رواية بعينيك اسير
الفصل الثالث والاربعون43
بقلم شهد الشوري
دخلت ميان إلى مكتب فارس بابتسامة عريضة سرعان ما تبددت عندما وقع بصرها على سفيان يجلس في زاوية المكتب...وجهه شاحب وعيناه محمرتان، وآثار الدموع واضحة على وجنتيه !!
لم تصدق ميان ما تراه كيف يمكن أن يجتمع فارس و سفيان في مكان واحد دون أن يسود بينهما أي توتر !!
الأغرب من ذلك، هو حال سفيان الحزين والمكسور !!
نظرت إلى فارس الذي كان يحدق في سفيان بعينين مليئتين بالتأثر حينها ازدادت حيرة ميان و قلقها
فأغلقت الباب خلفها ببطء و تقدمت بخطوات حذرة قبل أن تسأل بصوت يحمل في طياته الذهول و الارتباك :
إيه اللي بيحصل هنا يا فارس !!
توقف سفيان عن النظر إلى الأرض للحظة ثم وقف مترددًا و كأن الكلام أثقل من أن يخرج من فمه
ردد بصوت مبحوح محاولًا إخفاء ما بداخله من مشاعر :
مفيش... أنا ماشي
دون أي كلمة إضافية، تحرك نحو الباب بخطوات متثاقلة كأنه يحمل هموم العالم على كتفيه خرج تاركًا وراءه جوًا من الغموض والحيرة
بقيت ميان في مكانها عاجزة عن استيعاب ما يحدث التفتت إلى فارس تسأله بقلق :
فارس فهمني....في إيه ؟
تنهد فارس بعمق ثم بدأ يروي لها ما حدث !!
صمتت ميان صراعًا داخليًا يشتعل في عقلها ، لاحظ فارس حالتها لكن لم يكن في حال جيد طلب منها بصوت هادئ و منهك :
معلش يا ميان روحي دلوقتي ، أنا هرجع البيت و نكمل كلامنا سوا
خرجت ميان من المكتب و عقلها مثقل بما سمعته بينما كانت تسير باتجاه سيارتها لمحت سفيان يجلس في سيارته رأسه مستند إلى عجلة القيادة و وجهه يزداد شحوبًا !!!
شعرت بقلق عارم...فاقتربت منه و طرقت نافذة السيارة لكنه لم يستجب
فتحت الباب لتراه يلهث بصعوبة و يعبث برابطة عنقه.....كأنه يختنق !!!
تحركت بسرعة وطلبت المساعدة من الطواريء اخرجوه من السيارة و تم نقله إلى المستشفى
جلست تنتظر بقلق في الممر اللحظات تمر ببطء شديد.....تشعر بعبء المسؤولية يثقل كاهلها !!!
بعد نصف ساعة تقريبًا
خرج الطبيب قائلاً بجدية :
اللي حصله سببه الضغط النفسي الشديد اللي كان بيتعرض ليه محتاج يرتاح تمامًا و يبعد عن أي حاجة ممكن تضايقه أو تسبب ليه اي توتر
اومأت له بصمت فتابع حديثه بأسف :
الموضوع مش جسدي قد ما هو نفسي.....ان شاء الله يكون كويس، الف سلامة عليه
نظر سفيان بوهن و تعب إلى ميان ، قائلاً وهو يحاول الاعتدال بجسده على الفراش بعد أن استفاق مردداً بصوت متهدج : انتي هنا !!
ردت ميان بهدوء :
خليك مرتاح
صمت الاثنان، لكن في داخلهما كلمات لا يجرؤ أي منهما على البوح بها
قطعت ميان الصمت تسأله بهدوء :
بتحبها !!!
صمت سفيان للحظات ثم قال بحيرة :
قلبي معرفش يشوف ويحس غير بيها من بعدك
همست ميان بحزن و هي تتذكر تلك الأيام :
عمرك ما حبيتني يا سفيان...خلينا نكون صرحا مع بعض، أنا وأنت ممكن نكون اتعودنا من صغرنا على كده...أنا اتعودت أحبك واتعودت على وجودك، لكن اللي في قلبي ليك اكتشفت مع الوقت إنه مكنش أبداً حب
صمتت لثوانٍ، ثم قالت بنبرة مليئة بالهيام والحب :
الحب الحقيقي هو اللي عيشته مع فارس
نظرت إليه وتابعت حديثها بحزن :
انت كمان عمرك ما حبيتني...عمر ما قلب شال الحب هيشيل الكره والآذى في نفس الوقت
رد سفيان بأسف عميق والندم ينهش قلبه كل لحظة : أنا ندمت...أنا آسف بجد آسف ، لو فضلت عمري كله أعتذر ليكي، قليل يا ميان
صمتت ميان، وعيونها امتلأت بالدموع التي لم تسقط قائلة بصوت مختنق :
أنا عارفة إنك ندمت وعارفة إنك اتغيرت....وعارفة إن اللي واقف قدامي واحد غير سفيان القديم و إن قلبك من جوه طيب.....وإن كاميليا سبب كبير في حالتك دي
ابتلعت غصة مريرة بحلقها ثم تابعت بحزن :
بس زي ما انت ملكش ذنب، أنا كمان مليش ذنب اللي عملته فيا مش قليل، انت مكسرتش دراعي، انت قتلت جوايا حاجات كتير
صمتت وهي تتذكر فارس وشهامته، وحبه الذي غمرها به، ثم قالت بحب وامتنان :
حاجات فارس أحياها فيا من تاني وأكتر....فارس قواني وسندني لما وقعت....أنا هنا بفضله كملت و وصلت لحد هنا بفضل حبه ليا
ابتسمت بتوسع، ودموعها تنساب :
أه، بيمر عليا وقت كتير ببقى نفسي أخنقك، بس برجع وأقول حقك يا ميان تشكريه لولا اللي عمله فيكي مكنتيش هتوصلي لهنا ولا هتقابلي راجل زي فارس، يحبك ويخليك تعشقيه...عرفك يعني إيه حب ، عيشك سعادة عمرك ما حلمتي بيها ، أنا متأكدة لو كنا كملنا مع بعض، عمري ما كنت هلاقي معاك ربع الحب اللي فارس بيحبه ليا
اتنهد سفيان بعمق وقال بابتسامة راضية عن حالتها :
عارف إنه راجل، هو الوحيد اللي يستاهلك يستاهل حبك و قلبك الكبير يا ميان
صمت فسألته ميان بتردد :
انت بجد بتحب أماليا يا سفيان !!
