رواية الدكان
الفصل الرابع والستون64
بقلم منال محمد سالم
رجفة غريبة تسربت إلى جسدها بعد مفاجأته تلك، رمشت بعينيها متحرجة من اهتمامه الزائد بأصغر التفصيلات. فلم يطرأ ببالها أن يقدم لها شيئًا باهظًا كتلك المشغولات الرقيقة.هو انتقى من أجلها ما أحبته حقًا، شعرت أسيف بسخونة طفيفة منبعثة من وجنتيها، فاستشفت على الفور أنهما توردتا من الخجل، وعلى قدر المستطاع تجنبت النظر إلى عينيه.
ابتسم لها منذر بعذوبة لطيفة، أراحه ردة فعلها الهادئة، فهي لم تعترض على هديته أو حتى تنبذها كعادتها حينما يقدم لها أي شيء، لكن تلك المرة مختلفة من وجهة نظره، فهو تعامل معها كمحب حقيقي متيم بها. عبر لها بصدق عن مشاعره بطريقته الخاصة، حتى وإن كلفته الكثير، فالأهم أن يصل إلى قلبها، أن تثق به، وأن تشعر بما يكنه نحوها.
هتفت عواطف بتفاؤل:
-ربنا يجعل الفرحة دايمة عليكم يا رب!
رد عليها طه بإيماءة خفيفة من رأسه:
-أمين!
ظلت أنظار منذر مثبتة عليها، يطالعها بشغف وتمني، اليوم اقترب منها خطوة، وغدًا سيكون الأقرب إلى وجدانها.
لن يجعلها أبدًا تمرق على خير دون أن يضع لمسته المُعكرة لصفو الأجواء الهادئة، طالع شرفة المنزل بأعين نـــارية متأججة، وبنظرات تحمل البغض والحقد اللا محدود له ولعائلته. اعتبر المسألة أمرًا شخصيًا، تعديًا على ما يخصه، ولن يتركه هكذا.
وصل إلى مسامعه أنباء الخطبة، فالأخبار تتناقل في تلك المنطقة كما تنتشر النار في الهشيم. ترقب بأعصاب محترقة مجيء لحظته المناسبة لإفساد كل شيء، وقتله إن لزم الأمر.
شدد مجد من أصابعه القابضة على رأس تلك العصا الغليظة، ثم أخفض عينيه الحادتين ليلتفت برأسه نحو رجاله المرابطين خلفه هاتفًا فيهم بقوة متشنجة:
-خالوهالي على الأرض!
رد عليه أحدهم بابتسامة عابثة:
-أوامرك يا معلم مجد!
رفع الرجـــال عصيهم للأعلى ليهوا بعدها على سيارة منذر المرابطة أمام مدخل البناية محطمين الزجاج بأكمله، ومتعمدين تخريبها.
دوى صوت التكسير عاليًا، فانتفض أغلب القاطنين بالمنطقة للشرفات وللطرقات لرؤية ما يحدث، لكن لم يتحرك أحدهم قيد أنملة، فالمتسبب في الشجار هو ابن أبو النجا، البلطجي الشهير.
استند مجد بكفه على مقدمة السيارة ليصعد عليها بثقل جسده، وانتصب واقفًا عليها. أمسك بقبضتيه الغليظتين برأس عصاه، ورفعها عاليًا في الهواء، ثم هوى بكل غضبه المكتوم بداخله على سقفيتها ليحدث بها انبعاجًا قويًا.
هلل رجاله بصياح مرتفع مظهرين حماستهم المفرطة لجرأته العنيفة، وزادوا من شراستهم.
تعللت بحاجة رضيعتها لتبديل حفاضها لتنأى بنفسها عن تلك الأجواء الخانقة لها، وولجت إلى داخل غرفتها كاظمة غيظها إلى أقصى حد. ألقتها بإهمال على الفراش ضاغطة على رأسها المشتعل بداخلها بيديها.
سحبت نفسًا عميقًا، وزفرته على مهل محدثة نفسها بحنق:
-دي مش النهاية أبدًا!
بكت الرضيعة رنا بصراخ حاد، فالتفتت ناحيتها محدقة فيها بنظرات جافة، اقتربت منها لتحملها على كتفها، وبدأت في إطعامها. وفجأة جذبتها تلك الأصوات الحامية بالخارج، فاتجهت للشرفة لترى ما الأمر. اتسعت نظراتها فزعًا حينما رأت ما يحدث بسيارته، لوهلة تجمدت في مكانها مشدوهة، لكن سريعًا ما ارتخت ملامحها لتتشكل على ثغرها ابتسامة لئيمة.
همست لنفسها بمكر:
-أحسن، خليها تولع!
زادت ابتسامتها حتى برزت نواجذها، وتابعت مستمتعة تنفسيه عن غضبه حتى توقف عما يفعل لتلتقي نظراتها بأعينه الشرسة.
رفعت نيرمين حاجبها للأعلى مبدية إعجابها به، ورمقها هو بنظرات قوية قاتمة. ناوله أحد رجاله زجاجة مليئة بمواد مشتعلة، فرفعها أمامها قبل أن يقذفها بعنف بداخل السيارة لتطلق جذوة اشتعالها.
رأت ألسنة اللهب تتراقص ببراعة، فشعرت بارتياح رهيب، ها قد حقق ذلك البلطجي غرضها دون أن تبذل أدنى مجهود. تحركت بتمهل نحو الداخل، وأسندت رضيعتها على الفراش، ثم تعمدت تصنع العبوس والخوف، وهرولت ناحية غرفة الصالون صارخة بفزع زائف:
-اِلحق يا سي منذر، اِلحق عربيتك!
انتبه لها متساءلًا باقتضاب:
-خير في ايه؟
أشارت بيدها قائلة بنبرة مذعورة:
-مـ... مجد ورجالته بيولعوا في العربية تحت!
حلت الصدمة على أوجه الجميع، وتباينت ردود أفعالهم؛ حيث هب منذر واقفًا من مكانه مرددًا بصدمة واضحة:
-مين!!
وضعت عواطف يدها على فمها كاتمة شهقة قوية، بينما برقت نظرات أسيف بهلع كبير.
تجمدت أنظار بسمة على وجه دياب الذي تحول لكتلة ملتهبة من الحمرة الغاضبة حينما هدر بصوته المتشنج:
-ابن الـ.....، مش هاسيبوه! الظاهر نسى نفسه
انكمش الصغير يحيى في نفسه، وضمته أروى بذراعيها. لطمت جليلة على صدرها متوجسة خيفة مما سيحدث، وصاحت بلا تردد محاولة منعهما من الاشتباك معه:
-استنوا يا ولاد رايحين فين
اندفع منذر إلى خارج الغرفة صائحًا بصوت محتد:
-مش سايبه إلا لما أدفنه!
انطلق والده في إثره قائلًا بامتعاض:
-اهدى يا منذر، أنا هاتصرف!
لم يصغِ إليه، بل واصل ركضه المتهور إلى الخارج، وتبعه أخيه بخطى سريعة. اتكأ طه على عكازه محاولًا اللحاق بهما قبل أن يتهور أحدهما في ذروة غضبهما الأعمى، بينما تحركت النساء نحو الشرفة ليتابعوا منها ما يدور بالأسفل، وبقي الصغار بصحبتهن.
مالت عواطف على ابنتها هامسة لها:
-ولعتيها وارتاحتي
ردت عليها نيرمين بصوت خفيض وهي تحدجها بنظرات حادة للغاية:
-وأنا ذنبي ايه؟ ده كل المصايب جاية على وش البومة اللي هنا!
رمقتها والدتها بنظرات مزعوجة منها، وكتمت في نفسها غضبها منها كي لا تتسبب في إحراجها أمام ضيفتها.
التصق وجه الصغير يحيى وعمته أروى بحافة الشرفة مراقبين بانتباه شديد ذلك الشجار المحتد رغم عدم فهمهما لتبعاته، لكنه فضول الصغار المتحمس دومًا لكل ما هو مفعم بالحركة والإثارة.
