
رواية الدكان
الفصل الثاني عشر12
بقلم منال محمد سالم
أرادت جليلة ألا تضيع الفرصة وتفاتح ابنها مجدداً في موضوع الارتباط والزواج ..هي وضعت عيناها على إحداهن ، وترى فيها الزوجة المناسبة له ، والأهم من هذا كله أنها تستطيع الانجاب لتضمن حصولها على أحفاد أصحاء في أقرب وقت ..
-ممكن أدخل يا منذر ؟
قالتها جليلة وهي تقف على عتبة باب غرفة ابنها البكري ومستندة بيدها على الحائط ..
التفت منذر ناحيتها وهو يمشط شعره قائلاً بتعجب من طلبها للإذن :
-اه طبعاً يا أمي ، هو انتي محتاجة تستأذني ؟
ابتسمت له ابتسامة عريضة ، ودخلت إلى غرفته لتتأمله بفخر ..
كان قد انتهى هو تقريباً من إرتداء ثيابه .. ولم يبقَ لديه إلا وضع حذائه في قدميه ..
جلست هي على طرف الفراش ، وأمسكت بملابسه المنزلية تطويها ، ثم رددت قائلة بحذر :
-كنت عاوزاك في موضوع كده !
رد عليها بهدوء وهو يربط حذائه :
-خير يا أمي !
تنهدت مطولاً وهي تقول بعتاب خفي :
-مش ناوي تفرحني بيك وتتجوز تاني !
اعتدل في وقفته ، وضحك عالياً وهو يردد بإندهاش :
-انتي عندك عروسة ليا ؟
انتابها الفضول لمعرفة ما يفكر به خاصة بعد أن رأت ردة فعله العادية ، فهتفت بحماس :
-بص هو يعني في كام حد ، بس انت مش في دماغك واحدة معينة ، صح ؟
رد عليها بجمود وهو يضع مفاتيحه في جيبه :
-والله يا أمي أخر همي الموضوع ده !
نهضت من على الفراش لتقف قبالته ، ثم ربتت على كتفه مرددة بحنو :
-العمر بيجري يا حبيبي !
ثم أخفضت نبرتها قليلاً لتظهر حزنها وهي تضيف :
-وأنا نفسي أفرح بعوضك وبعيالك !
زفر بضجر من تلميحها ، وهتف قائلاً بجدية :
-ومين هترضى بواحد زيي ؟
شهقت مذعورة من جملته الأخيرة لاطمة على صدرها ، وتبدلت تعابيرها للإنزعاج الكبير ، ثم هتفت مستنكرة :
-الله أكبر ، هو انت فيك حاجة تتعيب ، ده انت سيد الرجالة كلهم ومتعلم ومعاك شهادة تجارة !
التوى فمه بإبتسامة ساخرة وهو يرد عليها :
-ياه يا أمي ، بقالي زمن ماسمعتش الكلام ده !
هتفت جليلة مرددة بحماس وقد لمعت عيناها :
-وافق انت بس وأنا أدورلك على واحدة تتجوزها
رد عليها بفتور :
-ربك يسهلها !
ثم دنا برأسه عليها ليسألها بمكر :
-بس قوليلي انتي بتفكري في مين ؟ شكلك عندك واحدة ليا ، ها مظبوط ؟
ضحكت بسعادة ، ثم وضعت إصبعيها على طرف ذقنها لتقول بسجية :
-هو أنا باينة أوي كده
غمز لها منذر قائلاً بتسلية :
-ده أنا عارفك يا أمي
أخذت نفساً عميقاً ، وأخرجته دفعة واحدة من رئتيها ، ثم هتفت فجـــأة دون أي مقدمات :
-عارف نيرمين ؟
بدا الاسم مألوفاً نوعاً ما لديه ، لكنه لم يستطع أن يخمن هوية صاحبته بوضوح ، فتساءل مهتماً :
-مين دي ؟
ردت بثقة :
-بنت عواطف ، البت الكبيرة !
تذكرها منذر ، وأردف قائلاً بإستغراب وقد انعقد ما بين حاجبيه بشدة :
-بس اللي افتكره انها متجوزة !
صححت له معلومته قائلة بتلهف :
-لأ ، هي اطلقت من جوزها من كام يوم
ضاقت نظراته إلى حد كبير ، وتجمدت تعابير وجهه ، ثم هتف مستنكراً تفكير والدته في تلك الزيجة :
-وده أنا أعمل بيها ايه ؟ أروح أصالحهم مثلاً ؟!
ردت عليه بحماس وهي تشير بعينيها :
-لا خلاص معدتش ينفع ترجعله ، هو طلقها للمرة التالتة !
فهم منذر سبب إشارة والدته لها تحديداً ، ورد بتهكم وهو يلوح بذراعه :
-اها قولتيلي ، وانتي عاوزاني أكون لا مؤاخذة إريـــال ، وآآ...
قاطعته قائلة فوراً قبل أن يسيء فهمها :
-لالالا ، مش كده خالص !
