رواية الدكان
الفصل الثامن والثمانون88
بقلم منال محمد سالم
تلفت حوله بتوتر كبير مترقبًا ولوجها إلى المطعم القريب بين لحظة وأخرى، لا يعرف سبب طلبها لرؤيته خارج المنزل، بدا له أن الأمر هامًا للغاية خاصة أنها خالفت مبادئها وأصرت على الالتقاء به منفردًا دون إبلاغ عائلتها، طرق بأصابعه على السطح الزجاجي للطاولة محاولاً تخفيف حدة القلق الذي يعتريه، لكن كيف له أن يتحكم في ذلك وقلبه بين ضلوعه يدق بعنف حتى كادت صوت نبضاته المتلاحقة تصم آذانه.أحس بوجودها فحرك عينيه للجانب ليجدها تسير بتمهل محبب له، نهض من مكانه راسمًا على ثغره ابتسامة مشرقة، أشار لها بيده قائلاً بحماس:
-اتفضلي يا بسمة
هزت رأسها بإيماءة خفيفة كنوع من التعبير الرمزي عن تقبلها لترحيبه المتحمس لوجودها، وجلست على المقعد المقابل له، تابع متسائلاً باهتمام:
-تحبي تشربي إيه
عبست بوجهها مرددة بجدية:
-لأ مش عاوزة
قطب جبينه هاتفًا باستنكار:
-وده كلام؟ لازم تاخدي حاجة الأول، ده أنا مش عاوز أطلب أكل ولا...
أشارت بكفها معترضة:
-لالالا، مالوش لازمة
ابتسم قائلاً بلطف وهو يشير بيده
-طيب مسافة ما يجي العصير، ترتاحي وتاخدي نفسك كده، عصير بس!
استسلمت أمام إلحاحه المستمر مرددة:
-طيب
تنهد بحرارة محدثًا نفسه بنبرة حالمة:
-وأهي فرصة أملي عيني منك!
حضر النادل إلى الطاولة راسمًا على ثغره ابتسامة مصطنعة وهو يرحب بالعميلين، فأعطاه دياب طلبه، دونه سريعًا وانصرف ليتابع الاثنان حديثهما، بدت بسمة في حالة ارتباك كبير ممزوجة بالتخبط، عضت على شفتها السفلى بتوتر بائن، وحاولت تصفية ذهنها لكي ترتب أفكارها، زفرت بصوت مسموع وهي تقول بتردد:
-بص.. أنا مش عارفة أقول ايه!
نظر لها دياب اهتمام فواصلت بحيرة:
-أنا حاسة إن الكلام طاير من دماغي
ابتسم لرؤيتها على تلك الحالة المربكة، خاصة أن بشرتها تزداد توردًا وعيناها بريقًا، أشار لها بيده بهدوء:
-سمي بالله كده وأنا معاكي على الخط
تنحنحت بصوت خفيض لتتابع بعدها:
-انت عارف ظروف مرض نيرمين وحالتها
هز رأسه قائلاً بنبرة مواسية:
-ربنا يشفيها، كلنا زعلانين عشانها، لعلمك أمي بتحبها أوي و...
قاطعته قائلة بجدية:
-يا رب أمين، المهم أنا ....
وقبل أن تكمل جملتها انضم لهما النادل محضرات العصائر الباردة، فتوقفت مجبرة عن الحديث، لتنظر له بجدية، ابتسم قائلاً بنبرة عملية مرحبة:
-اتفضلوا يا فندم!
لوى دياب ثغره قائلاً بامتعاض:
-متشكرين
انتظره للحظاتٍ حتى انصرف فسلط أنظاره عليها مكملاً بابتسامة متسعة:
-اشربي يا بسمة!
زاد توترها المصحوب بعبوس مقلق فحاول تخفيف حدة الاضطراب المسيطر عليها، فتابع مازحًا:
-بلي ريقك، ده فريش والله
كورت قبضتها ضاغطة على أصابعها بقوة وهي تتنفس بعمق، هتفت فجأة دون أي مقدمات:
-دياب!
تحفزت حواسه لنطقها اسمه مجردًا من بين شفتيها، أسبل عينيه نحوها مرددًا بسعادة:
-عيون دياب!
انعقد ما بين حاجبيها بشدة وهي ترد:
-نعم؟
أشار بسبابته مبتسمًا:
-بأقول اشربي قبل ما يبرد
ردت عليه مستنكرة جملته الغريبة:
-على فكرة ده عصير، يعني بارد أصلاً!
حك مقدمة رأسه باستغراب، ثم ابتسم قائلاً بمزاح:
-والله، يبقى اشربيه قبل ما يسخن!
استاءت من كونه يجعل الموقف هزيلاً فصاحت بحدة طفيفة:
-ممكن تديني فرصة أقول الكلمتين اللي جاية عشانهم!
لاحظ التبدل السريع في ملامحها ما بين الاضطراب والتشنج، والتردد والصلابة، فرد عليها بحذر:
-ماشي، بس أمانة عليكي يا شيخة، وحياة حبيبك النبي ما تكون حاجة تزعل!
أجابته بتجهم:
-والله على حسب
ابتلع ريقه قائلاً:
-استر يا رب، أنا خايف من الدخلة دي!
صمتت للحظات تستجمع فيها شجاعتها، أخفضت نظراتها متحاشية تحديقه المتعمد بها لتركز فقط في كأس المشروب الموضوع أمامها، تنحنحت هامسة بتردد:
-احم.. دلوقتي نيرمين كانت.. كلمتني بخصوص.. يعني موضوعنا!
تأهب في جلسته، وأصغى بانتباه تام لكل كلمة تقولها، إذًا فالمسألة متعلقة بهما وليس أمرًا أخرًا، سألها باهتمام:
-ها وبعدين؟
تلعثمت وهي تقول:
-هي هاتكون فرحانة لو... قصدي هي هاتبقى مرتاحة لو...
صمتت محاولة ترتيب أفكارها، فبدا أكثر تلهفًا لمعرفة ما الذي تريد قوله، هتف بإصرار:
-لو ايه؟
شعرت بصعوبة كبيرة في البوح باسترسال طبيعي لتخبره برغبة أختها في وجود رابط رسمي بينهما، حاولت التلميح عن ذلك الأمر قائلة بحذر:
-أنا مش عاوزة أكسر بخاطرها
تمتم معلقًا بصوت خفيض:
-ولا بخاطري أنا كمان!
مطت شفتيها لتضيف:
-مممم.. يعني إن... إنت وأنا.. قصدي إنك.. مش عارفة بقى!
مل من تلك الإطالة التي لا تسمن ولا تغني من جوع فهتف بنزق:
-بسمة قولي إنك وافقتي نرتبط، صح؟
أجابته بصوت أقرب للهمس وهي تتحاشى النظر كليًا له:
-ايوه
اتسعت ابتسامته بصورة عريضة حتى برزت نواجذه، وتلاحقت أنفاسه مرددًا بعدم تصديق:
-احلفي!
رفعت رأسها لتنظر نحوه باستغراب وهي تقول:
-نعم
هب واقفًا من مكانه ليحدق بها بنظرات أكثر تفائلاً وحماسًا عن ذي قبل، صاح بنبرة عالية غير مكترث بمن حوله:
-إنتي وافقتي نتجوز؟
تلفتت حولها بحرج وهي تقول:
-اقعد، كده هتفضحنا!!
وضع يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة مرددًا بفرحة جلية:
-أخيرًا، ده أبو الهول نطق وإنتي لأ!
