
رواية الدكان
الفصل الثاني والعشرون22
بقلم منال محمد سالم
تحركت حافلتي الأجرة في إتجاه العنوان المنشود لبدء المواجهة الحامية مع من تجرأ على أحد كبار قريتهم الحاج فتحي.بالطبع لم يكن ليتركوا ثأره - والذي اعتبروه أمراً يخصهم هم كذلك - دون الأخذ به ، واسترداد ما سُلب منه بالإجبار والقوة.
شعر الحاج فتحي بالإنتشاء لوجود عزوته حوله ، وحدث نفسه مهدداً وهو يكور قبضة يده بعنف :
-هادفنك مطرح ما انت واقف !
مـــدت يدها لتمسك بكفها المسنود إلى جانب جسدها النائم ، واحتضنته براحتيها ثم ربتت عليه برفق كبير.
أدمعت عيناها متأثرة ، وأخذت نفساً عميقاً لتسيطر على نوبة بكائها المهددة بالبدء في أي لحظة.
نهج صدرها علواً وهبوطاً ، ورمقتها بنظرات مطولة أسفة مشفقة على حالها. مالت نحوها لتمسح على وجهها بنعومة هامسة لها بإعتذار :
-سامحيني يا بنتي ، حقك تشيليني الذنب ، بس والله ما كنت أعرف !
بقيت معها جليلة لبعض الوقت ، ثم انسحبت بهدوء لتترك لعواطف مساحة من الحرية لتتحدث مع ابنة أخيها دون شعور بالحرج .
تساءل طـــه بإهتمام وهو يراها تغلق الباب :
-ايه الأخبار يا جليلة ؟
دنت منه لتجيبه بصوت خفيض :
-أنا سبتهم مع بعض ، بس شكل عواطف مش هاتسيب البت تمشي ، وشها بيقول كده
أضاف بإقتضاب :
-يا مسهل !
ســألته جليلة بصوت خافت وهي توميء بعينيها :
-تحب أخش عندهم وآآ...
قاطعها قائلاً بجدية :
-لالالا .. خليهم على راحتهم ، وروحي انتي شوفي أروى ويحيى !
هزت رأسها بالإيجاب مرددة :
-حاضر يا حاج !
ثم أولته ظهرها ، ولكنها استدارت برأسها سريعاً لتسأله بإهتمام :
-تحب أعملك حاجة سخنة ولا أغرفلك تاكل يا حاج
لوح بعكازه نافياً :
-ماليش نفس !
لم تعقب عليه وأكملت سيرها.
اقترب طـــه من ابنه منــذر ، وأردف قائلاً بصوت صــارم :
-خلص كل حاجة لزوم الدفنة والعزا !
رد عليه منذر بثبات :
-اطمن يا حاج ، أنا كلمت معارفنا وخلصوها ، وشوية وهنروح نستلم الجثة ونطلع على التُرب !
سأله والده بإقتضاب :
-وتصريح الدفن ؟
أجابه مؤكداً :
-طلع خلاص !
ربت طـــه على كتفه وهو يرمقه بنظرات متفاخرة ، ثم تابع قائلاً :
-تمام يا بني !
أبعد يده عنه ، وضمها على كفه الأخر ليستند على رأس عكازه مردداً :
-ربنا يرحمها ويثبتها عند السؤال
-يا رب !
ثم استأنف حديثه بصرامة وقد ضاقت نظراته
-إدي أجازة للرجالة في الوكالة ، احنا مش هانكون فايقين للشغل ، وآآ...
اشتد غموض عيني منذر وهو يقاطعه بنبرة مخيفة نوعاً ما :
-اعتبره حصل ، أنا أصلاً محتاجهم معايا الليلة
فهم الحاج طـــه سريعاً المقصود من تلك الجملة الجادة ، ورد عليه معللاً:
-أها.. عشان الراجل قريب البت المجنون ؟
قست نظرات منذر وهو يرد مؤكداً
-بالظبط كده يا حاج !
زم طـــه شفتيه متمتماً بتوجس :
-ربك يسترها معانا
-يا رب ، هستأذنك يا حاج ، هاروح أتابع بنفسي اللي بيحصل
-ماشي يا بني ، وربنا يعينك
تحرك بعدها منـــذر في اتجاه باب منزله ليكمل ما لديه من أعمال معلقة.
بينما عاد الحاج طـــه إلى غرفته ليبدل جلبابه بأخر.
على الجانب الأخر ، جلس ديـــاب بغرفة ابنه يحيى ليقضي معه بعض الوقت.
تمدد على المقعد الموجود بالشرفة ، واستند بساقيه على حافة السور.
تساءلت أخته الصغرى أروى بفضول وهي محدقة به :
-ودي مين يا أبيه دياب ؟
أجابها دياب بضجر قليل :
-واحدة قريبة طنطك عواطف
تساءلت أروى بإهتمام أكبر وهي تكتف ساعديها :
-بس هي عيانة ليه ؟
نفخ من ثرثرتها المتكررة مردداً بإيجاز :
-معرفش !
تدخل الصغير يحيى في الحوار قائلاً ببراءة طفولية :
-ممكن أدوها حقنة في الكي جي وسخنت !
ردت عليه أروى بجدية بعد أن استدارت نحوه :
-الميس بتقول مناكلش سمك ولا بيض لما ناخد حقن !
نظر دياب إلى كليهما بإندهاش عجيب ، ورفع حاجبه للأعلى مستغرباً طريقتهما في الحوار ،
التوى ثغره للجانب ، و تمتم مع نفسه بإبتسامة متهكمة :
-وربنا انتو دماغو فاضية !
انتبه لصوت رنين هاتفه ، فأنزل ساقيه ليعتدل في جلسته ، ثم إلتقطه من على الطاولة وحدق في شاشته.
زفـــر بتأفف كبير بعد أن قرأ اسم طليقته السابقة ، وهو يقول بإشمئزاز :
-ودي عايزة ايه ؟!
ألقى بالهاتف على الطاولة ، وشبك كفيه خلف رأسه مردداً بضجر أكبر :
-استغفر الله العظيم ، واحدة تفور الدم !!!
تكرر اتصالها به ، فنفخ مجدداً ، واضطر مجبراً أن يجيب عليها .
أردف قائلاً بإزدراء وهو يقضم أطراف أظافره :
-خير !
ردت عليه بنعومة مصطنعة :
-مافيش إزيك يا ولاء ؟
بصق تلك البقايا العالقة بين شفتيه ، وأجابها بنفور وقد زاد عبوس وجهه :
-لأ ! في حاجة ؟
هتفت قائلة بنبرة هادئة نسبياً :
-ايوه ، كنت عاوزة أخد يحيى يقضي الويك إند معايا لأني احتمال أسافر السخنة !
رد عليها بتهكم ساخر :
-والله ! الويك إيند والسخنة ! وده من امتى ان شاء الله ؟
ثم أبعد الهاتف عن أذنه ليسبها بكلمات لاذعة :
-نسيت نفسها بنت الـ ...... !!
لم تسمع جيداً ما قاله ، فصاحت متساءلة :
-بتقول ايه يا دياب ؟
أجابها متجهماً :
-الواد عنده مدرسة ومش هاينفع !
هتفت معترضة بإصرار :
-احنا متفقين يجيلي أيام الأجازات ، أنا مقولتش هاخده أيام الدراسة مع إن ده من حقي !!!!
هب واقفاً من على مقعده ، فقد أغاظته جملتها الأخيرة وجاهد ليتمسك بعقله ويضبط انفعالاته قبل أن يثور بها .
قبض بأصابعه على حافة السور ، وضغط بشراسة عليها مردداً بحنق :
-حقك ؟!!!!