سألها بإقتضاب وقد بدا متأففاً :
-أومال ؟
أجابته بحذر :
-البت كويسة وحلوة ولهلوبة وفوق ده كله مخلفة ، بطنها شغالة يعني .. فاهم قصدي !
أرجع رأســـه للخلف ، ورد عليها بصوت آجش :
-بقى الموضوع كده ! مخلفة عيال !
بالطبع لما لا تلجأ والدته إليها لتتأكد من وجود من تصلح للإنجاب خاصة أنها تعرف معاناته السابقة مع زوجته الراحلة ..
هزت جليلة رأسها بإيماءة قوية وهي تضيف :
-بصراحة أه ، وكفاية إننا عارفينها ومضمونة ومتربية وسطنا ! يعني لا في يوم هاتقل أدبها ولا آآ...
قاطعها منذر متساءلاً بجمود :
-وتفتكري هي هترضى تتجوز تاني ؟
أجابته مستنكرة تفكيره في احتمالية رفضها له :
-وهي تستجري ترفض ، هي هتلاقي أحسن منك فين ؟
أيقن منذر أن والدته قد وضعت تلك المطلقة ضمن مخططاتها للزواج ، وهو ليس به الرغبة للحديث في هذا الشأن حالياً ، فعلى عاتقه الكثير من الالتزامات والمسئوليات ، لذا رد عليه بحزم :
-بصي يا أمي ، مش وقته الكلام في الموضوع ده ، إنتي بتقولي مطلقة من كام يوم ، يعني لسه في موال عدة ومشاكل وبلاوي مع طلقيها ، وأنا مش عاوز وجع دماغ !
بررت له سبب تمسكها به قائلة :
-ماهي مش هاتفضل على طول في القرف ده ، وافق انت بس وأنا هاتصرف بعدها !
رد عليها بنبرة حاسمة وهو يتحرك صوب باب الغرفة :
-أما يجي وقته !
ابتسمت قائلة بود :
-طب يا حبيبي ، على راحتك !
ثم خرجت خلفه وهي تتابعه بنظرات متريثة .. لكنها كانت متحمسة لكون الفكرة قد لاقت استحساناً لديه .. وما عليها فقط إلا التريث والانتظار ريثما تنتهي عدة نيرمين لتفاتحها في الزواج من ابنها ...
أغلقت شادية باب المنزل خلفها ، واتجهت صوب الصالة لتجلس على أقرب أريكة وعلى وجهها علامات جادة للغاية ..
علقت أنظارها بإبنتها ولاء التي كانت تبحث عن هاتفها المحمول في حقيبة يدها ..
وما إن وجدته حتى هاتفت زوجها مــــازن فبعد أن عادت من زيارة عيادة الطبيب النسائي كان حتماً عليها الاتصال به لتبلغه برأيه النهائي في مسألة التخلص من الجنين الذي ينمو في أحشائها ..
سألها مازن مهتماً بعد أن رد على اتصالها :
-ها عملتي ايه ؟
أجابته بصوت قاتم :
-الدكتور قالي صعب أعمل اجهاض
رد مستنكراً صعوبة تنفيذ تلك العملية :
-ليه يعني ؟ مافيش كام برشامة تاخديها وينزل مع نفسه ؟
اغتاظت من استهوانه بالأمر ، وصاحت بصوت محتد :
-هي بالبساطة دي عندك ؟
لاحظ ارتفاع وتشنج نبرتها الصوتية ، فرد عليها بهدوء محاولاً السيطرةعلى نوبة عصبيتها قبل أن تنفجر فيه :
-أنا مفكر يعني الموضوع سهل !
هتفت قائلة بحدة :
-لأ مش سهل خالص !
ثم صمتت لتلتقط أنفاسها قبل أن تتابع بصوت متردد :
-وأنا ..آآ.. أنا مش عاوزة أجهض !
توقع مــــازن أن تتفوه بهذا ، فحديثها السابق ما هو إلا مقدمات لنية مبيتة على التمسك بالجنين ..
لذلك رد عليها بفتور :
-براحتك ، شوفي اللي عاوزاه واعمليه !
ثم زاد من قوة نبرته ليضيف محذراً :
-بس افتكري كلامي لما آآ...
قاطعته قبل أن يتم عبارته قائلة بصوت متشنج :
-مازن ، أنا لو عملت اجهاض ممكن مخالفش تاني
تعجب من كلامها ، وسألها مستغرباً :
-نعم ، ليه إن شاء الله ؟
أجابته بصوت محتد :
-الدكتور قالي إنه فيه خطورة عليا ، وأنا مش مستعدة أخسر حياتي عشان حاجة زي دي !
صمت مــــازن ولم يضف المزيد ، فهي بحديثها هذا تظن أنها وضعته في خانة اليك لتضغط عليه ، لكنه على العكس تماماً لم يكن مكترثاً بما تفعله ..
ففي النهاية هو في تحدٍ مع غريمه ديـــاب ، ولن يعبأ إلا بما يكدره ويعكر صفو حياته حتى لو كان للأمر علاقة بولاء ..