حاولت أن تلفت أنظاره لكون ردة فعله تتجاوز حدود اللا معقول، لكنه كان في عالم أخر مرسوم فيه جميع أحلامه معها، تنهد مطولاً وهو يردد بارتياح:
-ياه، نشفتي ريقي عشان أسمع كلمة أه منك!
رمشت بعينيها عدة مرات هاتفة بخجل من أسلوبه:
-دياب مايصحش كده، الناس بتتفرج علينا
دنا منها ليمسك بكف يدها وطالعها بنظرات شغوفة بها، هتف بلا مبالاة:
-سيبك منهم!
ضغط على يدها بأصابعه مؤكدًا:
-وأنا أوعدك عمرك ماهتندمي على القرار ده
حاولت سحب يدها من كفه ضاغطة على شفتيها وهي تقول:
-ممكن تعقل وتهدى!
اضطر أن يمتثل لطلبها، وأرخى يده عن كفها مضطرًا كي لا تثور، عاد إلى مقعده مضيفًا بسعادة:
-ربنا يباركلها أختك، عملت حاجة كويسة، هادعيلها بضمير
سألته مستنكرة:
-ده على أساس إن قبل كده كنت لأ؟
فرك طرف ذقنه مرددًا بحرج طفيف:
-لأ هاكثف الدعا وأركز
-إن شاء الله
انتصب في جلسته متابعًا:
-شوفي إنتي حابة أتقدم امتى رسمي ونتجوز، أنا جاهز على فكرة و...
قاطعته مسرعة قبل أن يفرط في حماسه وخيالاته:
-لأ هي خطوبة و...
رد رافضًا المماطلة:
-هو احنا لسه هانعرف بعض؟ جرى ايه بسمة، العملية كده باخت أوي، طب ايه رأيك نكتب الكتاب زي منذر وأسيف؟
-ممممم..
-احنا نخلي الفرح فرحين ونعملهم سوا، ها قولتي ايه؟
ردت بهدوء حذر:
-بلاش استعجال
سألها بإلحاح وهو يعمق نظراته الرومانسية نحوها:
-خير البر عاجله، ها موافقة؟ قولي أه، طب أي حاجة؟
لم تعلق عليه واكتفت بالصمت، فصاح مهللاً وهو يرفع يديه في الهواء:
-بيقولوا السكوت علامة الرضا، وأنا شايف بعيني أحلى بسمة في الدنيا!
زادت سخونة وجهها من غزله الصريح لها، فنهضت واقفة من مكانها لتقول:
-هامشي أنا بقى
هب واقفًا هو الأخر مرددًا بعبوس:
-بالسرعة دي، أنا كده بأتكروت على فكرة!
نظرت له بطرف عينها وهي تقول بجدية:
-عن اذنك
ظل للحظة متسمرًا في مكانه محاولاً استيعاب تلك المفاجأة، هي وافقت بعد عناء على الارتباط به، فرك وجهه بيده مخرجًا تنهيدة عميقة من صدره، تنبه لكونه تركها تنصرف بمفردها، فأسرع بإخراج بعض المال من جيبه ليضعه على الطاولة ثم تحرك في إثرها ليلحق بها.
-على بركة الله، يبقى الدخلة بكرة!
قالها منذر مبتسمًا وهو يطالع زوجته بأعين متوهجة من الحماس بعد أن حصلت على موافقة عمتها للتبكير بميعاد حفل الزفاف إزعانًا لرغبة نيرمين خاصة أن منزل الزوجية بات معدًا لاستقبال العروسين، كذلك لم تعترض بسمة هي الأخرى، فكل ما تطلبه أختها في تلك الفترة العصيبة بمثابة أمنيات يسعى الجميع جاهدًا لتحقيقها على أمل إعطائها دفعة إيجابية لتستمر في رفع روحها المعنوية، تورد وجه أسيف بالكامل لمجرد ذكر تلك العبارة، وأخفضت أنظارها لتحدق في أي شيء إلا وجهه مما اضطره لوضع إصبعيه على طرف ذقنها ليرفع وجهها إليه وهو يهمس لها بعشق:
-بأحبك!
ردت عليه بهمس وهي تعض على شفتها السفلى:
-وأنا كمان!
أمسك بكفها بأنامله، ثم رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ابتسمت له بخجل كبير، وبادلته نظرات والهة أججت من مشاعره نحوها، سيطر بصعوبة على تلك الرغبات الجامحة التي تعتريه معللاً لنفسه أن كل شيء في وقته أفضل، نهض من مكانه قائلاً بجمود مصطنع ليخفي رغبته فيها:
-أنا هاقوم أشوف الكهربا والزينة، وإن شاء الله على الصبح كل حاجة هاتكون جاهزة!
هزت رأسها بتفهم، فأكمل بثقة:
-مش عاوزك تشلي هم أي حاجة يا أسيف!
وقفت قبالته قائلة بجدية وكأنها قد تذكرت أمر ما:
-ماتنساش دياب هايكتب كتابه على بسمة و...
قاطعها بهدوء:
-هما مسئولين عن نفسهم، خلينا مع بعض
حركت رأسها بإيماءة صغيرة وهي تضيف:
-ماشي، بس أنا كنت عاوزة أطلب منك حاجة، ويا ريت ماتكسفنيش
طالعها بنظرات دافئة قائلاً:
-انتي بس تؤمري
أعطتها جملته الأخيرة الثقة لتقول بلا تردد ما تنوي فعله إن وافقها الرأي في ذلك.
حركت رأسها على الوسادة لتحدق في الستائر الساكنة بأعين دامعة، هي الآن بمفردها في غرفة وحيدة، يصاحبها ألمها الذي يفتك بجسدها، وذكرياتها التعيسة التي أنهكت عقلها، بحثت عن السعادة بين ما مرت به، فلم تجد إلا القسوة والجفاء، فتحول قلبها للجحود وتجمدت مشاعرها تدريجيًا، انهمرت العبرات بغزارة من ازدياد حدة الوجع لتبلل وسادتها، أصدرت أنينًا مكتومًا وهي تقاتله بمقاومة أخيرة حتى أنهكت تمامًا، فخرجت شهقاتها الباكية معبرة عما تتحمله من أوجــاع.
لم تسمع تلك الدقات الخافتة على باب غرفتها، فقد حان موعد المتابعة من قبل الطبيب المسئول عن حالتها، لكن لظروف ما تعذر عليه الحضور فأرسل من ينوب عنه، أطل الطبيب برأسه متنحنحًا بخشونة ليلفت انتباهه لوجوده، لكنها لم تشعر به، نظر لها بإشفاق مستشعرًا ألمها، ودنا منها قائلاً بهدوء:
-مدام نيرمين
أدارت رأسها في اتجاهه لتجد شخصًا غريبًا يطالعها بنظرات أكثر غرابة، توقفت عن البكاء رافعة يدها إلى وجهها لتمسح عبراتها بأنامل مرتعشة وهي تسأله:
-إنت مين؟
أجابها مبتسمًا دون تكلف:
-حضرتك أنا د. نبيل، والمفروض هاتابع مع سيادتك الحالة لحد ما يرجع الدكتور بتاعك، هو عنده....
قاطعته بحدة:
-امشي، مش عاوزة حاجة!
رد بجدية:
-يا مدام، أنا مقدر الألم اللي فيكي، وده طبيعي أثناء العلاج، حضرتك...