أطلت أسيف برأسها لتجده وسط رجاله متباهيًا بأفعاله المشينة، جذعت بخوف بائن حينما رأته مسلطًا أنظاره عليها، وكأنه يرسل لها رسالة صريحة عبر نظراته الشرسة لها أنه لن يتركها لحالها. رفع عصاه للأعلى مشيرًا نحوها، فقفز قلبها في قدميها من شدة الخوف.
بدا الرعب واضحًا في مقلتيها، شخصت أبصارها، وشحب لون بشرتها. ارتجفت رغمًا عنها، فتراجعت للخلف متجنبة نظراته المخيفة.
ارتطمت بابنة عمتها التي هتفت بضيق كبير:
-خلي بالك يا أسيف!
التفتت ناحيتها ولم تجد من الكلمات البسيطة ما تقوله لها. تحركت بسمة بحذر بالغ لتقف إلى جوارها مجبرة إياها على العودة لحافة الشرفة من جديد لتنظر إليه مُكرهة.
هتفت من بين أسنانها بحنق:
-الحيوان ده عاوز يتربى! مفكرها سايبة
لم تسمع كلمة واحدة مما قالته، بل ظلت محاصرة في دائرة خوفها المذعور من ذلك الهمجي العنيف.
حركت جليلة رأسها بتوتر هاتفة بصوت خفيض متضرع وهي تبتلع ريقها:
-احمي يا رب ولادي، أنا مش ناقصة أخسر حد فيهم!
ارتفعت ألسنة اللهب في الهواء بعد تفحم أجزاء كبيرة من السيارة، وأصبح المشهد مهددًا للغاية.
أقل من ثوانٍ معدودة، و دوى انفجار عنيف اهتزت له جميع البنايات المحيطة، ثم أعقبه أصوات صراخات مذعورة من الجميع.
احتمت النساء والصغار بالداخل بعده، وأغلقن الشرفة متجنبين تلك الشظايا المتقاذفة، لكن لم تتحمل نيرمين الاختباء بالداخل دون متابعة مجريات الأمور فولجت سريعًا إليها.
تجمدت أقدامهم قسرًا عند مدخل البناية بمجرد سماع صوت الانفجار، اضطروا للاحتماء للحظات ريثما تهدأ النيران المستعرة. انطلق منذر كالمغيب نحوه هادرًا بتهديد شرس:
-إنت حفرت قبرك بايدك يا ابن أبو النجا!
فتح له الأخير ذراعيه ليستقبله هاتفًا ببرود مستفز:
-وأنا مستنيك يا عريس، ماهو مش معقول ماوجبش معاك الليلادي!
ألقى مجد بعصاه في الهواء، واندفع كالثور الأهوج نحوه ليشتبك معه بالأيدي. تعالت الصيحات المهللة والمفزوعة في نفس الوقت لتلاحمهما، فالمشاجرة حاليًا بين قطبي العائلتين.
كان دياب على وشك الانضمام إليه لكن شكل رجال مجد حائلًا ليمنعوه، وقيدوا حركته تمامًا. فأجبر على التشاجر معهم.
لم يجرؤ أحد على التدخل بينهم، فقط مراقبين متابعين لما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
سدد منذر لكمات عنيفة متتالية في فك غريمه ليطرحه أرضًا، فارتطم رأس الأخير بقوة بالأرضية الصلبة، لكن صوت ضحكاته المكركرة تشير إلى استمتاعه بالأمر. هو أفسد عليه ليلته بنجاح بارع، وحولها إلى كارثة مأساوية.
جثى منذر فوقه منتويًا خنقه، لكن دفعه الأخير بركبته بضربة عنيفة ومباغتة أردته للخلف مترنحًا. استغل الفرصة لينهض من مكانه ثم انقض عليه كانقضاض الأسود ليلكمه أسفل معدته بشراسة، فانحنى بجذعه مجبرًا للأمام.
تأوه منذر بصوت مكتوم، وتحامل على نفسه ليرد له الضربة، لكنه لم ينتبه لذلك الجنزير المعدني الذي قُذف في الهواء ليمسك به خصمه، ويطوقه حول عنقه.
جذبه مجد بيديه متعمدًا خنقه بكل ما أوتي من قوة، فعجز عن التنفس بسهولة.
اصطبغ وجهه بحمرة مختنقة، وجاهد لنزع ذلك القيد الحديدي عنه عنقه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
رأته نيرمين من أعلى الشرفة، فخفق قلبها مفزوعًا عليه، هي أرادت التخلص منها، وليس منه،
صرخت بلا وعي:
-سي منذر!
انتبه على إثر صراخها من هن بالداخل، فولجن للشرفة دون تردد، تعالت صراخاتهن المذعورة حتى بح صوتهن. تجمدت أنظار أسيف المرتعدة على وجه منذر، شعرت بوخزة عنيفة في صدرها، بخوف كبير يجتاح كيانها.
تحركت رأسها بصورة هيسترية محاولة البحث عن شيء ما لتستخدمه كوسيلة لتشتيت الانتباه.
وقعت عيناها على سلة (المشابك) الخشبية، فمالت نحوها لتحملها، ثم قذفتها بأقصة طاقتها في اتجاهه.
ارتطمت السلة برأس مجد بعنف قوي، فأرخى قبضتيه قليلًا عن الجنزير متأثرًا بقوة الضربة.
اتجهت أبصاره للأعلى ليراها محدقة به بشراسة مشتعلة.
تلك اللحظة التي فقد فيها تركيزه أعطت الفرصة لمنذر ليتحرر من قيده المهلك، ودارت الدوائر، وتمكن من فرض سيطرته عليه، حيث طوق رأسه بذراعه، وأجبره على الانحناء، ثم هوى على رأسه بكمات أشد عنفًا عن ذي قبل. أفرغ فيه ثروته المشحونة بداخله، وساعده على ذلك شحذه لهمته المنتوية إذاقته ما يستحق على مرأى ومسمع من الجميع.
لم يصمد مجد كثيرًا بل تهاوى جسده من عنف الضربات والركلات. بدا شبه مغيب عن الوعي، وترنح جسده بقوة.
طرحه منذر أرضًا، وانحنى ملتقطًا العصا عن الأرضية، ثم بكل شراسة ضربه في ساقيه مسببًا له ألمًا مبرحًا.
صرخ الأخير متأثرًا، ومع ذلك لم يرفق به، بل استمر في ضربه حتى خبت قوته وتخدل ذراعه نوعًا ما.
تفاجأ أتباع مجد بما حل برجلهم، ولم يكن يفيقوا من دهشتهم حتى حُصروا برجال عائلة حرب. تولوا هم مهمة ضربهم بوحشية حتى أسقطوهم أرضًا، ثم قاموا بسحلهم على الأرصفة الخشنة حتى تمزقت ثيابهم، وتقطعت جلودهم.
هدر منذر صارخًا بقوة:
-خلوهم عِبرة لكل كلب فكر يجي على أسياده!
انخفضت أنظاره نحو مجد الغارق في دمائه ليضيف بقسوة:
-والـ........ ده هايكون أولهم
أنقذته من موت محتوم بغريزتها التي تحركت فورًا، وأجبرتها على الإقدام على تلك الخطوة الشجاعة. فزع قلبها لرؤيته بين الحياة والموت، ففعلت ما استطاعت، ونجحت فكرتها رغم بساطتها.
شعرت بتلك الأذرع تضمها بقوة وكأنها تحميها، فقط لكونها تصرفت بجرأة من أجله، فتغيرت الأمور معاها تمامًا، أدارت رأسها للجانب لتجد وجهها البشوش الباكي يشكرها بامتنان أم حنونة لمساعدتها ابنها البكري. كانت شبه واعية لما حولها، هي تصرفت برعونة هوجاء لكن أتى في النهاية بنتائج طيبة.
ربتت على كتفها جليلة قائلة بصوت متأثر:
-ربنا يكرمك يا بنتي، انتي.. انتي نجتيه!
-أنا.. معملتش حاجة!
قالتها أسيف بصوت متردد محاولة تبرير فعلتها الطبيعية.