ردت عليه ببرود متعمدة استفزازه :
-ايوه ، أنا أمه مش مرات أبوه ، وحضانته معايا
صاح بها بصوت جهوري محتد :
-دلوقتي افتكرتي انك أمه !
هتفت قائلة بنبرة محذرة :
-دياب بلاش نفتح في القديم ، خلي يحيى ابننا بعيد عن أي خلافات بينا ، عاوزين نفسية الولد تكون كويسة
ضرب بعنف حافة السور بقبضة يده المتكورة ، وصاح بها بنفاذ صبر :
-لخصي !
استمع إلى صوت زفيرها وهي تصيح بحدة :
-ما أنا قولتلك عاوزاه يقضي الأجازة معايا ، أنا مسافرة يومين بس ومحتاجاه يغير جو معايا ويشوف مناظر جديدة ، مافيهاش حاجة يعني !
تجهمت نبرته أكثر وهو يضيف بسخط :
-أها ، هابقى أشوف
ســألته بهدوء :
-طيب أعدي أخده امتى ؟
أجابها بفظاظة متعمداً إهانتها :
-لأ متعديش ، محدش طايقك هنا !
اغتاظت من رده المستفز ، وضبطت نبرتها وهي تقول بصعوبة :
-ميرسي لذوقك
تابع قائلاً بإزدراء مهين :
-دي الحقيقة !
سألته بصوت حاد بعد أن فاض بها الكيل من استهزائه بها:
-طب هاخده إزاي ؟ ممكن تقولي !
أجابها بجمود :
-هابعتهولك مع واحد من السواقين
ردت عليه قائلة :
-اوكي !
ثم رققت من نبرتها لتكمل بنعومة :
-وعلى فكرة إنت ممكن تجيبه وتيجي عادي عندي ، احنا ممكن نعتبر نفسنا أصحاب وآآ....
قاطعها قائلاً بنبرة فجة :
-لأ مش عاوز أشوف خلقتك ، بتقفلي اليوم كله !
شهقت مصدومة من وقاحته اللامتناهية مرددة بنبرة مغلولة :
-نعم !
تابع قائلاً بإحتقار مسيء لشخصها :
-سلام بقى عشان مش فايق لقرفك ! كفاية كده !
اتسعت حدقتي ولاء بغيظ كبير بعد أن أنهى دياب المكالمة معها تاركاً إياها تغلي من أسلوبه الفج المستفز لها.
نفخت قائلة بحنق وقد اشتعلت نظراتها :
-وقح وقليل الذوق !
كزت على أسنانها متابعة بتوعد شرس :
-بكرة تيجيلي زاحف يا دياب عشان خاطر ابنك ، وساعتها هردلك القديم والجديد !
ابتلعت شـــادية قطعة الحلوى التي كانت بيدها وهي تتساءل بهدوء :
-ايه اللي حصل ؟ متنرفزة كده ليه ؟
أجابتها بنبرة حـــادة :
-الزفت دياب بيطول لسانه عليا !
أخذت شادية تلوك بقايا قطعة الحلوى في فمها حتى ابتلعتها تماماً ، وردت عليها ببرود وهي تقف قبالتها :
-ده أخره معاكي ، مابيعرفش يعمل أكتر من كده ، سيبك منه
هتفت ولاء متوعدة بنبرة عدائية بعد أن فلتت أعصابها :
-أنا هاوريه ! مش هـآآ...
قاطعتها أمها بلؤم شيطاني وقد برقت عيناها بوميض مغتر :
-هاتي بس يحيى منه الأول وبعد كده هنعرفه إن الله حق !
صرت ولاء على أسنانها قائلة بنبرة محتدة :
-ماشي يا ماما !
بدأت أسيف تستعيد وعيها تدريجياً ، شعرت بثقل كبير في رأسها ، فتأوهت بأنين خفيض وهي تجاهد لفتح عيناها.
انتبهت لها عواطف ، وكفكفت عبراتها لتهمس بتلهف :
-بنت أخويا الغالي ، أنا جمبك يا ضنايا !
ركزت أسيف في ذلك الصوت المألوف الذي اخترق أذنيها رغم همسه ، والتفتت برأسها ببطء نحو صاحبته.
نظرت إليها بحزن عميق ، ثم تمتمت بصوت خفيض موجوع وعيناها تبكيان :
-سابوني وراحوا !
ردت عليها عواطف قائلة بحنو صادق رغم عدم فهمها لما قالته :
-متخافيش أنا معاكي ومش هاسيبك ، وإن شاء الله ربنا يقدرني وأعوضك عن اللي فات !!
إستندت أسيف بمرفقيها محاولة النهوض من نومتها ، فانتفضت عمتها واقفة لتعاونها ، ومدت يدها لتمسك بها من ذراعها وهي تقول بتلهف :
-بشويش يا بنتي !
أغمضت عيناها الدامعتين للحظة ، ثم عاودت فتحهما وهي تسند ظهرها على الوسادة.
انتحبت أكثر ، ووضعت إصبعها على طرف أنفها كاتمة لشهقاتها.
مسحت عواطف على ظهرها برفق مواسية إياها :
-شدي حيلك يا ضنايا !
رفعت أسيف رأسها للأعلى لتحدق فيها بنظرات خاوية.
ثم تلفتت حولها بإستغراب شديد متساءلة بصوت مختنق :
-أنا فين هنا ؟
أجابتها عواطف بنبرة مطمئنة وهي تحاول الابتسام لها :
-انتي عند جماعة قرايبي ، ودلوقتي هاخد وتروحي معايا بيتي ، عند عمتك حبيبتك يا غالية !
هزت أسيف رأسها معترضة قائلة بصوت مبحوح:
-أنا عاوزة أروح لماما ، هي لوحدها !
ضغطت عواطف على شفتيها مانعة نفسها بصعوبة من البكاء ، وهتفت بتفهم :
-هانروحلها ، وهتدفينها وتاخدي عزاها بنفسك
أجهشت أسيف بالبكاء المرير مرة أخرى ، وأخرجت من صدرها شهقة متآلمة صارخة بحرقة :
-آآآآه ، سابتني وراحت مع بابا
احتضنتها عواطف بذراعيها ، وضمتها إلى صدرها قائلة بتأثر :
-عيطي يا بنتي ، طلعي كل اللي جواكي
هتفت أسيف بنشيج مخنوق:
-ليه كده يا ربي ، ليه أتحرم من أغلى الناس ؟
اعترضت عواطف على عدم تقبلها لمشيئة المولى قائلة بعتاب خفيف :
-متقوليش كده يا بنتي ، ده قضاء ربنا ، وإن شاء الله هيعوضك خير ! اصبري واحتسبي عند الله !
أغمضت هي عيناها قهراً ، وواصلت صراخها الموجوع :
-آآآآآآه
ضمتها عواطف أكثر ، وحاولت احتواء حزنها العصيب بكل ما استطاعت من عاطفة وحنو.
ظلت تمسح على كتفيها وظهرها ، وانحنت لتقبلها بعمق في جبينها لعلها تسكن آلامها الملتهبة.
هي اعتبرتها بمثابة ابنة أخــرى لها ، ولن تتخلى عنها أبداً .
اختلست جليلة النظرات بحذر شديد وهي تراقب كلتاهما دون أن تصدر أي صوت ، ثم استمعت لجزء من حوارهما ، وأسرعت بمواربة الباب قبل أن تلفت الأنظار إليها.
مصمصت شفتيها مستنكرة حالة الهذيان المسيطرة على تلك الفتاة ، وضربت كفاً بالأخر.
تساءل الحاج طــــه بإهتمام :
-ها فاقتك ؟
أجابته بإيماءة واضحة منها :
-اه يا حاج !
تساءل بجدية أكبر وهو يعقد ما بين حاجبيه :
-تفتكري هتبقى كويسة لو خدناها معانا التُرب ؟
حركت كتفيها بحيرة وهي تجيبه :
-مش عارفة ، بس شكلها مايطمنش يا حاج ، دي مقطعة نفسها من العياط !
