رواية الدكان الفصل التاسع والاربعون49بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان 
الفصل التاسع والاربعون49
بقلم منال محمد سالم 
شـــرع في تهيئة نفسه لاستدراجها كما يفعل الليث بفريسته الشـــاردة قبل أن يغرز أنيابه القاطعة في عنقها.

اقتربت منه الصغيرة غير مدركة سبب تصرفاته الغريبة معها، فعقلها الصغير لا يعي ما يفكر فيه ذلك الدنيء القذر.
فقط تملكها إحســاس غريب بالخوف الممزوج بالخزي لمجرد تلمسه لها.
رهبة كبيرة زادت من قشعريرتها وهي تشعر بقبضتيه الخشنتين
تمران على جسدها بطريقة عجيبة منفرة وكأنها تفحصه، فجعلتها تنظر له بهلع مذعور وهي عاجزة كليًا عن تفسير سبب قيامه بتلك الحركات الغير مفهومة معها أو حتى عن منعه من الاستمرار في فعلها.
توقف فجــــأة عن ممارسته المشينة حينما صدح صوت هاتفه لينتفض بقوة، وتفر الدماء من عروقه.
اضطرب جسده، وتوتر كثيرًا.
أبعد يده عن الصغيرة التي كانت ترتجف بشدة، ودفعها للخلف. ثم لملم نفسه باضطراب ملحوظ.
ابتلع ريقه، وأشــار لها بإصبعه أمام وجهها صائحًا بصوت آمر:
-مش عاوز نفس منك!
هزت رأسها بالإيجاب، لكنها لم تستطع السيطرة على رعشة جسدها المستمرة.
سريعًا ما استعاد ناصــــر هدوئه، ودس يده في جيبه ليخرج هاتفه وينظر إليه.
رأى اسم ذلك الشخص الذي ترقب اتصاله بفـــارغ الصبر فبرقت عيناه بوميض أخـــر متلهف.
هو اعتاد على تخليص بعض المصالح والمهام الشخصية له، من ضمنها التهريب، وطلب منه معروفًا قبل فترة عله ينفذه له إن أتيحت الفرصة.
لم يرغب في فضح أمره أو الحديث أمام الطفلة التي قد تصدر صوتًا فتفسد كل شيء، فضغط على زر إنهاء المكالمة قبل أن يجيب عليها، ونظر للصغيرة بشراسة مرعبة.
صــاح بنبرة مهددة وهو يدنو منها:
-لو فتحتي بؤك بحرف واحد مش هاتروحي لأمك تاني، وهاكسر عضمك كله من كتر الضرب، سامعة!
أومـــأت برأسها بخوف وهي ترد بنبرة مترجفة من بين بكائها الخفيف:
-حـ..حاضر!
ولكي يضمن صمتها التام أراد أن يذيقها جزءًا من تهديده الشرس لتفهم رسالته بوضوح، لذا قبض على كتفها، وغرز أصابعه الغليظة فيه، فصرخت متألمة من قبضته عليها، ثم سحبها معه ناحية طاولة العدة الموضوعة في زاوية الغرفة.
لم يكن للصغيرة أي مقاومة تذكر على الإطلاق، فقط تضع يدها على قبضته محاولة نزعها عنها.
أمسك ناصر بعصاه الخشبية، فشخصت أبصارها مذعورة.
رفعها للأعلى وهوى بها على ذراعها ليضربها بعنف شرس ، فصرخت باكية.
لم يعبأ بصراخها، فكرر الفعلة بضربها على ساقها، ثم على ظهرها وعجيزتها ليؤلمها بحدة فبكت بشدة متأثرة بأوجاعها.
هددها بصوت مخيف:
-فكري بس تتكلمي!
صرخت متوسلة رحمته من بين بكائها الحارق:
-والله ما هاعمل كده يا أستاذ!
هزها بعنف وهو يرفعها عن الأرضية من كتفها مواصلًا تهديده:
-هاشوف، وهتلاقيني فوق دماغك لو بس شميت خبر إنك آآ...
قاطعته قائلة بصراخ باكي:
-حاضر والله، حاضر مش هاعمل غلط!
أرخى قبضته عنها دافعًا إياها بقوة للخلف، فسقطت مرتطمة بظهرها على الأرضية من أثر قوة الدفعة.
ركلها بقدمه في ساقيها هاتفًا من بين أسنانه:
-قومي ارجعي فصلك يا بت!
نهضت باكية من مكان رقدتها، ثم زحفت على ركبتيها ناحية الباب.
لم تتمكن من فتحه لأنه كان موصودًا، فسار ناحيتها.
خبأت الطفلة وجهها خلف قبضتيها الضئيلتين متحاشية بطشه عليها.
قــام بفتحه، وتنحى للجانب لتجري سريعًا من أمامه.
أنقذها القدر من مصير مؤسف، وذكرى بشعة لن تُمحى من ذاكرتها بسهولة رغم ذلك الأثر السيء الذي تركه عليها.
مسحت عبراتها المنمهرة بغزارة من على وجهها بأناملها المرتعشة وهي تهرول عائدة إلى فصلها.
أعاد غلق الباب بهدوء بعد أن رأها تبتعد ليتمكن من الاتصــال بذلك الشخص الهام.
هتف بحماس عجيب يتنافى تمامًا مع خسته الوضيعة:
-سلامو عليكم، ازيك يا باشا، أنا مصدقتش نفسي ان سيادتك بتتصل بيا!