وضعت عمتها هي الأخرى ذراعها حولها لتضمها قائلة:
-بنت أخويا طيبة وبنت حلال!
انزعجت نيرمين من انقلاب الوضع معها، وضاقت نظراتها لتصبح أكثر حدة وغيظًا. هي أرادت التفريق بينها وبين عائلته، ولكن حدث العكس معها، بل لعب الحظ لعبته، وأصبحت محبوبتهم.
هتفت فجأة بنزق وقد انعقد ما بين حاجبيها بشدة:
-تعالوا نخش جوا أحسن، بدل ما تتحدف حاجة كده ولا كده!
اعترضت جليلة مرددة:
-مش قبل ما أطمن على ....
قاطعتها نيرمين بإصرار عابس:
-يالا يا خالتي، البركة في سي منذر، هو خلاص لم الليلة وبقت عنده!
أومــأت برأسها مستسلمة، ثم وجهت أنظارها نحو أسيف لتتابع بابتسامة سعيدة:
-يباركلي فيكي يا عروسة ابني!
توردت وجنتي الأخيرة بخجل وهي تقول:
-شكرًا!
أقسم أن يجعله عبرة لمن لا يعتبر، أن يذيقه ما يستحق، أن يردعه للأبد كي لا يعاود النهوض من جديد ليبطش في الضعفاء، وخاصة حبيبته.
لن يلتفت لأي اتفاقات ودية أُبرمت بين العائلتين من قبل، سينسى أي صلح سلمي بينهم، هم في كل مرة يخطئون وينقضون العهد، ثم يبدون ندمهم، ويعاود فاقد العقل الكَرة ويخرب كل شيء.
أمسك به منذر من قدمه، ونظر له بأعين نارية ثم بصق في وجهه، وجرجره منها متعمدًا سحل جسده بعنف على الأرضية القاسية.
أخرج مجد أنينًا موجوعًا من فكه المحطم، ولم يجد من القوة ما يستطيع بها مقاومته. استمر هو في سحبه وركله حتى اكتفى منه، فانحنى عليه، وجذبه من ياقته مجبرًا إياه على النهوض.
حدجه بنظرات أكثر شراسة، ثم سدد له لكمة عنيفة في وجهه، أعقبها ركلة أسفل بطنه، فخرجت صرخة موجعة منه.
قبض منذر على عنقه بأظافره هادرًا فيه بإهانة لاذعة:
-انت لعبت مع الراجل الغلط يا ابن الـ......، ومكانك الطبيعي هو الزبالة!
انحنى بجذعه للأسفل ليتمكن من حمله على كتفه، ثم دنا به نحو أقرب صندوق للقمامة، وألقاه بداخله ليقبع جسده وسط الفضلات والمخلفات.
إهانة أخرى وأشد قسوة عن ذي قبل تلقاها مجد لتقضي نهائيًا على سطوته الزائفة، وعلى هيبته المتعالية. أصبح مثل البقايا، ركامًا فانية لا تصلح إلا للتخلص منها.
شهد العشرات بل المئات من قاطني المنطقة على تلك المذلة العلنية، إنها فضيحة مدوية بكل المقاييس، إعلان صريح عن اِنتهاء عهد بلطجة ابن أبو النجا.
تخطى الأمر حدود المقبول وتحولت الساحة إلى منطقة دامية تلاحم فيها الرجال بضراوة شرسة حتى بسطوا سيطرتهم بالكامل على أتباع عائلة أبو النجا. كما تعاون الجيران أيضًا معهم للتخلص منه، فأي فرصة ستكرر مثل تلك.
اندفع بعدها منذر برجاله ناحية مطعمهم لإغلاقه بالإكراه، انتهى عهد المصالحة والود، وعاد الأمر إلى سابق عهده قبل سنوات، إلى النزاع والشد والجذب، إلى المشاحنات والاقتتال الدائم.
انطلق ديــاب ومعه عدد من الرجال نحو مداخل المنطقة ليقطعوا الطريق على مازن وأبيه قبل أن يأتيا لنجدته.، وجلس على مقدمة إحدى السيارات مسندًا ساقه عليها، وهتف بصرامة مشددة:
-مش عاوز نملة تهوب من هنا، سامعين! الليلة وجبت يا رجالة!
انتشر رجـــاله سريعًا ليسدوا كافة الطرق المحتملة وهم مجهزين بالأسلحة البيضاء والخفيفة.
تابعهم دياب بأنظار متفاخرة، فاليوم ردت إلى العائلة هيبتها، وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
وقف مفعمًا بثورته الغاضبة أمام واجهة المطعم رافعًا ذراعه للأعلى، ثم هدر صائحًا:
-يتقفل نهائي، وتنزل يافطته على الأرض!
رد عليه أحدهم من الخلف بصوت متحشرج:
-تمام يا ريس منذر!
تسابق الرجال فيما بينهم لإنزال لافتات المطعم بعد إخراج رواده منه، وحطموا أغلب الطاولات والديكورات، كما تناثرت أجزاء الصحون المهشمة على الأرضيات.
بعد عدة دقائق تحول المطعم إلى خرابة معتمة، وتم إقفاله بنفس الجنازير الحديدية التي استخدمها أتباع مجد.
نفض منذر يديه، ومسح حبات عرقه المتكونة على جبينه، ثم استدار عائدًا من حيث أتى.
رفض الصعود إلى منزل عواطف كي لا تنفر أسيف من وجهه الملطخ بالدماء ولا تزعج من ثيابه الممزقة، أراد أن تظل صورته المنمقة، وملامحه المهذبة هي الباقية في ذهنها، وتحديدًا في تلك الليلة. فأثر العودة إلى وكالته بهيئته تلك، وأوكل مهمة اصطحاب عائلته من هناك إلى أخيه الأصغر.
ولم يصعد هو أيضًا، وهاتف والدته لتحضر ابنه الصغير وأخته ليقابلهم بالمدخل.
تساءلت جليلة بتلهف وقد زاغت أنظارها:
-أخوك فين؟ حصله حاجة؟
أجابها بهدوء:
-اطمني يامه، كلنا كويسين
-اومال هو فين؟
-راح مع الحاج على الوكالة!
-طب.. والزفت مجد، عملتوا معاه ايه و....
-انسيه خلاص، ويالا عشان أرجعكم البيت!
قالها دياب وهو يلقي سيجارته المشتعلة على الأرضية ليدهس عليها قبل أن يركب سيارته لينطلق بهم نحو منزلهم.
مرت تلك الليلة العصيبة ببطء شديد، لم يستطع فيها مهدي الوصول إلى ابنه الذي بقي ملقيًا بداخل صندوق القمامة عاجزًا عن الحركة، أو حتى بلوغ المنطقة الشعبية لمعرفة ما الذي دار بمطعمه. حُصر عند الأطراف مع ابنه الأصغر قسرًا حتى سمح لهما بالدخول.
اتجه مــازن ناحية المطعم ليتفقده، بينما توجه والده نحو الوكالة، فلديه هناك مهمة عويصة للغاية.
نكس رأسه بخزي أمامه، ثم استطرد حديثه متساءلًا بنبرة ذليلة:
-ليه كده بس يا حاج طه؟ ده احنا بينا عيش وملح!!
ضرب الأخير بعكازه بعنف على الأرضية صائحًا بغلظة:
-ابنك اللي ضيع كل حاجة! ده حرق عربية ابني، وكان ناقص يموته، لولا ستر ربنا!
برر مهدي فعلته قائلًا:
-هو مكانش في وعيه، الهباب اللي بيشربه آ....
قاطعه طه هادرًا بانفعال ملحوظ:
-دي مش أول مرة، وأنا حذرتك قبل كده!
-بس ....
-خلاص انتهى الكلام يا مهدي، لم حالك، وكفاية قلة قيمة لنفسك وارجع مطرح ما جيت!
أدرك لحظتها أنه لا أمل في أي تفاوض، حسم الأمر، وانتهى كل شيء، فجرجر أذيال خيبته إلى خـــارج الوكالة متحاملًا على نفسه.
