
رواية كبرياء رجل الفصل الخامس5 بقلم داليا السيد
أطفال
كانت ميلانو مدينة سياحية رائعة لها تاريخ عظيم مع المستعمرين حتى استقلت بذاتها وأصبحت تابعة لمملكة إيطاليا ومن بعد المعجزة الاقتصادية وتغيرت الحياة بها وأصبحت مدينة مشهورة من نواحي كثيرة خاصة الازياء، حيث تتواجد بها أفضل المنتجات وهي تلى باريس في شهرة الموضة والأزياء وبها أشهر الماركات العالمية، كما اشتهرت بالمسارح العالمية وقد عزف بمسارحها أشهر العازفين، أما ثاني أكبر مقر للبورصة فكان بها لذا اتسعت المدينة للشركات العالمية وانفتح بها الاقتصاد
تحركت السيارة التي انتظرتهم بالمطار وسط المدينة التي أخذت عقلها فقال وهو يجلس بجوارها "الشركة تبتعد عن مقر شركاتي، هل تجيدين القيادة؟"
قالت بأسى واضح "لا، للأسف بابا كان يخاف علي من القيادة فلم يعلمني وسيارته كانت من ضمن الأشياء التي تم الحجز عليها"
أبعد وجهه وقال "حسنا ستكون هناك سيارة بسائق تحت تصرفك لأني لن يمكنني التواجد معك طوال الوقت"
حدقت به والدهشة تعود لها مع كل تصرف منه تجاها فقالت "ألا تظن أنك تبالغ في اهتمامك بي؟"
نظر إليها نظرات ذات معنى لم تفهمه وقال "حقا!؟ وماذا عن أني أحضرتك من بلدك إلى بلد لا تعرفين بها شيء وبدون إمكانيات لمواجهة الحياة بها؟ ألا يمثل لك ذلك سبب للاهتمام؟"
شعرت بالخجل فارتبكت وهي تخفي نظراتها عنه وقالت "الكثير من الشباب يهاجر للخارج ويتعامل مع نفسه"
حدق بعيونها ثم قال بضيق "انا لا أصدقك حقا! هل ترغبين بأن أتركك وحدك؟ الأمر سهل أسيل بالنسبة لي ولو كان يسعدك فسأفعله، لم أظن أن ما أفعله سيشعرك بالضيق"
أدركت أنها أخطأت فأسرعت تقول "أنا آسفة لم أقصد ولكن أنت تدفعني لذلك، هل لو لم أكن أنا نفس الشخص كنت ستفعل ذلك؟"
كان سؤال جريء منها مما جعله يواجه عيونها قبل أن يرد "ولكن هو أنت الآن ذلك الشخص وأنا لا أتعامل مع افتراضات أنا أتعامل مع واقع وهو أني من أحضرك هنا وعلي تقع مسؤوليتك وسأحاول بالمرات القادمة أن لا أبدوا مضجرا لك"
أدركت أنها أغضبته ورغم ذلك بدا غضبه هادئا أيضا وانتبهت إلى أن السيارة توقفت عندما فتح الباب السائق فتحركت هي إلى الخارج لترى القصر المهيب والحزين وسط ظلام الليل الحالك مما جعلها لا تراه جيدا
ظلت مكانها حتى وصل إليها فقالت "يبدو مخيفا"
قال وهو يتقدم للداخل "فقط بالليل لأن كل الأضواء ليست مضاءة، لا يوجد أحد بالقصر"
تسمرت نظراتها على أكتافه التي كانت أمامها كما توقفت عن الحركة فانتبه لها والتفت ليواجها وهو يقول "هناك خدم بالداخل أسيل وماري على وصول كما وأن بابا سيصل بالصباح ونحن لم نعد بمصر نحن بميلانو، هيا أسيل أنا حقا متعب ولي ثلاثة أيام لم أنم ولست بحال يسمح لي بالجدال"
شعرت بالضيق من طريقته وغضبه بات واضحا على كل ملامحه وبنبرة صوته وهي من المرات النادرة له فلم تجادل وتحركت أمامه إلى الداخل وتبعه السائق بالحقائب وانفتح الباب لاستقبالهم وقد وقف أحد الخدم باحترام أمامهم
تأملت المكان فبدا القصر أكثر جمالا مما كانت تتوقع، كلاسيكي وكل ما به يعود للعصور الوسطى، لم يمكنها مشاهدته وهو يقطع أفكارها ويقول بهدوء عاد إليه ولكن بإيطالية لم تفهمها
"البرتو، من فضلك ارسل الحقائب بغرفة الآنسة وأبلغ ماري أن توقظني مبكراً عندما تصل"
ثم عاد إليها وقال "الخدم يتحدثون الإيطالية لكنهم يجيدون الانجليزية وبالطبع ماري تجيد العربية كما تعرفين"
هزت رأسها فعاد يتحرك للسلم الكبير الذي واجهم وقال "أظن أنك بحاجة للراحة بعد رحلتنا سأرشدك إلى غرفتك فقد اخترتها بنفسي من أجلك فهي تشبهك"
اندهشت من كلماته وتبعته على السلم المستدير ولم تملك وقت لتتأمل المكان مرة أخرى من حولها وهي تصعد بجواره عندما انتهى السلم رأت ممر به غرف كثيرة فقالت بلا وعي "ألا أمثل عبأ عليك وعلى المكان؟"
أدار وجهه وقال ساخرا "تفعلين، خاصة والقصر به أكثر من عشرة غرف صالحة للاستخدام وغرفتك هي التي ستمثل عبأ"
توقف وفتح أحد الأبواب وهو لا يواجها ويكمل "أما أنا فقد مللت من إصرارك على إثارة غضبي بكلامك أتمنى أن تعجبك الغرفة، اضغطي على الزر بجانب فراشك فيصلك احد الخدم، أراك بالصباح، طابت ليلتك"
تحرك مبتعدا دون أن يضيف كلمة أخرى وهو يشعر بتعب وصداع وألم لا يمكنه التصريح به ولكنها نادته بجرأة غريبة "بدر"
توقف بمكانه وهو يسمع اسمه منها لأول مرة غير مقترن بأستاذ أو بيه، التفت إليها وقد أعجبه اسمه حقا من بين شفتيها وبتلك الرقة والنعومة وكأنه لم يسمعه من أحد من قبل، تورد وجهها من نظرته الغير بريئة وهي تقول "شكرا لكل ما فعلته معي"
هز رأسه ولم يرد واكتفى بكلماتها بل اكتفى بأنها رفعت أول حاجز بينهم فاستدار مبتعدا وقد كانت غرفته بعيدة عن غرفتها بما يكفي ليمنحها شعور كاذب بالأمان.