لاحظت هي صمته الذي طـــال ، فسألته بضيق :
-سكت ليه ؟
رد عليها بصوت جاف :
-اللي انتي عاوزاه اعمليه يا ولاء !
ســألته بتوجس وهي تستشعر الخطر :
-طب ودياب ؟
رد عليها بتساؤل موجز يحمل الضيق :
-ماله ؟
هتفت متساءلة بتوتر :
-هانتصرف معاه ازاي ؟
صمت للحظات تاركاً إياها تظن أنه يفكر في حل للمشكلة ، ولكنه صدمها بعد ذلك بالرد بجمود بارد :
-بصي يا ولاء ، أنا عندي شغل دلوقتي ، هاكلمك بعدين نتفاهم !
اغتاظت من رده الغير شافي ، وتمتمت بصوت محتقن :
-ماشي ، براحتك !
ثم أنهت المكالمة معه ، وألقت بهاتفها على أقرب أريكة ..
نفخت بحنق وهي تدور بحيرة في أرجاء الغرفة مرددة من بين شفتيها بشراسة :
-مش هتعرف تتهرب مني يا مازن ! احنا سوا في الليلة دي لحد الأخر !
هزت شادية ساقها الموضوعة على الأخرى بحركة ثابتة وهي تتابع المكالمة الدائرة بين ابنتها وزوجها فقد أصرت على أن تجريها أمامها لتعرف بنفسها ردة فعل زوجها ..
وصدق حدسها ..
رمقت هي ابنتها بنظرات مزدرية قبل أن تقطع صمتها الإجباري قائلة بتوبيخ :
-جالك كلامي ؟ مش قولتلك من الأول إنه ندل !
زفرت ولاء بإحباط ، ودست أصابعها في فروة شعرها المتناثر لتنفضه بعصبية وهي تتساءل :
-اتصرف ازاي دلوقتي ؟
توقفت شادية عن تحريك ساقها ، ثم أخفضتها لتتمكن من النهوض ..
أصبح وجهها خالياً من التعابير ، لكن نظراتها كانت مليئة بالوعيد ..
ردت على ابنتها بثقة جادة :
-مش انتي اللي هاتعملي حاجة ، ده دوري !
سألتها ولاء بتوجس وهي تضم ذراعيها معاً أمام صدرها :
-ناوية على ايه يا ماما ؟
أجابتها شادية بغموض :
-على الصح يا ولاء !
لفت حنان الشـــال الحريري المغزول يدوياً حول عنقها ليعطيها بعض الدفء رغم اعتدال حرارة الجو .. لكنها كانت تشعر ببرودة خفيفة تضرب في جسدها المرهق ، ربما نتيجة السفر وتغير الجو فأصيبت بأعراض البرد ..
لم ترغب في إثارة قلق ابنتها ، فعمدت إلى الوسائل القديمة والدائية في التدفئة من أجل التعرق وإخراج الحرارة الزائدة من الجسد ..
أكملت بعد ذلك وضع حجابها على رأسها ، وأمسكت بحقيبتها لتتفقد ما بها من أموال ، ثم أسندتها على حجرها ..
وقعت عيناها على حافظة نقودها الجلدية ، فمدت يدها لتسحبها للخارج لتنظر بها.
كانت تضع في داخلها عدة صور مختلفة ، أخرجتهم بحذر لتتأملهم بنظرات مشتاقة.
كانت الصورة الأولى تجمعها مع زوجها الراحل وابنتهما أسيف وهي في عمر مبكر ..
ابتسمت بعفوية وهي ترى صغيرتها متشبثة بها بيد وجاذبة لياقة أبيها بقبضتها الأخرى ، ضحكتها كانت بريئة صافية تسلب الألباب وتآسر القلوب .
تنهدت بعمق ، وأزاحت الصورة لتشاهد التالية الموجودة خلفها.
كانت لأسيف وهي في المرحلة الثانوية بعد أن تحجبت.
لازل وجهها يحتفظ بملامحها الصغيرة رغم بلوغها ..
ابتسمت لها ، وأكملت تطلعها في الصورة الثالثة والتي التقطتها في استديو التصوير أثناء تقديم أوراقها للإلتحاق بكلية الزراعة ..
تذكرت رغبتها آنذاك في الانضمام لتلك الكلية خصيصاً لتعاون أبيها في أعماله بأرضه على أسس علمية ، و بالطبع فرح ريــاض بتفكيرها وحماسها ، وساعدها في شرح بعض المواد التي كانت تتعذر عليها دراستها ، وبعد تخرجها رفض أن تشاركه ذلك العبء ، وأثر أن تظل إلى جوار والدتها ..
أخرجت حنان تنهيدة حـــارة من صدرها وهي تتذكر شكل أسيف حينما منعت عن ممارسة ما تعلمته على أرض الواقع ، لكن والدها كان محقاً من وجهة نظره ، هو لم يرغب في إرهاقها وتحميلها مسئوليات ستؤرق ليلها وتكدر صفو نهارها .. بل ستقلب حياتها جحيماً ..