تابع الحاج طــه قائلاً :
-أنا رأيي بلاش ، بدل ما يحصل زي ما حصل في المشتشفا !
وضعت جليلة يدها على طرف ذقنها مرددة بإعتراض :
-بس دي أمها والمفروض تحضر دفنتها وآآ...
قاطعها قائلاً بضيق :
-عارف ، بس انتي شايفة بنفسك !
وافقته الرأي هاتفة بتوجس :
-اه يا حاج ، البت مش مستحملة ، ده الواحد خايف تروح فيها
صمت ليفكر في أمر ما قليلاً ، ثم أشــار لها بكفه قائلاً بصوت جاد :
-خليها معاكي ، واحنا بعد الدفنة هناخدها على بيت عواطف !
هزت رأسها موافقة وهي تقول بإبتسامة باهتة :
-ماشي يا حاج ، اللي تؤمر بيه !وصلت الحافلتين قبل وقت قليل للمنطقة الشعبية ، وترجل منها الحاج فتحي ليبحث عن العنوان المطلوب.
وقعت عيناه على ذلك السرادق الذي يتم نصبه ، فتجهم وجهه وعرف تحديداً أين سيتواجه.
استدار برأسه ناحية الحاج اسماعيل مردداً :
-شكل ده البيت
استطرد الحاج اسماعيل حديثه قائلاً بصوت متصلب عدائي :
-أؤمر يا حاج فتحي واحنا نجيب عليه واطيه ، الرجالة جاهزين !
إشرأب الحاج فتحي بعنقه محاولاً البحث عن غريمه المنشود ، لكنه لم يره وسط المتواجدين بالسرادق وخارجه ، فرد عليه قائلاً بصوت مزعوج :
-مش وقته ، احنا هنستنى شوية لحد ما يجي البأف إياه !
تساءل الحاج اسماعيل بجدية :
-هو مش معاهم ؟
هز رأسه نافياً وهو يجيبه :
-لأ ، شكله لسه مجاش !
مط فمه ليضيف بعزم :
-طيب ، احنا معاك للأخر ، وماورناش حاجة إلا هو !
ربت الحاج فتحي على كتفه ممتناً ، وهتف صائحاً وهو يمرر أنظاره على بقية الرجال المتأهبين للمشاجرة :
-بينا يا رجالة هنقعد على القهوة اللي على الناصية دي شوية
في وقت لاحق ،،،،
وُريت حنان الثرى ، ودُفنت في مقابر عائلة عواطف ، وتحديداً في قبر والدتها المتسلطة ، بحضور قلة قليلة ممن على صــلة بها ، تولى رجال عائلة حرب إنهاء كل شيء حسب العُرف المتبع .
بعدها عادت عواطف إلى منزل الحاج طـــه لتصطحب ابنة أخيها إلى منزلها حيث سرادق العزاء الذي تم إقامته بجوار البناية.
تم نصب أخر صغير على مقربة منه ، لكنه مغلق وخاص بالنساء ، وأشرفت على خدمة من به بعض العاملات المؤجرات للقيام بمثل تلك المهام.
ارتفع صوت ترتيل آيات القرآن الكريم بالأرجاء ، وبدأ قاطني المنطقة في الحضور لتقديم واجب العزاء.
ترأس قائمة متلقي العزاء الحاج طه ، ووقف إلى جواره ابنه دياب.
-هاتروح العزا يا مازن ؟
تساءل مهدي بتلك العبارة موجهاً حديثه إلى ابنه الذي رد عليه بفتور :
-هي كانت قريبتنا لا سمح الله ، دي واحدة ولا نعرفها من الأساس ، فجأة عزا وصوان ومقرئين وكلام فارغ
انزعج أباه من رده المستفز ، ونهره قائلاً :
-انت مابتعملش خير أبداً
رد عليه غير مكترث :
-لأ ، لو كان من ناحيتهم مش عاوز
هتف والده بعبوس :
-أنا رايح أقوم بالواجب ، ماهو مش هيبقى احنا الاتنين
رفع مـــازن عينيه قليلاً ليقول ببرود:
-براحتك يا حاج
تمتم الحاج مهدي من بين شفتيه بسباب حاد وهو ينظر لابنه بإزدراء :
-تربية .......... مافيش فيك بركة !أحضر منــذر سيارته ، وأوقفها أمام مدخل بنايته منتظراً بترقب نزول أسيف مع عمتها.
بدلت الأخيرة ثيابها بعباءة سوداء أعارتها لها الحاجة جليلة.
بدت فيها نحيلة للغاية ، ومتهدلة على جسدها ، لكنها كانت الملائمة لمثل تلك الظروف الحزينة.
=
تجمدت أنظاره عليها ، ولم يستطع إبعاد عيناه عنها.
علامات الإنكسار والضعف الممزوج بالحزن كانت مسيطرة عليها كلياً.
كانت تسير بلا عقل ، تفكيرها شـــارد فيمن رحل عنها ، في مستقبلها المجهول ، مصيرها المقلق.
هي باتت بمفردها لا عائل لها ، تحملت مسئولية أكبر بكثير مما كانت تتوقعه.
تأبطت بذراعها عمتها الوحيدة ساحبة إياها نحو السيارة.
فتحت باب السيارة الخلفي ، ودفعتها بلا مقاومة للبقاء بالخلف ، وجلست هي إلى جوارها.
تساءل منذر بصوت آجش :
-نتوكل على الله ؟
أجابته عواطف بصوت هاديء ناظرة في إتجاه أسيف :
-اه يا سي منذر، وكتر خيرك على كل اللي بتعمله !
تحرك بالسيارة في اتجاه منزل عواطف والذي كان قريباً من بنايتهم . لمح بطرف عينه وهو يلج للمنطقة الشعبية حفنة من الرجال الغرباء المنتشرين على أغلب مقاعد القهوة.
دقق النظر فيهم بإهتمام ، وتفرس في ملامح وجوههم الغير مبشرة بقلق كبير.
بدا وكأنهم مجتمعين للقيام بأمر مريب ، كما كانت ثيابهم تشير لكونهم من بلدة ريفية.
طرأ بباله شيء ما ، واستطاع نوعاً ما تخمين هويتهم خاصة عندما التقطت عيناه أحدهم تحديداً ، والذي عرف هويته على التو فتجمدت تعابيره وجهه ، وقست نظراته للغاية.
بحذر شديد سحب هاتفه المحمول من جيبه ، وطلب أخاه قائلاً بصوت قاتم يحمل الغموض :
-جهز الرجالة يا دياب ، في عوأ هيحصل !
هتف دياب متساءلاً :
-قصدك قريب البت الـ آآ...
قاطعه منذر بصوت يوحي بالشراسة :
-أه هو ، ومش جاي لوحده
رد عليه دياب بثقة :
-واحنا جاهزينله
-ماشي
قالها منـــذر وهو ينهي معه المكالمة على عجالة ، لكن عيناه لم تحيدان أبداً عن الحاج فتحي الذي تشنجت قسماته حينما وقعت أنظاره مصادفة عليه .
عرفه فوراً ، وتحفزت كافة حواسه للهجوم عليه.
هب واقفاً من مقعده صائحاً بغلظة :
-يالا يا رجالة ، الدغوف جه برجليه هنا !
هتف الحاج اسماعيل بتوعد هو الأخر :
-وقعته سودة ، مش هايطلع عليه نهار ، بينا يا رجـــــــــــالة
نهض ديـــــــــاب من على المقعد ، وانسحب بحـــذر شديد من سرادق العزاء متبادلاً مع رجـــاله نظرات غامضة ولكنها كانت مفهومة بالنسبة لهم.