لم تنل قدر كافي من النوم فهي لم تعتاد المكان بعد وإحساسها أنها هي وهو وحدهما جعلها تشعر بعدم الراحة ولكنها تعلم أنه ليس ذلك الرجل بل هي متأكدة من أن بوجوده هي عرفت الأمان
ما أن انتشر نور الصباح حتى نهضت واغتسلت وغيرت ملابسها ووقفت أمام تلك النافذة الكبيرة لتراها تطل على منحدر جبلي مرتفع يسكن القصر على قمته ويغطى ذلك المنحدر سجادة خضراء من الخضرة الخصبة وبنهاية المنحدر مساحة كبيرة من الأرض امتلأت ببيوت ملونة بألوان زاهية وجميلة وكلها مغطاة بفروع الزرع والزهور الملونة، كان المنظر أكثر من رائع وبنهايتهم بدا شاطئ البحر من بعيد صغيرا جدا مما أشعرها بالراحة أكثر ورحل الانطباع الذي أخذها بالليل عن القصر وانتبهت إلى حديقة القصر الواسعة والتماثيل القديمة المتناثرة هنا وهناك و..
دق الباب فالتفتت وأذنت لترى ماري تبتسم وتقول "صباح الخير آنسة، الإفطار بعد نصف ساعة"
بادلتها الابتسامة وهي تقترب من الباب وتقول "صباح الخير مدام ماري، شكرا ولكن أنا لا أعرف الطريق لأي مكان"
لم ترد ماري لأن صوته أوقفها وهو يقول "يمكنني إرشادك، شكرا ماري"
ابتسمت ماري وابتعدت بينما نظرت هي إليه وقد بدا منتعشا بملابسه المعتادة والتي تزيده أناقة ووسامة، شعره المبلل كان مصفف بعناية وعطره فاح حوله، عيونه التي تألق لونها مع ضوء الصباح جذب عيونها بشدة وهو يحدق بها ويقول
"صباح الخير أتمنى أن تكوني ارتحت جيدا"
أبعدت عيونها كي لا يرى مدى تأثيره عليها فهي تفقد نفسها بمجرد أن تسقط نظراته عليها، هدأت أنفاسها وقالت "نعم شكرا، هل سنذهب الشركة اليوم؟"
هز رأسه بالإيجاب وقال "نعم، ديفيد يريد الرحيل بأقرب وقت لذا لابد أن يخبرك بكل صغيرة وكبيرة بالمكان، هل ننزل؟"
انتبهت إلى أنه يقف خارج غرفتها فاستجابت وهي تتحرك إليه وترد "نعم بالطبع"
تحرك معها وبدا القصر مختلفا تحت أشعة الشمس وكبيرا جدا أكثر مما تخيلت ومزين بأشياء أثرية فاخرة جعلتها لا ترفع عيونها عنها فقال وهو يلاحظ نظراتها "هو ميراث أمي من والدها فأمي إيطالية الأصل تزوجها أبي بعد أن تعرف عليها هنا بأحد زياراته العملية وطلبها للزواج فوافقت ولكن جدي رفض زواجهم فعاد أبي بها إلى مصر حيث ولدت أنا وباسم أخي وعشنا هناك عشر سنوات"
كانا قد وصلا إلى غرفة كبيرة اعتقدت أنها غرفة الجلوس، أغلق الباب بعد أن دخلت فتأملت المكان الجميل واتجه إلى مقعد وثير، جلس وهو يتابعها وهي تتقدم لتجلس بجواره وقالت "كنت صغيرا؟"
هز رأسه وقال "نعم كنت ابن أمي المفضل على خلاف باسم وتغيرت الأحوال حيث مرضت جدتي وأرسلوا لأمي لتعود فعدنا إلى هنا جميعا وبعد وصولنا بأيام ماتت جدتي وتعلق جدي بي جدا مما جعله يسمح لنا بالبقاء بعض الوقت ولأنني كما كان يقول أتعلم بسرعة وأفهمه جيدا لأن أمي علمتني الإيطالية فقد كنت رفيقه بكل شيء، الأرض والشركات وكل شيء، وقتها كنت سعيد جدا وبدأت أكمل دراستي هنا ولكن فجأة تغير كل شيء و"
سمعا صوت سيارة فنهض برشاقة ولكن بنفس الخطى الثابتة وتحرك إلى النافذة لحظة قبل أن يقول "لقد وصلوا"
نهضت وهو يلتفت إليها وينظر بعيونها فقالت بتساؤل "من هم؟"
لم يرد للحظة ثم فجأة انفتح الباب واندفع طفل صغير خمنت أنه بالرابعة. تجولت نظراته بالمكان وكأنه كان يبحث عن شيء أو عن أحد قبل أن يسرع إلى بدر ويلقي نفسه بأحضانه وهو يقول بطريقة أدهشتها
"لم أصدق أنك عدت"
حمله بدر بحنان وقبله وهو يقول "أخبرتك أني لن أتأخر دعنا نستقبل باسل أخيك"
ما كاد يتحرك وهي تلتفت تتبعه حتى رأت رجل يشبه بدر جدا ولكن بالطبع أكبر سنا عرفته من الصورة التي رأتها بمصر، والد بدر..
كان الرجل يدفع كرسي متحرك وعليه طفل آخر يكبر الطفل الأول وارتجف قلبها من مظهر الطفل الحزين وبدا شبيها بالطفل الأول ولم تفهم شيء وكأنها تائهة في بحر عميق ولا ترى شاطئ قريب
اقترب بدر من المقعد المتحرك وأفلت الطفل الأول من ذراعيه وهو يقول "كيف حالك يا بطل؟"
كانت نظرات الطفل جافة ويملأها حزن عميق وقد كان يشبه أخيه جدا، قال الطفل "بخير، متى عدت؟"
لم يبتعد بدر من أمامه وهو يسقط نظراته عليه وقال "أمس ليلا أردت أن أكون باستقبالك اليوم بعد رحلتك، هل كانت مثيرة؟"
هز رأسه بالنفي وقال بقسوة تتنافى مع سنوات عمره القليلة "لا، تعلم أني لم أكن أريد الذهاب ولا يمكنكم خداعي لأني أعلم أنها لم تكن رحلة وإنما زيارة لتلك المشفى، أنا لا أريد ذلك مرة أخرى"
تبادل بدر النظرات مع والده قبل أن يبتعد الأخير ويقول بدر "لابد أن نفعل باسل من أجل صحتك وسلامتك"
اقترب الطفل الآخر منها دون أن تنتبه وتفاجأت به يقول "من أنتِ؟"
نظرت إليه بشدة وعيونه السوداء تحدق بها واحمر وجهها وارتبكت وهي لا تعرف ماذا تقول أو تفعل ولكن بدر تدخل وقال "أسيل، ضيفتي من مصر يا براء، ستبقى معنا قليلا حتى يجهز بيتها ثم سترحل، أسيل هذا براء وهذا باسل أخوه، وهذا كمال المسيري والدي"
ابتسم الطفل لها وقال "أنتِ جميلة هل أدعوك أسيل؟"
تابعت الطفل وابتسمت له بل وانحنت عليه وقالت "بالطبع وأنا سأدعوك براء"
هز الطفل رأسه وقال "هل تعرفين كيف تلعبين لعبة...؟"
هزت رأسها وتذكرت أنها لعبة عالمية كانت تشارك الأولاد بالحضانة في القرية فيها فقالت "نعم بالتأكيد أعرفها، هل تحبها؟"
أسرع الطفل يجيب "نعم وباسل أيضا، ولكن منذ الحادث وهو يرفض اللعب معي فهل تفعلين أنتِ؟"
ردت بحماس "بالتأكيد"
حدق كمال بها بشدة قبل أن تتغير نظراته ويقول "ألست أنت تلك الفتاة التي.."