لم يجيب سفيان لكن عيناه كانت مليئة بالحيرة فتابعت ميان بنصحية :
بلاش تشيل ذنب تاني يا سفيان...متقربش إلا وانت متأكد من مشاعرك، وإنك بجد هتكون قد كلمتك
ردد سفيان بوجع وهو يتذكر نظرات أماليا له :
تفتكري هي أصلاً هتقبل بيا....نظراتها ليا مش قادر أنساها، ولا أطلعها من بالي....نار بتحرق قلبي كل ما أفتكر هي كانت إيه قبل ما تحبني وبقت إيه بعد ما حبتني
سألها بحزن وصوت مختنق بالدموع :
هو أنا مكتوب عليا أوجع كل اللي بحبهم
صمتت ميان وهي تستمع إليه يتحدث عنها :
هي بريئة أوي يا ميان...بريئة لدرجة إني لما عرفتها بجد كنت بخاف أوجعها بكلامي...خوفت عليها من نفسي ، كنت حاسس بوحدة لما كلكم بعدتوا عني بس هي الوحيدة اللي ملت الوحدة دي....قلبي مش قادر يستحمل غيابها عنه، وفي نفس الوقت مش قادر ياخد خطوة وشايف إنها كتيرة عليه
صمتت ميان لدقائق ثم ابتسمت قائلة بهدوء :
أقولك على حاجة
حرك رأسه بنعم فتابعت حديثها قائلة :
قلبي بيقولي إنها من نصيبك يا سفيان..كلامك عنها و عيونك اللي بتلمع لمجرد ذكر اسمها فاضحين حبك ليها....وهي كمان بتحبك أوي، وإلا مكنتش اتوجعت بالشكل ده....حاسة إنكم نصيب بعض
اتنهد سفيان و اكتفى بالصمت ينظر للفراغ بشرود فتابعت ميان بنصحية :
الذنب اللي حاسس بيه ناحيتي هو السبب في حيرتك دي يا سفيان....أسأل قلبك مين اللي متقدرش على بعدها، مع إن الإجابة واضحة ده انت دخلت المستشفى يا راجل ومستحملتش
قالت الأخيرة بمرح فرد عليها بمرح باهت :
دخلتها عليكي برضو
ابتسمت بهدوء ثم قالت :
حل المتاهة دي كلها في إيدك يا سفيان ، بس طلعني من حسبتك وفكر فيها من ناحية تانية غير إنك شايل ذنبي !!
حرك رأسه لها بنعم....كانت نظراته مليئة بالامتنان لكلامها الذي أعطاه دفعة إلى الأمام وشجعته
قبل أن تخرج اوقفها قائلاً : ميان
التفتت إليه فسألها بتردد و توسل :
هتسامحيني !!!
تنهدت بعمق ثم قالت بابتسامة صغيرة :
ابقى كدابة لو قلت إنني سامحتك، لأني بشر مش ملاك....لكن الله أعلم بكره فيه إيه سيبها للأيام يا بن خالتي !!!!
ثم قالت بهدوء قبل أن تخرج :
لو حصل نصيب، متنساش تعزمني !!
دخل فارس غرفة مكتبه بعد أن كان واقفًا عند الباب، فقد سمع كل كلمة بين سفيان وميان عندما علم أنها في المستشفى مع سفيان وأنها أنقذته.....اشتعلت حينها الغيرة في قلبه كلما تخيلهما معًا
لكن تلك الغيرة سرعان ما تبددت، لتحل محلها سعادة غامرة بكلمات ميان عنه، فكان يعتريه شعور خفي بأن الحب الذي منحته لسفيان كان يفوق ما تعطيه له، لكنه الآن، بعد أن استمع إلى كل حرف نطقته بحبها له، أدرك أن قلبها بأكمله ملكه وحده، تيقن أن ذلك الحب الذي شعرت به تجاهه كان استثنائيًا، وأنها لم ولن تحب أحدًا بهذا الشغف سواه
ورغم الغيرة التي كانت تنهش قلبه كلما تذكر وجودها مع سفيان، إلا أن صوتها هذه المرة كان مختلفًا، بدا وكأنه يحمل راحة لم يعهدها من قبل، وكأن الغضب الذي كان يعتريها قد تلاشى أخيرًا
تذكر كلماتها له في وقت سابق، حين قالت بابتسامة خجولة "يمكن عشان قلبي اتملى بحبك، والقلب اللي مليان بالحب ميعرفش الكره أبدًا يا فارس"
ابتسم بفخر، ذلك النوع من الفخر الذي يشعر به كلما همست له بكلمة"بحبك" كم تلك الكلمة تعني له الكثير، لم تكن مجرد كلمة، بل كانت إحساسًا عميقًا بالإنجاز، لأنها كانت دليله الأوضح على أنه أخيرًا وصل إلى قلبها....القلب الذي عشقه بجنون
دخل فارس إلى مكتب والدة أماليا بعد أن أذنت له بالدخول، وبدأ الحديث معها بعد صمت دام للحظات قائلاً بهدوء :
عرفت اللي حصل بين أماليا وسفيان !!
أجابته بحزم وبنبرة غير قابلة للنقاش :
أنا مستحيل أقبل بجواز بنتي من سفيان، وفر كلامك يا دكتور !!!
سألها فارس بهدوء :
عشان مريض عندك
ردت عليه بصرامة :
ده سبب من الأسباب، وكمان عشان عارفة إنه لسه بيحب ميان و بيفكر فيها !!
تنهد فارس بعمق ثم قال :
مش يمكن نسيها
ردت عليه بحزم :
مفيش حاجة اسمها يمكن.....بنتي مش فار تجارب عشان أضحي بيها، ولا هي رخيصة عندي عشان أقبل بسفيان زوج ليها و انا متأكدة انها تستاهل الأحسن منه مليون مرة
صمتت للحظات ثم تابعت حديثها بصرامة وقسوة :
أنا مش هقبل إن بنتي تكون ميان التانية !!
رد عليها فارس وهو واثق بتغير سفيان للأفضل :
بس سفيان اتغير بجد
ردت عليه بصرامة :
اتغير آه....لكن شعوره ناحية ميان لسه ما اتغيرش !!
كاد فارس أن يتحدث، لكنها قاطعته قائلة بحدة :
متقولش إني الدكتورة بتاعته....أنا دلوقتي قدامك بصفتي أم....أم خايفة على بنتها وحتى لو أنا وافقت أبوها واخواتها مستحيل يوافقوا
تنهد فارس ثم قال بعتاب :
بتقطعي قدامه الطريق، بدل ما تساعديه.....