أتاه صوته الهاديء قائلًا بجدية:
-لأ صدق، وعاوزك تطمن أمر نقلك للمدرسة الجديدة هيصدر خلال ساعات!
تهللت أساريره أكثر وهو يرد بعدم تصديق:
-بجد يا باشا؟
رد عليه الشخص بصوته الجاد:
-هو أنا بأهزر في الحاجات دي، رجالتي دايمًا أحب أريحهم، وزي ما بيخدموني، أنا برضوه بأشوف طلباتهم!
شكره ناصر قائلًا:
-كتر خيرك يا باشا، إنت اطلب اللي عاوزه ورقبتي هاتكون سدادة
تابع الشخص حديثه مضيفًا بغموض:
-قريب هحتاجك في مصلحة كده، بس عاوزك تشوفلي حد ثقة ويكون مضمون!
هتف دون تردد:
-عندي يا باشا، واحد حبيبي وأنتيمي، وقديم في الشغلانة كمان!
سمع صوته يقول باقتضاب:
-حلو، بعدين نتكلم في التفاصيل!
رد عليه ممتثلًا وهو يوميء برأسه:
-اللي تؤمر بيه!
-هاكلمك تاني، مع السلامة
هتف مودعًا بامتنان كبير:
-ألف سلامة يا باشا! في انتظار سيادتك!
أنهى المكالمة معه ملوحًا بقبضته بحماس زائد في الهواء.
تنهد بارتياح ماسحًا بكفه على صدره فقد تحقق مبتغاه، وسينقل إلى مدرسة أخرى بالمدينة بعيدًا عن تلك النائية الفقيرة.
التوى فمه بابتسامة صفراء عريضة، وهتف محدثًا نفسه بسعادة:
-وأخيرًا هاسيب أم المكان الـ ......ده ، وأروح مدرسة أنضف!
حصلت على رقم أحد الأشخاص ( المبروكين ) كما تظن من إحدى جاراتها لتستعين به في حل كارثة الحجاب المشؤوم.
وفكرت في الذهاب إليه بصحبة نيرمين كي تكون شاهدة معها على الأمر. فهي تخاف أن تتواجد هناك بمفردها.
قطع تفكيرها المتعمق صوت قرع الجرس، فأسرعت نحو الباب لتفتحه. فرأت بسمة واقفة على العتبة مبتسمة لها بخفوت، فبادلتها نفس الابتسامة وهي تفتحه على مصرعيه سامحة لها بالولوج للداخل.
استطردت بسمة حديثها قائلة بهدوء:
-صباح الخير
انحنت عليها جليلة لتقبلها من وجنتيها بطيبتها المعهودة معها مرددة:
-صباح النور يا بنتي اتفضلي!
تنحنحت بسمة بحرج قائلة بتوضيح:
-أنا جيت بدري عشان أدي الدرس ليحيى زي ما كلمتك
ردت عليها جليلة بود وهي تشير بيدها:
-تنوري يا بسمة في أي وقت، وأنا صحيته وهو مستنيكي في أوضته
هزت رأسها بتفهم وهي تضيف بنبرة موجزة:
-تمام!
-اتفضلي!
ثم ســارت بصحبتها نحو غرفة الصغير يحيى لتستذكر معه دروسه.
انتهت من ارتداء إحدى ثيابها الداكنة، وضبطت وضعية حجابها حول رأسها، ثم وضعت في حقيبة يدها جزءًا مما ستحتاج إليه من النقود.
اعتدلت أسيف في وقفتها، وأغلقت أزرار كميها، ثم جذبت ثوبها للأسفل، وسحبت حذائها وارتدئه.
نظرت إلى انعكاس صورتها بالمرآة.
مازالت تلك اللمحة الحزينة تكسو وجهها الذابل، تحسست وجنتيها بأناملها، وتنهدت قائلة:
-دول مش هايستحملوا بهدلة الأيام الجاية ، محتاجة أجيب غيرهم
هي بحاجة لشراء ثيابٍ أخرى ملائمة لحزنها على فقدان الأعزاء، فلم يكن بحوزتها إلا اثنين فقط، ولن تعتمد عليهما إن كانت ستخرج يوميًا للعمل.
وضعت تلك المسألة في اعتبارها، لكن الآن ستنفذ الأهم من وجهة نظرها.
تجسد طيفه في مخيلتها بنظراته الثاقبة التي تهابها في بعض الأحيان..
نفضت صورته عن عقلها رافعة أنفها للأعلى في إباء.
ازدردت ريقها مشجعة نفسها على عدم الخوف والثبات على موقفها:
-مافيش حد هايمنعني عن دكان أبويا!
هو لن يثنيها عما تريد، ستشرع في توضيب دكانها العتيق، وإزالة ما به من أخشاب متهالكة لتفكر بعدها في مشروع ما تستثمر باقي أموالها فيه.
خرجت بعدها من الغرفة متجهة نحو الصالة حيث تجلس بها عمتها على الأريكة.
اقتربت منها بخطواتها المتمهلة مدققة النظر فيها.
رأتها منهمكة في تقشير ثمار البطاطس.
رفعت عواطف أنظارها نحوها متساءلة بغرابة:
-انتي نازلة في حتة يا بنتي؟
حركت رأسها بالإيجاب وهي تجيبها:
-أيوه، هاعدي على ورشة النجارة وبعدها هاروح الدكان!