راقبه المارة بنظرات أسفة، فذلك الرجل الطيب لديه ابن من نسل الشيطان، وأخر لا يختلف عنه كثيرًا.
تجمدت أنظاره على مطعمه المعتم، خفقان قوي في قلبه لمجرد رؤيته هكذا. ترقرقت العبرات في مقلتيه، وشعر بوخزة حـــادة في صدره، ألم رهيب اجتاحه بسبب إحساسه بضياع ما أفنى فيه سنوات عمره في لحظات وتحوله لهباء منثور.
انتبه بفتور شارد لصوت مازن الصارخ بتشنج:
-مش هايتقفل، وربنا لأفتحه ولو طار فيها رقاب، مش احنا اللي هنطاطي لـ...
قاطعه صائحًا بصوتٍ متحشرج:
-اسكت خالص! إنت وأخوك السبب، ضيعتوا شقا عمري كله بغباءكم، منكم لله، منكم لله
أولاه ظهره ضاربًا كف بالأخر في تحسر واضح، فلحق به ابنه قائلًا بقلق:
-استنى يا حاج!
نظر له شزرًا قبل أن يرد بحنق:
-حسبي الله ونعم الوكيل!
سار خطوتين فقط للأمام، وانهار جسده المنهك على الأرضية الإسفلتية. لم يتحمل خسارته الكبيرة، وفجع قلبه لتلك الكارثة، فتهاوى مع ما تهاوى من أملاك.
فزع مازن صارخًا:
-أبويا! حـــاج مهدي!
استندت بظهرها على حافة الفراش متطلعة أمامها بنظرات شــاردة، تكرر المشهد في مخيلتها، تلك القبضتين الشرستين تطبقان على عنقه، وهو أوشك على الاختناق. أغمضت أسيف عينيها سريعًا لتنفضه عن عقلها، هي لا تريد تذكر الأمر؛ لأن مجرد استعادة وجه مجد الشيطاني يزعجها بشدة.
وضعت يدها على وجهها لتمسحه برفق، فشعرت بملمس صلب.
رفعت كفها أمام أنظارها لتحدق في ذلك الخاتم الرقيق الذي يزين إصبعها الأيمن، فابتسمت عفويًا.
راقبتها بسمة بنظرات متسلية وهي تستند بذراعها على باب الغرفة، هتفت فجأة بمرح:
-اللي واخدك عقلك
انتبهت لصوتها أسيف، فأخفضت يدها سريعًا ليظهر ارتباكها جليًا أمامها، وتسربت خيوط حمراء لوجنتيها لتزيد من توردهما وهي ترد بخجل متلعثم:
-مافيش والله، ده أنا .. كنت بأريح شوية!
دنت منها لتجلس على الفراش، ثم غمزت لها قائلة بمكر:
-عادي يا سوفي، من حقك تفكري في حامي الحمى عنترة بن شداد!
ضحكت أسيف لدعابتها الطريفة، وتابعت ابنة عمتها قائلة:
-هو برضوه جدع وشهم، وأديكي شوفتي بنفسك
-أه فعلًا
عضت بسمة على شفتها السفلى، ومالت بجسدها للأمام قليلًا لتتساءل بخفوت:
-بس ايه الحلاوة دي، متخيلتش أبدًا إنك تساعديه، لأ برافو عليكي!
زاد حياؤها من مجرد ذكر شجاعتها الجريئة في موقف لحظي مؤقت.
استأنفت بسمة حديثها متابعة بمزاح:
-دلوقتي هتبقي فرخة بكشك عند حماتك، على رأي نيرمين، ده سي منذر مش أي حد!
-خلاص بقى
-ده انتي مكسوفة خالص، لالالا، دي حاجة جديدة!
-بسمة، أنا بأتحرج والله!
-ماشي، بس المهم إن اليوم كان حلو وعدى على خير
تنهدت أسيف قائلة بهدوء:
-الحمدلله! وقريب هينتهي ده كله!
نظرت لها بسمة مطولًا ولم تعلق على عبارتها الأخيرة رغم تأكدها من مغزاها الصريح، لكنها تمنت بين طيات نفسها أن تدوم تلك الخطبة وتتطور إلى زيجة حقيقية، فهي تستحق شخصًا مثله يعوضها عما فات.
سحب مقعدًا ليجلس هو الأخر بقرب والده، ثم دس في فمه خرطوم الأرجيلة مستنشقًا محتوياتها قبل أن يخرجها دفعة واحدة على هيئة دخان كثيف.
أصدر دياب أوامره وشدد على الجميع بإنكار رؤية أي شيء مما حدث، والاكتفاء فقط بترديد ما يريد، وهو هجوم بعض مثيري الشغب على المنطقة للاشتباك مع الأهالي العزل، فاضطر الجميع أن يتدخل لمنعهم من التمادي في الأمر، وإلحاق الأذى بالبسطاء.
فالعرف المتبع في تلك النوعية من الشجارات الحادة بين أقطاب العائلات القوية هو التستر التام على أسبابها وتبعاتها.
وبالطبع لم يستطع رجال الشرطة التحقيق بأريحية في تلك المشاحنة العنيفة، أو حتى الحصول على معلومات مفيدة، ففي أنظارهم أغلب سكان المنطقة متورطين في الأمر، والمعلومات مبهمة ولا تشير إلى شخص بعينه، فتعثرت التحريات كثيرًا.
تحسس دياب صدره قائلًا بجدية:
-البوليس مالي الحتة، بس أنا ظبطت كل حاجة، ونبهت على كل رجالتنا!
رد عليه طه باقتضاب جاد:
-أما نشوف هترسى على ايه!
أضاف منذر قائلًا بامتعاض:
-كان نفسي أعلقه على باب الوكالة!
كركر دياب ضاحكًا من استعادة مشهد إلقاء مجد بمفرغ القمامة، وبصعوبة بالغة سيطر على نفسه ليردد بعدها:
-ده انت كيفته يا منذر، وخليته مايسواش، ناقصه بس يلبس طرحة ويقعد زي النسوان في البيت!
وقبل أن يفتح أخاه فمه ليتحدث هتف أحد العمال بالوكالة:
-يا ريس منذر، البيه الظابط عاوز حضرتك!
هب واقفًا من مكانه قائلًا بجدية:
-ماشي، أنا طالعله برا!
تحرك بعدها على عجالة ليقف عند مدخل الوكالة حيث ينتظره عددًا من أفراد الشرطة.
انتصب في وقفته متأملًا إياهم بنظرات قوية، وأردف قائلًا بهدوء:
-خير يا باشا!
استدار الضابط المسئول عن التحقيق في واقعة الاشتباك تلك بوجهه ناحيته، ونظر له بتفرس وهو يتساءل بجمود:
-انت منذر حرب؟
أومأ الأخير برأسه بالإيجاب هاتفًا:
-ايوه!
رمقه الضابط بنظرات مدققة في الجروح والكدمات البارزة على وجهه وهو يتساءل بقوة:
-فهمني ايه اللي حصل؟
رد عليه منذر بنبرة عقلانية متريثة:
-خناقة يا باشا زي أي خناقة، شوية بلطجية حبوا يعملوا رجالة علينا، فاحنا مخلصناش قلة الأدب بتاعتهم، وكل شباب الحتة اتلموا وروقوهم، وفجأة فص ملح وداب، مش عارفين راحوا فين!
لم يقتنع الضابط بحرف واحد مما قاله، وصاح مستنكرًا:
-يا سلام، بالبساطة دي!
التوى ثغر منذر للجانب مرددًا بتفاخر صريح:
-اه، احنا أسود يا باشا!
تدخل ضابط أخـــر في الحوار كان قد التقاه مسبقًا أثناء التحقيق في واقعة حادث بسمة مضيفًا:
-أنا عارفه يا باشا، سيبني أكمل معاه!
استدار الضابط الأول في اتجاهه قائلًا بامتعاض:
-اتفضل يا فندم
ابتسم منذر صائحًا بحماس:
-معالي الباشا، منور الوكالة!