قاطعته قائلة باستنكار وحزم :
عشان أقف جنبه أضحي ببنتي، مهما أكون متعاطفة معاه و مهما حصل..... سفيان مش هيكون اغلى من بنتي يا دكتور فارس
كان كارم يسير في الممر مضطربًا، القلق ينهش قلبه فقد دخلت همس إلى غرفة الكشف ولم يخرج أحد ليطمئنه حتى الآن !!!!
مرت لحظات طويلة قبل أن تخرج الطبيبة، فتوجه نحوها بسرعة وسألها بلهفة :
همس مالها طمنيني عليها !!
أجابته الطبيبة بابتسامة هادئة :
مفيش داعي للقلق.....مبروك المدام حامل
ردد كارم بصدمة و عدم استيعاب لما قالت :
حامل؟!
كان كارم في حالة من الصدمة، غير قادر على استيعاب ما سمعه همس حامل...هذا يعني أنها تحمل جزءًا منه ومنها
سعادة عارمة اجتاحت قلبه لدرجة أنه لم يستطع النطق لكنها سألها فجأة بقلق :
المهم همس كويسة والبيبي كويس
ردت عليه الطبيبة بطمأنينة :
لا متقلقش حضرتك كل حاجة تمام....الأفضل تستشيروا دكتورة متخصصة تتابع الحمل، كمان لازم ترتاح وتهتم بصحتها واكلها
بعد أن غادرت الطبيبة، دخل كارم إلى غرفة همس فوجدها نائمة....اقترب منها لثم جبهتها بحنان و امتنان لوجودها في حياته
استفاقت همس على صوت خطوات كارم، فتحت عينيها برفق فوجدته جالسًا بجانب سريرها وجهه مليء بالسعادة فسألته بصوت خافت متعب :
كارم ايه اللي حصل !!
رد عليها كارم بسعادة :
اللي حصل انك هتبقي أحلى ام في الدنيا وانك شايلة جواكي حتة مني ومنك حصل اني بسببك عايش سعادة عمري ما حلمت بيها....انتي حامل يا همس !!
تلألأت عيناها بالدموع وأمسكت يده بلطف قائلة :
بتتكلم بجد......هيكون عندنا بيبي ؟
ابتسم بسعادة ورد عليها بسعادة :
ايوه....ده أحلى خبر سمعته في حياتي
ابتسمت بسعادة وعانقته بقوة والدموع تنساب من عيناه بفرح....شعرت همس أن الصمت في تلك اللحظة كان أبلغ من أي كلام
سعادة و فرح غمرتا قلوب الجميع بخبر حمل همس توالت التهاني والابتسامات تضافرت الأمنيات الطيبة، ليُعبر الجميع عن فرحتهم بهذا الحدث السعيد الذي زاد من لحظاتهم بهجة وسرورًا
دخل فارس المنزل وعينيه تبحثان في كل زاوية عن ميان، كأن قلبه يتسابق مع خطواته ليجدها....يريد أن يضمها إليه بشدة يُشعرها بكل ما يحمل قلبه من حب وحنين
تفاجأ بجنة تقابله، مرتدية ملابسها، معتنية بمظهرها، وقبل أن تبدأ بالكلام، تجاهلها ببرود، وهو يعلم لما تتصرف هكذا، لقد وصل إلى أقصى درجات صبره معها....غداً سيجعلها تغادر !!
دخل إلى غرفة النوم، وقلبه قبل عيناه يبحثان عنها حتى رآها في إحدى زوايا الغرفة تؤدي صلاتها، تبدو هادئة وجميلة اقترب منها وما أن أنهت صلاتها حتى انحنى ولثم في منتصف جبينها بحنان وعشق قائلاً بصوت هادئ :
حرماً
ابتسمت بحب ولثمت يده التي كانت تحيط بوجهها ثم ردت عليه برقة :
جمعاً إن شاء الله يا حبيبي
نظرت إليه و رأت في عينيه نظرة غريبة فسألته بابتسامة جميلة لا تفارق شفتيها :
مالك
أجابها بحب وهو يرفعها بين ذراعيه، ويجلس بها على الفراش وهي على قدمه :
أنا بحبك أوي
ردت عليه ميان بحب :
وأنا بموت فيك
ابتسم الاثنان لبعضهما بحب وهدوء كان حبهما كالشمس في يومٍ بارد، يدفئ القلوب دون أن يُطلب هي بالنسبة له ليست مجرد حبيبة، بل الروح التي تمنحه الحياة وفي كل مرة ينظر إليها، يشعر أن العالم ملكاً له
هي النور الذي يضيء طريقه، وهو الأمان الذي يغمُر قلبها بالسكينة...معًا لا يحتاجان إلى كلمات كثيرة فالحب بينهما هو اللغة الوحيدة التي يفهمانها...لغة تنبع من القلوب وتُسمع بالروح
سألها فارس فجأة :
تيجي نسافر
ابتسمت ميان بحماس وقالت :
ياريت، يا سلام بقى لو تكون كل العيلة مع بعض في مكان واحد ونتجمع
تذمر فارس قائلاً :
أنا عاوز نكون لوحدنا، آه بحب لمتنا كلنا سوا بس عاوز نقضي وقت لوحدنا مع بعض
ابتسمت بتوسع ثم قالت :
نقضي معاهم يومين وبعدها نكون لوحدنا
حرك فارس رأسه موافقاً ثم قال بحب :
خلاص، هقولهم وأشوف ظروفهم، بس هنروح نطمن عليكي وعلى البيبي ونتأكد إذا كان السفر مسموح ليكي ولا لأ
بعد أن تحدثا عن السفر وخططهما المستقبلية ساد الصمت بينهما للحظة لكن لم يكن صمتًا عاديًا !!