نعم هو أكثر الناس دراية بطبيعة شخصية ابنته الهشة و الرقيقة ، والحياة تسحق بضراوة الغير قادر على مجابهتها ، لذا رفض بعناد أن يلبي رغبتها في العمل ، وبقيت في المنزل ترعى والدتها ..
لم يمر الكثير على ذلك الأمر حتى مرض ريـــاض ، وساءت حالته ، وتطور الوضع سريعاً ليلقى ربه في نهاية المطــاف ..
ترقرقت العبرات في عينيها حزناً عليه ، وقاومت بشدة رغبتها في البكاء.
مدت أناملها لتمسح دمعاتها قبل أن تراها صغيرتها ، وتنفست بعمق لتضبط حالتها النفسية ..
خرجت أسيف من المرحاض الملحق بالغرفة لتسأل والدتها بإهتمام :
-جاهزة يا ماما ؟ أنا خلصت لبس !
عمدت حنان إلى رسم ابتسامة صغيرة على ثغرها ، ثم رفعت أنظارها اللامعة في اتجاه ابنتها ..
تأملتها بنظرات ممعنة لتتأكد من ملائمة ثيابها وحشمتها ..
لم تكن أسيف بحاجة إلى هذا ، فهي دائماً تحبذ إرتداء الثياب الفضفاضة التي لا تبرز معالمها الأنثوية ..
كان فستانها بسيطاً مزركشاً بألوان مبهجة تسر الناظرين ..
وحجابها من اللون الأزرق الباهت يتماشى مع إحدى درجات ثوبها ..
ابتسمت لها قائلة بنبرة لطيفة :
-اه يا بنتي ، يالا بينا !
هتفت أسيف بمرح وقد بدت نظراتها متفائلة :
-أنا نفسي أشوف شكل عمتي دي أوي ، يا ترى شبه بابا ولا لأ ؟
تلاشت ابتسامة حنان ، وحل الوجوم على وجهها .. نعم فهي تتذكر عواطف الصغيرة الواقفة إلى جوار أمها عزيزة ذات الوجه الصارم والنظرات الشرسة ، تلك السيدة الجبارة المتسلطة التي لا تعرف للرحمة أي معنى في حياتها ..
تمتمت بخفوت حزين وهي تنفض عن عقلها صورتها المخيفة :
-يا ريت تكون زيه مش زي أمها !
لم تسمع أسيف جيداً ما رددته والدتها ، فسألتها بإهتمام :
-بتقولي ايه يا ماما ؟
حاولت حنان أن تتصنع الابتسام وهي تجيبها :
-مافيش حاجة ! يالا يا بنتي
حركت أسيف رأسها بإيماءة موافقة ، ثم اتجهت نحو والدتها لتقف خلفها ، وتملكها الحماس وهي تدفعها من مقعدها قائلة بإبتسامة سعيدة :
-إن شاء الله هاتكون زيارة حلوة !
لم تعقب عليها حنان .. فما مرت به مع عائلة زوجها لا يجعلها تستبشر خيراً مطلقاً ...
استقبل الحاج مهدي السيدة شـــادية بداخل مكتبه الملحق بالمطعم ..
وطلب لها مشروباً بارداً لتتناوله ، لكنها رفضت أخذ أي شيء قبل أن تتطرق إلى موضوعها الخطير..
سألها هو بإهتمام وقد ظهر القلق على محياه :
-خير يا شادية ، زيارتك دي وراها ايه ؟
أجابته بغموض وهي تنظر له بتأفف :
-ابنك مازن !
تقوس فم مهدي للجانب مردداً على مضض :
-ماله المحروس !
أجابته بصوت قاتم ونظراتها إليه لم تتغير :
-ابنك متجوز بنتي ، وعرفي !
اتسعت حدقتي الحاج مهدي بصدمة جلية ، وفغر فمه مشدوهاً منها ، ثم صاح مستنكراً :
-ايييييه ؟!!!!
ردت عليه بهدوء مريب :
-اللي سمعته يا مهدي !
نهض واقفاً من مقعده ، وانحنى للأمام ليستند بمرفقيه على مكتبه ليحدق بها بنظرات مشتعلة .
صـــاح متساءلاً بصوت غاضب وهو يضرب بكفيه على السطح الزجاجي :
-انتي جبتي الكلام ده منين وازاي ؟
نظرت له شادية شزراً ، وبدت أكثر بروداً وهي تجيبه بصوت قوي :
-في ايه يا مهدي ، ولاء بنتي ومش بتخبي عني حاجة !
زاد ذهوله من حديثها المشين ، وكأن الزواج السري أمر عادي ، فهتف مستنكراً برودها :
-يعني انتي عارفة إنها متجوزاه في السر ؟
أجابته بثقة وهي تتعمد الحفاظ على ثبات انفعالاتها :
-اه ، من أول ما فكر في ده
ضرب مجدداً بعنف على السطح الزجاجي للمكتب هاتفاً بغضب :
-ووافقتي على المصيبة دي يا شادية ؟ طب ليه ؟
أجابته بهدوء مستفز :
-كانوا عاوزين بعض
بدا الأمر وكأنه قد تم الترتيب له بالكامل .. وبالطبع كان هو أخر العالمين به ..