استطرد الضابط حديثه بجدية وهو يحك عنقه:
-شوف يا منذر كل اللي قولته، واللي أهالي الحتة بيقولوه مايدخلش دماغي بتعريفة، اللي حصل غير كده خالص، وأنا متأكد من ده، بس ماشي هانعديها بمزاجنا، لكن تحذير مني ليك، أنا حاطط عيني عليك إنت بالذات، وأي غلطة جاية هايكون حسابها عسير أوي!
رد عليه منذر بثقة متعمدًا العبوس بوجهه وهو يرفع كفيه أمامه:
-ربنا ما يوقعنا في الغلط يا باشا، احنا ماشيين جمب الحيط
أشـــار الضابط بسبابته وكأنه قد تذكر شيئًا ما، فتابع متساءلًا بجدية:
-اه بالمناسبة، جارتكم ولا قريبتكم اللي اتخبطت بالعربية، هي ليها عداوة سابقة مع حد؟
-لأ، ليه؟
-عمومًا هانشوف!
توتر دياب من بقاء أخيه بالخارج لبرهة، فخرج في إثره ليتابع التحقيق معه، لكنه بقي في الخلف واضعًا كفيه بداخل جيبي بنطاله الرمادي، لكن تبلدت حواسه كليًا وتحفزت على الأخير حينما التقطت أذناه تلك العبارة الأخيرة التي تخص معشوقته.
أخرج قبضتيه من جيبيه، واندفع نحو الضابط متساءلًا بنزق:
-طمنا يا باشا، في حاجة عرفتها تخصها؟
نظر له الضابط بازدراء قليل وهو يرد عليه بتساؤل جاد:
-وانت مين انت كمان؟
أجابه دياب بتعصب قليل:
-أنا ..
وضع منذر يده على كتف أخيه ضاغطًا عليه بقوة ليجبره على قطم عبارته، ورد هو قائلًا بابتسامة باهتة:
-ده أخويا الصغير يا باشا!
سلط أنظاره عليه ليحذره من الحديث، وتابع متساءلًا بحذر:
-حصل حاجة تانية؟ عرفتوا اللي عملها؟ ولا...؟؟
أجابه الضابط مرددًا:
-واحنا بنفرغ محتويات كاميرات المراقبة لاحظنا واحد مراقب الطريق من على الناصية وجمبه حد تاني، المخبرين اتحروا عنه، وعرفنا إنه عنده محل جزارة هنا في الحتة
كظم دياب حنقه المشتعل في نفسه هامسًا بصوت محتد وهو يكز على أسنانه بقوة عنيفة:
-جزار الـ.......، ابن الحرام!
أضاف الضابط بجدية:
-وفي محاضر بينهم ومشادات وآآ....
قاطعه منذر موضحًا بحذر:
-يا باشا دي خلافات عادية، انت عارف موضوع البهايم والدوشة، كلنا بنتخنق من الريحة والصوت!
رد الضابط بعدم اقتناع:
-عامةً هي هايتم استدعائها للتحقيق وهانفهم منها أكتر طبيعة الخلافات، لأنه جايز يكون متورط في الموضوع!
هز رأسه متفهمًا:
-ماشي يا باشا، اللي تشوفه
قبض منذر على ذراع أخيه، واستدار بجسده ليشكل حائلًا أمامه قبل أن يندفع ويفعل بتهور ما لا يحمد عقباه، سمع صرير احتكاك أسنانه وهو يردد بسباب قاسٍ:
-ابن الـ............!
حذره قائلًا بصوت خفيض:
-امسك نفسك يا دياب!
-الـ....... ده أكيد وراها، وربنا ما أنا راحمه، هاجييب مسارينه على الأرض!
-هايحصل بس بالعقل، الشرطة مفتحة عينها علينا أوي، اركز!
-مش هافوتها! هاموته!
ذرعت الصالة جيئة وذهابًا منتظرة عودة ابنها من الخارج لتسرد له ما فعلته طليقته الشمطاء معها ومع أخته في حضور خطيبها عند محل الصائغ، وبالطبع لم يخلو حديثها من الكلمات النابية، ولا من الوصف الجارح.
وضعت لبنى يدها على كتفه صارخة بعصبية:
-لازم تشوفلك صرفة، دي كانت هتخرب الجوازة على أختك
فرك طرف ذقنه مرددًا بفتور:
-حاضر، هافكر!
اغتاظت من أسلوبه البارد في التعامل مع الموقف، وكأنه لا يعنيه، فصاحت بحدة مهددة إياه:
-لأ ماتفكرش، إنت تاخد حقي وحق اختك وإلا لا انت ابني ولا أنا أعرفك، هاتبرى منك وآ......
قاطعها حاتم هاتفًا بتبرم:
-حاضر يا أمي، قولتلك هاتصرف، اهدي عليا بس!
أمسكت والدته بأطراف خصلاتها المتدلية من حجاب رأسها المنزلي، وهزتهم بعنف مواصلة وعيدها الشرس:
-بنت الـ..... ، مفكرة هاعديهالها بالساهل! وحياة مقاصيصي دول لهوريها نيرمين الكلب!
احتضنته بقوة بعد عودته سالمًا إلى المنزل، فلم يسعفها الوقت لرؤيته بعد انتهاء المشاجرة. ظل عقلها مشغولًا عليه، إلى أن عاد إليها.
ضمت وجهه براحتيها، وحدقت فيه بأعين لامعة للغاية.
انحنى منذر على رأس والدته ليقبلها قائلًا:
-أنا كويس يا أمي، اطمني عليا
ربتت على ظهره قائلة بحنو:
-ربنا ما يضرني فيك أبدًا
-يا رب
لف ذراعه حول كتفيها، وســار معها بتمهل نحو غرفته، تابعت جليلة حديثها الحماسي قائلة:
-لولا كرم ربنا، وخطيبتك أسيف الله أعلم كان هايحصل ايه!
تنهدت بعمق لتضيف:
-الحمدلله يا رب
بدت تعابيره غريبة إلى حد ما، وانتابه الفضول لمعرفة سبب تلك العبارة الغامضة، فتساءل مهتمًا وقد رفع حاجبه للأعلى:
-وايه علاقة أسيف بالخناقة؟
أجابته بلا تردد:
-ماهي يا بني حدفت على اللي ما يتسمى سبت المشابك عشان تلبخه، خافت عليك يجرالك حاجة!
حدق منذر في وجه والدته بنظرات شاردة سارحًا بأفكاره في صورتها التي غزت عقله بالكامل، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تكون هي سبب نجاته، أن تتلهف عليه بل وتجاذف من أجله.
رمقته جليلة بنظرات متعجبة، فقد كان كالمغيب وهي تحدثه عنها، لكن تحولت تعابيرها للارتخاء عند رأت تلك الابتسامة الصغيرة تتشكل علىثغره، وما أكد صدق حدسها من وجود مشاعر ما نحوه لها هو ذلك اللمعان البائن في عينيه.
ابتسمت له قائلة بهدوء:
-ربنا يسعدك معاها يا بني ويتمملكم على خير، أنا صحيح في الأول مكونتش مبسوطة من الخطوبة دي ، بس.. بس جايز أكون ظلماها، و..
انتبه منذر لحديثها فقاطعها مبتسمًا:
-سيبك من اللي فات يا ست الكل!
-أنا اللي مخوفني منها موضوع الأعمال والسحر و...
-تاني، ما أنا قولتلك مالهاش في الحركات دي!
-ده أنا شوفت بعيني، ولولا إن نيرمين نبهتني كان زماني .....
شعرت بتلك الأذرع تضمها بقوة وكأنها تحميها، فقط لكونها تصرفت بجرأة من أجله، فتغيرت الأمور معاها تمامًا، أدارت رأسها للجانب لتجد وجهها البشوش الباكي يشكرها بامتنان أم حنونة لمساعدتها ابنها البكري. كانت شبه واعية لما حولها، هي تصرفت برعونة هوجاء لكن أتى في النهاية بنتائج طيبة.
ربتت على كتفها جليلة قائلة بصوت متأثر:
-ربنا يكرمك يا بنتي، انتي.. انتي نجتيه!
-أنا.. معملتش حاجة!