قاطعه بدر محاولا أن يبدو هادئا "بابا!؟ من فضلك دعنا نتناول الإفطار بالتأكيد الأولاد تشعر بالجوع"
التفت كمال إليه بغضب بينما ساد جو من التوتر بالمكان وهي تعتدل وترحل ابتسامتها وغطى الصمت على المكان إلى أن قال باسل "أريد أن أذهب إلى غرفتي"
قال بدر بنفس الغضب المغلف بالهدوء "ليس قبل أن تتناول إفطارك لا مجال للإخلال بالنظام باسل وأنت تعلم ذلك"
صمت الطفل بمقعده بينما قال كمال "نعم باسل لابد من الالتزام بالنظام كما تعلمت"
أجاب باسل بحدة "لا أريد شيء، لماذا لا تتركوني أذهب إلى غرفتي أنا لا أريد أي طعام"
تعصب بدر وقال بنبرة حازمة "باسل.."
شد براء بيده على يدها وكأنه يريدها أن تتدخل فنظرت إليه ووجدت نفسها تنطق قاطعة كلمات بدر وهي لا تعلم لماذا تحدثت أو تدخلت أصلا "ربما يمكنه تناول الطعام بغرفته"
اتجهت كل الانظار إليها وكأن الجميع يندهش من تدخلها عدا براء الذي أسرع يقول "نعم وأنا معه، ما رأيك باسل؟"
لم ينظر باسل إلى أحد وهو يقول "يمكنك البقاء معهم براء سأفعل وحدي"
التفت بدر لها بنظرات كادت تحرقها بمكانها فليس من حق أحد خرق نظم حياته ولكن معها كل شيء اختلف خاصة وهي تنظر له بتلك النظرة التي امتلأت بالرجاء ألا يرفض فابتعد وقد فهم نظراتها
بينما التفت كمال إلى الطفل ولكن براء قال "أو ربما أسيل تساعدنا هل يمكنك ذلك أسيل؟"
عادت نظرات كمال إليها مرة أخرى والغضب يزداد داخله ولكنه كان يمنع نفسه من الاندفاع ورائه من أجل الأطفال
هي لم ترى كل ذلك فقط تابعت باسل وقالت "لا أعتقد أن باسل بحاجة إلى المساعدة لكن ربما أنت براء وأنا لا مانع لدي من مساعدتك"
ابتسم براء واتجه إلى بدر وقال "داد هل تسمح لنا؟"
وتوقف العالم من حولها..
داد!؟
ارتج جسدها من الكلمة، انخنقت الأنفاس داخل صدرها بل وشعرت وكأن قلبها توقف فجأة عن الدق وستفقد حياتها الآن بتلك اللحظة
ترنحت وكأن قطار ضربها بلا رحمة ليوقظها من الحلم الجميل ويدفعها للواقع البغيض
أولاده؟ حقا!؟ هل يسخرون منها؟ هل هي على خشبة المسرح بمسرحية هزلية فاشلة تدعو للرثاء؟
لا بل هو الواقع، مرة أخرى لقد انتهى الحلم، انتهى ومات متكسرا على أرض الحقيقة التي صعقتها الآن وهي التي أغمضت عينيها من قبل كي لا تراها ولكن لم يعد بإمكانها أن تكمل، هي هنا حقا وعلى أرض صلبة وحقيقية
زوجة وأولاد فماذا تفعل هي هنا؟
لم ينظر لبراء بل وجه نظراته لها ولم يعرف كيف ستواجه الأمر وقد أراد أن يخبرها هو ولكنه لم يستطع وظن أن مواجهة الأمر بتلك الطريقة أفضل ولكن...
شعر بيد براء تجذب يده فانتبه إليه منتظرا منه الرد فقال "ربما أسيل لا ترغب بذلك براء"
صوته جعلها تفيق من دوامتها وتتوقف عن اللف حول نفسها واستوعبت الأمر وهي تحاول تذكر ما سقط منها بالمنتصف ولم تراه وهو ينظر إليها وقد شحب وجهها ولكن صوت كمال الغاضب اندفع ليوقف ما يحدث
"لا دخل لها بأحفادي بدر هل تسمعني؟"
التفت بدر إليه وقال بنفس طريقته الهادئة "بابا من فضلك"
كمال كان يجز على أسنانه وهو يقول "لن تتخطاني بدر هم أحفادي"
تجاهله بدر وهو يرد بحزم "وهم أولادي"
وتحرك إلى باسل حتى توقف أمامه وقال بحزم "هل ترغب بالأمر باسل؟ يمكنني أن أسمح لك هذه المرة فقط بسبب تعب السفر"
هز باسل رأسه دون النظر لوالده فنظر بدر إليها وهي تترنح كورقة شجر ذابلة تكاد لا تتماسك على غصنها الواهن ولكن عيونه ونظراته أغضبتها، غشه وخداعه اندفعوا بقوة غريبة داخلها جعلتها تعرف كيف تتماسك وهو يتراجع معجبا بشجاعتها في مواجهة الأمر ليقول
"حسنا، أين كارولين؟ ألم تأت معكم؟"
ابتعد الأب وهو يشيح بيده بلا اهتمام ولم تفكر أسيل بنوع العلاقة التي بين الرجلين فلا مكان بعقلها الآن لذلك يكفيها قلبها الدامي
بينما أجاب براء "لا، جدي كمال غضب منها وطردها"
لم يتناقش بدر وإن بدا الغضب بعيونه ولكنه تراجع إلى ركن ما وضغط على زر جانبي وسرعان ما دخل أحد الخدم فقال بإيطالية لم تفهمها "دع ماري تعد إفطار للأولاد والآنسة بغرفة باسل"
انحنى الخادم باحترام وتحرك بدر يقود المقعد بابنه وهو ينظر إليها وهي جامدة بلا حركة ولكن يد براء أمسكت يدها وأعادتها للحياة وهو يجذبها إليهم فتحركت مع الطفل وهي لا تفهم ماذا يحدث حولها؟
كانت غرفة الطفل بجوار الغرفة التي كانوا بها ويبدو أنها حديثة الاعداد، ما أن دخل الجميع حتى تحرك باسل مبتعدا بكرسيه وتوقفت هي على مدخل الغرفة وتوقف بدر بجوارها قبل أن يلتفت إليها ويقول
"أنتظرك بالمكتب بعد أن تنتهي، لابد أن نذهب للشركة اليوم، أعتذر عن هذه الفوضى"
ثم تحرك خارجا دون أن يترك لها أي مجال للتساؤل أو البحث عن إجابات
أعتذر!؟ هل الاعتذار سيمحو ما كان؟ هل سيوقف ذلك الألم الذي لا يتوقف داخل قلبها؟ دع اعتذارك لك فهو لا يخترق الجدران ولا يداوي الآلام..