تهدل كتفيه للأسفل ، وارتخى جسده وهو يجلس مصدوماً على مقعده :
-ازاي يعمل كده ومايقوليش ؟
انتصبت شادية في جلستها ، وأصبحت أكثر تحفزاً وهي تضيف :
-مش مشكلتي إن ابنك مخبي عليك موضوع زي ده ، مشكلتي معاه انه عاوز يجهضها !
انفرجت شفتاه بصدمة أغرب مما يسمع .. وتمتم مذهولاً :
-ايه ؟ كمان !
تابعت هي قائلة بجدية مهددة إياه :
-ومن الأخر كده أنا مش هاسمح لبنتي تضر نفسها وابنك قاعد ولا على باله !
ضرب الحاج مهدي كفاً على الأخر مستنكراً أفعال ابنه الغير موزونة ، وهتف بصوت متحشرج :
-يخربيتك يا مازن ، إنت عملت ايه يا متخلف !
كان مهدي يعلم جيداً أن فعلة كهذه إن وصلت إلى مسامع دياب فسوف تتسبب في إندلاع المشاجرات العنيفة من جديد بين العائلتين.
كز على أسنانه بحدة حتى كاد يحطمهم من فرط غضبه ..
وحاول التفكير بتعقل في حل لتلك الكارثة الفجائية التي ربما –كما يقال في الدارج - تحطم المعبد على من به مدمرة كل شيء في طريقها ..
لم تعبأ شادية بحالة مهدي المصدومة ، واستأنفت حديثها قائلة بنبرة عدائية :
-شوف لحد دلوقتي أنا هادية وبأتكلم بالعقل ، فبلاش تختبر صبري يا مهدي ، بنتي عملت كل اللي ابنك عاوزه ، وخَسَّرت ابن حرب الجلد والسقط ، لكن هي تخسر ولا تتأذى شعرة منها مش هاسكت ، وإنت عارفني كويس !
ثم نهضت من مقعدها لترمقه بنظرات شرسة وهي تتابع بتهديد :
-وأنا مش هاسيبها لوحدها !
هب هو الأخر واقفاً ليرد بحذر :
-طب اقعدي نتفاهم !
ردت عليه بصرامة :
-اللي عندي قولته ، ابنك يعلن جوازه من ولاء قصاد الناس وإلا أعمامها هيدخلوا فوراً !
هو يفهم جيداً طبيعة عائلة شـــادية ، والتي لا تحبذ اللجوء إليهم إلا في الشدائد لعنف طبائعم الشرسة ..
ابتلع ريقه قائلاً بتوجس :
-ماشي ماشي ، اهدي بس وآآ...
قاطعته قائلة بحزم :
-ده أخر ما عندي يا حاج مهدي ، سلام !
ثم أولته ظهرها دون أن تضيف المزيد ..
علقت أنظاره بسرابها الذي تلاشى سريعاً ، وحاول أن يعي الموقف ويفكر بصورة عقلانية متريثة فيه .. لكنه إلى الآن لم يكن ملماً بكافة التفاصيل .. لذا عليه استدعاء ابنه المشاغب ليعرف منه كيف ارتكب أمراً كهذا دون استشارته ..
فلو علم مسبقاً بنيته في الزواج من طليقة دياب لكان منعه على الفور .. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن ..
أخرج هاتفه المحمول من جيب جلبابه ليهاتف ابنه ، وانتظر بفارغ الصبر رده عليه ..
وما إن سمع صوته حتى صاح به بغلظة مهيناً إياه:
-إنت يا زفت يا ....... !!!
صُدم مازن من سباب والده له ، وسأله منزعجاً :
-في ايه يا حاج ؟
رد عليه بحدة :
-اتنيل تعالى عندي تشوف الكارثة اللي عملتها !
بدا كلامه غامضاً للغاية ، فسألها بعدم فهم :
-كارثة ايه دي ؟
أجابه أبيه بصوت شرس:
-يعني مش عارف إنت مهبب إيه ؟ ولابخ الدنيا وموقعني مع ولية شر ؟!!!
سأله مازن مستفسراً :
-قصدك ايه ؟
صاح به مهدي بصوت هادر :
-انجز وتعالى دلوقتي !
رد عليه مازن بإمتعاض :
-ماشي بس هاخلص مصلحة في ايدي و آآ...
قاطعه الحاج مهدي بصرامة :
-انت تسيب أي هباب وتجيلي على طول ، سامع !
زفر مازن مردداً بإستسلام :
-طيب !
أغلق مهدي الخط في وجهه ، وغمغم بصوت محتقن متأفف وهو يجلس على مقعده :
-يعني ضاقت بيك الدنيا وملاقتش إلا البت دي وتتجوزها ! خلاص الحريم خلصوا !!!
نفخ بصوت مرتفع مردداً بضجر :
-استغفر الله العظيم ! استرها يا رب على عبيدك
وافقت بسمة على مضض بقبول ذلك العرض السخي وإعطاء حفيد وابنة عائلة حرب درساً خصوصياً ..