قاطعته بيأس:
-أنا عارفة إني هاموت، فمحدش يكدب عليا ويقولي كلام غير ده
هتف معترضًا:
-أنا مش معاكي، إنتي متشائمة وده بيعمل نتيجة عكسية مع العلاج
تنهدت مستاءة من كونه يضغط عليها، زاد ألمها، فتأوهت بصوت مكتوم، دنا منها يتفحصها بدقة قائلاً بهدوء:
-اهدي يا مدام نيرمين، إن شاء الله فترة وهتعدي
اغرورقت مقلتاها بالعبرات فبكت بإحباط:
-معنتش قادرة، تعبت من كل حاجة، نفسي أرتاح بقى!
ربت على كف يدها برفق قائلاً بابتسامة ودودة:
-هترتاحي إن شاء الله، وأنا موجود جمبك لحد ما الجرعة تخلص!
التفتت برأسها نحوه لتنظر له بامتنان، هي حقًا كانت بحاجة لوجود من يقف إلى جوارها وإن كان غريبًا عنها ليخفف عنها ألمها المصحوب بالوحدة، هي اكتفت من معاناتها في صمت حتى غص صدرها ولم تعد تتحمل المزيد، فانفجرت باكية تشكو كل شيء.
لم يقاطعها الطبيب نبيل، تركها على حريتها لتطلق العنان لنفسها، و تقوم بما يسمى بالتداعي الحر، فربما تكمن راحتها في ذلك، ظل إلى جوارها حتى انتهت جلسة علاجها الكيماوي ثم تركها تستريح متمنيًا لها الشفاء.
ترقب على أحر من الجمر خروجها من مركز التجميل، مر الوقت بطيئًا عليه رغم انشغاله طوال اليوم في الترتيب لكل شيء، لكن ما أصعب اللحظات الأخيرة، لم يعد يفصله عنها سوى دقائق معدودة، فرك كفيه معًا، وتلفت حوله بشرود محاولاً إلهاء عقله عنها ولو للحظات، لكنه رفض الإنصات ليظل باله مشغولاً بها هي فقط، ربت دياب على كتفه بقوة وهو يقول:
-مبروك يا عريس!
التفت منذر ناحيته ليرد بامتعاض:
-الله يبارك فيك، ما هي ليلتك إنت كمان
جذب دياب طرفي سترته الرمادية بيديه قائلاً بابتسامة مغترة:
-أرزاق يا ابن أبويا!
ابتسم لمزاحه الطريف فتابع قائلاً بتعجب وهو يهز رأسه:
-حد كان يصدق إن أنا وإنت نتجوز في ليلة واحدة!
ثم لكزه برفق في كتفه ليكمل بعبث غامزًا له بطرف عينه:
-بس يا بختك إنت دخلة يا معلم، وأنا مع إيقاف التنفيذ!
رد عليه منذر محذرًا:
-إحمد ربنا إنها جت كده معاك، مين عالم كان ممكن ولا حاجة من دي تحصل!
هز رأسه بالإيجاب هاتفًا:
-أه والله، ده أنا حامده وشاكره، كده رضا على الأخر!
وضع منذر يده على كتف أخيه ليضغط عليه قليلاً وهو يضيف:
-ربنا يتمملك على خير يا دياب، والله فرحانلك!
احتضن الأخير أخيه بود كبير معبرًا له عن حبه الغريزي له فهو نعم السند له، ضمه منذر بذراعه وهو يربت على ظهره بقوة، تباعد الأخان عن بعضهما البعض ليحدقا في باب المركز بعد سماعهما لأصوات الزغاريد تصدح بالداخل، هتف دياب بمرح:
-سمعت، باين عليهم خلصوا
نفخ منذر مرددًا بنفاذ صبر:
-أخيرًا، هما بيخترعوا الذرة جوا
رد عليه دياب مازحًا:
-عقبال ما يدوها وش صنفرة على كام وش معجون والبوهية في الأخر!
لكزه منذر في جانبه محذرًا بغلظة:
-بطل بواخة، مراتي حلوة من غير أي حاجة!
غمز له أخاه مرددًا بعبث ماكر:
-يباركله يا عمنا، إمسك البوكية بقى واجهز
سأله منذر باهتمام:
-ها، البدلة مظبوطة؟
ضبط دياب لأخيه رابطة عنقه السوداء، وعدل له من ياقة حلته التي تحمل نفس اللون ليبدو كل شيء منمقًا ولائقًا به، رفع إبهامه أمام وجهه هاتفًا بإعجاب:
-مية مية يا كبير!
سحب منذر نفسًا عميقًا يضبط به انفعالاته المتلهفة بشغف متحمس لرؤية عروسه التي ستخرج إليه بين لحظة وأخرى، مشاعر قوية انتابته في تلك اللحظة لتزيد من نبضات فؤاده، شعر بتدفق الدماء في عروقه، بنشاط عجيب يجتاح كل ذرة في خلايا جسده، حرك قدميه بتوتر وهو يشدد من قبضته الممسكة بباقة الورد البيضاء ليردد بارتباك:
-يا مسهل يا رب .
حُكم عليه بالإقصاء لتجاوزاته الغير أخلاقية ولمخالفته المعاهدات الودية بين العائلتين، فاضطر أن يرضخ لقانونهم الجبري واتجه لتأسيس عمل جديد خاص به بعيدًا عن منطقته الشعبية، نظر إليه والده مطولاً قبل أن يستطرد حديثه متسائلاً بهدوء:
-مش ناوي تيجي معايا؟
التفت مازن ناحيته مرددًا بتجهم وهو يعقد رباط حذائه:
-لأ، أنا رجلي اتقطعت من الحتة دي، ومش ناوي أعتبها تاني!
اعترض عليه مهدي قائلاً:
-بس يا بني الحاج طه هيفرح لما نقوم بالواجب معاه، و..
قاطعه بجدية:
-يا أبا ده بيجبر بخاطرك، لكن إن كان عليهم مافيش حد من عيلة حرب نسى اللي فات!
-ربنا يهدي الحال
-ده غير إن أنا عندي شغل كتير، توضيب المطعم ولوازمه!
سأله أباه مستفهمًا:
-استقريت على اسمه ولا لسه؟
أجابه بهدوء وهو يضبط ياقته:
-أه "مشاوي حسب الطلب"
رد عليه مهدي بنبرة متمنية:
-ربنا يجعله فاتحة خير عليك
-أمين!
بدا وكأنه قد تذكر شيئًا ما فهتف بتلهف:
-بالحق، المحامي اتصل وبلغني إنه جابلنا تصريح بالزيارة، ماهو مجد اتجدد حبسه على ذمة التحقيقات
رد عليه مهدي بعبوس:
-أخوك ضيع نفسه بنفسه! ربنا يعينه على الله هو فيه!
لم يعلق مازن على جملته تلك، فقد اكتفى من كم المشكلات التي أرهقت كاهليه، وهو بحاجة للبدء من جديد، انتبه لسؤال والده المباغت:
-مش ناوي ترجع لولاء؟
عبست قسماته بشدة ورد بتأفف ظاهر على محياه:
-قفل على السيرة الغم دي، هي خلاص انتهت من حياتي!
اعترض مهدي على أسلوبه قائلاً:
-يا مازن دي مراتك و...
قاطعه بحدة:
-كانت.. مش الهانم رفعت قضية خلع؟
صمت والده ولم يرد، فاحتدت نظرات ابنه مضيفًا بحنق:
-تشرب بقى، وبعدين خليها تكسبها عشان تبريني من كل حاجة، كفاية اللي لهفته هي وأمها
هز رأسه بإحباط، فحياة ابنه لم تعد كما كانت، فزيجته فسدت، وعمله تأخر، وهو الآن بصدد تحديات أكثر صعوبة، هتف قائلاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله
تابع قائلاً بانفعال:
-هي كانت جوازة غلط من الأول، جابتلي الفقر ووجع القلب، وأديني خلصت منها! خليني أفوق للبلاوي اللي ورايا!