****
التفت كمال إليه بغضب وقال "ماذا تفعل هذه الفتاة هنا بدر؟ هل جننت لتأتي بها لبيتك بين زوجتك وأولادك؟"
واجه بدر وقال بنفس الهدوء الذي لا يتركه إلا قليلا مما يتعارض مع ما كان داخله من غضب لا يمكن لأحد أن يدركه "لا تخبرني ماذا أفعل من عدمه لأنك تعلم أني لن أسمعك، يكفيني ما نالني منك"
نظر الرجل إليه بشدة وهو يعلم أنه لن ينال منه سوى لوم على الماضي ولن يتقدم معه خطوة للأمام
أبعد عيونه وقال "لن تحملني أفعال جديدة الآن، أنا والدك ولابد أن.."
قاطعه بشدة "لقد انتهينا من هذا الأمر منذ سنوات أليس كذلك؟ لا داع إذن لإثارة الذكريات التي لا يرغب أيا منا فيها ولا فائدة منها"
صمت الرجلان بينما دخلت ماري لتعلن عن الإفطار وهز الاثنان رأسهما فخرجت، أشعل بدر سيجارة فاقترب الرجل منه وقال "كريستوفر وزوجتي سيصلون آخر الاسبوع ومعهم سلمى"
التفت بدر إليه ولم تتغير معالم وجهه، نفخ دخان السجائر وقال "لا أريد أن أسمع عنها شيء ومن الأفضل أن تجد لها بيت آخر غير هنا"
تراجع كمال بدهشة وقال "كيف ذلك وأنت زوجها وأولادها هنا؟"
نظر بدر إليه وقال "ما زلت تقول زوجها؟ هل تصدق نفسك؟ لا يوجد أحد بميلانو لا يعرف بكرهي لها والذي ازداد بعد ما حدث"
ابتعد كمال وقال "تعلم أن الأمر من أجل الأولاد فهي أمهم"
قال بدون تردد "ليس بعد ما أصابهم بسببها، لا تجعلني أتصرف بشكل غير مناسب لأنك فقط لا تحب أن تخسر والدها، ميلينا بالأصل ايطالية ولن تكون مصرية لمجرد أنكم غيرتم اسمها إلى سلمى، ستظل كما هي"
قال الأب "كما هي مشاعرها لم تتغير تجاهك يا بدر وهو ما دفعها لكل ذلك"
ابتعد أكثر والحنق بدا على ملامحه وهو يكره ذلك الحديث الذي يذكره بسلاسل الحديد التي تقيده وقال "لا يمكنك أن تتحدث عن المشاعر مع امرأة لا تعرف عنها أي شيء"
اتجه الأب إليه وقال "لن تبعدها عن أولادها أنت تعلم أن الأولاد.."
قاطعه بحدة واضحة "بل أنت تعلم ومتأكد أنها لا تصلح لأن تكون أم والأولاد لا ترغب بها من الأساس ولولا ماريان زوجتك وأنت لما وجد الأطفال من يرعاهم"
حدق به الرجل بشدة ثم قال "وحقها بالقصر والأملاك؟ لا يمكنك أن تنسى كل ذلك"
ابتعد وقال بلا رمشة جفن "تعلم أن الأمر سهل بالنسبة لي ولكن أنا لا أحب الطرق الغير شرعية لذا حاول أن تجد حل"
ظل الرجل ينظر لأكتاف ابنه التي تواجه وهو يدرك أن طريق سلمى معه سد فقال "وأسيل هي الحل؟"
لم يلتفت لمواجهته فتصرفاته ليست محل للنقاش وهو ما قاله "لا تخلط الأمور، أسيل لا علاقة لها بذلك"
تحرك ليقف بجواره ومنحه نظراته وهو يكمل "وما سبب وجودها هنا؟ هل تريدها؟"
التفت له ونظراته تقدح بغضب لم يوقفه وهو يقول "حذرتك من ذلك من قبل وسأحذرك مرة أخرى لا شأن لك بأسيل ولا شأن لك بحياتي من الأساس، لقد اكتفيت"
****
بالطبع كان التعامل مع براء سهل وممتع، أما باسل فكان الأمر يحتاج إلى صبر وخبرة خاصة وقد بدا أن الأمر ما زال جديد عليه، عرضت عليه المساعدة في تناول الطعام ولكنه رفض بالطبع وقد أدركت أن طفل بالسادسة لا يحتاج إلى مساعدة وإنما ما لاحظته هو افتقاد الولدان إلى الحنان
دق الباب ورأت ماري تقول "بدر بيه يتعجلك يا آنسة"
هزت رأسها وهي تعلم أنها عائدة له لا محالة، نهضت بينما قال براء بلهفة واضحة "هل ستعودين مرة أخرى أسيل؟"
ابتسمت وهي تربت على وجهه البريء، لم تشأ منحه وعود قد لا يمكنها الوفاء بها فهي لا تعلم ماذا ستفعل مع بدر بعد ما واجهته معه اليوم لذا حاولت التهرب وهي تقول "لا أعلم كيف ستكون ظروف العمل براء"
أحنى الطفل رأسه وقال "معك حق وربما جدي يرفض وجودك فقد بدا غاضبا"
قاطعه باسل "براء لا يجوز التحدث هكذا عن جدك"
وافقته وقد بدا بنفس صرامة بدر لكن الحزن أكثر "أخيك على حق، هيا أكمل ألعابك وساعد أخيك"
****
ركبت بجواره بالسيارة وأبعدت وجهها عن مواجهته بينما انطلق هو بالسيارة بسرعة لم تهمها وقد تحرر ذهنها الآن وعادت لما سقط بينهم وكل ما عرفته وشعرت بالغضب يكتنفها وقبل أن تتحدث سمعته يقول "أعلم أن لديك العديد من التساؤلات وقد كنت أنوي أن أجيبها بالصباح قبل وصولهم ولكن لم أملك وقت لأفعل، الآن أيضا لا وقت لدينا لأي تفسير ولكن أعدك أن أفسر لك كل شيء عندما تسمح لنا الظروف"
حدقت بجانب وجهه الذي لم يواجها لحظة قبل أن تقول "وهل لديك إجابة عن ماذا أفعل أنا بحياتك وبيتك؟ ولا تخبرني عن العمل والشركة"
لف وجهه إليها لحظة قبل أن يقول "الشركة حقيقة وليست وهم أسيل ونحن بطريقنا إليها، أنا لم أغشك أو أخدعك ليس من طبعي ولا صفاتي، وجودك ببيتي أخبرتك سببه من قبل وهذا أيضا لم أكذب به"
أبعدت وجهها وتنفست بقوة سمعها وقد شعرت بنفس الألم بقلبها ولكن لم تتحدث ولم تتمتع بكل ما كانت تراه من المدينة الهائلة والمثيرة من حولها وقد طالبها بالانتظار على وعد بالتفسير ولكن أي تفسير هذا الذي يمكن أن يمنحه لها فيغير أي شيء من الواقع الأليم الذي تعيشه؟
أحلام..