إنتاب والده الريبة ، فقبض على معصمه متساءلاً بخفوت :
-خير يا دياب ؟ حصل حاجة
توقف ابنه عن السير ، والتفت ناحيته ، ثم أجابه بإقتضاب وهو يشير بعينيه :
-مش خير خالص
انقبض قلب الأخير بخوف شديد بعد أن فهم إلى ماذا يرمي ابنه ، وتجمدت نظراته عليه.
ثم أردف محذراً بصوت خافت لكنه صــارم :
-خلي بالك من نفسك انت وأخوك !
-اطمن !
قالها ديـــاب مشيراً بحاجبيه بحركة واثقة قبل أن ينصرف هو الأخر ليلحق برجــاله.في نفس التوقيت سلط منذر عينيه على إنعكاس صورة هؤلاء الرجال الماكثين بالمقهى الشعبي من خلال مرآته الأمامية. زادت نظراته اتساعاً و حِدة حينما لمح ذلك القالب الطوبي المقذوف ناحية سيارته من الخلف.
ضغط على المكابح محاولاً تفاديه بحرفية قائد ماهر ، فأصاب فقط مصباحه الخلفي.
صرخت عواطف بهلع ، واستدارت برأسها لترى هؤلاء الرجال الغاضبين وهم يحاولون الفتك بهم.
صاحت بلا وعي :
-يا نصيبتي ، مين دول ؟ الحقنا يا سي منذر !!!!
-متخافوش
قالها منذر بإقتضاب وهو مسلط كل تركيزه على حماية من معه من التعرض لأي أذى.
ولكنه أوقف السيارة مجبراً ليتجنب صدم أحد الأشخاص الذين ظهروا أمامه فجــأة ، لكنه تفاجيء به يهوى على زجاج السيارة الأمامي بعصا معدنية غليظة متعمداً تحطيمها.
جفلت أسيف من ذلك المشهد المفزع ، وشخصت أبصارها بخوف حقيقي.
احتضنت عواطف ابنة أخيها لتحميها ، وتمسكت بها جيداً وهي تصيح بصراخ :
-يا لهــــوي ! ايه اللي بيحصلنا ده ؟ هما عاوزين مننا إيه ؟
ارتجف جسد أسيف تلقائياً من هول الموقف ، ونظرت بأعين زائغة نحو ما يدور حولها من صدامات مهددة ، خاصة وأن أغلب الوجوه كانت مألوفة بالنسبة لها .
شكل رجــال الحاج فتحي حصاراً سريعاً حول سيارة منذر محاولين النيل منه ، وأخذ أسيف بالقوة.
أدار هو سريعاً المحر،، وبقوة أعصاب فائقة ، ومهارة بارعة ، وإصرار شديد تمكن من الإستدارة والالتفاف بعيداً عنهم متفادياً أي محاولة للإقتراب ممن معه .
قُذفت السيارة بقالب طوب أخر بعنف أكبر ، وأصاب تلك المرة الزجاج الخلفي ، فتهشم سريعاً ، وارتطم برأس عواطف التي صرخت متآلمة.
وضعت يدها تتحسس موضع الوجع ، وأكملت بأنين وهي تميل برأسها للأمام :
-آآآه ، دماغي !
التفتت أسيف نحوها ، ودققت النظر في جرحها الخلفي ، وشهقت مفزوعة حينما رأت خيوط الدماء تتسرب من رأسها.
وضعت يدها عليه محاولة منع النزيف مرددة برجفة :
-دماغك بتنزف !
حدق فيهما منذر من خلال انعكاس صورتهما بالمرآة. وتجهم وجهه للغاية ، كما أظلمت نظراته بصورة موحية بشر مستطر.
هتف الحاج فتحي بنبرة عالية مهيناً منذر :
-هتتربى النهاردة يا ابن الـ ....... !!
حركت أسيف وجهها نحو مصدر الصوت ، ورأت وجهه المظلم الذي يتوعدها.
خفق قلبها برعب كبير ، واضطربت أنفاسها.
حدج منـــذر الحاج فتحي بنظرات نارية ، وكز على أسنانه كاظماً غضبه حتى يتمكن من التصرف بحكمة وإنقاذ من معه.
لم يطل الأمر كثيراً ، ولم يبقَ في ذلك الحصار المباغت لوقت طويل فقد حضر أخاه ومعه أغلب عمال الوكــالة للإشتباك الفوري مع هؤلاء الغرباء.
التحمت الأجساد الغاضبة معاً ، وزادت حدة الإشتباكات العنيفة بين الفريقين.
استغل منذر الفرصـــة ، وتمكن من الإفلات منهم بسيارته ، وتوجه سريعاً نحو وكالته.
كان ديـــاب ممسكاً بعصا غليظة في يد ، وجنزير معدني سميك في اليد الأخرى ، وبدل بين كليهما في ضرب كل من تطاله يداه بشراسة. وكذلك كان الحال مع أغلب رجاله.
حاول أحدهم النيل منه وإصابته في رأسه من الخلف ، لكن افتداه أحد العمال ، وتلقى الضربة العنيفة عنه.
استدار دياب نحوه ، وهجم عليه بضراوة لينهال عليه باللكمات والركلات قبل أن يكمل ضربه الوحشي بجنزيره المعدني لاعناً إياه بألفاظ بشعة :
-مش سايبك يا ........... ، هاطلع .......... !!
أوقف منذر السيارة عند الوكالة ، ثم ترجل منها ليساعد عواطف في الخروج.
كانت لا تزال واضعة ليدها على رأسها ، ومستندة بيدها الأخرى على أسيف.
صـــاح بهما بصوت آمر غير قابل للنقاش :
-خشوا جوا الوكالة ، محدش يطلع منها !
نظرت إليه أسيف بنظرات غريبة ، كانت مرتعدة للغاية ، تفكيرها مشلول ، خائفة مما قد يحدث لها ، فقد رأت الشراسة والوعيد في أعين قريب والدتها الراحلة.
انتفضت فزعة في مكانها على صوت منذر الجهوري ؛ والذي أخرجها من شرودها المذعور ، لتجده يحدث أحد صبيانه :
-باب الوكالة يتقفل عليهم ، لو جرى لواحدة فيهم حاجة رقبتك هاتطير ، سامع !
رد عليه الصبي بخنوع تام لأمره :
-ماشي يا ريس !!!!
ثم دفـــع عواطف بيده نحو الوكالة ، وبالطبع تحركت معها أسيف ، ليلج ثلاثتهم للداخل.
لحق به الصبي ، وأضــاء المصابيح لينير المكان ، ثم التقط أقرب مقعد وحمله لتجلس عليه عواطف.
انحنى منذر عليها قائلاً بصوت متشنج :
-ماتتحركيش من هنا يا ست عواطف
هزت رأسها قائلة بصوت ضعيف :
-هو أنا فيا نفس أعمل حاجة ! آآآه يا دماغي !
ثم رفع رأسه نحو أسيف ليضيف بقوة :
-وإنتي محدش هياخدك من هنا غصب عنك !
ابتلعت ريقها ولم تعقب عليه.
وما إن تأكد من سلامتهما وبقائهما بآمان حتى ركض خارج وكالته ، وأوصــــد الباب المعدني من الخارج ليضمن حمايتهما.
بقي الصبي معهما وهتف قائلاً بقلق :
-ست عواطف ، إنتي متعورة ولا ايه ؟
أجابته بأنين
-اه يا بني ، شوفلي حاجة أكتم بيها دمي اللي اتصفى
رد عليها بصوت متلهف :
-في عندنا علبة اسعافات أولية ، هاشوف هي فين وأجيبهالك
تابعت قائلة بصوت متقطع :
-أوام يا بني !
لم تتوقف يد أسيف عن الإرتعاش. وبدت أنفاسها لاهثة وهي تحاول ضبطها.