استثارت عبارتها الأخيرة حفيظتها، فعقدت جبينها متابعة تساؤلاتها بعبوس:
-الدكان؟ ليه يا بنتي تاني؟
ردت عليها أسيف بجمود:
-عمتي من فضلك موضوع الدكان ده يخصني لوحدي، أنا صاحبة القرار الأخير فيه!
هتفت عواطف مبررة رفضها لذهابها إليه:
-محدش قالك حاجة، بس مش وقته، إنتي شايفة اللي حصلك عنده، ده غير البهدلة والإزاز المتكسر وآآآ...
قاطعتها مرددة بإصرار أكبر:
-هي حاجة مش مقصودة، وأكيد الدنيا أهدى دلوقتي!
أزعج عمتها استهانتها بالأمر، فمشاجرات عنيفة كتلك لا تنتهي بين ليلة وضحاها.
لذلك ردت عليها محاولة إقناعها بالعكس:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، الدكان ده جايبلنا المشاكل ووجع القلب، استني يا بنتي يومين كده ولا حاجة، وابقي انزلي لما الدنيا تهدى خالص!
أصرت على رأيها قائلة بعناد:
-ماينفعش، ده غير أصلًا في حاجات بأفكر أعملها فيه، فلازم أشوفها على الطبيعة
ضغطت عواطف على شفتيها هاتفة برجاء خفيف:
-طب استني أخلص الأكل وألبس وأجي معاكي!
جلست أسيف إلى جوارها على الأريكة، ثم وضعت يدها على حجرها، ونظرت لها مطولًا بنظرات حانية.
رسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة وهي تقول بهدوء رقيق:
-يا عمتي، مافيش داعي تتعبي نفسك، أنا مش هاتوه، هما كام ساعة وهارجع!
أخفضت عواطف رأسها قائلة باستياء:
-مش عارفة أقولك ايه، انتي راكبة راسك ومش عاوزة تسمعي لحد خالص!
حافظت أسيف على ابتسامتها الودودة وهي تضيف:
-من فضلك يا عمتي سيبيني على راحتي، وأوعدك مش هتأخر
يئست عواطف من إقناعها، فرددت مستسلمة بجدية:
-طيب طمنيني عليكي كل شوية، انتي معاكي رقمي صح؟
هزت رأسها بإيماءة ظاهرة:
-ايوه
ثم مالت برأسها عليه لتطبع قبلة صغيرة على وجنتها قبل أن تنهض من جوارها.
تحركت عدة خطوات للأمام ولكنها تذكرت شيئًا ما، فالتفتت برأسها متساءلة بجدية:
-بالحق يا عمتي مافيش محل فساتين من هنا قريب؟
قطبت عواطف جبينها مرددة باستغراب قليل:
-فساتين!
أوضحت أسيف غرضها أكثر بترديد:
-قصدي يعني بيبع حاجات واسعة كده زي العبايات بس غوامق، محتاجة أشتري كام واحد!
تهدل كتفي عواطف للأسفل وهي تجيبها بفتور:
-لا يا بنتي مافيش هنا!
اكتفت أسيف بالابتسام مجاملة وهي تضغط على شفتيها، لكن استعادت انتباهها نحو عمتها حينما واصلت حديثها بتلهف غريب:
-أه، افتكرت في محل ثابت بتاع القماش قريب مننا، ممكن أعدي عليه وأخليه يجيبلك قماش بالألوان اللي انتي عاوزاها، ونوديها عند ترزي جمبه يفصلهالك زي ما تحبي، والله دي ايديه مالهاش حل في القص والتفصيل!
بدت مسألة التفصيل وما يخصها جيدة نوعًا ما، لذلك ردت عليها قائلة برقة:
-طيب.. هافكر في الحكاية دي يا عمتي!
ابتسمت لها عواطف محذرة بحنو أمومي غريزي بها:
-ماشي يا بنتي، خلي بالك من نفسك، وكلميني!
أومـــأت برأسها قائلة:
-حاضر، سلامو عليكم
أخرجت عواطف تنهيدة شبه مرهقة من صدرها وهي ترد:
-وعليكم السلام ورحمة الله!
تابعتها بأنظارها حتى خرجت من المنزل، فتمتمت بتضرع للمولى:
-ربنا يحفظك ويكفيكي شر المستخبي يا بنت الغالي!
تلكعت نيرمين في خطواتها المتباطئة نحو والدتها، كان الوجوم كعادته هو المسيطر على حال وجهها.
دست في فمها لقمة من الخبز لتتساءل بتأفف وهي تلوكها:
-بترغي مع البت دي في ايه على الصبح كده؟
نظرت لها عواطف شزرًا، ثم أشاحت بأعينها بعيدًا عنها وهي تجيبها بفتور بارد:
-كلامنا العادي!
جلست نيرمين على الأريكة مُثنية ساقها أسفل الأخرى، ثم استرخت أكثر بتمديد ذراعها على حافتها.
تساءلت بنفس النبرة المزعوجة وهي تلوي ثغرها للجانب:
-وهي المحروسة رايحة فين كده؟
لم تنظر لها والدتها وهي تجيبها بإيجاز:
-الدكان!
كاد حلقها يختنق بالطعام حينما سمعت تلك الكلمة المثيرة لأعصابها، فسعلت عدة مرات حتى استعادت السيطرة على حالها.