كان ديفيد شخص مريح بنفس عمر بدر، وسيم وجذاب وليس به أي من صرامة بدر وأخلاقه ولكنه سريع بكل شيء، تركها بدر معه واستأذن بالذهاب بمجرد تعارفهم
تناول ديفيد شرح كل شيء لها وبدا سعيدا بوجودها وجيدا بالشرح وحاولت هي أن تستوعب كل تعليماته لضيق الوقت
تراجع ديفيد فجأة بالمقعد وهو يقول "إلى هنا ولابد أن نتوقف"
نظرت إليه بدهشة وتساؤل فنهض وقال "إنه موعد الغداء أسيل وأنا أمام الطعام أضعف مما تتصورين، هيا يا جميلتي دعيني أدعوك على الغداء بمكان قريب سينال إعجابك"
حاولت أن تعترض ولكنه لم يتركها إلا وهو يجذبها إلى سيارته ومنها إلى مطعم رائع وطلب لها الطعام وقال "والآن تفسير بسيط، فتاة مصرية بسيطة مثلك كيف حازت على ثقة رجل مثل بدر المسيري وهو تقريبا لا يثق بأحد سوى نفسه؟"
أخفضت وجهها وقالت "تصدقني لو أخبرتك أن لا إجابة عندي لسؤالك؟ أنا نفسي تساءلت نفس السؤال ولم أجد له إجابة"
ابتسم وأبعد وجهه لحظة ثم عاد وقال "بدر مر بأشياء كثيرة بحياته جعلته يتصرف بشكل غير مفهوم، صحيح أنه قلما يخطئ ولكن بالنهاية هي تصرفات غريبة ولا مبرر لها"
قالت "تعرفه جيدا؟"
نظر إليها وقال "لا أحد يعرف بدر المسيري جيدا، بوقت ما ظننت أني اعرفه ولكن مؤخرا لم أعد أفهمه وبصراحة سفري الدائم باعدنا، العمل فقط أصبح يربط بيننا بأوقات كثيرة لكن ليس أكثر من ذلك"
أخفضت وجهها والحيرة تتملكها وأسئلة ما زالت بلا إجابات تسبح ببحر أفكارها وهو لاحظ ذلك فعاد وقال "لم تلتقي بسلمى بعد أليس كذلك؟"
رفعت وجهها إليه بنظرات استفهام فقال "سلمى زوجته؟"
أبعدت عيونها وقلبها يدق بقوة مزعجة وهو يدخل بمنطقة خطرة مليئة بمنحدرات خطرة قد تلقى مصرعها بين أنقاضها
أجابت بلا روح بكلماتها "لا، على ما فهمت أنها ليست بالبلد"
هز رأسه ونظر بساعته وقال "نعم، الآن هيا لابد أن نعود ما زال أمامنا الكثير من العمل والوقت ضيق ولكنك سريعة التعلم أسيل وهذا شيء رائع"
انتهى اليوم على السابعة وقد شعرت بصداع يحطم رأسها ونزلت مع ديفيد لا تعرف لأين تذهب ولكنها رأت سيارته تقف فجأة أمامهم فابتسم ديفيد وقال "كان لابد أن أتوقع ذلك، لن تترك ضيفتك هكذا بأول يوم لها، أليس كذلك؟"
نزل واتجه إليهم ولاحظ وجهها الشاحب فنظر إلى ديفيد وقال "لا لم أكن لأفعل، هل انتهيت؟"
تحول ديفيد إلى الجدية وقال "تقريبا، غدا أو بعد الغد سأسلمها كل شيء فهي استوعبت الأمور بسهولة، عليك أن تساعدها على تعلم الإيطالية فهي بحاجة إليها"
هز رأسه ونظر إليها وقال "هل نذهب؟"
هزت رأسها ولم ترد ففتح لها باب السيارة فالتفتت إلى ديفيد وودعته قبل أن تركب
تحرك بالسيارة وقال "هل أنت بخير؟"
حاولت أن تبدو هادئة رغم أنها رغبت بأن تصيح بوجهه أنها لا تعرف عن الخير أي شيء ولكنها بدت على غير ما كانت وهي تقول "نعم"
نظر إليها بلا تصديق بسبب تجهم وجهها الشاحب وقال "هل ضايقك ديفيد أو"
واجهته وهي ترد بحدة "أخبرتك أني بخير، لم يضايقني أحد"
أبعد وجهه وفضل الاثنان الصمت على الحديث المثير للغضب إلى أن وصلا
كان كمال ينتظر على طاولة العشاء الطويلة والتي ذكرتها بتلك الموجودة بمصر لتدفعها للذكريات التي تركتها بمصر
وضع الخدم الطعام أمامهم وتلك الرفاهية لم تعتاد عليها ولا ترغب بها ولكنها فضلت الصمت، وتناول الثلاثة الطعام بلا أي حديث، فقط أجاب كمل عليه عندما سأله عن الأولاد بأنهم ناموا بموعد النوم وما أن انتهوا من الطعام حتى استأذنت هي بالذهاب إلى غرفتها فقد استنفذ اليوم كل طاقتها ولم تعد تقوى على أكثر من ذلك
لم تراه باقي أيام الأسبوع وعرفت أنه بألمانيا لإنهاء أعمال له هناك وإن كان يتصل للاطمئنان عليها وعلى العمل، توطدت علاقتها ببراء جدا ولكن باسل ما زال متحفزا معها حتى وهي تقرأ له تلك القصص التي كانت تبتاعها من أجله، كما لم تعد ترى كمال نهائيا بينما أصبح العمل بالشركة يأخذ كل اهتمامها وتركيزها وقد أجادته حقا وساعدتها الدورات التدريبية التي نالتها بمصر فقط كانت تتعثر باللغة طبعا
توقعت أن يأتي قبل نهاية الاسبوع ولكنه لم يفعل وهو بالفعل لم يتمكن من أن يفعل لانشغاله الدائم هناك ومع ذلك كان يصارع الوقت ليعود لها
الجمعة مساء كانت قد أنهت أعمالها بالشركة وقررت الذهاب عندما رأته يفتح باب مكتبها ويدخل وهو يقول بأدبه المعهود "مساء الخير، ظننت أنكِ لم تنتهي بعد"
نظرت إليه بحدة ورغم اشتياقها له إلا أنها لم تظهره له واختارت التحفظ بتعاملها معه وهي تبعد عيونها عنه وتجيب بفتور "لقد انتهيت وكنت على وشك الذهاب"
وقف أمام مكتبها وقال "هل العمل يسير جيدا؟"
قالت دون أن تواجه نظراته "نعم يمكنك مراجعته معي فأنت صاحب كل شيء"
وضع يده بجيوب بنطلونه قبل أن يقول "ليس الآن، هل نذهب لقد تأخر الوقت؟"
هزت رأسها وأيضا رفضت النظر له وهي ترد "نعم، ومن الجيد أنك عدت كنت أريد أن أتحدث معك"
ارفعي عيونك أسيل لأشد ما أرغب برؤيتهم حقا.. ولكنها لم تفعل..