رغبت عواطف في طمأنة تلك المذعورة أمامها ، فرددت بإبتسامة باهتة :
-متخافيش يا بنتي ، محدش هيقدر يعملنا حاجة ، احنا معانا ربنا ، وآآ.. وسي منذر !
نظرت لها أسيف بغموض ، ورغم نبرتها المطمئنة إلا أن شعورها بالخوف والرهبة مازال مسيطراً عليها.
وقف مــــازن على باب مطعمه يراقب الإشتباك الدائر بنظرات متشفية ، ثم ولج عائداً إلى مكتبه.
تساءل أباه بقلق :
-عرفت اللي بيحصل ؟ وليه ولاد حرب بيتخانقوا مع الناس دول ؟
أجابه مازن بفتور :
-لأ لسه !
ثم تحولت نبرته للقتامة والغل وهو يضيف :
-خلوهم يربوهم شوية ، نفسي أشوفهم مكسورين ومحطوط عليهم !
نظر له مهدي شزراً ، ورد عليه مستنكراً :
-وانت كده هترتاح ؟
أجابه مــازن بضيق :
-اه هرتاح ، مفكرين نفسهم أسياد الحتة وهما مايجوش حشرات أفعصها تحت رجلي !
ضغط مهدي على شفتيه مردداً بصعوبة :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ، اوعى كده خليني أشوف في ايه !
أشــار له مازن بكف يده قائلاً بعدم اكتراث :
-اتفضل يا حاج
ثم تابعه بنظراته حتى اختفى من أمامه وتمتم مع نفسه بوعيد :
-مسيره يجي اليوم اللي هاحط دماغهم تحت جزمتي وأدوسهم !!!!
ركب منـــذر سيارته ، وعاد بها إلى موقع الاشتباك عند المقهى ، فهو لم يكن ليترك أخيه بمفرده دون مد يد العون ، خاصة في تلك النوعية من المعارك.
كان فــــارق القوة والمهارة لصـــالح فريق ديـــاب ، فهم متمرسون على الاقتتال بشراسة خلال تلك الشجارات العنيفة، ولم تكن المرة الأولى لهم.
ضغط منذر على المكابح بعنف لتتوقف سيارته في منتصف الطريق ثم ترجل منها دون أن يوقف محركها ، وانقض على أقرب رجل منه يضربه بعنف شرس.
تلقى عدة لكمات وضربات في أنحاء مختلفة من جسده لعدم وجود أي وسائل حماية أو دفاع عن النفس ، لكن هذا لم يمنعه من رد الصاع صاعين.
لا يعرف أي قوة كانت تحركه للهجوم والاعتداء بأيدٍ عارية على من يقترب منه ، لكن شيء ما بداخله كان يدفعه ويحفزه للقتال ، وتلقين ذلك القريب الساخط درساً قاسياً.
قامت أسيف بتضميد جراح عمتها ، وأوقفت نزيف جرحها السطحي.
حمدت الله أنه لم يكن غائراً ، وأن إصابتها لم تكن بالخطيرة.
شكرتها قائلة بإمتنان :
-تسلم ايدك يا بنتي ، الحمدلله إنها جت على أد كده !
اكتفت أسيف باظهار ابتسامة خفيفة مجاملة على ثغرها.
هتف الصبي قائلاً بحماس :
-زمانت الريس منذر واكلهم علقة موت ، ده ماشاء الله عليه ، مافيش مرة دخل فيها عاركة ولا مضاربة إلا وطحن اللي قدامه
استدارت أسيف نحوه برأسها ، ونظرت له بغموض.
ردت عليه عواطف بتنهيدة متعبة :
-ربنا يحميه لشبابه ، ده لولاه كنت سحت في دمي ، وكانت الغلبانة دي راحت فيها !
عادت أسيف تنظر إلى عمتها بنظرات مطولة.
هي كانت مُصيبة في قولها ، فدفاع منـــذر المستميت عنهما وجرأته الشديدة أنجتهما من خطر وشيك.
استأنف الصبي حديثه مقلداً حركات المصارعين :
-عليه شوية لوكميات وروسيات تجيب أجل الواحد ، أفتكر مرة زنق واد كان شارب ودماغه ضاربة في الركنة هنا ، وطلعهم على جتته لحد ما فاق وحلف ما يرجع يضرب تاني !
أومــأت عواطف برأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد عليه :
-فاكراها الحكاية دي ، الواد كان محشش باين ، وقارف الناس في الرايحة والجاية وهو آآ.....
لم تصغِ أسيف إلى بقية الحوار ، وتراجعت للخلف لتجلس على أقرب مقعد ، وأنزوت مع نفسها ترثي والدتها الراحلة . فبالرغم من الموقف العصيب الذي مرت به إلا أن شعورها باليتم والوحدة كانا أكبر من أي شيء أخر.
فالحقيقة القاسية أنها بالفعل بمفردها في تلك الحياة ، وستتعرض بالتأكيد لمواقف مماثلة ربما تكون أكثر عنفاً وشراسة.
وصلت الأخبار -كما تنتشر النار في الهشيم - إلى أغلب المتواجدين بسرادق العزاء عن وجود مشاجرة حامية وتناثرت الأقاويل حول قريبة عواطف التي تسببت في ذلك النزاع.
اضطر الفقي للتوقف عن تلاوة القرآن الكريم ، وختم الجزء المخصص للتلاوة سريعاً ، فاتجه بعدها أغلب المعزيين إلى المقهى لمتابعة ما يحدث بفضول كبير.
بالطبع تمكن منـــذر وأخيه الأصغر ديـــاب من السيطرة على الوضع ، ومالت كفة الميزان لصالحهم.
شكل أغلب رجـــال عائلة حرب دائرة حول ضحاياهم الذين جثوا على أرجلهم في حركة مستسلمة.
وقف الحاج اسماعيل عاجزاً في مكانه ، ونظر بأسف إلى رجال قريته الذين تم تقييدهم بصورة محرجة أمام الجميع وكأنهم شاه تُقاد إلى الذبح.
كانت أعين فتحي كالجمرات ، تطلق شرراً بائناً ، فهو لم يتوقع تلك الهزيمة ، وظن أنه أتى بأفضل الرجال ، لكنه نسى أنه دخل في شيء غير محسوب العواقب.
ورغم موقفه المتأزم إلا أنه هدر بصوت مُكابر وهو يكز على أسنانه بشراسة :
-مش هاسيب لحمي تنهشوا فيه حتى لو كان أخر يوم في عمري !
اغتاظ منذر من تلميحاته الصريحة والتي تسيء إليه ، فرد عليه بعصبية :
-لحم ايه يا ده يا حاج ، عيب على شيبتك دي !
هتف فيه الحاج فتحي بإنفعال كبير مهيناً إياه :
-مابقاش إلا واحد ....... زيك يتكلم !!
اتسعت حدقتي الأخير عقب سماعه لذلك السباب المهين ، واصطبغ وجهه بحمرة مغلولة.
قبض على أصابع كف يده بشراسة ، وأوشك على ضربه مهدداً إياه بنبرة عدائية :
-لأ انت محتاج آآ...
وقبل أن ينقض عليه تجمد في مكانه على إثر صوت أبيه الصــــــارم المنادي بإسمه :
-منــــــــــــذر !!!
اشتعلت عيناه أكثر ، وبرزت عروقه النابضة بدمائه المحتقنة من عنقه وأعلى جبينه.
تابع والده قائلاً بنبرة حازمة :
-طالما أبوك واقف هنا هو اللي هايتكلم !
ضغط على أسنانه بقسوة ليرد بصوت شبه متشنج :
-اتفضل يا حاج !