تشنجت تعابير وجهها وهي تصرخ بحدة:
-بردك يا ماما سيبتيها تنزل وتروح الزفت ده!
رمتها عواطف بنظرة غير مبالية بطرف عينها مرددة باستسلام:
-هاعملها ايه!
أغاظها ردها، فهدرت بعصبية وهي تلوح بكلا ذراعيها:
-تجيبها من شعرها، تقطمي رقبتها، المهم تمنعيها مش كفاية عملتها السودة بتاعة امبارح
لم تكترث لها عواطف، ورددت ببرود هاديء لتستفزها أكثر:
-هي حرة نفسها!
صاحت نيرمين معنفة تراخي أمها معها بانفعال كبير:
-ده لما تبقى متنيلة على عينها أعدة لوحدها مش متهببة وسطنا بتاكل وتشرب من حاجاتنا ببلاش كأنها أتة محلولة!
تصلب وجه عواطف، واستدارت في اتجاه ابنتها لتصرخ بها بحدة:
-نيرمــــــــــــــــــــــين!
تابعت الأخيرة تهكمها القاسي قائلة:
-هو أنا قولت حاجة غلط! مش دي الحقيقية، وهي زي البروتة واكلة شاربة نايمة ببلاش!
عجزت عن منع ابنتها من مواصلة طريقتها الفجة في الحديث عن ابنة خالها، ظلت تحدجها بنظرات معاتبة، هي سليطة اللسان بحق، ودومًا لا تستطيع صدها.
لذلك ردت بامتعاض وهي تعاود النظر في وعاء ثمار البطاطس المقشرة:
-قفلي على السيرة دي خالص، هو دكانها وتصطفل فيه مع شريكها!
ربقا لم تكن عواطف متعمدة استثارة أعصاب ابنتها وإغضابها عن قصد بانتقاءها لكلماتها تلك، لكن نظرة واحدة إلى وجه نيرمين كفيلة برؤية تأثيرها عليها.
همست لنفسها باحتقان شديد:
-شراكة القرف كله، إلهي تتحرق قبل ما تخطيه برجليها!
أكملت تعنيفها مرددة بسخط:
-طب اعملي خاطر لسي منذر اللي شال مننا بعد اللي عملته، ده احتمال كبير يكون قلب علينا و..
زفرت عواطف قائلة بنفاذ صبر بعد استياءها من حديثها بالسوء عنها:
-يوووه يا نيرمين، قومي شوفي بنتك ولا إلبخي نفسك في أي حاجة بعيد عن السعادي خليني أخلص طبيخ!
ردت عليها بتهكم وقد استشاطت نظراتها:
-دلوقتي بقيت كُخة!
انحنت عواطف للأسفل لتجمع البقايا المتناثرة حولها، ثم هتفت قائلة بتبرم:
-تموتي في الرغي وتضييع الوقت، وأنا عاوزة الحق أخلص عشان أنزل أروح لثابت بتاع القماش
سألتها نيرمين بعبوس جلي:
-ليه كمان؟
ابتسمت عواطف وهي تجيبها بحماس:
-هاوصيه على كام توب قماش لبنت خالك كده عشان تفصلهم عبايات!
اغتاظت نيرمين من سجيتها التي تستفزها، فهتفت بوقاحة:
-وطبعًا هتكوعي فلوسهم من جيبك!
نهضت والدتها من جوارها قائلة باستنكار:
-لأ ياختي! اطمني! أنا بس هاوصيه على القماش، يا ريت بقى تتبطي!
كزت نيرمين على أسنانها بغيظ وهي تردد بصوت خفيض:
-عقبال ما نوصيه على كفنها قريب!
ابتعدت عواطف عن الصالة، لكن بقيت ابنتها على حالتها المتشنجة تلك..
لم تهدأ ثورة انفعالاتها، ولم ترتخي تعابيرها المشدودة.
استمرت في وعيدها لأسيف قائلة بنبرة عدوانية صريحة:
-طيب.. طيب يا بنت الـ ........، ساعتك وَجَبِت معايا وهتخلص النهاردة !
انفرجت شفتاها بذهـــول عجيب، واتسعت حدقتيها بصدمة كبيرة حينما رأت ذلك الحاجز الخشبي المحاوط لدكانها القديم وما حوله.
انقبض قلبها بقوة، ورمشت بعينيها غير مصدقة ما تراه.
مررت أسيف أنظارها بتفرس عليه محاولة فهم كيف حدث هذا الأمر بتلك السرعة الرهيبة، فبالأمس القريب كان الوضع فوضويًا للغاية. واليوم كأن شيئًا لم يكن.
تجهمت قسمات وجهها، وسارت بخطى غاضبة نحو ما يشبه الباب الجانبي لكي تمر خلاله.
تفاجأت بهؤلاء الرجال الأشداء الذين يسدونه، فتراجعت بحذر للخلف متساءلة بضجر:
-انتو قافلين الحتة دي كده ليه؟
انتبهوا إليها، وحدقوا بها مستغربين مجيئها.
تعجبت من نظراتهم المشدوهة لها، لكن سريعًا ما حركت أنظارها إلى وجه ذلك الرجل الذي أجابها بجدية شديدة:
-أوامر الريس منذر!
كتمت غيظها بداخلها، لكن صفحة وجهها المصطبغ بالحمرة المحتقنة مرآة حالها، هو نفذ تهديده بطريقة أخرى.