قالتها أسيف بصوت متردد محاولة تبرير فعلتها الطبيعية.
وضعت عمتها هي الأخرى ذراعها حولها لتضمها قائلة:
-بنت أخويا طيبة وبنت حلال!
انزعجت نيرمين من انقلاب الوضع معها، وضاقت نظراتها لتصبح أكثر حدة وغيظًا. هي أرادت التفريق بينها وبين عائلته، ولكن حدث العكس معها، بل لعب الحظ لعبته، وأصبحت محبوبتهم.
هتفت فجأة بنزق وقد انعقد ما بين حاجبيها بشدة:
-تعالوا نخش جوا أحسن، بدل ما تتحدف حاجة كده ولا كده!
اعترضت جليلة مرددة:
-مش قبل ما أطمن على ....
قاطعتها نيرمين بإصرار عابس:
-يالا يا خالتي، البركة في سي منذر، هو خلاص لم الليلة وبقت عنده!
أومــأت برأسها مستسلمة، ثم وجهت أنظارها نحو أسيف لتتابع بابتسامة سعيدة:
-يباركلي فيكي يا عروسة ابني!
توردت وجنتي الأخيرة بخجل وهي تقول:
-شكرًا!
أقسم أن يجعله عبرة لمن لا يعتبر، أن يذيقه ما يستحق، أن يردعه للأبد كي لا يعاود النهوض من جديد ليبطش في الضعفاء، وخاصة حبيبته.
لن يلتفت لأي اتفاقات ودية أُبرمت بين العائلتين من قبل، سينسى أي صلح سلمي بينهم، هم في كل مرة يخطئون وينقضون العهد، ثم يبدون ندمهم، ويعاود فاقد العقل الكَرة ويخرب كل شيء.
أمسك به منذر من قدمه، ونظر له بأعين نارية ثم بصق في وجهه، وجرجره منها متعمدًا سحل جسده بعنف على الأرضية القاسية.
أخرج مجد أنينًا موجوعًا من فكه المحطم، ولم يجد من القوة ما يستطيع بها مقاومته. استمر هو في سحبه وركله حتى اكتفى منه، فانحنى عليه، وجذبه من ياقته مجبرًا إياه على النهوض.
حدجه بنظرات أكثر شراسة، ثم سدد له لكمة عنيفة في وجهه، أعقبها ركلة أسفل بطنه، فخرجت صرخة موجعة منه.
قبض منذر على عنقه بأظافره هادرًا فيه بإهانة لاذعة:
-انت لعبت مع الراجل الغلط يا ابن الـ......، ومكانك الطبيعي هو الزبالة!
انحنى بجذعه للأسفل ليتمكن من حمله على كتفه، ثم دنا به نحو أقرب صندوق للقمامة، وألقاه بداخله ليقبع جسده وسط الفضلات والمخلفات.
إهانة أخرى وأشد قسوة عن ذي قبل تلقاها مجد لتقضي نهائيًا على سطوته الزائفة، وعلى هيبته المتعالية. أصبح مثل البقايا، ركامًا فانية لا تصلح إلا للتخلص منها.
شهد العشرات بل المئات من قاطني المنطقة على تلك المذلة العلنية، إنها فضيحة مدوية بكل المقاييس، إعلان صريح عن اِنتهاء عهد بلطجة ابن أبو النجا.
تخطى الأمر حدود المقبول وتحولت الساحة إلى منطقة دامية تلاحم فيها الرجال بضراوة شرسة حتى بسطوا سيطرتهم بالكامل على أتباع عائلة أبو النجا. كما تعاون الجيران أيضًا معهم للتخلص منه، فأي فرصة ستكرر مثل تلك.
اندفع بعدها منذر برجاله ناحية مطعمهم لإغلاقه بالإكراه، انتهى عهد المصالحة والود، وعاد الأمر إلى سابق عهده قبل سنوات، إلى النزاع والشد والجذب، إلى المشاحنات والاقتتال الدائم.
انطلق ديــاب ومعه عدد من الرجال نحو مداخل المنطقة ليقطعوا الطريق على مازن وأبيه قبل أن يأتيا لنجدته.، وجلس على مقدمة إحدى السيارات مسندًا ساقه عليها، وهتف بصرامة مشددة:
-مش عاوز نملة تهوب من هنا، سامعين! الليلة وجبت يا رجالة!
انتشر رجـــاله سريعًا ليسدوا كافة الطرق المحتملة وهم مجهزين بالأسلحة البيضاء والخفيفة.
تابعهم دياب بأنظار متفاخرة، فاليوم ردت إلى العائلة هيبتها، وعادت الأمور إلى نصابها الصحيح.
وقف مفعمًا بثورته الغاضبة أمام واجهة المطعم رافعًا ذراعه للأعلى، ثم هدر صائحًا:
-يتقفل نهائي، وتنزل يافطته على الأرض!
رد عليه أحدهم من الخلف بصوت متحشرج:
-تمام يا ريس منذر!
تسابق الرجال فيما بينهم لإنزال لافتات المطعم بعد إخراج رواده منه، وحطموا أغلب الطاولات والديكورات، كما تناثرت أجزاء الصحون المهشمة على الأرضيات.
بعد عدة دقائق تحول المطعم إلى خرابة معتمة، وتم إقفاله بنفس الجنازير الحديدية التي استخدمها أتباع مجد.
نفض منذر يديه، ومسح حبات عرقه المتكونة على جبينه، ثم استدار عائدًا من حيث أتى.
رفض الصعود إلى منزل عواطف كي لا تنفر أسيف من وجهه الملطخ بالدماء ولا تزعج من ثيابه الممزقة، أراد أن تظل صورته المنمقة، وملامحه المهذبة هي الباقية في ذهنها، وتحديدًا في تلك الليلة. فأثر العودة إلى وكالته بهيئته تلك، وأوكل مهمة اصطحاب عائلته من هناك إلى أخيه الأصغر.
ولم يصعد هو أيضًا، وهاتف والدته لتحضر ابنه الصغير وأخته ليقابلهم بالمدخل.
تساءلت جليلة بتلهف وقد زاغت أنظارها:
-أخوك فين؟ حصله حاجة؟
أجابها بهدوء:
-اطمني يامه، كلنا كويسين
-اومال هو فين؟
-راح مع الحاج على الوكالة!
-طب.. والزفت مجد، عملتوا معاه ايه و....
-انسيه خلاص، ويالا عشان أرجعكم البيت!
قالها دياب وهو يلقي سيجارته المشتعلة على الأرضية ليدهس عليها قبل أن يركب سيارته لينطلق بهم نحو منزلهم.
مرت تلك الليلة العصيبة ببطء شديد، لم يستطع فيها مهدي الوصول إلى ابنه الذي بقي ملقيًا بداخل صندوق القمامة عاجزًا عن الحركة، أو حتى بلوغ المنطقة الشعبية لمعرفة ما الذي دار بمطعمه. حُصر عند الأطراف مع ابنه الأصغر قسرًا حتى سمح لهما بالدخول.
اتجه مــازن ناحية المطعم ليتفقده، بينما توجه والده نحو الوكالة، فلديه هناك مهمة عويصة للغاية.
نكس رأسه بخزي أمامه، ثم استطرد حديثه متساءلًا بنبرة ذليلة:
-ليه كده بس يا حاج طه؟ ده احنا بينا عيش وملح!!
ضرب الأخير بعكازه بعنف على الأرضية صائحًا بغلظة:
-ابنك اللي ضيع كل حاجة! ده حرق عربية ابني، وكان ناقص يموته، لولا ستر ربنا!
برر مهدي فعلته قائلًا:
-هو مكانش في وعيه، الهباب اللي بيشربه آ....
قاطعه طه هادرًا بانفعال ملحوظ:
-دي مش أول مرة، وأنا حذرتك قبل كده!
-بس ....
-خلاص انتهى الكلام يا مهدي، لم حالك، وكفاية قلة قيمة لنفسك وارجع مطرح ما جيت!
أدرك لحظتها أنه لا أمل في أي تفاوض، حسم الأمر، وانتهى كل شيء، فجرجر أذيال خيبته إلى خـــارج الوكالة متحاملًا على نفسه.