يئس من إقناعه بالعدول عن رأيه وإن كان صائبًا في جزء كبير منه، لكن سبق السيف العذل، وحسم الأمر بينهما.
أخذت تعبث بهاتفها المحمول بفتور وهي تحرك ساقها المتدلية من على مسند الأريكة غير مكترثة بنظرات والدتها المحتدة نحوها، كظمت الأخيرة غيظها في نفسها، فابنتها أضاعت من يدها كل شيء بعنادها الجامح، زفرت مستاءة من جلوسها بالمنزل، من أفعالها الطائشة، وخاصة محاولاتها الفاشلة للتودد لطليقها السابق دياب.
هي علمت مصادفة بأمر عقد قرانه لكنها لم تأتِ على ذكر المسألة أمامها كي لا تثور ثائرتها، وتفعل ما لا يُحمد عقباه، أخرجها من تفكيرها المتعمق صوت ولاء المتسائل:
-ماقولتيش ايه رأيك؟
سألتها بحيرة وهي قاطبة لجبينها:
-في ايه؟
ردت عليها بتبرم:
-أومال أنا بأحكي في ايه من الصبح
زفرت شادية بصوت مسموع وهي تقول بامتعاض:
-مكونتش مركزة!!!
اعتدلت في جلستها موضحة بحماس قليل:
-بأقولك صاحبتي عاوزاني أشاركها في بيوتي صالون
نظرت لها والدتها بغرابة وهي تسألها:
-ده عبارة عن ايه؟
أجابتها مشيرة بيدها:
-حاجة زي كوافير كده بس على مستوى عالي! ستايلش وفيه سمعة
-وانتي دورك ايه؟
-لسه مش عارفة، بس بأفكر أكون معاها
بدت أمها غير مهتمة بالتفاصيل، فردت بفتور:
-اعملي اللي انتي عاوزاه
نهضت ولاء من على الأريكة متفرسة في وجهها بتعمق، كانت تعبيراتها تشير إلى وجود خطب ما بها، شيء ما يزعجها لكنها ترفض الإفصاح عنه، سألتها باهتمام:
-مالك يا ماما، شكلك مش مبسوطة؟
-عادي
تابعت ولاء هاتفة بنبرة حالمة وهي تسير بخطوات متهادية في أرجاء الصالة:
-وأهي فرصة يعرف البيه دياب أنا هابقى ايه، وساعتها هايجي عندي يتسرجاني أرجعله، ده غير إني واثقة إنه هيرمي المصدية اللي معاه!
نظرت لها شادية بقوة، ابنتها تبني أحلامًا في الهواء لن تتحقق يومًا، لذلك لم تجد بدًا من إخفاء الأمر عنها، فإن عاجلاً أم آجلاً ستعلم، لذلك حسمت أمرها بإبلاغها الآن حتى لو انفعلت، فالأفضل أن تكون على دراية بمسألة عقد قرانه، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة وهي تسألها بحذر:
-انتي عرفتي بموضوع دياب
التفتت ناحيتها برأسها لتبدو تعبيراتها أكثر حدة وهي تردد متسائلة:
-ماله؟
ابتلعت ريقها وهي تكمل:
-يعني مافيش خبر وصلك عنه
فقدت أعصابها في لحظات وهي تصيح بها:
-في ايه يا ماما؟ ماتقولي على طول !!!
صمتت لثوانٍ تحاول إطلاعها على الخبر، لكن حصار ابنتها لم يمهلها الفرصة لانتقاء كلماتها، فخرج صوتها مترددًا وهي تقوا
-أصله... هـ.. هيتجوز
ارتفع حاجباها للأعلى في ذهول عجيب، وتوترت أنفاسها وهي تهتف بعدم تصديق:
-ايييه؟
ضغطت شادية على شفتيها بقوة مترددة في المتابعة، ولكن إشارات وجهها، وإيماءات عينيها كانت كفيلة بتأكيد ما قالته، انتابتها نوبة من الهياج لمجرد تخيله بصحبة أخرى يتأبط ذراعها ويهيم في حسنها عشقًا، صرخت بلا وعي:
-بتقولي ايه؟ يعني ايه هايتجوز؟
اضطربت أنفاسها بصورة ملحوظة، ونهج صدرها علوًا وهبوطًا مرددة بصدمة جلية:
-ايه الهبل ده؟ دياب مش بيحب حد، دياب مش هايتجوز، لأ! إنتي بتقولي كده عشان تحرقي دمي!
أمسكت بها أمها من ذراعيها تهزها بعنف وهي تقول:
-فوقي من الأوهام اللي انتي عايشة فيها، خلاص دياب هيكتب كتابه ويتجوز، كفاية عبط بقى، كله سابك وبعد عنك، وإنتي لسه مصدقة نفسك
نفضت ولاء قبضتي والدتها عنها بعصبية أشد لتصرخ بها باهتياج متشنج:
-إنتي السبب، استحالة أسمحله يتجوز!
ركضت كالمجنونة في اتجاه باب المنزل بثيابها المنزلية، حاولت والدتها اللحاق بها صائحة:
-رايحة فين يا ولاء؟ استني يا مجنونة!
استدارت برأسها نصف استدارة لترد بنبرة تحمل الغضب:
-هامنع الجوازة دي!
لمعت عيناه بوميض العاشقين منتظرًا خروجها من الباب، ومع كل ثانية تمرق عليه يزداد لهفة ورغبة فيها، لمح تلك الأطياف التي تتحرك من خلف الزجاج الداكن، فتأهبت حواسه بالكامل واستعد لرؤيتها، فُتح الباب ببطء فتجمدت أنظاره على الخارجين منه، في البداية كانت أخته الصغرى ووالدته التي غطى صوتها المطلق للزغاريد أصوات الجميع، ارتسم على ثغره ابتسامة متشوقة، وشعر بدقات قلبه تزداد قوة وخفقانًا.
توهجت حدقتي منذر حينما رأى حبيبته تطل عليه بثوبها الأبيض، خطفت قلبه، وسلبت لبه، اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرى خجلها المثير يكسو تعبيراتها المتلألأة، مرر أنظاره سريعًا عليها، كان يشبه ثوب السندريلا في تصميمه، ضيقًا إلى حد ما من الخصر، وينساب بتموجات واسعة حتى الأسفل، ناهيك عن الذيل الطويل الذي يحتاج لعدة أشخاص لرفعه، وما زادها رونقًا وجمالاً هو حجابها الأبيض الذي برز بتاجٍ يليق بها، تحرك نحوها ناظرًا لها بتعمق وهو يقول:
-بسم الله ماشاء الله!
تحاشت النظر إليه وأخفضت عينيها بارتباك ملحوظ، سحبها من ذراعها ليتأبط بها قائلاً:
-مبروك يا أحلى عروسة
ردت أسيف هامسة:
-الله يبارك فيك
ناولها باقة الورد مضيفًا:
-ده عشانك!
ابتسمت بخجل أكبر وهي تأخذه:
-شكرًا
هتف دياب بمرح وهو يشرأب بعنقه للأعلى محاولاً اختلاس النظرات:
-وأنا فين عروستي؟
وضع يده على رأسه متابعًا بمزاح رغم قلقه:
-وقعت منكم جوا ولا ايه؟ طب أخش أشوفها؟ ما حد يقولي؟!