احتدت نبرتها وهي تقول:
-طب عاوزة أعدي لو سمحتم، ده دكاني !
أضاف أخر قائلًا بجفاء:
-أهــا .. مش هاينفع!
نظرت إليه مرددة بحنق:
-نعم!
أوضح لها قائًلا ببرود وهو يشير بيده:
-الريس منذر منبه محدش يقرب من المربع ده كله!
صاحت فيه بعصبية قليلة وهي تشير بيدها:
-الكلام ده مايمشيش عليا، أنا هادخل دكاني، فوسع لو سمحت
وقبل أن ينطق الرجل مرة أخرى، أردف زميله قائلًا بهدوء جاد:
-استنى انت!
كتفت أسيف ساعديها أمام صدرها، ونظرت بأعين مشتعلة للرجل الأخر الذي تابع حديثه بجدية:
-بصي يا ست، نصيحة مني اتكلمي مع الريس منذر قَبَلَه، لأن ولا واحد من الرجالة دول هايخلوا حتى الدبان الأزرق يهوب من هنا!
ارتخى ساعديها لا إراديًا للأسفل، وضغطت على أصابع كفها مكورة إياهم معًا، ثم ردت بصوت متشنج:
-بقى كده، ماشي!
تشبثت بذراع حقيبتها مانعة نفسها من التهور دون داعٍ، واستدارت بجسدها للخلف لتسير نحو وجهة محددة .. نحو وكــــالته
أسندت الصينية التي كانت تحملها على الطاولة بغرفة حفيدها الوحيد، ثم اعتدلت في وقفتها لتنظر لها بتمعن شديد.
يدور في بالها أمر ما نحوها، فقط تحتاج لتهيئة وترتيب الظروف ليتحقق مرادها.
تداركت شرودها السريع قائلة بترحاب ودود:
-اتفضلي الشاي!
رفعت بسمة وجهها نحوها لتنظر إليها مرددة بامتنان:
-شكرًا، مالوش لازمة واللخ، أنا فطرت والحمدلله
ردت عليها جليلة بود أكبر وهي تشير بيدها:
-هو أنا عملت حاجة، ده بس عشان زورك! ده انتي بتتعبي معاهم!
اكتفت بالابتسام لها، لكن تحركت نظراتها نحو يحيى الجالس إلى جوارها حينما هتف متساءلًا بحماس طفولي:
-مس بسمة كده صح؟
دققت النظر في الورقة التي أجاب عن أسئلتها البسيطة ، ثم وضعت يدها على فروة رأسه عابثة بخصلات شعره وهي تقول:
-اه يا يحيى برافو عليك!
رد عليها الصغير بسعادة غامرة:
-ييس!
تابعت بسمة قائلة بلطف وهي تشير إلى نقطة ما بالورقة:
-حل دي كمان!
هز يحيى رأسه موافقًا وهو يقول:
-طيب!
أضافت جليلة بصوتها الجاد وهي تشير إلى طعامه الموضوع على مقربة منه:
-يا ريت تخلص أكلك كمان!
وافقتها بسمة الرأي، فهتفت مؤكدة عليه بضرورة تناول طعامه:
-اسمع الكلام يا يحيى!
تنهدت جليلة هاتفة بامتعاض:
-قوليله يا بنتي، والله مدوخني وراه في الأكل لما شكله بقى عدمان
عبست بسمة بوجهها عبوس زائف، وعاتبته برقة:
-ليه بس كده يا يحيى؟ انت المفروض تاكل عشان تكبر وتبقى قوي!
رد عليها الصغير ببراءة:
-ما أنا بأكل
ابتسمت له، ثم وضعت يدها على طرف ذقنه، وهمست له قائلة بنعومة:
-طيب خلص البسكوتة دي كمان عشان تيتة تتبسط منك
هز رأسه قائلًا:
-ماشي!
تهللت أسارير جليلة لاستجابة حفيدها لأوامر معلمته وانصياعه لها دون مجهود يذكر، وربما سيندمج الاثنان سريعًا إن حدث ما تتمناه في المستقبل .
أفاقت من تفكيرها المتحمس قائلة:
-لو عوزتي حاجة نادي عليا، معلش البت أروى في المدرسة مانفعش تغيب، وآآ....
قاطعتها بسمة قائلة بهدوء:
-ما أنا عارفة، هابقى اجيبها وقت تاني، أنا قولت أستغل فرصة اني أجازة النهاردة وأجي أعوض ليحيى اللي فاته
شكرتها جليلة قائلة بامتنان:
-فيكي الخير يا بنتي!
ثم أولتها ظهرها وتحركت في اتجاه باب الغرفة.
طرأ ببالها أمر قد تناسته تمامًا، ألا وهو إعطاءها أجرتها نظير مجيئها طــوال الفترة الماضية، لذلك التفتت برأسها متساءلة بجدية:
-صحيح النهاردة الحصة الكام ؟
تنحنحت بسمة بحرج وهي تجيبها بخجل قليل:
-احم.. دي الأخيرة في الشهر!
ابتسمت لها جليلة مرددة:
-طيب يا بنتي، اشربي الشاي قبل ما يبرد
-اوكي!
تركتها بعدها جليلة لتواصل تدريسها للصغير، وأغلقت باب الغرفة عليهما.
وقفت للحظة ملتصقة به تحدث نفسها بضجر:
-نسيت خالص أقول دياب يسيبلي فلوس الدرس، كويس انه هنا!