كان مليئًا بالحب والشوق، كأن كل كلمة قيلت تركت أثراً عميقًا في قلبيهما.....كان فارس لا يزال يمسك ميان بين ذراعيه، عينيه تتأملان ملامحها التي تزداد جمالًا كلما اقترب منها أكثر شعر بدفئها ورقتها التي دائمًا ما كانت تشعره بأنه وجد ملاذه الوحيد في العالم
اقترب فارس أكثر وملامح وجهه تنطق بالشوق الذي كان يحمله في قلبه....لم يكن بحاجة إلى المزيد من الكلمات فكل شيء كان واضحًا في نظراتهما
بهدوء، رفع فارس يده ولمس وجهها بلطف وبدأ يقترب نحوها، كانت لحظة مليئة بالعشق، وبكل المشاعر التي حملها في قلبه لها....كأن كل هموم العالم تلاشت في تلك اللحظة ليبقى فقط هو وهي محاطين بحب لا ينتهي
لم يكن يريد أن يتركها....شعرت هي بذلك....في تلك الليلة، لم يكن هناك مكان للحديث أو التفكير.....فقط الحب والعشق هما ما جمعا قلبيهما في هدوء الليل
في صباح اليوم التالي، استفاق فارس الذي كان يحتضن ميان برفق، ولثم وجهها بحب وهو يناديها :
اصحي يا كسولة
تمسكت ميان به أكثر و قالت بصوت ناعس :
سيبني شوية كمان يا فارس، مش قادرة أفتح عيوني
ابتسم بحب، ثم نهض بهدوء متجنبًا إيقاظها، وخرج من الغرفة ليجد جنة جالسة في الصالة، تلتهم أظافرها، وبدا عليها الغضب بمجرد أن رأته انتفضت قائلة بغيرة وهي تقترب منه :
سمعتكم!!!
عبس فارس في وجهها وسألها بعدم فهم :
سمعتي ايه ؟
ردت عليه بوقاحة :
كنتوا مع بعض!!!!
صدم فارس من وقاحتها، فرد عليها بنفس الأسلوب :
واحد ومراته مالك ومالنا....ازاي تتجرأي وتتكلمي بالطريقة دي معايا
ارتبكت جنة وتلعثمت وهي ترد عليه :
انا معرفش انا قولت كده ازاي
قاطعها فارس قائلاً بحدة :
اسمعي، أنا دخلتك بيتي عشان صعبتي عليا، مش أكتر ولا أقل....وندمت لأني عملت كده لو فاكرة إن حركاتك دي هتوصلك لحاجة، تبقي غلطانة وغلطانة أوي كمان وعايزة اللي يفوقك
كانت ترتجف من الخوف من حديثه الصريح فتابع فارس بغضب :
أنا بحب مراتي، وماحبتش ولا هحب في حياتي غيرها ولا إنتي ولا ألف من عينتك ولا بنات حوا كلهم يملوا عيني
ردت عليه جنة بغل صريح :
أنا أحسن منها ألف مرة
عنفها فارس قائلاً بغضب واحتقار :
إنتي أسوأ منها ألف مرة تيجي إيه إنتي فيها بغلك وحقدك
ردت عليه بتوسل :
أنا هسعدك أكتر منها، وهتتبسط معايا أكتر هعمل كل اللي تقوله عليه حتى انا بعرف أعمل حاجات كتير وبطبخ حلو وبسمع الكلام وحتى أنا موافقة أكون زوجة تانية......بس تقبل بيا أنا ضحيت بأغلى حاجة عندي عشانك يا فارس
صرخ فارس عليها بغضب لكن بصوت منخفض حتى لا تستيقظ ميان وتسمعهما :
اخرسي يا مريضة....ضحيتي بإيه، أعرفك منين انا، انتي فعلا متستاهليش غير واحد زي أبو عدنان وأبوكي، أنتوا التلاتة عينه واحدة
ردت عليه بغيظ وغضب :
عملت إيه، انا خلصت من ابني عشان مايكونش عائق بينا....عشان مترفضنيش بسبب ابن شخص تاني غيرك
كانت ملامح فارس مزيجًا من الزهول والاحتقار فقال بحدة بحدة وغضب :
لمي هدومك، مش هتقعدي هنا ليلة تانية، هدبرلك شغل في فندق، والسكن هيكون هناك
تركها فارس ودخل الغرفة ليجد ميان مستيقظة، ابتسمت له قائلة بهدوء غريب :
صباح الخير يا حبيبي
لثم جبينها بحب ثم دخل للحمام وبقيت ميان في مكانها وقد تحولت ملامحها من الهدوء إلى الشراسة !!
في منتصف اليوم اجتمع الجميع في فيلا كارم لتهنئتهم وما ان جلست ميان وحدها مع همس ولينا وسيلين
تباينت المشاعر بعد أن كشفت ميان عن ما فعلت جنة لتكون سيلين اول المعلقين قائلة بصدمة :
إيه البجاحة دي....بدل ما تحمد ربنا إنها لقت حد يفتح لها بيته في ظروفها دي
بينما لينا رددت بلهجة مليئة بالاحتقار :
سيبك من كل ده، دي قتلت ابنها....دي واحدة مريضة
نظرت همس إلى ميان التي كانت صامتة وسألتها :
هتعملي إيه يا ميان، ناوية على ايه
ردت عليها ميان بنبرة غامضة :
عاوزة اتنين ستات بس بيضربوا حلو.....هخرجها بفضيحة عشان تحرم تعض اليد اللي اتمدت ليها
ابتسمت سيلين بحماس و قالت :
واحنا روحنا فين بس
ردت عليها سيلين بسخرية :
أبداً، موجودين، بس زي قلتنا، أنا حامل والأخت همس كمان، والست لينا قربت تولد
ثم تابعت بشراسة :
ياما كان نفسي اكلها بسناني من غير كا اجيب حد بس نفسي اشفي غليلي منها
ردت عليها سيلين بحماس :
طب وانا روحت فين أنتي عارفة يا ميان يا حبيبتي الفترة اللي بعد الولادة بتكون صعبة ازاي وكلها ضغوطات والواحدة مننا لازمها حاجة تطلع كل الضغوط اللي عندها فيها وجنة دي جت في وقتها والضرب فيها حلال
رددت لينا بمرح :
وطبعاً سيلين اولى من الغريب
أومأت لها سيلين وقالت بمكر :
ونرجس اللي بتساعدني في البيت هتقوم بالواجب هجيبها معايا كمان
ضحكت ميان عندما اضافت همس بمرح :
وأنا هاجي وأجيب فشار وأتفرج
ضحكوا جميعاً و بدأت ميان تملي عليهم ما سيفعلون
فابتسم الأربعة ببشر !!