استدار الحاج فتحي ناحية طه ، ورمقه بنظرات مزدرية متعمداً التقليل من شأنه ، وأردف قائلاً بسخط :
-ومين انت كمان ؟
وقف طــــه قبالته بشموخ وترفع ، ونظر إليه بثبات لكن الأخير لم يعبأ به ، وتابع بإستخفاف :
-تلاقيه جايبك محامي ليه !!!
استشاط ديـــاب غضباً من أسلوبه المستفز والذي يتسبب في جعل الدماء تفور من الغيظ ، فهدر فجــأة :
-يا أبا الغلط ده ما يتسكتش عليه !
أشـــار له أبيه بعينين حادتين مردداً بغلظة صارمة :
-اسكت يا ديـــاب ، أنا قادر أوقفه عند حده !
استشعر الحاج فتحي لوهلة أنه في موقف قوة ، وأنه بإستطاعته قلب الكفة لصالحه ، فصاح متساءلاً بصوت جهوري وهو يدير رأسه في كافة الاتجاهات :
-فين بنت ريـــاض ؟ فين عرضي اللي خدتوه ؟ اشهدوا يا ناس ، جاي أجيب بنتي من عندهم يضربوني أنا وقرايبها ويهددونا ، هي دي المرجلة ، هي دي الـ آآآ....
قاطعه الحاج طـــــه بصوت مرتفع :
-بنت رياض أعدة معززة مكرمة مع عمتها !
التفت الحاج اسماعيل ناحية الحاج فتحي متساءلاً بإندهاش :
-عمتها !! هي ليها عمة أصلاً ؟!!!
لم يجبه الأخير ، فصاح به مكرراً بضجر :
-الكلام ده صحيح يا حاج فتحي ؟
ابتلع هو ريقه بتوتر خفي ولم يجبه.
أكمل منذر مردداً بتهكم وهو يرمق الحاج فتحي بنظرات ساخطة :
-هو الحاج مقالكوش ده ؟ تؤ تؤ تؤ ، غلطان بصراحة !
ثم زاد من قوة نبرته الغاضبة وهو يكمل :
-أه ليها عمة ، اخت أبوها ، الحاجة عواطف اللي كنتوا هتموتوها وكانت معايا في العربية
حاول الحاج فتحي الدفاع عن موقفه بعد أن وجد نفسه في وضع حرج ، وهتف بصوت مستنكر محدجاً إياه بنظرات نارية مستشاطة :
-ويصح بردك تاخد حرمة من ورا أهلها وآآ...
قاطعه منذر قائلاً بحدة وقد قست نظراته للغاية :
-خدتها لما لاقيت الراجل الكوبارة هيموتها في ايده ، مش مقدر الظرف اللي هي فيه وحالتها رغم اللي قاله الدكتور ، ونزل ضرب فيها !
استغرب الحاج اسماعيل مما سمعه ، وحدق في رفيقه بذهول.
انفرج فمه مردداً بتساؤل :
-هـــه ، طب ليه ؟
تعمد الحاج فتحي تجاهله ، وجاهد ليحافظ على ثباته أمام الجميع.
أشـــار بإصبعه هاتفاً بإزدراء واضح في نبرته :
-فين عمتها دي ؟ ماهو يمكن تكون كدبة من تأليفك ، فيلم وبتعمله علينا ، رياض الله يرحمه مكانش ليه اخوات !!!
رد عليه ديـــاب مستنكراً وقاحته المستفزة :
-يا شيخ ؟ طب انت ازاي قريب أمها وعارف كل حاجة عن عيلتها وفاتتك معلومة زي دي ؟! لا بجد عيب عليك !!!!
وضع منـــذر قبضته على ذراع أخيه ضاغطاً عليه ، ثم رد ببرود مهيب :
-وماله ، مش هو طلبها ، احنا هنأكدله ده ، وهانجيب الحق عليه !
ضاقت نظراته أكثر ، وتحولت نبرته للوعيد وهو يضيف :
-واللي غلط يتحمل نتيجة غلطه
إنتاب والده الريبة ، فقبض على معصمه متساءلاً بخفوت :
-خير يا دياب ؟ حصل حاجة
توقف ابنه عن السير ، والتفت ناحيته ، ثم أجابه بإقتضاب وهو يشير بعينيه :
-مش خير خالص
انقبض قلب الأخير بخوف شديد بعد أن فهم إلى ماذا يرمي ابنه ، وتجمدت نظراته عليه.
ثم أردف محذراً بصوت خافت لكنه صــارم :
-خلي بالك من نفسك انت وأخوك !
-اطمن !
قالها ديـــاب مشيراً بحاجبيه بحركة واثقة قبل أن ينصرف هو الأخر ليلحق برجــاله.في نفس التوقيت سلط منذر عينيه على إنعكاس صورة هؤلاء الرجال الماكثين بالمقهى الشعبي من خلال مرآته الأمامية. زادت نظراته اتساعاً و حِدة حينما لمح ذلك القالب الطوبي المقذوف ناحية سيارته من الخلف.
ضغط على المكابح محاولاً تفاديه بحرفية قائد ماهر ، فأصاب فقط مصباحه الخلفي.
صرخت عواطف بهلع ، واستدارت برأسها لترى هؤلاء الرجال الغاضبين وهم يحاولون الفتك بهم.
صاحت بلا وعي :
-يا نصيبتي ، مين دول ؟ الحقنا يا سي منذر !!!!
-متخافوش
قالها منذر بإقتضاب وهو مسلط كل تركيزه على حماية من معه من التعرض لأي أذى.
ولكنه أوقف السيارة مجبراً ليتجنب صدم أحد الأشخاص الذين ظهروا أمامه فجــأة ، لكنه تفاجيء به يهوى على زجاج السيارة الأمامي بعصا معدنية غليظة متعمداً تحطيمها.
جفلت أسيف من ذلك المشهد المفزع ، وشخصت أبصارها بخوف حقيقي.
احتضنت عواطف ابنة أخيها لتحميها ، وتمسكت بها جيداً وهي تصيح بصراخ :
-يا لهــــوي ! ايه اللي بيحصلنا ده ؟ هما عاوزين مننا إيه ؟
ارتجف جسد أسيف تلقائياً من هول الموقف ، ونظرت بأعين زائغة نحو ما يدور حولها من صدامات مهددة ، خاصة وأن أغلب الوجوه كانت مألوفة بالنسبة لها .
شكل رجــال الحاج فتحي حصاراً سريعاً حول سيارة منذر محاولين النيل منه ، وأخذ أسيف بالقوة.
أدار هو سريعاً المحر،، وبقوة أعصاب فائقة ، ومهارة بارعة ، وإصرار شديد تمكن من الإستدارة والالتفاف بعيداً عنهم متفادياً أي محاولة للإقتراب ممن معه .
قُذفت السيارة بقالب طوب أخر بعنف أكبر ، وأصاب تلك المرة الزجاج الخلفي ، فتهشم سريعاً ، وارتطم برأس عواطف التي صرخت متآلمة.
وضعت يدها تتحسس موضع الوجع ، وأكملت بأنين وهي تميل برأسها للأمام :
-آآآه ، دماغي !
التفتت أسيف نحوها ، ودققت النظر في جرحها الخلفي ، وشهقت مفزوعة حينما رأت خيوط الدماء تتسرب من رأسها.
وضعت يدها عليه محاولة منع النزيف مرددة برجفة :
-دماغك بتنزف !
حدق فيهما منذر من خلال انعكاس صورتهما بالمرآة. وتجهم وجهه للغاية ، كما أظلمت نظراته بصورة موحية بشر مستطر.
هتف الحاج فتحي بنبرة عالية مهيناً منذر :
-هتتربى النهاردة يا ابن الـ ....... !!
حركت أسيف وجهها نحو مصدر الصوت ، ورأت وجهه المظلم الذي يتوعدها.