التفتت برأسها أولًا ناحية غرفته، ثم خطت نحوها بخطوات متعجلة..
فتحت باب الغرفة بعد أن دقته مرة واحدة وهي تقول بتلهف:
-دياب، يا دياب!
كان مشغولًا بتعديل هيئته أمام المرآة بعد أن ارتدى ثيابه ليكتمل استعداده للخروج.
نظر نحوها متعجبًا تلهفها الغريب، وسألها مستفهمًا:
-ايوه يامه في ايه؟
ردت عليه بتساؤل غامض:
-بأقولك معاك فلوس فكة؟
عقد ما بين حاجبيه مدهوشًا:
-ليه في حاجة؟
أخفضت نبرة صوتها وهي تجيبه بجدية:
-النهاردة أخر حصة في الشهر لدرس ابنك يحيى، والمفروض أحاسب بسمة وهي برا!
تنبهت حواسه كليًا لعبارتها الأخيرة، وارتفع حاجبه للأعلى مرددًا باهتمام:
-ايه ده هي برا؟
ردت عليه بإلحاح:
-اه، بس عاوزين نديلها الفلوس النهاردة، مايصحش!
جمد تعابير وجهه، وعاود التحديق لنفسه في المرآة قائلًا بفتور متعمد وهو يرتب من ياقته:
-طيب أنا هاطلع أديهوملها بنفسي!
زمت جليلة شفتيها قائلة بتوجس خفيف:
-بلاش لأحسن تتحرج منك، اديهوملي أنا وآآ...
لم ينتبه لباقي حديثها الممل، وهتف هامسًا محاولًا إخفاء ابتسامته:
-هي دي بتكسف!
صاحت به بجدية:
-ها يا بني؟
رد عليها بجمود ثابت:
-ثواني بس يامه، هاكمل لبس وأجيبلك اللي انتي عاوزاه!
ضغطت على شفتيها قائلة على مضض:
-طيب، بس أوام!
استدارت عائدة من حيث أتت، بينما بقي دياب في مكانه يدندن بصافرة خافتة وهو يمشط شعره للخلف.
لمعت عيناه ببريق خفي، لكن لم يستطع إنكار تحمسه الرهيب لرؤيتها.
بوجــــهها المتصلب، ونظراتها المشتعلة سارت بخطوات متعجلة نحو وكالته حتى وصلت إليها.
أخـــذت نفسًا عميقًا حبسته في صدرها لثوانٍ قبل أن تطلقه دفعة واحدة لتضبط انفعالاتها.
أرادت أن تكون هادئة معه في جدالها القادم رغم أن الأمر بالنسبة لها شبه مستحيل.
ولجت للداخل متساءلة بصوت شبه متشنج وهي تجوب بأنظارها المكان :
-فين الأستاذ منذر؟
أجابها أحد العمال بهدوء وهو يشير برأسه:
-وراكي!
تفاجأت من رده الغير متوقع، وانفرجت شفتيها مصدومة نوعًا ما..
ابتلعت ريقها، واستدارت بجسدها كليًا للخلف لتواجهه.
أومــأ منذر بعينيه للعامل بالانصراف، فنفذ الأخير أمره الصامت توًا.
سلط أنظاره عليها، وظل محدقًا بها دون أن تطرف عيناه لثانية.
بدا واثقًا من نفسه وهو يتأملها بصلابته العجيبة.
كان متأكدًا أنها عرجت بالدكان، ومُنعت من الدخول بالرغم من عدم مهاتفة أي أحد له حتى الآن. وصدق تخمينه حينما أخرجته من حالته المغترة صائحة بنرفزة:
-انت ازاي تمنعني أدخل دكاني؟
هز كتفيه قائلًا ببرود:
-عادي! انتي ناسية إني شريك فيه!
صاحت فيه بنبرة مرتفعة وهي تلوح بذراعها:
-ده مش يديك الحق تتصرف كده!
نظر لها من طرف عينه، ثم دس قبضتي في جيبي بنطاله، وتحرك بخطى ثابتة في اتجاه مكتبه قائلًا بغطرسة:
-والله أنا حر في ملكي!
تابعته بأعينها المشتعلة من طريقته، وهدرت فيه بغضب:
-دكاني مش بتاعك لوحدك، أنا نصيبي أكبر منك!
أخرج كفيه من جيبيه رافعًا كليهما أمام وجهها قائلًا بلهجة قوية:
-حلو .. يعني في حاجة متفقين عليها، إننا شركا فيه!
واصلت صياحها العالي هاتفة بإلحاح:
-أنا عاوزة أدخل دكاني
تحرك صوبها حتى وقف قبالتها، ثم أجابها بثقة باردة:
-وأنا مش ممانع، بس بشروطي أنا!
اتسعت مقلتاها بغيظ وهي تردد بعصبية:
-كمان، بتتشرط عليا!
تعمد أن يتمط بذراعيه أمامها ليبرز قوته الجسمانية، ثم أولاها ظهره ليتجه نحو مكتبه معلقًا عليها بجمود:
-طلبتها منك ودي، وإنتي مرضتيش، وعاندتي معايا، فاستحملي بقى!
اغتاظت أكثر من استفزازه لها، فتابعت قائلة بتشنج وهي تهدده بكفها:
-فكرك أنا مش هاعرف أدخل، أنا ممكن أبلغ البوليس وهما هيجروبك تمشي رجالتك، وهافتح الدكان!