راقبه المارة بنظرات أسفة، فذلك الرجل الطيب لديه ابن من نسل الشيطان، وأخر لا يختلف عنه كثيرًا.
تجمدت أنظاره على مطعمه المعتم، خفقان قوي في قلبه لمجرد رؤيته هكذا. ترقرقت العبرات في مقلتيه، وشعر بوخزة حـــادة في صدره، ألم رهيب اجتاحه بسبب إحساسه بضياع ما أفنى فيه سنوات عمره في لحظات وتحوله لهباء منثور.
انتبه بفتور شارد لصوت مازن الصارخ بتشنج:
-مش هايتقفل، وربنا لأفتحه ولو طار فيها رقاب، مش احنا اللي هنطاطي لـ...
قاطعه صائحًا بصوتٍ متحشرج:
-اسكت خالص! إنت وأخوك السبب، ضيعتوا شقا عمري كله بغباءكم، منكم لله، منكم لله
أولاه ظهره ضاربًا كف بالأخر في تحسر واضح، فلحق به ابنه قائلًا بقلق:
-استنى يا حاج!
نظر له شزرًا قبل أن يرد بحنق:
-حسبي الله ونعم الوكيل!
سار خطوتين فقط للأمام، وانهار جسده المنهك على الأرضية الإسفلتية. لم يتحمل خسارته الكبيرة، وفجع قلبه لتلك الكارثة، فتهاوى مع ما تهاوى من أملاك.
فزع مازن صارخًا:
-أبويا! حـــاج مهدي!
استندت بظهرها على حافة الفراش متطلعة أمامها بنظرات شــاردة، تكرر المشهد في مخيلتها، تلك القبضتين الشرستين تطبقان على عنقه، وهو أوشك على الاختناق. أغمضت أسيف عينيها سريعًا لتنفضه عن عقلها، هي لا تريد تذكر الأمر؛ لأن مجرد استعادة وجه مجد الشيطاني يزعجها بشدة.
وضعت يدها على وجهها لتمسحه برفق، فشعرت بملمس صلب.
رفعت كفها أمام أنظارها لتحدق في ذلك الخاتم الرقيق الذي يزين إصبعها الأيمن، فابتسمت عفويًا.
راقبتها بسمة بنظرات متسلية وهي تستند بذراعها على باب الغرفة، هتفت فجأة بمرح:
-اللي واخدك عقلك
انتبهت لصوتها أسيف، فأخفضت يدها سريعًا ليظهر ارتباكها جليًا أمامها، وتسربت خيوط حمراء لوجنتيها لتزيد من توردهما وهي ترد بخجل متلعثم:
-مافيش والله، ده أنا .. كنت بأريح شوية!
دنت منها لتجلس على الفراش، ثم غمزت لها قائلة بمكر:
-عادي يا سوفي، من حقك تفكري في حامي الحمى عنترة بن شداد!
ضحكت أسيف لدعابتها الطريفة، وتابعت ابنة عمتها قائلة:
-هو برضوه جدع وشهم، وأديكي شوفتي بنفسك
-أه فعلًا
عضت بسمة على شفتها السفلى، ومالت بجسدها للأمام قليلًا لتتساءل بخفوت:
-بس ايه الحلاوة دي، متخيلتش أبدًا إنك تساعديه، لأ برافو عليكي!
زاد حياؤها من مجرد ذكر شجاعتها الجريئة في موقف لحظي مؤقت.
استأنفت بسمة حديثها متابعة بمزاح:
-دلوقتي هتبقي فرخة بكشك عند حماتك، على رأي نيرمين، ده سي منذر مش أي حد!
-خلاص بقى
-ده انتي مكسوفة خالص، لالالا، دي حاجة جديدة!
-بسمة، أنا بأتحرج والله!
-ماشي، بس المهم إن اليوم كان حلو وعدى على خير
تنهدت أسيف قائلة بهدوء:
-الحمدلله! وقريب هينتهي ده كله!
نظرت لها بسمة مطولًا ولم تعلق على عبارتها الأخيرة رغم تأكدها من مغزاها الصريح، لكنها تمنت بين طيات نفسها أن تدوم تلك الخطبة وتتطور إلى زيجة حقيقية، فهي تستحق شخصًا مثله يعوضها عما فات.
سحب مقعدًا ليجلس هو الأخر بقرب والده، ثم دس في فمه خرطوم الأرجيلة مستنشقًا محتوياتها قبل أن يخرجها دفعة واحدة على هيئة دخان كثيف.
أصدر دياب أوامره وشدد على الجميع بإنكار رؤية أي شيء مما حدث، والاكتفاء فقط بترديد ما يريد، وهو هجوم بعض مثيري الشغب على المنطقة للاشتباك مع الأهالي العزل، فاضطر الجميع أن يتدخل لمنعهم من التمادي في الأمر، وإلحاق الأذى بالبسطاء.
فالعرف المتبع في تلك النوعية من الشجارات الحادة بين أقطاب العائلات القوية هو التستر التام على أسبابها وتبعاتها.
وبالطبع لم يستطع رجال الشرطة التحقيق بأريحية في تلك المشاحنة العنيفة، أو حتى الحصول على معلومات مفيدة، ففي أنظارهم أغلب سكان المنطقة متورطين في الأمر، والمعلومات مبهمة ولا تشير إلى شخص بعينه، فتعثرت التحريات كثيرًا.
تحسس دياب صدره قائلًا بجدية:
-البوليس مالي الحتة، بس أنا ظبطت كل حاجة، ونبهت على كل رجالتنا!
رد عليه طه باقتضاب جاد:
-أما نشوف هترسى على ايه!
أضاف منذر قائلًا بامتعاض:
-كان نفسي أعلقه على باب الوكالة!
كركر دياب ضاحكًا من استعادة مشهد إلقاء مجد بمفرغ القمامة، وبصعوبة بالغة سيطر على نفسه ليردد بعدها:
-ده انت كيفته يا منذر، وخليته مايسواش، ناقصه بس يلبس طرحة ويقعد زي النسوان في البيت!
وقبل أن يفتح أخاه فمه ليتحدث هتف أحد العمال بالوكالة:
-يا ريس منذر، البيه الظابط عاوز حضرتك!
هب واقفًا من مكانه قائلًا بجدية:
-ماشي، أنا طالعله برا!
تحرك بعدها على عجالة ليقف عند مدخل الوكالة حيث ينتظره عددًا من أفراد الشرطة.
انتصب في وقفته متأملًا إياهم بنظرات قوية، وأردف قائلًا بهدوء:
-خير يا باشا!
استدار الضابط المسئول عن التحقيق في واقعة الاشتباك تلك بوجهه ناحيته، ونظر له بتفرس وهو يتساءل بجمود:
-انت منذر حرب؟
أومأ الأخير برأسه بالإيجاب هاتفًا:
-ايوه!
رمقه الضابط بنظرات مدققة في الجروح والكدمات البارزة على وجهه وهو يتساءل بقوة:
-فهمني ايه اللي حصل؟
رد عليه منذر بنبرة عقلانية متريثة:
-خناقة يا باشا زي أي خناقة، شوية بلطجية حبوا يعملوا رجالة علينا، فاحنا مخلصناش قلة الأدب بتاعتهم، وكل شباب الحتة اتلموا وروقوهم، وفجأة فص ملح وداب، مش عارفين راحوا فين!
لم يقتنع الضابط بحرف واحد مما قاله، وصاح مستنكرًا:
-يا سلام، بالبساطة دي!
التوى ثغر منذر للجانب مرددًا بتفاخر صريح:
-اه، احنا أسود يا باشا!
تدخل ضابط أخـــر في الحوار كان قد التقاه مسبقًا أثناء التحقيق في واقعة حادث بسمة مضيفًا:
-أنا عارفه يا باشا، سيبني أكمل معاه!
استدار الضابط الأول في اتجاهه قائلًا بامتعاض:
-اتفضل يا فندم
ابتسم منذر صائحًا بحماس:
-معالي الباشا، منور الوكالة!