كان هذا من الناحية الظاهرية ، لكنها في قرارة نفسها أرادت أن توصل رسالة شديدة اللهجة لدياب لكي لا يتدخل مجدداً في أمور حياتها .. هي ليست ضعيفة لتستعين بالغير للدفاع عنها أو حمايتها واستعادة حقها المسلوب ، فهي كفيلة بفعل هذا بمفردها وبكفاءة ..
استعدت للذهاب إلى منزلهم القريب من بناية عائلتها ، وعمدت إلى إرتداء أبهى ما تمتلكه لتبدو أنيقة غير عابئة بالمال أو غيره ..
رأتها والدتها قبل أن تخرج فهتفت بسعادة :
-ربنا يكرمك يا بسمة ويصلح حالك ويحبب فيكي خلقه !
التفتت برأسها نصف التفاتة لترد بجمود :
-متشكرين على الدعوة !
أضافت عواطف مشجعة إياها على بذل الجهد :
-ارفعي راسنا يا حبيبتي ، شرفينا عند الجماعة !
ضاقت نظرات بسمة ، وصارتا أكثر حدة ، ثم هتفت مستنكرة توصيتها تلك :
-هي أول مرة أدي درس ، جرى ايه ؟!
رفعت والدتها كفها أمام وجهها قائلة بحذر :
-خلاص ، مش هانشد على بعض ، اتوكلي على الله وشوفي حالك
تمتمت بسمة بخفوت وهي تلج للخــــارج :
-يكون أحسن بردك !
تنهدت عواطف بعدها بعنق ، واتجهت للمطبخ لتحضر أدوات التنظيف لترتيب المنزل وتنظفه ..
.في نفس الوقت بالداخل ،
وضعت نيرمين يدها على جبهة رضيعتها ( رنا ) فوجدتها ملتهبة للغاية.
جذع قلبها خوفاً عليها ، وتحسست باقي جسدها الصغير لتتأكد من ظنونها ..
كانت الحرارة تبعثت منها بطريقة مقلقة للغاية ، فأسرعت بلفها بالغطاء الخاص بها ، وحملتها بين ذراعيها ، ثم هتفت بنبرة خائفة :
-ماما ، الحقيني !
ركضت إلى خـــارج الغرفة ضامة إياها إلى صدرها ومحنية عليها برأسها تقبلها بتلهف ..
أقبلت عليها عواطف متساءلة بتوجس :
-في ايه يا نيرمين ؟
أجابتها نيرمين بفزع :
-البت سخنة أوي ، وأنا مش عارفة أعمل ايه
هتفت عواطف بتلهف وهي تدنو منها :
-وريني كده
ثم وضعت يدها على جبينها لتتحسسه ، واتسعت حدقتيها مصدومة حينما شعرت بتلك السخونية المنبعثة منها ، فهتفت بهلع هي الأخرى :
-يا نصيبتي ، دي مولعة على الأخر !!!!
فزعت نيرمين أكثر ، وتساءلت بخوف :
-طب والعمل ؟ أنا اديتها مخفض بس مش جايب نتيجة معاها
رددت والدتها بجدية وهي تشير بيدها :
-احنا نطلع بيها دلوقتي على الوحدة !
وافقتها نيرمين الرأي قائلة :
-أنا بأقول كده بردك ، الدكاترة يشوفوها ويكشفوا عليها ، ويعرفوا مالها !
حركت عواطف رأسها بإيماءة قوية وهي تضيف بصوت آمر :
-ايوه ، البسي عبايتك بسرعة وأنا هادخل أحط العباية والطرحة عليا وأحصلك !
استدارت نيرمين بظهرها مرددة بتلهف :
-ماشي
لم تصدق ولاء أذنيها حينما أخبرتها أمها بما فعلته مع الحاج مهدي وما أجبرته على فعله من أي مصلحة ابنتها ..
ارتفع حاجبها للأعلى في حماس كبير ، وهتفت مندهشة وقد تهللت أساريرها :
-بجد يا ماما ؟ قولتي لأبوه مهدي ؟!
أجابتها شادية بثقة وهي تبتسم لها بغطرسة :
-طبعاً ، هو أنا رايحة أهزر معاه !
سـألتها ولاء بتلهف وقد تمكن الفضول منها :
-وهو قالك ايه ؟
تنهدت شادية ببطء ، ونظرت إلى طلاء أظافرها بتفاخر ، ثم أجابتها بتريث :
-هايجيب ابنه وهايعمل الصح !
زادت ابتسامتها إشراقاً ، فقد أوشكت على تحقيق خطوة هامة في حياتها ، لكن سريعاً ما تلاشت تلك البسمة وحل بديلاً عنها القلق والوجوم وهي تردد بتلعثم :
-بس .. بس دياب آآ...