في المساء، باغتت ميان فارس بطلبها أن تبقى جنة معها ليومٍ آخر، استوقفه الأمر، وقد أثار حيرته واستغرابه فهو الذي كان قد دبر لها عملًا ومسكنًا بجهدٍ مضنٍ ليُنهي الأمر اليوم، بدا طلبها نقيضًا لما ألحت عليه منذ أيام حين كانت تتوق لرحيلها
رفض فارس بادئ الأمر، لكن إصرارها الذي بدا عصيًا على الفهم دفعه للقبول على مضض!
في الصباح الباكر، وبعد إلحاح شديد من همس، اضطر كارم إلى إيصالها إلى بيت ميان. كان الأمر يثير استغرابه، فهي تخالف بذلك تعليمات الطبيبة التي شددت على حاجتها للراحة في هذه الفترة، ومع ذلك، لم يستطع أمام إصرارها سوى الرضوخ.
في ذات الوقت، كانت سيلين قد تركت طفلها عند والدتها، وغادرت برفقة خادمتها نحو المكان ذاته
كذلك لينا، التي طلبت من عمار أن يوصلها إلى بيت ميان!!
استيقظت جنة في الصباح بعد ليلة طويلة أثقلها التفكير، أمضت ساعاتها تحيك في ذهنها الخطط، تفكر في كيف يمكنها أن تبقى في هذا المنزل وقتًا أطول، أو على الأقل تُشعل نزاعًا بين فارس وميان يضمن لها تحقيق غايتها
شعرت بشيء من الطمأنينة، بعد ان منحتها ميان فرصة للبقاء هذا اليوم، وهو ما يصب في صالحها، فتلك فرصة ثمينة لتنفيذ خطتها التي اعتقدت أنها الأنسب لتفريقهما !!!
نهضت من سريرها وتجهزت ثم خرجت من غرفتها، لكنها توقفت فجأة عند عتبة الباب، وقد فوجئت بميان جالسة في الصالة، تضع ساق على ساق ببرود، وإلى جوارها همس، ومعهما فتاتان تراهم للمرة الأولى، واخرى تقف عند باب المطبخ !!
نظرات الجميع تخترقها بثقل غريب ومقلق، شيء في أعينهم لم يمنحها شعورًا بالراحة، بل أيقظ في داخلها خوفًا، شعرت للحظة أن خطتها التي بدت محكمة في الليل قد لا تكون كافية أمام ما تواجهه الآن
القت عليهم الصباح ثم قالت لميان بهدوء :
ميان، ممكن أتكلم معاكي لوحدنا !!
ردت عليها ميان ببرود :
مفيش حد هنا غريب، قولي اللي عندك
صمتت جنة لبرهة، تدرس الموقف بعناية، فكرت في أن الحديث مع ميان أمام هؤلاء سيزيد من إحراجها، ما قد يؤدي إلى تصاعد غضبها، فتثور على فارس أكثر وتطلب الطلاق
استجمعت قواها، وأعادت ترتيب كلماتها في ذهنها، ثم قالت بصوت منخفض، حاولت أن تجعله يبدو حزينًا قدر الإمكان، لتثير في ميان شعورًا بالشفقة وتكسب تعاطفها :
أنا اترددت كتير قبل ما أقولك، بس مش حابة انك تفضلي على عماكي ويكون فيه حد بيغشك....أنا برده أكلت معاكي عيش وملح في البيت ده!!!
قاطعتها ميان قائلة بهدوء يسبق العاصفة :
مابحبوش !!
سألتها جنة بزهول :
هو ايه ؟
تمتمت ميان ببرود زائف :
الكلام الكتير مبحبوش....قولي اللي عندك علطول
حاولت جنة السيطرة على غضبها، لكن كلامها خرج بصوت مرتجف مليء بالغل :
جوزك حاول معايا كذا مرة...اتحرش بيا وأنا صديته حبيت أقولك عشان متكونيش على عماكي ويفضل يضحك عليكي زي ما ضحك عليا وجابني هنا و فهمني انه نواياه بريئة لكن هو في الاصل عينه زايغة.....ومش محترم !!!!!
ابتسمت ميان بهدوء، ثم اقتربت منها بخطوات بطيئة و ابتسامة ليست بمحلها بثت الرعب بأوصالها، ثم رفعت يدها بلطف و ربتت على وجنة جنة، مما جعلها تنتفض مكانها ظناً منها انها ستضربها !!
لكن المفاجأة جاءت في كلمات ميان التي خرجت بصوت هادئ يسبق العاصفة :
كان ممكن افوت أي كلمة قولتيها عليا...لكن إنك تغلطي في جوزي وتتهميه اتهام زي ده
تغيرت نبرتها فجأة إلى الشراسة و هي تقول :
ده انتي كده جنيتي على نفسك !!!
قبل أن تدرك جنة ما يحدث، كانت ميان قد أمسكت بشعرها بقوة فصرخت تستنجد بأحد بعدما فشلت في تخليص نفسها من بين يديها
تقدمت سيلين والخادمة بسرعة، محاولة إبعاد ميان عن جنة لتجنب إيذاء جنينها، وبالفعل، ابتعدت ميان، لكن قبل أن تبتعد تمامًا، تمكنت من انتزاع بعض خصلات شعر جنة بغل
حاولت جنة الهجوم على ميان، إلا أن سيلين والفتاة الأخرى سحبتاها بقوة، وانهالن عليها بالضرب، متعجبات من وقاحتها، بينما كانت ميان تقف بعيدًا تراقب المشهد بتشفٍ
كانت جنة تصرخ من شدة الألم، لكن سيلين لم ترحمها. كانت تضربها بقوة، وهي ترى في وجهها ابنة خالتها التي كانت تسعى لسرقة زوجها منها، فزاد ذلك من شدة ضرباتها
أما همس ولينا، فكانتا تجلسان على الأريكة، تمددان جسديهما براحة، تتناولان حبات الفشار باسترخاء، وهما تراقبان جنة وهي تنال جزاء تصرفاتها، كانتا تبتسمان في سخرية، لكن همس كانت تشعر برغبة قوية في أن تنهض وتبرحها ضربًا، فكم كانت تكره النساء اللاتي يسعين إلى خراب بيوت غيرهن، وتفريق شمل العائلات، وسرقة الأزواج
بعد وقت قصير
كانت جنة ملقاة على الأرض، يتملكها الألم نتيجة الضربات القاسية التي تلقتها، ابتعدت عنها سيلين والخادمة، تاركتين إياها تتلوى من شدة الألم، بينما كانت ميان تقف على مقربة منها، تتأملها بنظرات مليئة بالاشمئزاز والغضب....نار مشتعلة تتأجج في قلبها كلما تذكرت نيتها الخبيثة، ورغم ثقتها الكبيرة في فارس، إلا أن مجرد تخيل ما كانت تخطط له جعل دماءها تغلي، كيف تجرأت على التفكير في هذا الأمر !!