جلس على مقعد مكتبه باسترخاء تام، ورمقها بنظرات مطولة ثابتة وهو يجيبها ببرود:
-وماله، هيدخلوكي يوم، نقول اتنين، تلاتة، بس مش على طول يا بنت رياض!
اقتربت من مكتبه، ثم انحنت عليه لتضرب بقبضتيها المتشنجتين بعنف على سطحه وهي تسأله بهياج متعصب:
-إنت عاوز ايه بالظبط؟
اكتفى بالابتسام لها، ثم أومــأ بغموض بعينيه، فاستشاطت غضبًا منه لأنها لا تستطيع سبر أغوار عقله.
اعتدلت في وقفتها رافعة رأسها للأعلى ثم ضغطت على شفتيها بقوة مانعة نفسها من التطاول عليه.
ظل محافظًا على ثبات نظراته العميقة لها.
أخفضت رأسها وهي تدس يدها في حقيبتها، فتابعها باهتمام ملحوظ عليه.
لم يتبين ما تفعله أسيف، لكنها أخرجت منها حفنة مطوية من النقود، وألقتها بعصبية على سطح مكتبه.
تحولت نظراته للحدة لكنه لم ينبس بكلمة. راقبها فقط بهدوء مميت للأعصاب
هدرت فيه قائلة بازدراء وهي تشير بيدها:
-لو على اللي دفعته فيه، فخد فلوسك أهي، وهاجيبلك أدهم عشر مرات!
ردت له – متعمدة – نفس عبارته السابقة حينما اتهمته بالسرقة لتزداد بعدها نبضات عروقه التي تدفقت إليها الدماء الفائرة بغزارة.
هو استشعر إهانة بالغة من تعاملها معه، ومن طريقتها في مواجهته. هو ليس بحاجة إلى النقود لتكرر نفس حركته بنفس الحماقة المزعجة، بالإضافة إلى أن شدته معها لسبب مختلف تمامًا عن الذي تعتقده هي.
أضافت قائلة بصوتها المنفعل:
-بس ابعد عني وعن اللي يخصني!
تصلبت عضلات وجهه، وبدا متحفزًا إلى حد كبير وهو يرمقها بنظراته النارية.
هتف بصعوبة من بين شفتيه المطبقتين:
-لمي فلوسك يا بنت رياض! انتي عارفة كويس إني مش ناقص فلوس عشان أبص للكام ملطوش بتوعك دول!
صاحت فيه صارخة بيأس:
-اومال عاوز ايه مني؟ بتمنعني عن حقي ليه؟
صمت مجبرًا أمام صياحها المتواصل، عاجزًا عن إيجاد إجابة مقنعة لها. فكيف يبرر أسبابه وهو نفسه لا يستطيع تفسير ردات فعله الغير عقلانية فيما يخصها.
تجمدت عيناه عليها، وظلت تعابيره خالية من أي إشارات متأثرة رغم ثورته المستعرة بداخله.
ضجرت من صمته المريب، فهتفت بتوسل رقيق:
-رد عليا لو سمحت! بتعمل كده ليه؟
أغمض جفناه لثانية ليسيطر على نفسه أمام نبرتها تلك. ثم فتحهما مكملًا تحديقه الجامد نحوها وهو يهتف بنبرة جافة:
-مش فاضي أرد دلوقتي
أغاظها رده المستفز، فتمتمت بحنق كبير رغم تلعثم كلماتها:
-إنت.. إنت آآ....
قاطعها قائلًا بصلابة قاسية متعمدًا رد ما فعلته بالأمس معه:
-ممكن تتفضلي من هنا، عندي شغل! شرفتي!
شهقت مذهولة من وقاحته الصريحة. لم تتوقع ذلك منه.
هب منذر واقفًا من مكانه، وأشــار لها بإصبعيه اللذين وضعهما على جبينه ليودعها وهو يتابع بجفاء:
-وتسلمي على جيتك، متشكر يا بنت الأصول!
تجهم وجهها كثيرًا، ورمقته بنظرات أكثر اشتعالًا عن ذي قبل، نفخت بعصبية أمامه قبل أن توليه ظهرها وتخرج من وكالته خالية الوفــــاض في مسألة الدكان، لكنها معبأة بمشاعر غضب مشحونة على الأخير.
نسيت أن تأخذ ما تركته من أموال على مكتبه، فمد يده ليجمعهم.
رفع النقود نصب عينيه يتأملهم بنظرات غامضة.
قطع تحديقه بهم صوت أبيه متساءلًا باستغراب:
-في ايه يا منذر، قريبة عواطف بتعمل ايه هنا؟
أخفى النقود في درج مكتبه، ثم أجابه بهدوء حذر:
-جاية عشان الدكان!
جلس طه على المقعد الملاصق للمكتب، ونظر له بتفرس وهو يقول:
-أها، قولتلي بقى، شكلك كده آآ....
تنحنح منذر مقاطعًا بخشونة:
-سيبك يا حاج من الحكايات الهايفة دي وخلينا نركز في الشغل أحسن
رد عليه طــــه بمكر رجل مسن خط الزمن عليه على مدار عقود:
-ماهو ده برضوه شغل، ولا أنا غلطان؟!