تجمدت تعابير وجـــه شادية للغاية ، وانعقد ما بين حاجبيها بوضوح ، ثم قاطعتها قائلة بجدية متحدية :
-دياب أخره معاكي يرفع قضية ضم لابنه لو عرف بجوازك ، ومش هايعرف ياخده أصلاً ، لأني هاقف قصاده ، وفي الأخر الحضانة هاتروح ليا ، يعني القانون في صفنا يا ولاء !
نظرت ولاء لأمها بإندهاش ، فلم تتوقع أن تحسب الأمور من منظور قانوني مختلف كان غائباً عنها ..
عاتبت نفسها على تفكيرها محدود الأفق مرددة :
-إزاي مافكرتش في الحكاية دي
رمقتها والدتها بنظرات مستخفة وهي تجيبها بإهانة :
-عشانك عبيطة ، باصة تحت رجلك وبس
زمت ابنتها شفتيها ، وزفرت بضيق ، فرغم كل شيء أمها محقة ، هي دوماً تنظر للأمور من الناحية المادية فقد ، ولا تضع مخططات بعيدة المدى بما يخدمها في المستقبل ..
أضاف شادية قائلة بمكر :
-لازم تفكري كويس وتحسبيها صح وتستفيدي من الكل !
-أها ..
ثم تابعت بخبث لئيم وقد برقت عيناها بوميض شيطاني :
-طول ما يحيى معانا انتي هاتقدري تاخدي اللي عاوزاه من دياب ، وفي نفس الوقت هاتضمني فلوس وأملاك مازن في جيبك وخصوصاً لما تجيبي عيل منه !
كزت ولاء على أسنانها مرددة بغيظ :
-ده أنا كنت غبية أوي ، خوفي من دياب عاميني عن حاجات كتير !
لوت شادية ثغرها بإبتسامة عابثة وهي تضيف :
-طبعاً ، اللي برا الحكاية غير اللي جواها !
احتضنت ولاء أمها بقوة ، وشكرتها ممتنة لذكائها ودهائها :
-ربنا يخليكي ليا يا ماما ، دايما في ضهري ومسنداني !
ربتت شادية على ظهرت ابنتها برفق مرددة بجدية :
-المهم انتي تركزي الأيام الجاية وتثبتي !
ثم أبعدتها عنها لتحدق مباشرة في عينيها ، وأضافت محذرة :
-اوعي تباني ضعيفة أو مهزوزة قصادهم ! فاهمة !
هزت رأسها بالإيجاب وهي تقول :
-حاضر ، هاعمل كل اللي تقوليلي عليه بالحرف !
استقبلت الحاجة جليلة بسمة التي حضرت إليها بترحاب كبير ..
مسحت على ظهرها بنعومة مرددة بنبرة سعيدة ومهللة :
-يا مرحب بالأبلة ، نورتي بيتنا يا حبيبتي
ابتسمت لها بسمة بتصنع ، وولجت إلى الداخل وهي تجوب المكان من حولها بنظرات سريعة وعامة ..
مجيئها إلى هذا المنزل كان تحت ضغط كبير ، لكنها مضطرة لهذا لغرض في نفسها ..
ربتت جليلة على ظهرها وهي تتابع بحماس :
-تعالي يا بنتي أوضة المذاكرة من هناك ، هما غاوين يذاكروا في السفرة على التربيذة ، واحنا بنسيبهالهم
ردت عليها بسمة بجدية :
-اوكي ، بس أنا هادي كل واحد لوحده ، المنهج مختلف عن بعض !
اتسعت ابتسامة جليلة ، ورحبت بالأمر قائلة :
-أه وماله ، الصح اعمليه ، وأنا معاكي فيه !
تساءلت بسمة بإهتمام :
-شكراً ، بس السفرة مقفولة ولا لأ... ؟!
أجابتها جليلة بنبرة عادية وهي تشير بذراعها :
-هو محدش بيقعد فيها إلا ساعة الغدا ، ولو في ضيوف ممكن تقعدي في أوضة من أوض العيال
-طيب
وفجـــأة صاحت جليلة عالياً وهي محدقة أمامها :
-بت يا أروى ، تعالي الأبلة بتاعتك جت ، ونادي يحيى خليه يجي يسلم عليها !
ثم التفتت برأسها نحو بسمة التي كانت مصدومة من تصرفاتها ، وتابعت قائلة بأريحية :
-إن شاء الله هاتتبسطي معانا ، ده زي بيتك !
مطت بسمة فمها لترد بإقتضاب :
-إن شاء الله
سألتها جليلة وهي تبتسم لها ابتسامة عريضة :
-ها تحبي تشربي ايه ؟ ولا أقولك نجيب أكل الأول ؟
هزت بسمة كلاً من يدها ورأسها نافية وهي تهتف معترضة بشدة على ما قالته :
-لالالا .. أنا جاية أشتغل وبس ، مش عاوزة حاجة !
استغربت جليلة من ردة فعلها المبالغة قائلة بعتاب خفيف :
-عيب عليكي ، ده احنا بيت كرم ، ولا عاوزاني أزعل
ردت عليها بسمة بإصرار :
-لأ ، شكراً ، أنا واكلة وشاربة كويس !