ضاقت عيونه وهو يتابعها وهي تنهض فقال "تحدثي إذن"
أخفت نظراتها بأصابع يدها وهي تقول قبل أن تتحرك باتجاهه "كنت أريد أن أسألك عن البيت الذي وعدتني به، متى سأنتقل إليه؟"
ووقفت أمامه ولم تنظر أيضا لعيونه بل اصطدمت نظراتها على صدره وربطة عنقه وهي تعلم كم هي أقصر منه وكم هو ضخم حقا، ولكنها لا ترغب بالنظر بعيونه والاصطدام بما يهيمن عليها عندما يشملها بنظراته الحادة
لكن هو أسقط عيونه عليها منتظرا أن ترفع تلك الرموش الطويلة وتفرج عن تلك النظرات التي اشتاق لها وقد أتى من أجلهما، من المطار رأسا إليها، لم يفكر سوى بها وبرؤيتها وهو يدرك أنه جنون لكن ما الضرر من بعض الجنون الذي يعيده للحياة!؟
نفخ من عقابه الذي فرضته عليه بحرمانه من عيونها وقال "لقد أوشك العمل به على الانتهاء، هل ضايقك أحد بالقصر؟"
هزت رأسها وقالت بثقة مصطنعة "لا لم يكن هناك أحد سوى الأولاد وهم لا يمثلون أي ضيق بل بالعكس أنا أحبهم ولكن.."
ابتعدت من أمامه وقد تعلقت الكلمات بجوفها ولكنه أمسكها من ذراعها وأوقفها وهو يقول "أسيل انظري لي"
لم تفعل بل قاومت ضعفها فلم يفلتها وهو يقول برجاء "انظري لي أسيل من حقي أن تفعلي"
رفعت وجهها أخيرا له ونظراتها حائرة وهي تردد "حقك!؟"
تنفس وهو يحاول استعادة سيطرته الضائعة بوجودها وقال "كنت غائب اسبوع ومن حقي الاطمئنان عليك بغيابي، ماذا بكِ؟ أنت لست بخير وأنا ظننت أنك سعيدة بالتواجد هنا و.."
لم تبعد عيونها عنه ولم تبتعد ولكنها رددت "سعيدة؟ وكيف أكون ذلك وأنا امرأة غريبة ببيت رجل غريب تسببت يوما بفضيحة له واتهمت معه بعلاقة غير مشروعة وانتظر وصول زوجته لتصطدم بوجودي ببيتها ووالدك لا يطيق وجودي، وأنا لا أعرف بالأساس ماذا أفعل هنا؟ وتحدثني عن السعادة؟ أي سعادة التي تتحدث عنها بالضبط لأنني لا أعرف عنها شيء"
ثم أبعدت يده وابتعدت من أمامه فأدرك كلماتها، لم يوقفها وهي تبتعد وإنما قال "وماذا يعني ذلك؟"
لم تنظر إليه وهدوئه يثير جنونها ولكنها تماسكت وهي تجيب "يعني أن تخرجني من حياتك، وإن ارتبط الأمر بعملي هذا أعدني مصر وأنا.."
قاطعها بهدوء "لا دخل للعمل بالأمور الشخصية أسيل، ألا يمكنك أن تفصلي بينهما؟"
أشاحت بيدها بالهواء وهتفت بغضب "وكيف أفعل وهو يصب بالنهاية عندك؟"
حدق بعيونها الغاضبة وهو يحاول تحمل الألم الذي يشعر به بسبب الكره الذي لاح بعيونها تجاهه
هل يفقدها؟
ألا حق له بان يحلم بالسعادة؟
الأحلام عبث..