كانت الرغبة في الانتقام تسيطر على ميان، ولو استطاعت لكانت التهمت جنة بأسنانها
تقدمت بخطوات غاضبة نحو غرفة جنة، وبدأت تجمع أغراضها التي بالأساس تخصها من البداية بحركات سريعة، وهي تستشيط غضبًا وبينما كانت تفرغ الأدراج، توقفت فجأة عندما رأت بعض مستحضرات التجميل الخاصة بها، وأشياء أخرى كانت قد فقدتها منذ فترة موجودة في خزانة الأخرى !!!
شعرت بغضب عارم يتصاعد داخلها، فشدت قبضتها على الأغراض في يدها، وكأنها تحاول أن تسيطر على مشاعرها قبل أن تنفجر بشكل أكبر
خرجت تجر الحقيبة خلفها ثم مسكت بذراع الأخرى تدفعها خارج المنزل بقوة، ثم رمت حقيبتها أمامها دون اكتراث !!
وقفت ميان أمام جنة، تحملق فيها بنظرة مليئة بالاحتقار والاشمئزاز، وكأنها ترى شيئًا أكثر دناءة من أن يكون إنسانًا كانت عيونها تشتعل بالغضب الذي لم تستطع كبحه، فصاحت بكلمات قاسية :
فتحتلك بيتي، عاملتك زي أختي، وفارس ساعدك ودافع عنك وكان ممكن يتأذي بسببك.....ده كان ممكن يموت كمان، هو ده بقى ردك للمعروف إنك تخوني ثقتي وتحاولي تخربي حياتي، تحطي عينك على جوزي!!!!!
ثم تابعت بغضب وقرف :
وصلت بيكي الحقارة والقسوة إنك تقتلي ابنك بإيدك، طب ليه، وعشان إيه، يا شيخة ربنا ينتقم منك قتلتي روح بريئة، قتلتي حتة منك الام بتحمي ابنها بروحها وانتي قتلتي ابنك عشان اوهام وكنتي فاكرة ان بموته انتي هتعيشيؤ حسبي الله ونعم الوكيل فيكي
كانت جنة تقف أمامها متهاوية، عاجزة عن مواجهة هذا الطوفان من الغضب والكلمات اللاذعة جسدها يرتجف لكن ميان لم تشفق عليها لم يكن بداخلها أي مكان للرحمة في تلك اللحظة، بل تقدمت نحوها بخطوات سريعة، والغضب يشتعل في عينيها، ووجهها مرسوم بملامح القسوة وفجأة، صفعت ميان وجهها بقوة، مفرغة كل مشاعر الغضب التي بداخلها، قائلة بحدة :
زي ما دخلتي البيت ده من الشارع، هترجعي للشارع برده و المساعدة اللي جوزي كان هيقدمها ليكي، خسارة في واحدة حقيرة زيك، عينها بتروح على اللي في إيد غيرها
ثم بصقت عليها بقرف شديد، وكأنها تريد التخلص من كل أثر لها، واستدارت دون أن تنظر خلفها، دخلت البيت واغلقت الباب بعنف في وجه جنة، تاركة إياها وحيدة.....وحيدة لا
تعرف إلى أين تتجه، جلست على رصيف بارد، تبكي بحرقة وندم لا يمكن وصفه كان كل شيء يدور في رأسها، كلمات ميان الجارحة تردد في ذهنها، تدور كالسكاكين الحادة
كانت أمامها فرصة لتبدأ من جديد، لكنها لم تحسن الحفاظ عليها، واندفعت في طمعها حتى فقدت كل شيء
لم يعد أمامها سوى العودة إلى بيت والدها، الذي سيعيدها مرة أخرى إلى أبو عدنان، ليقودها إلى ذات الجحيم الذي هربت منه
كان سفيان يقف هناك، ينتظرها كما يفعل كل يوم، يترقب ظهورها كما يترقب الظمآن قطرة ماء، ظلت عيناه عليها للحظة، ثم ركض نحوها، لم يعد يحتمل الانتظار أكثر
تجاهلته بشدة، وسارت بسرعة، كأن وجوده يزيد الجروح عمقًا، لكن سفيان لم يستسلم بل لحق بها وأمسك بيدها، ليس بعنف، بل بحذر، كمن يخشى أن يكسر شيئًا هشًا
سحبها بهدوء بعيدًا عن الأنظار، وعيناه تبحثان في وجهها عن أمل أو ذرة من التفهم، انتفضت أماليا، وسحبت يدها من قبضته، ثم صرخت عليه بغضب كامن :
انت إزاي تمسك إيدي كده، إياك تعمل كده تاني....إياك أساسًا تظهر قدامي في أي مكان، ابعد عني...أنت طلعتلي منين
كانت كلماتها تنطق بالضعف رغم محاولتها إخفاء ذلك، لكن صوتها خانها في النهاية، أما هو، فقد ظل يتأملها، يرصد كل تفاصيل وجهها لأول مرة بعد غياب طويل، كان الألم يعتصر قلبه وهو يرى تلك العيون المتعبة، والوجه الذي فقد نوره وحيويته
كيف يمكن أن تكون هي نفسها الفتاة التي عرفها، أين اختفت تلك الأماليا التي جذبته بروحها المرحة وجنونها الجميل، كل شيء فيها بدا باهتًا، تمامًا كما يشعر داخله، أدرك حينها أن كل من أحبه قد تأذى بسببه!!!
بينما أماليا رغم الغضب الذي كان يشتعل في صدرها، كانت تشعر بضعف يتسلل إليها وهي تقف أمام سفيان، كانت عيناه، المليئتان بالندم والشوق، تنفذان إلى أعماقها، لكنها لم تكن مستعدة للتنازل أو حتى لسماعه
حاول سفيان أن يقرب المسافة بينهما، وبدأ صوته يرتجف قليلًا وهو يقول :
أماليا، اسمعيني، أنا عارف إن كل اللي حصل كان غلط، بس أنا ندمت واتغيرت والله
كانت أماليا قد اتخذت قرارها، نظرت إليه بعينين مليئتين بالألم والعتاب وقالت :
ندمان....تفتكر إن الندم كفاية.....ازاي تتوقع إني أصدقك بعد كل اللي سمعته عنك، ازاي كنت بالقسوة، انا دي كنت غلطانة لما قولت ان الماضي مايفرقش معايا، عشان بعد اللي عرفته وسمعته ندمانة على كل لحظة شوفتك فيها.....ندمانة اني عرفتك اصلا......لو ليك اخت هترضى بواحد زيك ليها !!!!