خفق قلبها برعب كبير ، واضطربت أنفاسها.
حدج منـــذر الحاج فتحي بنظرات نارية ، وكز على أسنانه كاظماً غضبه حتى يتمكن من التصرف بحكمة وإنقاذ من معه.
لم يطل الأمر كثيراً ، ولم يبقَ في ذلك الحصار المباغت لوقت طويل فقد حضر أخاه ومعه أغلب عمال الوكــالة للإشتباك الفوري مع هؤلاء الغرباء.
التحمت الأجساد الغاضبة معاً ، وزادت حدة الإشتباكات العنيفة بين الفريقين.
استغل منذر الفرصـــة ، وتمكن من الإفلات منهم بسيارته ، وتوجه سريعاً نحو وكالته.
كان ديـــاب ممسكاً بعصا غليظة في يد ، وجنزير معدني سميك في اليد الأخرى ، وبدل بين كليهما في ضرب كل من تطاله يداه بشراسة. وكذلك كان الحال مع أغلب رجاله.
حاول أحدهم النيل منه وإصابته في رأسه من الخلف ، لكن افتداه أحد العمال ، وتلقى الضربة العنيفة عنه.
استدار دياب نحوه ، وهجم عليه بضراوة لينهال عليه باللكمات والركلات قبل أن يكمل ضربه الوحشي بجنزيره المعدني لاعناً إياه بألفاظ بشعة :
-مش سايبك يا ........... ، هاطلع .......... !!
أوقف منذر السيارة عند الوكالة ، ثم ترجل منها ليساعد عواطف في الخروج.
كانت لا تزال واضعة ليدها على رأسها ، ومستندة بيدها الأخرى على أسيف.
صـــاح بهما بصوت آمر غير قابل للنقاش :
-خشوا جوا الوكالة ، محدش يطلع منها !
نظرت إليه أسيف بنظرات غريبة ، كانت مرتعدة للغاية ، تفكيرها مشلول ، خائفة مما قد يحدث لها ، فقد رأت الشراسة والوعيد في أعين قريب والدتها الراحلة.
انتفضت فزعة في مكانها على صوت منذر الجهوري ؛ والذي أخرجها من شرودها المذعور ، لتجده يحدث أحد صبيانه :
-باب الوكالة يتقفل عليهم ، لو جرى لواحدة فيهم حاجة رقبتك هاتطير ، سامع !
رد عليه الصبي بخنوع تام لأمره :
-ماشي يا ريس !!!!
ثم دفـــع عواطف بيده نحو الوكالة ، وبالطبع تحركت معها أسيف ، ليلج ثلاثتهم للداخل.
لحق به الصبي ، وأضــاء المصابيح لينير المكان ، ثم التقط أقرب مقعد وحمله لتجلس عليه عواطف.
انحنى منذر عليها قائلاً بصوت متشنج :
-ماتتحركيش من هنا يا ست عواطف
هزت رأسها قائلة بصوت ضعيف :
-هو أنا فيا نفس أعمل حاجة ! آآآه يا دماغي !
ثم رفع رأسه نحو أسيف ليضيف بقوة :
-وإنتي محدش هياخدك من هنا غصب عنك !
ابتلعت ريقها ولم تعقب عليه.
وما إن تأكد من سلامتهما وبقائهما بآمان حتى ركض خارج وكالته ، وأوصــــد الباب المعدني من الخارج ليضمن حمايتهما.
بقي الصبي معهما وهتف قائلاً بقلق :
-ست عواطف ، إنتي متعورة ولا ايه ؟
أجابته بأنين
-اه يا بني ، شوفلي حاجة أكتم بيها دمي اللي اتصفى
رد عليها بصوت متلهف :
-في عندنا علبة اسعافات أولية ، هاشوف هي فين وأجيبهالك
تابعت قائلة بصوت متقطع :
-أوام يا بني !
لم تتوقف يد أسيف عن الإرتعاش. وبدت أنفاسها لاهثة وهي تحاول ضبطها.
رغبت عواطف في طمأنة تلك المذعورة أمامها ، فرددت بإبتسامة باهتة :
-متخافيش يا بنتي ، محدش هيقدر يعملنا حاجة ، احنا معانا ربنا ، وآآ.. وسي منذر !
نظرت لها أسيف بغموض ، ورغم نبرتها المطمئنة إلا أن شعورها بالخوف والرهبة مازال مسيطراً عليها.
وقف مــــازن على باب مطعمه يراقب الإشتباك الدائر بنظرات متشفية ، ثم ولج عائداً إلى مكتبه.
تساءل أباه بقلق :
-عرفت اللي بيحصل ؟ وليه ولاد حرب بيتخانقوا مع الناس دول ؟
أجابه مازن بفتور :
-لأ لسه !
ثم تحولت نبرته للقتامة والغل وهو يضيف :
-خلوهم يربوهم شوية ، نفسي أشوفهم مكسورين ومحطوط عليهم !
نظر له مهدي شزراً ، ورد عليه مستنكراً :
-وانت كده هترتاح ؟
أجابه مــازن بضيق :
-اه هرتاح ، مفكرين نفسهم أسياد الحتة وهما مايجوش حشرات أفعصها تحت رجلي !
ضغط مهدي على شفتيه مردداً بصعوبة :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ، اوعى كده خليني أشوف في ايه !
أشــار له مازن بكف يده قائلاً بعدم اكتراث :
-اتفضل يا حاج
ثم تابعه بنظراته حتى اختفى من أمامه وتمتم مع نفسه بوعيد :
-مسيره يجي اليوم اللي هاحط دماغهم تحت جزمتي وأدوسهم !!!!
ركب منـــذر سيارته ، وعاد بها إلى موقع الاشتباك عند المقهى ، فهو لم يكن ليترك أخيه بمفرده دون مد يد العون ، خاصة في تلك النوعية من المعارك.
كان فــــارق القوة والمهارة لصـــالح فريق ديـــاب ، فهم متمرسون على الاقتتال بشراسة خلال تلك الشجارات العنيفة، ولم تكن المرة الأولى لهم.
ضغط منذر على المكابح بعنف لتتوقف سيارته في منتصف الطريق ثم ترجل منها دون أن يوقف محركها ، وانقض على أقرب رجل منه يضربه بعنف شرس.
تلقى عدة لكمات وضربات في أنحاء مختلفة من جسده لعدم وجود أي وسائل حماية أو دفاع عن النفس ، لكن هذا لم يمنعه من رد الصاع صاعين.
لا يعرف أي قوة كانت تحركه للهجوم والاعتداء بأيدٍ عارية على من يقترب منه ، لكن شيء ما بداخله كان يدفعه ويحفزه للقتال ، وتلقين ذلك القريب الساخط درساً قاسياً.
قامت أسيف بتضميد جراح عمتها ، وأوقفت نزيف جرحها السطحي.
حمدت الله أنه لم يكن غائراً ، وأن إصابتها لم تكن بالخطيرة.
شكرتها قائلة بإمتنان :
-تسلم ايدك يا بنتي ، الحمدلله إنها جت على أد كده !
اكتفت أسيف باظهار ابتسامة خفيفة مجاملة على ثغرها.
هتف الصبي قائلاً بحماس :
-زمانت الريس منذر واكلهم علقة موت ، ده ماشاء الله عليه ، مافيش مرة دخل فيها عاركة ولا مضاربة إلا وطحن اللي قدامه
استدارت أسيف نحوه برأسها ، ونظرت له بغموض.
ردت عليه عواطف بتنهيدة متعبة :
-ربنا يحميه لشبابه ، ده لولاه كنت سحت في دمي ، وكانت الغلبانة دي راحت فيها !
عادت أسيف تنظر إلى عمتها بنظرات مطولة.
هي كانت مُصيبة في قولها ، فدفاع منـــذر المستميت عنهما وجرأته الشديدة أنجتهما من خطر وشيك.