عاد يتنفس وهو لا يفقد هدوئه لآخر أنفاسه "كيف يمكنني أن أنتزع هذا الكره الذي بعيونك تجاهي؟"
شحب وجهها وهي تنصت لسؤاله وكأن القدر يسخر منها
كره.. وأين النقيض؟
الحب.. أيها الابله أنا أحبك
يتحدث عن الكره، أي كره الذي يتحدث عنه وهي مغرمة به وما تشعر به الآن هو غضب وغيرة، مرارة تكاد تمتص دمائها لآخر قطرة وتنهي حياتها
أبعدت وجهها وقالت بصوت واهن "فقط أخرجني من حياتك"
اقترب منها ووقف خلفها ولم يمنحها أي لمحة عما يجيش بصدره الآن من كلماتها قبل أن يسألها بصدق "هل هذا هو ما يمنحك الراحة والسعادة؟"
التفتت لتنظر إليه وتواجهه بقوة ولكن نظرة عيونه الغامضة أوقفتها وأضاعت الكلمات وأفقدتها التركيز، لحظة مضت وكلاهما يحدق بالآخر إلى أن ابتعد هو وقال "بمجرد الانتهاء من البيت سأوصلك بنفسي إليه، والآن هل نذهب؟"
أدركت أن الأمر انتهى بينهما فهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة وهي مرهقة لدرجة أنها لا تقوى على الجدال فقالت "حاضر"
قاد السيارة في صمت وما أن وصلا حتى كان والده بانتظاره وقد اندهشت لرؤيته اليوم وقد اختفى طوال الاسبوع
كان كمال هو أول من تحدث وبنبرة جادة "لابد أن نتحدث"
هز بدر رأسه بلا اعتراض، كمال بدا جادا ولا مجال للجدال بينما استأذنت هي بالذهاب ولكن كمال قال "وأنتِ أيضا"
توقفت لتواجه بنظرة استفهام وعدم فهم فقال بدر "حسنا لندخل المكتب لن نتحدث هنا"
نظر كمال إليها وهي تقف بجوار مكتب بدر الذي ابتعد إلى مائدة صغيرة عليها ابريق وأكواب من الصيني الفاخر صب بعض العصير بالأكواب ثم أتجه إليها ومنحها إياه فلم ترفض بينما قال كمال
“سلمى ستصل غدا بدر وأظن أن وجود تلك الفتاة هنا لن يكون جيدا"
ابتعد بدر وقال بهدوء أغضب والده وأثار دهشتها "أخبرتك من قبل أن الأمر لا يهمني"
تأملته بدهشة بينما قال كمال "ولكني أخبرتك أن ذلك ليس بالصواب على الأقل من أجل الأولاد أم أني لست على حق أيتها الفتاة التي لا أعلم ماذا تفعلين هنا وكيف تسمحين لنفسك بالتواجد بيننا بهذا الشكل مما يؤكد ما قيل عنكم من قبل؟"
شحب وجهها وابيضت شفتاها وهي تدرك أنه على حق، من حقه أن يظن بها كل الظنون وللأسف هو حتى لا يمنحها الفرصة لتدافع عن نفسها
فتحت فمها لترد ولكن بدر تحرك تجاهه ووقف أمامه وقال "أخبرتك من قبل ألا دخل لك بها ولا بما بيننا لأنه أمر يخصني أنا وهي، أما وجودها هنا فلن ينتهي إلا عندما أشاء ووجود أي أحد بالبيت هنا مرهون برغبتي وقد سبق وأخبرتك أن تجد حل لسلمى"
احمر وجه الرجل بينما قالت هي بارتباك "بدر من فضلك، أنا لابد أن أذهب من هنا والدك على صواب وأنا"
التفت إليها بنظرات نارية لتدخلها وقال "أنتِ تلتزمين الصمت أسيل، لا أحد هنا على صواب سواي، وأنا فقط من له الحق في التصرف"
غضبت منه مرة أخرى وقالت "هذا شأنك مع أهل بيتك ولكن أنا لا، لا حكم لك علي لذا أنا أريد أن أذهب وإن لم تفعل أنت سأرحل أنا دون معرفتك، أنا لم أعد أرغب بالبقاء هنا"
واشتعلت النيران...
كلاهم يتحدى الآخر بالكلمات، نظرات، سهام مشتعلة بالنيران تتبادل بينهما هما فقط
لكن ليس المسيري.. هو إذا أمر أجيب
تحرك تجاهها بخطواته التي تدهس الغضب أسفلها وتسحقه بلا رحمة حتى وقف أمامها ونظر لها من علياه مخترقا لمعان عيونها البنية بلا رحمة وكأنه يأمرها أن تتراجع أمامه وأن تترك له القيادة
تحدث بطريقة أخافتها "هل سمعتك جيدا؟ أنت تتحدثين عن الرحيل بدون إذني؟"
هل تخاطبني كجارية!؟ أنا لست عبدتك
رفعت وجهها بكرامة وتحد أمامه ونست إحساس الخوف الذي تخللها لأنها ترفض الاستسلام لأوامره بدون وجه حق، لن يأمر فيطاع
لفظت كلماتها بإصرار "نعم بدر، أنا أتحدث عن الرحيل طالما أنك ترفض الانصات لصوت العقل، ولن يمكنك إيقافي"
ونفخت بالنيران.. اشتعل اللهيب وارتفع حتى كاد يخرج من عيونه ويحرقها لكنه.. بدر المسيري يعرف متى ينفث نيرانه
قال ببرود قتلها "من الجيد أنك تعرفين شيء عن العقل كي تتحلي به الآن أسيل لأنك بحاجة له لأن من الواضح أنكِ لم تعرفي بعد من أنا، لا أحد يمكنه تحدي إرادتي ولو حدث يكون الثمن غالي فلا تدفعيني لذلك الطريق وابتعدي عن الأمر فأنتِ خارجه"
لا تهددني.. ألم تسمعني؟ أنا لست عبدتك
أنا السيد هنا وما يهمس به فمي أمر واجب النفاذ
التصق العناد بها أكثر وكأنه السلاح الذي ستواجه به غروره وكبريائه فلم تختار الاستسلام والتراجع وإنما بعض التحدي وهي تقول "توقف عن كلماتك هذه واسمع نفسك وأنت تلقي الأوامر، من هو الذي يسقط بالخارج بدر؟ أنا أساس الموضوع، أنا داخل الدائرة منذ بدأ الأمر بمصر ونهاية بوجودي هنا، أنت تعلم كما أعلم أنا أن كل ذلك خطأ ولا أعلم كيف وافقتك ربما لأني لم أكن أعلم أن لك زوجة وأولاد وأسرة، أنت لم تكن صادق معي بدر، لم تكن صادق معي لذا لا يمكنني أن أبقى أكثر من ذلك"
وارتفعت أجراس الخطر..
هي لن تذهب لمكان آخر بعيدا عني.. أنا الملك وهي مليكتي
لم يتوقف من كلماتها وإنما قال بنبرته الجليدية التي تجمد من يتحداه "لا تتحدثين عن الصدق الآن أسيل لأنك لا تعرفين أي شيء عن صدقي من عدمه، أنتِ فقط رأيت غلاف سميك يغلف حقيقتي ولا تعرفين ما يخفيه تحته فلا تتهميني بالكذب أو الخداع لأني لم أفعل أيا منهم ولن أفعل فقط طالبتك بالوقت كي أشرح وتفهمي كل شيء فلا تدفعيني لطريق آخر لأني لا أقبل التراجع عما أريد، ليس الآن أسيل، ليس أبدا؟"
تهديد!؟
الخوف يتسرب بين الشرايين يخنق التحدي ويرفسه لبعيد، لكن هل من السهل تخطي كل العراقيل كي تصبح هدفا سهلا يقتصه بلا معاناة؟ هي فقط من تعاني
هذا ليس عدل..