ردت عليه جليلة بابتسامة أمومية:
-اصبر على رزقك، هي طالعة أهي!
بالفعل ما هي إلا لحظات حتى ظهرت بسمة أمامه وهي في مزدانة في ثوب "كشميري" اللون، خطفت أنظاره بجمالها الهادئ، وبابتسامتها المشرقة، هتف بحماس دون أن يعبأ بلفت الانتباه:
-اللهم صلي على النبي، هو في كده!
خطى سريعًا نحوها مداعبًا:
-أنا قولت غيرتي رأيك ولا حاجة، ما إنتي بمليون حالة!
احتدت نظراتها نحوه لتردد محذرة:
-دياب
أمسك بها من ذراعها ليعلقه على ذراعه، ثم مال عليها برأسه ليتغزل بها هامسًا بابتسامة شبه بلهاء:
-قلب دياب وكلاويه!
أشارت له بعينيه متابعة بصرامة:
-بص قدامك
حرك رأسه بالإيجاب وهو يرد بجمود زائف:
-ماشي يا أبلة!
لم يستطع إخفاء ابتسامته، فهي ببساطة تعبير صريح عن الفرحة الغامرة التي تعتريه، لم يكن ليحلم بهذا، أن يجد الحب بعد أن فقد الإيمان به، أن يحصل على زوجة توافقه الرأي، تليق به وتستحقه، شعر بالرضا لكونه قد حاز في الأخير على حب حقيقي.
تحرك الجميع نحو السيارات المرابطة أمام مركز التجميل ليجلس العرائس في أماكنهم متجهين نحو المشفى حيث الاحتفال بالزيجة مع نيرمين.
لم تكن لتدعها بمفردها في ليلة كهذه، ربما هي طريحة الفراش وعاجزة عن النهوض والتحرك بفعل جرعات الأدوية الكيماوية التي تحقن بها أوردتها، لكن هي أمها التي تشعر بألمها وإن أنكرت، بحزنها وإن صمتت، أعدت لها عواطف ثوبًا فضفاضًا مريحًا اشتركت في اختياره مع ابنتها الصغرى ليليق بتلك المناسبة البهيجة التي سيتم الاحتفال بها هنا، لم تتخيل نيرمين أن تصر أسيف على وجودها رغم تعذر قدومها، لكن ما لم تضعه في الحسبان أن يتم الترتيب لحفل أسري صغير بالمشفى مقتصر فقط عليهم دون أن يسببوا الإزعاج لباقي المرضى، وتزينت الغرفة بباقات الورد ووضعت في الأركان، وبمقاعد مريحة لاستقبال الضيوف القادمين.
راقبت نيرمين ما يحدث بأعين لامعة، مقاومة بصعوبة رغبتها في البكاء، كل شيء يشير إلى قلب طيب، روح نقية لم ترد إلا الحب من عائلتها الجديدة، وهي بخلت عليها بذلك، في تلك اللحظة أدركت أنها أخطأت في معاملتها الجافة لها، لم تكن بالقريبة الجيدة والتي تستحق معاملة مثل تلك، فإن كانت في محلها لقست عليها وعاملتها بفظاظة ووضاعة، لكنها دومًا تثبت لها أن الأنقياء يسعون للخير، بكت متأثرة لقسوتها معها، لظلمها لها، ندمت على ما كانت تنتويه من شر مستطر لها، انتحب صوتها، ولاحظت أمها عبراتها المنهمرة فاقترب منها متسائلة بتخوف:
-مالك يا نيرمين؟ في حاجة تعباكي؟
هزت رأسها نافية وهي ترد:
-لأ
أمسكت عواطف بمنشفة ورقية لتمسح عن وجهها تلك الدمعات التي تبلله وهي تسألها:
-اومال بتعيطي ليه؟
أجابتها بصوت متقطع:
-مش مصدقة، أسيف تعمل كل ده!
ابتسمت لها عواطف وهي ترد:
-مش قولتلك، بنت أخويا طيبة وبتحب الناس!
حركت رأسها بإيماءات تؤكد ما قالته، ثم همست بندم:
-ربنا يسامحني على اللي كنت بأعمله فيها!
رفعت أعينها الباكية نحوها متسائلة بحزن:
-تفتكري هي هتسامحني؟
ردت أمها بثقة:
-يعني لو مكانتش بتحبك كانت عملت ده عشانك؟
بكت نيرمين مجددًا، فحذرتها والدتها برفق وهي تلف حول رأسها حجابها الوردي:
-ها بلاش تعيطي، هما زمانهم على وصول، خليني أعملك الطرحة!
اكتفت بالابتسام لها وعاونتها في ضبط حجابها بلفة بسيطة لا تسبب لها الاختناق أثناء تنفسها المضطرب، وزينتها والدتها بحليٍ جميلة لتعيد لها جزءًا من جمالها المفقود.
اصطفت السيارات بجراج المشفى، وتفاجأ العاملون بالعروس التي تسير بصحبة زوجها في اتجاه الاستقبال، انتابهم الفضول لمعرفة الأسباب، فأي عذر يدفع بعروسين في ليلة مميزة وخاصة كتلك للحضور إلى هنا، لابد أن يكون السبب قهري، اعتلى وجوههم دهشة كبيرة حينما علموا أنهم قدموا للاحتفال مع قريبتهم المريضة، لم يصدقوا الأمر في البداية، لكن حينما صدحت الزغاريد تأكدوا من صدق الادعاء.
دقت جليلة الباب بخفة مستأذنة بالولوج وهي تقول:
-ينفع ندخل
هتفت عواطف مرحبة:
-طبعًا، ده احنا أعدين مستنينكم من بدري
أطلقت زغرودة صغيرة وهي تفسح المجال للعروسين بالمرور، دخلت أسيف أولاً وعلى ثغرها ابتسامة ناعمة، سلطت أنظارها على ابنة عمتها التي كانت تطالعها بأعين دامعة، فتحت لها ذراعيها لتستقبلها في أحضانها، فرفعت أسيف ثوبها من الجانبين لتتحرك نحوها، احتضنت كلتاهما الأخرى بحب كبير، وتبادلت الاثنتان قبلات ودية، خانتها العبرات فبكت وهي تقول:
-ماينفعش نحتفل من غيرك
ردت عليها نيرمين بصوت متأثر:
-مش هنسى اللي عملتيه معايا أبدًا!
تبعها منذر متنحنحًا بصوت خشن ليشير إلى وجوده، ثم أردف قائلاً:
-سلامو عليكم
تراجعت أسيف للخلف لتتمكن نيرمين من رؤيته، طالعته بنظرات حانية وهي ترد:
-وعليكم السلام، مبروك يا سي منذر، ربنا يسعدك ويفرح قلبك
رد عليها بهدوء:
-الله يبارك فيكي
أبعدت عينيها عنه بصعوبة، فلا يحق لها الآن التطلع إليه، بينما تراجع للخلف منزويًا بأحد الأركان ليتجنب ذلك الموقف الحرج، ولجت أختها الصغرى بثوبها المتلألئ لداخل الغرفة لتضفي المزيد من الحماسة وهي تقول:
-أديني سمعت كلامك أهوو
ضحكت نيرمين من بين عبراتها مرددة:
-أخيرًا، كده أنا أرتاح!
اقتحم دياب الغرفة متسائلاً بنزق دون أي مقدمات تمهيدية:
-المأذون مستني برا، أقوله يدخل ولا أعمل ايه؟!