تحاشى منذر النظر إلى أبيه، واكتفى بالعبث فيما أمامه من أوراق ليظهر انشغاله بهم رغم أن عقله لم يتوقف عن التفكير فيها للحظة. تلك التي تحرك دومًا شيئًا بداخله، وتجبره على متابعتها في كل الأوقات خاصة إن كانت غائبة عنه.
أوشك الوقت المخصص للدرس الخصوصي على الانتهاء، فلملمت ما معها من أدوات تستعين بها ووضعتهم بداخل حقيبتها.
نظرت بسمة إلى قطعة الحلوى المسنودة على الفراش المجاور للطاولة، وتساءلت بتعجب:
-مكملتش بسكوتك ليه؟
التفت الصغير برأسه للخلف، ثم نهض عن مقعده ليقفز في مكانه بمرح.
مالت هي بجسدها ناحية الفراش ممددة ذراعها نحوها لتمسك بها.
حدقت فيها باندهاش عجيب من طريقة تناولها التي بدت غريبة عن المألوف.
رددت باستغراب:
-وبعدين في حد ياكلها كده !
هز الصغير يحيى كتفيه نافيًا وهو يقول:
-مش أنا والله!
ردت عليه مستنكرة:
-يعني هي اتاكلت لوحدها يا يحيى!
أجابها ببراءة:
-معرفش، بس أنا مش بأكلها بورقتها يا مس
دققت النظر أكثر فيها هاتفة بغرابة أكبر:
-ورقتها
لفتها على الجانبين لتتفحصها عن كثب، وهمست لنفسها بحيرة:
-شكلها غريب أوي، دي متقرقضة من آآآ.....
قاطع تفكيرها الحائر صوت يحيى هاتفًا بصوتٍ مرتفع وهو يشير إلى فراشه:
-مِس بصي!
وجهت بصرها حيث أشار، فرأت كائنًا رماديًا يمتاز بذيله الطويل، وجلده الرمادي الخشن يسير على حافة الفراش.
هو جرذ صغير الحجم، لكنه كان كفيلًا ليثير هلعها، فصرخت بلا وعي:
-هــــاه! فـ... فاااااااااار !
هبت من مكانها مذعورة، وواصلت صراخها الهيستري:
-ماما، فـــــااااار !
انضم الصغير يحيى إليها، وصرخ هو الأخر ولكن بضحكات مكركرة على طريقتها الخرقاء في القفز والركض نحو الشرفة.
ولج ديــــاب على إثر صوتهما لداخل الغرفة، فتفاجأ بما يفعله الاثنان.
توجه نحو الشرفة متساءلًا بضيق:
-في ايه ؟
وضعت بسمة يدها على ذراعه لتقبض عليه وهي تصيح برعب:
-في فار جوا في الأوضة! يع!
أخفض عيناه لينظر إلى كفها القابض على ذراعه، ثم حدق بها مرة أخرى وهو يقول بتجهم:
-ماشي بالراحة مش كده!
ردت عليه بتشنج مرتعد وهي تهتز بجسدها :
-بأقولك فار.. فـــــار!
حدجها بنظرات حادة قائلًا بتهكم ساخر:
-يعني معندكوش في بيتكم، محسساني إنك أول مرة تشوفيه!
أغضبها رده، فنظرت له بازدراء، وردت عليه بسخط:
-والله انت ما عندك دم!
عبس وجهه سريعًا من ردها الفظ، فباغتها بوضع قبضته على يدها الممدودة إليه ممسكًا بها من رسغها، ثم جذبها نحوه ليقربها أكثر إليه.
نظر مباشرة في عينيها بنظرات أخافتها محذرًا إياها بصرامة شديدة اللهجة:
-اتكلمي كويس معايا!
تجمدت الكلمات على طرف لسانها من حركته تلك، وحدقت فيه مشدوهة من نظراته المنذرة بغضب جم ..
وزع الصغير يحيى نظراته بينهما مبتسمًا ، لكنه لم ييتفوه بشيء ، وتسلل من أمامهما تاركًا الشرفة ليبحث بمرح عن فأره الزائر..
لمحتهما متقاربان للغاية عبر الشرفة المطلة على الطريق وهي تشرأب بعنقها للأعلى عندما ترجلت من السيارة.
جاءت ولاء لزيارة ابنها بعد أن استعادت عافيتها، هي اشتاقت إليه، ورغبت في رؤيته، لكنها لم تبلغ عائلة حرب بزيارتها.
ظلت أنظارها مسلطة عليهما لبرهة.
اصطبغ وجهها بحمرة مغتاظة نوعًا ما..
لا تعرف سبب ذلك الانقباض المزعج الذي عصف بقلبها، ولكنها كانت غاضبة لرؤيته مع غيرها بتلك الطريقة.
هو يلامسها ويحادثها بتلقائية كما كان يفعل معها وهي على ذمته.
ولما تغتاظ وهي قد اختارت طريقها مسبقًا؟ لم ترغب في تفسير الأمر.
بالطبع لن يقف دياب كمشاهد لفترة طويلة أو منتظرًا على مقاعد البدلاء حتى تصبح متاحة له مرة أخرى، كان عليها أن تتوقع اقترانه بإحداهن.
ابتلعت ولاء غصة مريرة عالقة بحلقها، واتجهت نحو مدخل البناية مقاومة تلك الرغبة النادمة المسيطرة عليها، فما مرت به مؤخرًا ليس بالهين، وجعلها تعيد حساباتها بالكامل
تعليقات



<>