استأنف الصبي حديثه مقلداً حركات المصارعين :
-عليه شوية لوكميات وروسيات تجيب أجل الواحد ، أفتكر مرة زنق واد كان شارب ودماغه ضاربة في الركنة هنا ، وطلعهم على جتته لحد ما فاق وحلف ما يرجع يضرب تاني !
أومــأت عواطف برأسها بإيماءة خفيفة وهي ترد عليه :
-فاكراها الحكاية دي ، الواد كان محشش باين ، وقارف الناس في الرايحة والجاية وهو آآ.....
لم تصغِ أسيف إلى بقية الحوار ، وتراجعت للخلف لتجلس على أقرب مقعد ، وأنزوت مع نفسها ترثي والدتها الراحلة . فبالرغم من الموقف العصيب الذي مرت به إلا أن شعورها باليتم والوحدة كانا أكبر من أي شيء أخر.
فالحقيقة القاسية أنها بالفعل بمفردها في تلك الحياة ، وستتعرض بالتأكيد لمواقف مماثلة ربما تكون أكثر عنفاً وشراسة.
وصلت الأخبار -كما تنتشر النار في الهشيم - إلى أغلب المتواجدين بسرادق العزاء عن وجود مشاجرة حامية وتناثرت الأقاويل حول قريبة عواطف التي تسببت في ذلك النزاع.
اضطر الفقي للتوقف عن تلاوة القرآن الكريم ، وختم الجزء المخصص للتلاوة سريعاً ، فاتجه بعدها أغلب المعزيين إلى المقهى لمتابعة ما يحدث بفضول كبير.
بالطبع تمكن منـــذر وأخيه الأصغر ديـــاب من السيطرة على الوضع ، ومالت كفة الميزان لصالحهم.
شكل أغلب رجـــال عائلة حرب دائرة حول ضحاياهم الذين جثوا على أرجلهم في حركة مستسلمة.
وقف الحاج اسماعيل عاجزاً في مكانه ، ونظر بأسف إلى رجال قريته الذين تم تقييدهم بصورة محرجة أمام الجميع وكأنهم شاه تُقاد إلى الذبح.
كانت أعين فتحي كالجمرات ، تطلق شرراً بائناً ، فهو لم يتوقع تلك الهزيمة ، وظن أنه أتى بأفضل الرجال ، لكنه نسى أنه دخل في شيء غير محسوب العواقب.
ورغم موقفه المتأزم إلا أنه هدر بصوت مُكابر وهو يكز على أسنانه بشراسة :
-مش هاسيب لحمي تنهشوا فيه حتى لو كان أخر يوم في عمري !
اغتاظ منذر من تلميحاته الصريحة والتي تسيء إليه ، فرد عليه بعصبية :
-لحم ايه يا ده يا حاج ، عيب على شيبتك دي !
هتف فيه الحاج فتحي بإنفعال كبير مهيناً إياه :
-مابقاش إلا واحد ....... زيك يتكلم !!
اتسعت حدقتي الأخير عقب سماعه لذلك السباب المهين ، واصطبغ وجهه بحمرة مغلولة.
قبض على أصابع كف يده بشراسة ، وأوشك على ضربه مهدداً إياه بنبرة عدائية :
-لأ انت محتاج آآ...
وقبل أن ينقض عليه تجمد في مكانه على إثر صوت أبيه الصــــــارم المنادي بإسمه :
-منــــــــــــذر !!!
اشتعلت عيناه أكثر ، وبرزت عروقه النابضة بدمائه المحتقنة من عنقه وأعلى جبينه.
تابع والده قائلاً بنبرة حازمة :
-طالما أبوك واقف هنا هو اللي هايتكلم !
ضغط على أسنانه بقسوة ليرد بصوت شبه متشنج :
-اتفضل يا حاج !
استدار الحاج فتحي ناحية طه ، ورمقه بنظرات مزدرية متعمداً التقليل من شأنه ، وأردف قائلاً بسخط :
-ومين انت كمان ؟
وقف طــــه قبالته بشموخ وترفع ، ونظر إليه بثبات لكن الأخير لم يعبأ به ، وتابع بإستخفاف :
-تلاقيه جايبك محامي ليه !!!
استشاط ديـــاب غضباً من أسلوبه المستفز والذي يتسبب في جعل الدماء تفور من الغيظ ، فهدر فجــأة :
-يا أبا الغلط ده ما يتسكتش عليه !
أشـــار له أبيه بعينين حادتين مردداً بغلظة صارمة :
-اسكت يا ديـــاب ، أنا قادر أوقفه عند حده !
استشعر الحاج فتحي لوهلة أنه في موقف قوة ، وأنه بإستطاعته قلب الكفة لصالحه ، فصاح متساءلاً بصوت جهوري وهو يدير رأسه في كافة الاتجاهات :
-فين بنت ريـــاض ؟ فين عرضي اللي خدتوه ؟ اشهدوا يا ناس ، جاي أجيب بنتي من عندهم يضربوني أنا وقرايبها ويهددونا ، هي دي المرجلة ، هي دي الـ آآآ....
قاطعه الحاج طـــــه بصوت مرتفع :
-بنت رياض أعدة معززة مكرمة مع عمتها !
التفت الحاج اسماعيل ناحية الحاج فتحي متساءلاً بإندهاش :
-عمتها !! هي ليها عمة أصلاً ؟!!!
لم يجبه الأخير ، فصاح به مكرراً بضجر :
-الكلام ده صحيح يا حاج فتحي ؟
ابتلع هو ريقه بتوتر خفي ولم يجبه.
أكمل منذر مردداً بتهكم وهو يرمق الحاج فتحي بنظرات ساخطة :
-هو الحاج مقالكوش ده ؟ تؤ تؤ تؤ ، غلطان بصراحة !
ثم زاد من قوة نبرته الغاضبة وهو يكمل :
-أه ليها عمة ، اخت أبوها ، الحاجة عواطف اللي كنتوا هتموتوها وكانت معايا في العربية
حاول الحاج فتحي الدفاع عن موقفه بعد أن وجد نفسه في وضع حرج ، وهتف بصوت مستنكر محدجاً إياه بنظرات نارية مستشاطة :
-ويصح بردك تاخد حرمة من ورا أهلها وآآ...
قاطعه منذر قائلاً بحدة وقد قست نظراته للغاية :
-خدتها لما لاقيت الراجل الكوبارة هيموتها في ايده ، مش مقدر الظرف اللي هي فيه وحالتها رغم اللي قاله الدكتور ، ونزل ضرب فيها !
استغرب الحاج اسماعيل مما سمعه ، وحدق في رفيقه بذهول.
انفرج فمه مردداً بتساؤل :
-هـــه ، طب ليه ؟
تعمد الحاج فتحي تجاهله ، وجاهد ليحافظ على ثباته أمام الجميع.
أشـــار بإصبعه هاتفاً بإزدراء واضح في نبرته :
-فين عمتها دي ؟ ماهو يمكن تكون كدبة من تأليفك ، فيلم وبتعمله علينا ، رياض الله يرحمه مكانش ليه اخوات !!!
رد عليه ديـــاب مستنكراً وقاحته المستفزة :
-يا شيخ ؟ طب انت ازاي قريب أمها وعارف كل حاجة عن عيلتها وفاتتك معلومة زي دي ؟! لا بجد عيب عليك !!!!
وضع منـــذر قبضته على ذراع أخيه ضاغطاً عليه ، ثم رد ببرود مهيب :
-وماله ، مش هو طلبها ، احنا هنأكدله ده ، وهانجيب الحق عليه !
ضاقت نظراته أكثر ، وتحولت نبرته للوعيد وهو يضيف :
-واللي غلط يتحمل نتيجة غلطه