كانت كلماتها قاسية لكنها صادقة، تصب كل ما في قلبها من عتاب وألم و هو يقف صامتًا....عاجزًا عن الرد....كل كلمة كانت تطعنه في القلب لكنه لم يستطع سوى أن يقف متحملًا اللوم، متفهمًا حجم الأذى الذي سببه لها
استدارت ببطء بعد أن انتهت من كلامها وقبل أن تبتعد تمامًا قالت بصوت خافت كأنها تحدث لنفسها :
ابعد عني ارجوك، اه فيه مشاعر ناحيتك بس ده مش كفاية عشان أتغاضى عن ماضيك.....كفاية وجع
ثم مشت بعيدًا، خطواتها مترددة لكنها ثابتة لم تلتفت خلفها، رغم أنها شعرت بنظراته تلاحقها أما هو بقي واقفًا في مكانه، يشاهدها وهي تختفي تدريجيًا عن أنظاره حاول أن يناديها مرة أخيرة لكنه أدرك أنها محقة
مر شهران ثقيلان منذ أن انقطعت أماليا عن سفيان طوال هذه الفترة، حاول مرارًا التحدث معها، لكن دون جدوى، بدا الأمر وكأنها أغلقت صفحته تمامًا، أو هكذا حاولت أن تظهر للعالم، لكن داخلها كان ينزف، لم تكن تتوقع أن تكون تجربتها الأولى في الحب بهذه القسوة، أو أن تصل جراحها إلى هذا العمق
هربت من آلامها إلى العمل، تغرق فيه لساعات طويلة محاولًة نسيان نفسها، حتى أنها وافقت على مشاريع في محافظات أخرى بشرط أن تعود إلى الإسكندرية في نفس اليوم، واليوم كانت تستعد لأول مرة للسفر إلى القاهرة لمعاينة شركة جديدة ستتولى تصميمها
بينما كانت تضع اللمسات الأخيرة على تجهيزاتها للسفر، دخلت والدتها، وبنبرة يعتريها الحزن قالت:
لحد إمتى هتفضلي واخدة الموقف ده مني، أنا كنت بعمل كده لمصلحتك، وانتي شوفتي بنفسك، مكنش يستاهل حبك ولا تضحيتك بنفسك عشانه
رفعت أماليا عينيها نحوها، ونطقت أخيرًا بعد صمت طويل، بنبرة تحمل خيبة أمل كبيرة، قبل أن تغادر :
كان قدامك ألف طريقة تعرفيني بيها الحقيقة، لكن مش بالقسوة دي، لا عليه ولا عليا، انا عمري ما هكون مبسوطة وأنا شايفة أمي قاسية كده
احنت والدتها رأسها بحزن، ابنتها معها حق، كانت تعرف في أعماقها أنها تصرفت بقسوة، حتى وإن كانت نيتها هي حماية ابنتها !!
صعدت أماليا إلى سيارتها وانطلقت باتجاه القاهرة، غير مدركة أن عيون سفيان كانت تراقبها من بعيد كما كان يفعل دائمًا منذ ابتعدت عنه، كان يقف كل صباح أمام بيتها، ينظر إليها وهي تخرج، يتبعها حتى تصل إلى عملها، لعله يشبع عينيه وقلبه برؤيتها لكن اليوم، شعر بشيء مختلف حين رأى وجهتها نحو القاهرة....امتلأ قلبه بشعور غريب، كقبضة ضاغطة، فقرر أن يتبعها
بعد ساعات من القيادة، كانت أماليا تقف أمام صاحب الشركة "عصام" الذي تحدث إليها بنظرات لا تخلو من الإعجاب، بينما هي تحاول أن تتجاهل هذا الشعور الغير المريح الذي يزحف إلى قلبها أنهت حديثها معه بشأن تفاصيل المشروع وقالت له موعد الانتهاء، وهمت بالرحيل لكن قبل أن تخطو خطواتها الأولى، استوقفها بابتسامة خبيثة لم تلحظها قائلاً :
هتيجي معايا دلوقتي تعايني الفيلا اللي على الطريق الصحراوي، زي ما اتفقت مع خالك
نظرت إليه أماليا بدهشة، وقالت :
بس خالي، مقاليش حاجة عن الفيلا دي!!!
أجابها بثقة وهو ينظر إلى ساعته بتعجل :
اتكلمت معاه قبل ما توصلي بنص ساعة تلاقيه ملحقش يقولك، على العموم ممكن تتأكدي بنفسك لو مش مصدقة كلامي
ترددت للحظة، تشعر بعدم ارتياح، لكنها وافقت أخيرًا بعد أن حاولت الاتصال بخالها دون جدوى إذ كان هاتفه مغلقًا
ركبت إلى جواره في السيارة، حيث كان يقود بسرعة أثارت قلقها، تزايد الانقباض في صدرها مع كل لحظة، خاصة مع اقترابهم من الطريق الصحراوي وحلول الظلام، الذي عمق شعورها بالخوف والاضطراب
توقف عصام بالسيارة أمام فيلا معزولة على الطريق الصحراوي، ونزل بسرعة ليفتح الباب لأماليا، شعور غير مريح تملكها منذ اللحظة الأولى، وزاد حدته مع كل دقيقة مضت نظرت حولها بقلق، خطواتها مترددة، نزلت من السيارة، لكن الخوف بدأ يتسلل إلى قلبها، وكأنها قد سقطت في فخ محكم لا مفر منه
دخلت إلى الفيلا، وأحست ببرودة الهواء تتسلل إلى عظامها استدارت نحو عصام بصرامة وقالت :
سيب الباب مفتوح من فضلك، يا أستاذ عصام !!
ابتسم لها بمكر قائلاً :
بس كده، انتي تؤمري!!!!
ثم أغلق الباب بقوة جعلها تنتفض في مكانها، و الخوف يشتعل في قلبها كشرارة ملتهبة
اندفعت نحو الباب محاولة فتحه، لكنه أسرع منها، أدار المفتاح وأغلق الباب بإحكام، ثم لوح بالمفتاح أمامها وقال بنبرة يملؤها المكر :
رايحة فين يا حلوة، وشرفي الفيلا دي مدخلاهاش غير الحلوين اللي زيك!!