ردت عليه جليلة بضحكة عالية:
-اصبر يا ابني، ده العجلة من الشيطان!
نظر لها بغيظ وهو يرد بتجهم:
-ماشي، هاقوله يتركن برا!
اعترضت نيرمين هامسة:
-خليه يدخل، مالهاش لازمة يستنوا
هتف دياب متحمسًا:
-أهوو، ست الكل قالت!
رد عليه منذر محذرًا:
-اهدى على نفسك شوية!
ظلت حالة الشد والجذب المرحة بين الجميع للحظات حتى انتهت بحضور الحاج طه ليتم بعدها عقد القران بين دياب وبسمة بحضور أفراد العائلتين فقط في أجواء احتفالية هادئة، أطلقت جليلة زغرودة فرحة، وانضمت إليها عواطف لتعبر عن سعادتها بزواج ابنتها وابنة أخيها، تمنت أن تدوم تلك الفرحة للأبد، ألا يعكر صفوها أي شيء.
داعبت نيرمين رضيعتها وهي جالسة في أحضانها مراقبة بنظرات صامتة ما يدور، حمدت الله في نفسها أنها شهدت على تلك اللحظة حتى لو كانت ستحفر ذكرى حزينة في نفسها، فراق الحبيب وزواجه من غيرها، المهم الآن أن يحظى بالسعادة التي حرمت هي منها.
انتهى الوقت المخصص للزيارة، فولجت الممرضة لداخل الغرفة لتشير إلى ذلك، امتثل الجميع لطلبها، وبدأوا في جمع متعلقاتهم استعدادًا للانصراف، هب الحاج طه واقفًا من مقعده ليتجه نحو فراشها، مد يده ليصافحها وهو يقول:
-ألف سلامة يا بنتي، شدة وتزول
نظرت له بامتنان وهي ترد:
-ربنا يخليك!
أشار لها بسبابته متابعًا:
-شدي حيلك واحنا معاكي في أي حاجة
ردت بهدوء:
-تسلم يا حاج طه، مش جديد عليك!
-ده انتي زي بنتي، وولادي أخواتك!
التوى ثغرها بابتسامة شبه متهكمة، فقد نطقها منذر من قبل وأكد عليها قلبًا وقالبًا، فليست بحاجة إلى سماع ذلك، اعتبرت حديثه مجاملة وحافظت على ابتسامتها الباهتة التي تغطي تعابيرها المرهقة، لاحقًا انسحب الجميع واحدًا تلو الأخر من الغرفة لتبقى معها أسيف فقط ورضيعتها، رفضت الانصراف حتى تتحدث معها في أمر أخير
-مش ناوي تيجي معايا؟
التفت مازن ناحيته مرددًا بتجهم وهو يعقد رباط حذائه:
-لأ، أنا رجلي اتقطعت من الحتة دي، ومش ناوي أعتبها تاني!
اعترض عليه مهدي قائلاً:
-بس يا بني الحاج طه هيفرح لما نقوم بالواجب معاه، و..
قاطعه بجدية:
-يا أبا ده بيجبر بخاطرك، لكن إن كان عليهم مافيش حد من عيلة حرب نسى اللي فات!
-ربنا يهدي الحال
-ده غير إن أنا عندي شغل كتير، توضيب المطعم ولوازمه!
سأله أباه مستفهمًا:
-استقريت على اسمه ولا لسه؟
أجابه بهدوء وهو يضبط ياقته:
-أه "مشاوي حسب الطلب"
رد عليه مهدي بنبرة متمنية:
-ربنا يجعله فاتحة خير عليك
-أمين!
بدا وكأنه قد تذكر شيئًا ما فهتف بتلهف:
-بالحق، المحامي اتصل وبلغني إنه جابلنا تصريح بالزيارة، ماهو مجد اتجدد حبسه على ذمة التحقيقات
رد عليه مهدي بعبوس:
-أخوك ضيع نفسه بنفسه! ربنا يعينه على الله هو فيه!
لم يعلق مازن على جملته تلك، فقد اكتفى من كم المشكلات التي أرهقت كاهليه، وهو بحاجة للبدء من جديد، انتبه لسؤال والده المباغت:
-مش ناوي ترجع لولاء؟
عبست قسماته بشدة ورد بتأفف ظاهر على محياه:
-قفل على السيرة الغم دي، هي خلاص انتهت من حياتي!
اعترض مهدي على أسلوبه قائلاً:
-يا مازن دي مراتك و...
قاطعه بحدة:
-كانت.. مش الهانم رفعت قضية خلع؟
صمت والده ولم يرد، فاحتدت نظرات ابنه مضيفًا بحنق:
-تشرب بقى، وبعدين خليها تكسبها عشان تبريني من كل حاجة، كفاية اللي لهفته هي وأمها
هز رأسه بإحباط، فحياة ابنه لم تعد كما كانت، فزيجته فسدت، وعمله تأخر، وهو الآن بصدد تحديات أكثر صعوبة، هتف قائلاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله
تابع قائلاً بانفعال:
-هي كانت جوازة غلط من الأول، جابتلي الفقر ووجع القلب، وأديني خلصت منها! خليني أفوق للبلاوي اللي ورايا!
يئس من إقناعه بالعدول عن رأيه وإن كان صائبًا في جزء كبير منه، لكن سبق السيف العذل، وحسم الأمر بينهما.
أخذت تعبث بهاتفها المحمول بفتور وهي تحرك ساقها المتدلية من على مسند الأريكة غير مكترثة بنظرات والدتها المحتدة نحوها، كظمت الأخيرة غيظها في نفسها، فابنتها أضاعت من يدها كل شيء بعنادها الجامح، زفرت مستاءة من جلوسها بالمنزل، من أفعالها الطائشة، وخاصة محاولاتها الفاشلة للتودد لطليقها السابق دياب.
هي علمت مصادفة بأمر عقد قرانه لكنها لم تأتِ على ذكر المسألة أمامها كي لا تثور ثائرتها، وتفعل ما لا يُحمد عقباه، أخرجها من تفكيرها المتعمق صوت ولاء المتسائل:
-ماقولتيش ايه رأيك؟
سألتها بحيرة وهي قاطبة لجبينها:
-في ايه؟
ردت عليها بتبرم:
-أومال أنا بأحكي في ايه من الصبح
زفرت شادية بصوت مسموع وهي تقول بامتعاض:
-مكونتش مركزة!!!
اعتدلت في جلستها موضحة بحماس قليل:
-بأقولك صاحبتي عاوزاني أشاركها في بيوتي صالون
نظرت لها والدتها بغرابة وهي تسألها:
-ده عبارة عن ايه؟
أجابتها مشيرة بيدها:
-حاجة زي كوافير كده بس على مستوى عالي! ستايلش وفيه سمعة
-وانتي دورك ايه؟
-لسه مش عارفة، بس بأفكر أكون معاها
بدت أمها غير مهتمة بالتفاصيل، فردت بفتور:
-اعملي اللي انتي عاوزاه
نهضت ولاء من على الأريكة متفرسة في وجهها بتعمق، كانت تعبيراتها تشير إلى وجود خطب ما بها، شيء ما يزعجها لكنها ترفض الإفصاح عنه، سألتها باهتمام:
-مالك يا ماما، شكلك مش مبسوطة؟
-عادي
تابعت ولاء هاتفة بنبرة حالمة وهي تسير بخطوات متهادية في أرجاء الصالة:
-وأهي فرصة يعرف البيه دياب أنا هابقى ايه، وساعتها هايجي عندي يتسرجاني أرجعله، ده غير إني واثقة إنه هيرمي المصدية اللي معاه!
