا على التعامل معه وهو ناجح جدا بذلك لذا نهض فجأة وتحرك للمطفأة وأطفأ السيجارة وقال بلا أي معني بكلماته "زوجتي هي آخر ما يمكن أن أفكر به الآن فمن فضلك لا تتحدث معي بهذا الأمر وتلك الفتاة ليست نزوة فأنا لست ممن يفعل وأنت تعلم ذلك، وما حدث ليس أكثر من مبالغة زائدة عن اللازم افتعلتها الصحافة من أجل جني بعض الأموال على حساب سمعة بدر المسيري" 
ابتعد إلى مكتبه ولكن الأب قال بعصبية "وما فعلته تلك الفتاة بالأمس ماذا كان سببه؟ ولقائكم الليلة"
تناول القهوة وقال "شركة والدها ضاعت بسبب شركاتي وكان نتيجتها أن مات الرجل قهرا عليها وما فعلته هي كان مجرد انتقام لفتاة لا حول لها ولا قوة فقدت والدها بسببنا"
ابتعد الرجل دون أن يرد ثم عاد وقال متذكرا باقي السؤال "ووجودك معها الليلة بالمطعم؟"
أنهى القهوة وهو يرتد للذكريات القريبة وهو يغلف عليها حنايا عقله فهي له وحده، قال "كنت أحاول أن أمنحها تعويض عن ما حدث لوالدها ولكنها رفضت"
أشاح الرجل بيده وهو يقول بنبرة باردة "ربما أرادت أكثر، أنت بدر المسيري، صفقة رابحة بلا شك"
نظر إلى والده بغضب ولكنه قال ببرود مناقض وبنبرة تحذير "أنا لا تعجبني لغتك هذه فلا تبدأها معي"
وتحرك إلى الباب ولكن الرجل قال "انتظر هنا ما زلت أتحدث معك"
هو لا رغبة له بحديث وجدال وتحقيق لن يخضع له أكثر من ذلك لذا التفت له ورمقه بنظرة نارية وهو يرد "وأنا لا أريد أي حديث آخر، لقد انتهيت لأنك تصر بكل مرة على إثارة غضبي وأنا لا طاقة لي لأستنزفها معك الليلة فمن فضلك توقف وإلا لا يمكنني أن أضمن أن أظل بدر الذي أردته أنت وإنما شخص آخر لا تعرفه"
وتحرك خارجا دون حتى غلق الباب خلفه لكنه صفع باب جناحه بقوة خلفه معلنا للجميع أنه بمزاج لا يسمح بالاقتراب منه
غضبه نيران تحرق من سيقترب منه
نزع ربطة العنق من حول عنقه وقذفها بقوة بعيدا وهو يهتف "اللعنة، لم لا يتركني وشأني؟ لم أتعاقب به؟"
لم تكن مياه المطر ما تكوم على جبينه بل حبات العرق من الحريق المشتعل داخله من احتكاك الماضي بالحاضر، ليس من حقك أن تسرق حتى تلك اللحظات، أحاط وجهه بيداه وهو يشعر بألم، نفس الألم لا يتركه ولو حتى يوما واحدا ويزداد برؤية ذلك الرجل الذي كان يقتل داخله كل معاني الحياة وبما حدث معها أدرك أنه ما زال إنسان ينبض بالحياة
أبعد يداه وهو يراها أمامه بل ويكاد يشعر ببشرتها تحت أصابعها وشفاها الرقيقة بين شفتيه، أنفاسها الحارة كانت تبث الدفء بأوصاله، لكن عيونها الفزعة أسقطت كل شيء مهزوما تحت أقدامهم
لم أقصد سرقة كرامتك أسيل لكن أنت من سرق بدر مني وليس لدي دروع أحتمي خلفها منك
**** 
تجمد جسدها على المقعد وشعرت بالبرودة تسري بعروقها فقاومت ضعفها ونهضت إلى غرفتها وبصعوبة غيرت الملابس التي جفت عليها ودخلت الفراش وحاولت أن تنام ولكن بالطبع كانت الدموع تشاركها وسادتها وصورته لا تختفي من أمامها
الحيرة كانت تملأ رأسها والخوف من القادم من مصيرها مع المسيري الذي أصبح شيء لا يمكنها تجاهله، عملها الذي فقدته، حياتها التي انقلبت رأسا على عقب بسبب ما تناولته الميديا عنها، كلها أفكار منعت النوم من أن يقف على أبواب عيونها ولكن مع النهار أغلقت عيونها قليلاً فذهبت بالنوم
استيقظت فجأة على صوت الهاتف وأدركت أنها لم تنم سوى ساعتين. بصعوبة وصلت إلى الهاتف لكنه توقف ولكنها عرفت أنه محمود فلم تهتم لأن الأمر لم يعد هام 
الآن عليها أن تبحث عن حل لكل ما أصابها وقد تعقدت حياتها أكثر مما تخيلت هي مشكلتها وعليها مواجهتها وتحمل نتيجة أفعالها. عليها أن تدرك أنه لم يعد بإمكانها البقاء هنا، من الصباح سترى النفور بعيون من حولها، سينظرون إليها على أنها فتاة عابثة تسعى خلف الرجال والأموال لذا لابد أن ترحل وتجد مكان آخر 
ربما بيت عمتها بالشرقية مكان مناسب، والدها كان يخبرها دائما أنها إذا ضاقت بوجودها هنا عليها أن تعود إلى البيت الريفي الصغير بالبلد التي نشأ بها هو وهناك ستجد من يساندها لذا لم تفكر كثيرا

تعليقات



<>