استطرد الضابط حديثه بجدية وهو يحك عنقه:
-شوف يا منذر كل اللي قولته، واللي أهالي الحتة بيقولوه مايدخلش دماغي بتعريفة، اللي حصل غير كده خالص، وأنا متأكد من ده، بس ماشي هانعديها بمزاجنا، لكن تحذير مني ليك، أنا حاطط عيني عليك إنت بالذات، وأي غلطة جاية هايكون حسابها عسير أوي!
رد عليه منذر بثقة متعمدًا العبوس بوجهه وهو يرفع كفيه أمامه:
-ربنا ما يوقعنا في الغلط يا باشا، احنا ماشيين جمب الحيط
أشـــار الضابط بسبابته وكأنه قد تذكر شيئًا ما، فتابع متساءلًا بجدية:
-اه بالمناسبة، جارتكم ولا قريبتكم اللي اتخبطت بالعربية، هي ليها عداوة سابقة مع حد؟
-لأ، ليه؟
-عمومًا هانشوف!
توتر دياب من بقاء أخيه بالخارج لبرهة، فخرج في إثره ليتابع التحقيق معه، لكنه بقي في الخلف واضعًا كفيه بداخل جيبي بنطاله الرمادي، لكن تبلدت حواسه كليًا وتحفزت على الأخير حينما التقطت أذناه تلك العبارة الأخيرة التي تخص معشوقته.
أخرج قبضتيه من جيبيه، واندفع نحو الضابط متساءلًا بنزق:
-طمنا يا باشا، في حاجة عرفتها تخصها؟
نظر له الضابط بازدراء قليل وهو يرد عليه بتساؤل جاد:
-وانت مين انت كمان؟
أجابه دياب بتعصب قليل:
-أنا ..
وضع منذر يده على كتف أخيه ضاغطًا عليه بقوة ليجبره على قطم عبارته، ورد هو قائلًا بابتسامة باهتة:
-ده أخويا الصغير يا باشا!
سلط أنظاره عليه ليحذره من الحديث، وتابع متساءلًا بحذر:
-حصل حاجة تانية؟ عرفتوا اللي عملها؟ ولا...؟؟
أجابه الضابط مرددًا:
-واحنا بنفرغ محتويات كاميرات المراقبة لاحظنا واحد مراقب الطريق من على الناصية وجمبه حد تاني، المخبرين اتحروا عنه، وعرفنا إنه عنده محل جزارة هنا في الحتة
كظم دياب حنقه المشتعل في نفسه هامسًا بصوت محتد وهو يكز على أسنانه بقوة عنيفة:
-جزار الـ.......، ابن الحرام!
أضاف الضابط بجدية:
-وفي محاضر بينهم ومشادات وآآ....
قاطعه منذر موضحًا بحذر:
-يا باشا دي خلافات عادية، انت عارف موضوع البهايم والدوشة، كلنا بنتخنق من الريحة والصوت!
رد الضابط بعدم اقتناع:
-عامةً هي هايتم استدعائها للتحقيق وهانفهم منها أكتر طبيعة الخلافات، لأنه جايز يكون متورط في الموضوع!
هز رأسه متفهمًا:
-ماشي يا باشا، اللي تشوفه
قبض منذر على ذراع أخيه، واستدار بجسده ليشكل حائلًا أمامه قبل أن يندفع ويفعل بتهور ما لا يحمد عقباه، سمع صرير احتكاك أسنانه وهو يردد بسباب قاسٍ:
-ابن الـ............!
حذره قائلًا بصوت خفيض:
-امسك نفسك يا دياب!
-الـ....... ده أكيد وراها، وربنا ما أنا راحمه، هاجييب مسارينه على الأرض!
-هايحصل بس بالعقل، الشرطة مفتحة عينها علينا أوي، اركز!
-مش هافوتها! هاموته!
ذرعت الصالة جيئة وذهابًا منتظرة عودة ابنها من الخارج لتسرد له ما فعلته طليقته الشمطاء معها ومع أخته في حضور خطيبها عند محل الصائغ، وبالطبع لم يخلو حديثها من الكلمات النابية، ولا من الوصف الجارح.
وضعت لبنى يدها على كتفه صارخة بعصبية:
-لازم تشوفلك صرفة، دي كانت هتخرب الجوازة على أختك
فرك طرف ذقنه مرددًا بفتور:
-حاضر، هافكر!
اغتاظت من أسلوبه البارد في التعامل مع الموقف، وكأنه لا يعنيه، فصاحت بحدة مهددة إياه:
-لأ ماتفكرش، إنت تاخد حقي وحق اختك وإلا لا انت ابني ولا أنا أعرفك، هاتبرى منك وآ......
قاطعها حاتم هاتفًا بتبرم:
-حاضر يا أمي، قولتلك هاتصرف، اهدي عليا بس!
أمسكت والدته بأطراف خصلاتها المتدلية من حجاب رأسها المنزلي، وهزتهم بعنف مواصلة وعيدها الشرس:
-بنت الـ..... ، مفكرة هاعديهالها بالساهل! وحياة مقاصيصي دول لهوريها نيرمين الكلب!
احتضنته بقوة بعد عودته سالمًا إلى المنزل، فلم يسعفها الوقت لرؤيته بعد انتهاء المشاجرة. ظل عقلها مشغولًا عليه، إلى أن عاد إليها.
ضمت وجهه براحتيها، وحدقت فيه بأعين لامعة للغاية.
انحنى منذر على رأس والدته ليقبلها قائلًا:
-أنا كويس يا أمي، اطمني عليا
ربتت على ظهره قائلة بحنو:
-ربنا ما يضرني فيك أبدًا
-يا رب
لف ذراعه حول كتفيها، وســار معها بتمهل نحو غرفته، تابعت جليلة حديثها الحماسي قائلة:
-لولا كرم ربنا، وخطيبتك أسيف الله أعلم كان هايحصل ايه!
تنهدت بعمق لتضيف:
-الحمدلله يا رب
بدت تعابيره غريبة إلى حد ما، وانتابه الفضول لمعرفة سبب تلك العبارة الغامضة، فتساءل مهتمًا وقد رفع حاجبه للأعلى:
-وايه علاقة أسيف بالخناقة؟
أجابته بلا تردد:
-ماهي يا بني حدفت على اللي ما يتسمى سبت المشابك عشان تلبخه، خافت عليك يجرالك حاجة!
حدق منذر في وجه والدته بنظرات شاردة سارحًا بأفكاره في صورتها التي غزت عقله بالكامل، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تكون هي سبب نجاته، أن تتلهف عليه بل وتجاذف من أجله.
رمقته جليلة بنظرات متعجبة، فقد كان كالمغيب وهي تحدثه عنها، لكن تحولت تعابيرها للارتخاء عند رأت تلك الابتسامة الصغيرة تتشكل علىثغره، وما أكد صدق حدسها من وجود مشاعر ما نحوه لها هو ذلك اللمعان البائن في عينيه.
ابتسمت له قائلة بهدوء:
-ربنا يسعدك معاها يا بني ويتمملكم على خير، أنا صحيح في الأول مكونتش مبسوطة من الخطوبة دي ، بس.. بس جايز أكون ظلماها، و..
انتبه منذر لحديثها فقاطعها مبتسمًا:
-سيبك من اللي فات يا ست الكل!
-أنا اللي مخوفني منها موضوع الأعمال والسحر و...
-تاني، ما أنا قولتلك مالهاش في الحركات دي!
-ده أنا شوفت بعيني، ولولا إن نيرمين نبهتني كان زماني .....
تعقدت قسمات وجهه للغاية بعد ذكر اسم تلك السمجة، أحس بوجود شيء مريب بالمسألة، فتساءل بعبوس:
-نيرمين! ثواني يامه، مالها بالظبط بأسيف؟!
أخذت والدته نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهل وهي تقول:
-الحكاية وما فيها إن
-نيرمين! ثواني يامه، مالها بالظبط بأسيف؟!
أخذت والدته نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهل وهي تقول:
-الحكاية وما فيها إن