نظرت لها شادية بقوة، ابنتها تبني أحلامًا في الهواء لن تتحقق يومًا، لذلك لم تجد بدًا من إخفاء الأمر عنها، فإن عاجلاً أم آجلاً ستعلم، لذلك حسمت أمرها بإبلاغها الآن حتى لو انفعلت، فالأفضل أن تكون على دراية بمسألة عقد قرانه، سحبت نفسًا عميقًا لفظته دفعة واحدة وهي تسألها بحذر:
-انتي عرفتي بموضوع دياب
التفتت ناحيتها برأسها لتبدو تعبيراتها أكثر حدة وهي تردد متسائلة:
-ماله؟
ابتلعت ريقها وهي تكمل:
-يعني مافيش خبر وصلك عنه
فقدت أعصابها في لحظات وهي تصيح بها:
-في ايه يا ماما؟ ماتقولي على طول !!!
صمتت لثوانٍ تحاول إطلاعها على الخبر، لكن حصار ابنتها لم يمهلها الفرصة لانتقاء كلماتها، فخرج صوتها مترددًا وهي تقوا
-أصله... هـ.. هيتجوز
ارتفع حاجباها للأعلى في ذهول عجيب، وتوترت أنفاسها وهي تهتف بعدم تصديق:
-ايييه؟
ضغطت شادية على شفتيها بقوة مترددة في المتابعة، ولكن إشارات وجهها، وإيماءات عينيها كانت كفيلة بتأكيد ما قالته، انتابتها نوبة من الهياج لمجرد تخيله بصحبة أخرى يتأبط ذراعها ويهيم في حسنها عشقًا، صرخت بلا وعي:
-بتقولي ايه؟ يعني ايه هايتجوز؟
اضطربت أنفاسها بصورة ملحوظة، ونهج صدرها علوًا وهبوطًا مرددة بصدمة جلية:
-ايه الهبل ده؟ دياب مش بيحب حد، دياب مش هايتجوز، لأ! إنتي بتقولي كده عشان تحرقي دمي!
أمسكت بها أمها من ذراعيها تهزها بعنف وهي تقول:
-فوقي من الأوهام اللي انتي عايشة فيها، خلاص دياب هيكتب كتابه ويتجوز، كفاية عبط بقى، كله سابك وبعد عنك، وإنتي لسه مصدقة نفسك
نفضت ولاء قبضتي والدتها عنها بعصبية أشد لتصرخ بها باهتياج متشنج:
-إنتي السبب، استحالة أسمحله يتجوز!
ركضت كالمجنونة في اتجاه باب المنزل بثيابها المنزلية، حاولت والدتها اللحاق بها صائحة:
-رايحة فين يا ولاء؟ استني يا مجنونة!
استدارت برأسها نصف استدارة لترد بنبرة تحمل الغضب:
-هامنع الجوازة دي!
لمعت عيناه بوميض العاشقين منتظرًا خروجها من الباب، ومع كل ثانية تمرق عليه يزداد لهفة ورغبة فيها، لمح تلك الأطياف التي تتحرك من خلف الزجاج الداكن، فتأهبت حواسه بالكامل واستعد لرؤيتها، فُتح الباب ببطء فتجمدت أنظاره على الخارجين منه، في البداية كانت أخته الصغرى ووالدته التي غطى صوتها المطلق للزغاريد أصوات الجميع، ارتسم على ثغره ابتسامة متشوقة، وشعر بدقات قلبه تزداد قوة وخفقانًا.
توهجت حدقتي منذر حينما رأى حبيبته تطل عليه بثوبها الأبيض، خطفت قلبه، وسلبت لبه، اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرى خجلها المثير يكسو تعبيراتها المتلألأة، مرر أنظاره سريعًا عليها، كان يشبه ثوب السندريلا في تصميمه، ضيقًا إلى حد ما من الخصر، وينساب بتموجات واسعة حتى الأسفل، ناهيك عن الذيل الطويل الذي يحتاج لعدة أشخاص لرفعه، وما زادها رونقًا وجمالاً هو حجابها الأبيض الذي برز بتاجٍ يليق بها، تحرك نحوها ناظرًا لها بتعمق وهو يقول:
-بسم الله ماشاء الله!
تحاشت النظر إليه وأخفضت عينيها بارتباك ملحوظ، سحبها من ذراعها ليتأبط بها قائلاً:
-مبروك يا أحلى عروسة
ردت أسيف هامسة:
-الله يبارك فيك
ناولها باقة الورد مضيفًا:
-ده عشانك!
ابتسمت بخجل أكبر وهي تأخذه:
-شكرًا
هتف دياب بمرح وهو يشرأب بعنقه للأعلى محاولاً اختلاس النظرات:
-وأنا فين عروستي؟
وضع يده على رأسه متابعًا بمزاح رغم قلقه:
-وقعت منكم جوا ولا ايه؟ طب أخش أشوفها؟ ما حد يقولي؟!
ردت عليه جليلة بابتسامة أمومية:
-اصبر على رزقك، هي طالعة أهي!
بالفعل ما هي إلا لحظات حتى ظهرت بسمة أمامه وهي في مزدانة في ثوب "كشميري" اللون، خطفت أنظاره بجمالها الهادئ، وبابتسامتها المشرقة، هتف بحماس دون أن يعبأ بلفت الانتباه:
-اللهم صلي على النبي، هو في كده!
خطى سريعًا نحوها مداعبًا:
-أنا قولت غيرتي رأيك ولا حاجة، ما إنتي بمليون حالة!
احتدت نظراتها نحوه لتردد محذرة:
-دياب
أمسك بها من ذراعها ليعلقه على ذراعه، ثم مال عليها برأسه ليتغزل بها هامسًا بابتسامة شبه بلهاء:
-قلب دياب وكلاويه!
أشارت له بعينيه متابعة بصرامة:
-بص قدامك
حرك رأسه بالإيجاب وهو يرد بجمود زائف:
-ماشي يا أبلة!
لم يستطع إخفاء ابتسامته، فهي ببساطة تعبير صريح عن الفرحة الغامرة التي تعتريه، لم يكن ليحلم بهذا، أن يجد الحب بعد أن فقد الإيمان به، أن يحصل على زوجة توافقه الرأي، تليق به وتستحقه، شعر بالرضا لكونه قد حاز في الأخير على حب حقيقي.
تحرك الجميع نحو السيارات المرابطة أمام مركز التجميل ليجلس العرائس في أماكنهم متجهين نحو المشفى حيث الاحتفال بالزيجة مع نيرمين.
لم تكن لتدعها بمفردها في ليلة كهذه، ربما هي طريحة الفراش وعاجزة عن النهوض والتحرك بفعل جرعات الأدوية الكيماوية التي تحقن بها أوردتها، لكن هي أمها التي تشعر بألمها وإن أنكرت، بحزنها وإن صمتت، أعدت لها عواطف ثوبًا فضفاضًا مريحًا اشتركت في اختياره مع ابنتها الصغرى ليليق بتلك المناسبة البهيجة التي سيتم الاحتفال بها هنا، لم تتخيل نيرمين أن تصر أسيف على وجودها رغم تعذر قدومها، لكن ما لم تضعه في الحسبان أن يتم الترتيب لحفل أسري صغير بالمشفى مقتصر فقط عليهم دون أن يسببوا الإزعاج لباقي المرضى، وتزينت الغرفة بباقات الورد ووضعت في الأركان، وبمقاعد مريحة لاستقبال الضيوف القادمين.