تراجعت أماليا إلى الوراء بخطوات سريعة، وصوتها يرتجف من شدة الغضب والخوف :
افتح الباب، أحسن والله.......
قاطعها وهو يخلع سترته، ونظراته مليئة بالتحدي والتمعن، متفحصًا جسدها بنظراته الوقحة :
هتعملي إيه يعني، هتصوتي...صوتي، محدش هيسمعك ولو حد سمعك، انتي هنا بمزاجك، ركبتي معايا بمزاجك ودخلتي لهنا بمزاجك يا حلوة
شعرت أماليا برعب يخترق قلبها كخنجر، والندم يعصف بأفكارها كيف وقعت في هذا الفخ !!
أخذت تتلفت حولها، حتى التقطت نظرها مزهرية طويلة على طاولة قريبة، فاندفعت نحوها وأمسكتها بيد مرتعشة، ثم صرخت بصوت مرتفع، كلما اقترب عصام منها زاد صراخها، لعل أحداً يسمعها وينقذها
لكن عصام تابع تقدمه بثقة، فتراجعت وهي ترفع المزهرية عالياً، وكادت ان تضربه بها إلا أنه أمسك بيدها بقسوة، انتزعها منها ورماها بعيداً، ثم دفعها لتسقط على الأرض كانت تحاول أن تقاومه، قدماها تركلانه ويديها تحاولان دفعه بعيداً، لكنها كانت تشعر بثقل جسده يقيد حركتها وكأنها تغرق في مستنقع من اليأس
في تلك اللحظة، عندما كانت صرخاتها تصدح في المكان كأنها نداء استغاثة، سُمع صوت طرقات قوية على الباب تحول الطرق إلى ضرب عنيف حتى انكسر الباب بفعل قوة مفاجئة، ليظهر سفيان مندفعًا كالعاصفة !!!!!!
كانت أنفاس أماليا تتسارع، وعيناها تملؤهما دموع الخوف والذعر، بينما انقض سفيان على عصام الذي كان منشغلاً بمحاولة إخضاعها، ولم يدرك ما حدث إلا بعد أن سحبه سفيان من فوقها وأسقطه أرضًا، انفجرت دموعها عندما شعرت بأن كابوسها أوشك على الانتهاء، كانت ما تزال ترتجف من الخوف
انهالت ضربات سفيان على عصام واحدة تلو الأخرى، كأنها تنفيس عن غضب مكبوت وألم متراكم لم تكن تلك الضربات مجرد دفاع عن أماليا، بل انتقامًا من كل لحظة عجز شعر بها منذ أن افترقا، تلاشى صوت أنين عصام شيئًا فشيئًا مع كل لكمة، حتى استسلم بلا مقاومة تُذكر، كان سفيان يعيد إليها الأمان الذي كاد يُنتزع منها، ويمحو بيديه أثر الخوف من قلبها
بعد أن انتهى سفيان تركه بصعوبة، واستدار نحو أماليا التي كانت تجلس على الأرض، عيناها زائغتان من هول ما مرت به، فاقترب منها وجلس بجانبها، واحتواها بذراعيه، بينما هي تنفست أخيرًا الصعداء احتضنته وكأنها وجدت في ذراعيه الأمان الذي فقدته
خلع سفيان سترته على الفور وحاوطها بها بحرص، شاعراً بالغضب عندما رأى البلوزة التي ارتدتها قد تمزقت بفعل ذلك الحقير، حملها وتوجه نحو سيارته، وما ان وضعها برفق على الأرض، شعر فجأة بانقباض قوي في جسده، وصدر منه أنين خافت!!!!!
ارتابت أماليا، وفزعت حين تكرر الأنين، فالتفت خلفها لترى ما يحدث كان المشهد أمام عينيها صادمًا، فقد رأت عصام، الذي كان يتخبط على الأرض، يرفع مسدسًا مصوبًا نحو سفيان وجهه كان مشوّهًا، مغطى بالدماء، عينيه تومضان بغضب كبير
صرخت أماليا، لكن صوتها تلاشى في غيوم الرعب و في لحظة مرعبة، شاهدت عصام يتراجع، ثم يقع على الأرض فاقدًا وعيه، بينما سفيان هو الآخر لم يكن أفضل حالًا بدأ جسده ينهار، دماؤه تتساقط بغزارة على الأرض، وكأنه يحاول أن يمسك بأنفاسه الأخيرة
بكت أماليا بقوة، دموعها تنهمر دون انقطاع تمسكت بجسده بقوة، والذعر يجتاح قلبها، تنقل بصرها المرتجف بين وجهه ويدها الملطخة بدمائه
انسابت دموعها كالشلال، ونحيبها المتقطع شق سكون الليل وهي تهمس بتوسل ممزوج بالرعب :
افتح عيونك...أنت مش هتسيبني، صح، مش كنت عايزني أتكلم معك، اهو أنا هنا، جنبك...ليه سكت دلوقتي !!
ازدادت حدة بكائها وهي تواصل بصوت مكسور :
شوف... أنا هنا، ومش هبعد عنك تاني....بس عشان خاطري افتح عيونك...متسبنيش رد عليا....سفيااان !!
بأعين شبه مغلقة، وبصعوبة بالغة، رفع يده المرتعشة ليمسح على وجهها، وهو يهمس بصوت متقطع وثقيل :
طول عمري كنت سبب وجع لغيري....حتى أنتي، هكون وجع ليكي...ربنا عمل كده عشان يريح الكل مني.....ومن وجعي
حركت رأسها بنفي، والدموع تتساقط كالمطر، قائلة :
بس أنا مش عايزة ارتاح منك... قوم وابقى جنبي...أنا قابلة منك كل حاجة، حتى الوجع... والله مش هبعد عنك تاني
ثم وضعت جبينها على صدره، وقالت بصوت مكسور بالوجع :
ما اتفقناش أنك تسيبني وتمشي
كانت آخر كلماته، بينما يده تلامس وجنتها برفق :
بحبك
في اللحظة التالية، تراخت يده وسقطت بجانبه ابتعدت لتنظر إليه بعينين متسعتين من الصدمة وعدم التصديق، ثم صرخت بهستيريا :
"لأ... لأ...افتح عيونك...متسبنيش...لأ، عشان خاطري، قوم !!
بدأت تصرخ بقوة، تضم جسده إليها بقهر، وكأنها تحاول استعادة الحياة التي انسلت منه