نفس السؤال؛ منذ متى كان هناك عدل بحياتها؟
تراجعت أمام قوة كلماته ولكنها لم تتوقف عن الرد وهي تقول "وماذا تريد من وجودي هنا بدر؟ أنا تعبت من عدم الإجابة ومن انتظار الوقت الذي يحلو لك للتفسير، أنت لا تدرك أني من يقف أمام فوهة المدفع وأنا من أتلقى الرصاصات"
لم يبعد عيونه عنها وهو يبحث عن إجابة ويدرك أنها على حق، عليه بإيجاد تفسيرات لها عن كل شيء فقط، لماذا هي هنا؟ هذا ما لن يجيبه لأن لا إجابة لديه
عندما لم يستطع أن يجيب ابتعد من أمامها وقال "لا شيء يمكن أن يصيبك وأنت بحمايتي أسيل لا تقللي من شأني هكذا"
أغمضت عيونها وهي تتنفس بعمق وتبحث عن رد وقالت "إذن أخبره أي رد يثنيه عن أفكاره عني"
لم ينظر لوالده وهو يدخن سيجاره ودخانها الذي يخفي نظراته ومن حوله رعاع ينتظرون قول الملك وهو اختار وقته ليجيب "أخبرتك كما أخبرته أن وجودك هنا من باب الضيافة إلى أن يتم الانتهاء من بيتك ووقتها سأحرص على نقلك بنفسي وأن تنالي به كل الراحة"
فتحت عيونها وأشاحت بيدها بيأس وقالت "بدأت أظن أن لا وجود لذلك البيت أصلا"
التفت إليها وقد ضربته بكبريائه وهذه إهانة تجعله لا يرحم لكن معها عليه أن يحافظ على هدوئه فلا يمكن أن يمس رقتها بقسوته، فقط لو تكف عن تحديه!؟
جز على أسنانه ليوقف جنون غضبه ويردعه داخل قفصه "توقفي أسيل أنا لا أكذب، ببداية الاسبوع يمكنك الانتقال إليه ووقتها سينتهي كل ذلك"
أثارت الأسد النائم ولكن الفريسة هي الليث فلن يمكنه أن يطاردها سيظل عابثا إلى أن تعيد له هدوئه..
قال كمال "لن تنتهي بدر لأن غدا ستبدأ المشاكل الحقيقية بوجود سلمى، أنا لن استطيع إيقاف وصولها إلى هنا وأنت تعلم ذلك فماذا سنخبر الجميع عن تلك الفتاة؟"
لم يعد هناك حد لتصاعد الحمم داخله بسبب الضغوط عندما تحرك لوالده وقال بحزم "لا يعنيني بشيء، قل ما تشاء"
اقترب والده منه وقال "لقد قيل أنكم كنتم على علاقة بدر و"
قاطعه بنفس الهدوء الزائف "فليكن، هي كذلك"
اتسعت عيونها وشهقت من كلماته وتراجع كمال بفزع بينما لم يرمش هو وهو يحدق بوالده الذي حاول أن يستوعب الأمر
عندما لم يعلق الرجل لم يمكنها هي أن تصمت على ما قال فهتفت بقوة "هي من؟ هي ماذا بدر؟ هل جننت!؟"
لم ينظر إليها وهو يقول بتحذير مختلط بالغضب "أخبرتك أن تحذري بكلامك أسيل لا أحب هذه الطريقة"
ثم التفت إليها فقالت تواجهه "وكيف أرد على جنونك هذا؟ أنا لست رفيقتك ولا يربط بيننا إلا العمل ولن أقبل بتلك الادعاءات الباطلة إنها سمعتي بدر ألا تفهم؟ سمعتي وشرفي ولن أقبل تصرفاتك هذه وسأرحل الآن ولن أبقى لحظة واحدة"
تحركت لتذهب حتى مرت بجواره فوجدت يده القوية تقبض عليها وهو يضغط على ذراعها بقوة وعيونه كعيون التنين تقدح نيران مشتعلة تهدد بتدمير كل ما سيقف بطريقه وهو ينفث كلماته بوجهها "تدفعيني لذلك أسيل، الإجبار، لن ترحلي ولن تكوني بمكان آخر غير هنا، معي هل تفهمين؟"
الحمم لا ترحم ولا تمنح فرصة للنجاة وهي سقطت بطريقها وها هي تحترق بلهيبها فلم تستطيع الفرار
تدخل كمال بغضب "توقف بدر، هي على حق، لابد أن تتركها فلا صفة لوجودها هنا"
ظل ينظر بعيونها بقوة محاولا إيقاف نيرانه عند هذا الحد ولكن بطريقته هو وبالمسار الذي يرغب به لذا ضاقت عيونه على وجهها الشاحب من الغضب وجسدها الذي يرتجف تحت قبضته ونفث غضبه
"سأجعل لها صفة إذن، وصفة لن يمكن لأحد معها أن يبعدها عن هنا لحظة واحدة"
ارتجف جسدها أكثر بين يده وأدركت أنها هالكة، هل أخطأت باختيار الأسد ملك على قلبها؟
هل سقطت بفخه والآن حان وقت وجبته؟
الحب وهم؟
سراب؟
ماذا سيفعل بها؟ هي لا تعني له سوى عقبة أتى بها هنا والآن عليه إزالتها بلا رحمة
لم ترمش أمام احتراق عيونه، كلاهم يبدي القوة منتظرا تراجع خصمه وهي من هتفت أولا كي لا يلقيها بأمعائه ويهضمها بلا رحمة
"اتركني بدر أنا أريد أن أذهب، لا مكان لي هنا، فقط دعني أعود من حيث أتيت"
ولكن بدلا من أن يلبي رجائها وهو لا يصدق أنها ترغب بتركه، لن تفر أنثاه من عرينه، هي له ولا تراجع عن ذلك مهما كلفه الأمر، هو يعلم بأنها تريده كما يريدها فقط تلك العوائق تحيل دون وضع الرغبات موضع التنفيذ لذا لا أحد سيذهب لأي مكان
شد من قبضته عليها وقربها منه حتى شعرت بأنفاسه تهب على وجهها فتلدغ بشرتها الرقيقة وتخبرها كم هو غاضب وغاضب جدا لكن بكبرياء الأسد خاصة عندما قال بثبات "أخبرتك أنك لن تذهبي لأي مكان، لن تذهبي أسيل لأني لن أتركك فتوقفي عن أن تتحديني"
عاد كمال للتدخل ربما يوقف الحرب الدائرة أمامه "بدر، ماذا أصابك؟ ألا تعقل الأمور كعادتك؟ تلك الفتاة وجودها هنا سيهد البيت على الجميع وأولهم الأولاد"
لم يبعد عيونه عنها ولم يدع آذانه تسمع كلمات كمال لأنها لا تعجبه، فقط سألها "أسيل هل تتزوجيني؟"