راقبت نيرمين ما يحدث بأعين لامعة، مقاومة بصعوبة رغبتها في البكاء، كل شيء يشير إلى قلب طيب، روح نقية لم ترد إلا الحب من عائلتها الجديدة، وهي بخلت عليها بذلك، في تلك اللحظة أدركت أنها أخطأت في معاملتها الجافة لها، لم تكن بالقريبة الجيدة والتي تستحق معاملة مثل تلك، فإن كانت في محلها لقست عليها وعاملتها بفظاظة ووضاعة، لكنها دومًا تثبت لها أن الأنقياء يسعون للخير، بكت متأثرة لقسوتها معها، لظلمها لها، ندمت على ما كانت تنتويه من شر مستطر لها، انتحب صوتها، ولاحظت أمها عبراتها المنهمرة فاقترب منها متسائلة بتخوف:
-مالك يا نيرمين؟ في حاجة تعباكي؟
هزت رأسها نافية وهي ترد:
-لأ
أمسكت عواطف بمنشفة ورقية لتمسح عن وجهها تلك الدمعات التي تبلله وهي تسألها:
-اومال بتعيطي ليه؟
أجابتها بصوت متقطع:
-مش مصدقة، أسيف تعمل كل ده!
ابتسمت لها عواطف وهي ترد:
-مش قولتلك، بنت أخويا طيبة وبتحب الناس!
حركت رأسها بإيماءات تؤكد ما قالته، ثم همست بندم:
-ربنا يسامحني على اللي كنت بأعمله فيها!
رفعت أعينها الباكية نحوها متسائلة بحزن:
-تفتكري هي هتسامحني؟
ردت أمها بثقة:
-يعني لو مكانتش بتحبك كانت عملت ده عشانك؟
بكت نيرمين مجددًا، فحذرتها والدتها برفق وهي تلف حول رأسها حجابها الوردي:
-ها بلاش تعيطي، هما زمانهم على وصول، خليني أعملك الطرحة!
اكتفت بالابتسام لها وعاونتها في ضبط حجابها بلفة بسيطة لا تسبب لها الاختناق أثناء تنفسها المضطرب، وزينتها والدتها بحليٍ جميلة لتعيد لها جزءًا من جمالها المفقود.
اصطفت السيارات بجراج المشفى، وتفاجأ العاملون بالعروس التي تسير بصحبة زوجها في اتجاه الاستقبال، انتابهم الفضول لمعرفة الأسباب، فأي عذر يدفع بعروسين في ليلة مميزة وخاصة كتلك للحضور إلى هنا، لابد أن يكون السبب قهري، اعتلى وجوههم دهشة كبيرة حينما علموا أنهم قدموا للاحتفال مع قريبتهم المريضة، لم يصدقوا الأمر في البداية، لكن حينما صدحت الزغاريد تأكدوا من صدق الادعاء.
دقت جليلة الباب بخفة مستأذنة بالولوج وهي تقول:
-ينفع ندخل
هتفت عواطف مرحبة:
-طبعًا، ده احنا أعدين مستنينكم من بدري
أطلقت زغرودة صغيرة وهي تفسح المجال للعروسين بالمرور، دخلت أسيف أولاً وعلى ثغرها ابتسامة ناعمة، سلطت أنظارها على ابنة عمتها التي كانت تطالعها بأعين دامعة، فتحت لها ذراعيها لتستقبلها في أحضانها، فرفعت أسيف ثوبها من الجانبين لتتحرك نحوها، احتضنت كلتاهما الأخرى بحب كبير، وتبادلت الاثنتان قبلات ودية، خانتها العبرات فبكت وهي تقول:
-ماينفعش نحتفل من غيرك
ردت عليها نيرمين بصوت متأثر:
-مش هنسى اللي عملتيه معايا أبدًا!
تبعها منذر متنحنحًا بصوت خشن ليشير إلى وجوده، ثم أردف قائلاً:
-سلامو عليكم
تراجعت أسيف للخلف لتتمكن نيرمين من رؤيته، طالعته بنظرات حانية وهي ترد:
-وعليكم السلام، مبروك يا سي منذر، ربنا يسعدك ويفرح قلبك
رد عليها بهدوء:
-الله يبارك فيكي
أبعدت عينيها عنه بصعوبة، فلا يحق لها الآن التطلع إليه، بينما تراجع للخلف منزويًا بأحد الأركان ليتجنب ذلك الموقف الحرج، ولجت أختها الصغرى بثوبها المتلألئ لداخل الغرفة لتضفي المزيد من الحماسة وهي تقول:
-أديني سمعت كلامك أهوو
ضحكت نيرمين من بين عبراتها مرددة:
-أخيرًا، كده أنا أرتاح!
اقتحم دياب الغرفة متسائلاً بنزق دون أي مقدمات تمهيدية:
-المأذون مستني برا، أقوله يدخل ولا أعمل ايه؟!
ردت عليه جليلة بضحكة عالية:
-اصبر يا ابني، ده العجلة من الشيطان!
نظر لها بغيظ وهو يرد بتجهم:
-ماشي، هاقوله يتركن برا!
اعترضت نيرمين هامسة:
-خليه يدخل، مالهاش لازمة يستنوا
هتف دياب متحمسًا:
-أهوو، ست الكل قالت!
رد عليه منذر محذرًا:
-اهدى على نفسك شوية!
ظلت حالة الشد والجذب المرحة بين الجميع للحظات حتى انتهت بحضور الحاج طه ليتم بعدها عقد القران بين دياب وبسمة بحضور أفراد العائلتين فقط في أجواء احتفالية هادئة، أطلقت جليلة زغرودة فرحة، وانضمت إليها عواطف لتعبر عن سعادتها بزواج ابنتها وابنة أخيها، تمنت أن تدوم تلك الفرحة للأبد، ألا يعكر صفوها أي شيء.
داعبت نيرمين رضيعتها وهي جالسة في أحضانها مراقبة بنظرات صامتة ما يدور، حمدت الله في نفسها أنها شهدت على تلك اللحظة حتى لو كانت ستحفر ذكرى حزينة في نفسها، فراق الحبيب وزواجه من غيرها، المهم الآن أن يحظى بالسعادة التي حرمت هي منها.
انتهى الوقت المخصص للزيارة، فولجت الممرضة لداخل الغرفة لتشير إلى ذلك، امتثل الجميع لطلبها، وبدأوا في جمع متعلقاتهم استعدادًا للانصراف، هب الحاج طه واقفًا من مقعده ليتجه نحو فراشها، مد يده ليصافحها وهو يقول:
-ألف سلامة يا بنتي، شدة وتزول
نظرت له بامتنان وهي ترد:
-ربنا يخليك!
أشار لها بسبابته متابعًا:
-شدي حيلك واحنا معاكي في أي حاجة
ردت بهدوء:
-تسلم يا حاج طه، مش جديد عليك!
-ده انتي زي بنتي، وولادي أخواتك!
التوى ثغرها بابتسامة شبه متهكمة، فقد نطقها منذر من قبل وأكد عليها قلبًا وقالبًا، فليست بحاجة إلى سماع ذلك، اعتبرت حديثه مجاملة وحافظت على ابتسامتها الباهتة التي تغطي تعابيرها المرهقة، لاحقًا انسحب الجميع واحدًا تلو الأخر من الغرفة لتبقى معها أسيف فقط ورضيعتها، رفضت الانصراف حتى تتحدث معها في أمر أخير