يئست جليلة من إقناعها بتناول الطعام قبل الشروع في درسها ، وهتفت متساءلة بحذر :
-طيب ، أعملك شوية شاي حلوين ؟ ها ايه رأيك ؟
ردت عليها على مضض مستسلمة لعروضها الملحة :
-ماشي !
حافظت جليلة على ابتسامتها المرحبة وتابعت مشجعة إياها على التحرك :
-طيب يا حبيبتي ، اتفضلي .. اتفضلي
لم تتمكن بسمة من رؤية ديـــاب رغم محاولتها اختلاس النظرات ، فظنت أنه ربما يكون غير متواجد بالمنزل.
نفضت مؤقتاً فكرة البحث عنه ، واتجهت نحو غرفة الطعام لتبدأ مهمتها في الاستذكار مع أبناء عائلة حرب ...
وبخ الحاج مهدي ابنه مـــــازن بشدة لخروجه عن المألوف والمتبع وزواجه بطليقة ديـــاب سراً .. وظل يكيل له بالكلمات اللاذعة والإهانات الموجعة ..
اغتاظ مازن من تحامل والده عليه ، وهتف محتجاً وقد اكفهرت قسماته :
-جرى ايه يا حاج مهدي ، هو أنا أذنبت يعني ؟ انا راجل وقادر أتجوز
صاح به مهدي بغضب :
-ايوه بس في النور مش من ورانا كلنا
رد عليه غير مكترث :
-اللي حصل بقى !
استشاط مهدي غضباً من برود ابنه المستفز ، وعدم اهتمامه بتبعات أفعاله التي دوماً تزج به في المصائب.
هـــدر به بصوت محتقن :
-تصدق انت معندكش دم !
رد عليه مازن بنبرة جامدة :
-انت مكبر الموضوع ليه يا حاج ، عادي يعني ، واحدة زي أي واحدة !
انفجر فيه مهدي بصوت جهوري متشنج :
-لأ مش زيهم ، ده كفاية أمها الفقر !
نفخ مازن مردداً بنفاذ صبر وهو يشيح بذراعه في الهواء :
-يووه !!!
أضـــاف والده قائلاً بصرامة :
-لازم تتصرف وتصلح الموضوع ده على طول ، ومن غير فضايح
ضيق مازن نظراته نحوه ، ورد عليه بفتور :
-مش فاهم يعني !
أوضح له مقصده بجدية :
-هاتجوزها رسمي ، ومافيش حد هايخد خبر بده !
تقوس فم مازن بسخرية قائلاً بعدم مبالاة :
-قصدك المحروس دياب
رد عليه مهدي بصوت متصلب وقد اشتعلت نظراته :
-أه هو ، أنا مش عاوز عداوة معاه ولا مع عيلته ، أنا مصدقت إننا خدنا هدنة واتصالحنا
انزعج مـــازن من أسلوب والده المكبر للأمور ، فأردف قائلاً ببرود متعمداً الإساءة إليهم :
-يا حاج انت عاملهم قيمة ، وهما مايجوش جزم في رجلنا !
لكزه أباه في كتفه بقسوة محذراً :
-خليك إنت كده بتفكر بمخك التخين ده لحد ما تخرب ، يا أهبل بص لقدام ، مصالحنا كلها معاهم !
رد عليه غير مكترث وقد حل الوجوم عليه :
-بناقص منها إن كانت من وشهم !
ثم تابع قائلاً بشراسة :
-ده بدل ما ناخد بتار مجد أخويا المحبوس ده !
رد عليه والده بضيق :
-بكرة اخوك يخرج من حبسه ، فمش لازم تحصله إنت كمان !
صمت مازن وظل محدقاً أمامه في الفراغ بنظرات غامضة يفكر في شيء ما ..
راقبه والده عن كثب ، ثم دار حوله ليقف قبالته ، وسأله بجدية :
-ها ، هاتعمل ايه ؟
رد بإمتعاض :
-هاشوف
صاح به أباه بجدية وهو يشير بسبابته محذراً إياه من التهاون في المسألة :
-انجز في الليلة دي ، مش عاوز رطرطة كلام فيها ! سامعني !
ضغط مازن على شفتيه قائلاً على مضض :
-طيب !
حمدت أسيف الله في نفسها أن المسافة من الفندق للمنطقة الشعبية لم تكن بعيدة .. وبالتالي لم تحتاج كلتاهما لإستئجار سيارة خاصة لتوصلهما إليها ..
استمرت هي في دفع مقعد والدتها عبر الطرقات الجانبية حتى وصلت إلى المكان المنشود ..
ومع أول خطوات وطأتها بداخله تسارعت دقات قلبها ، وزادت الحماسة بداخلها ..
حاولت قدر المستطاع أن تختطف نظرات شمولية عن المكان من حولها لتحفرها في ذاكرتها ، فربما لن تتكرر الزيارة مرة أخــرى ..
زادت حماستها ، وتشجعت لسؤال والدتها بتلهف :
-هو ده المكان صح يا ماما ؟
على عكسها تماماً كانت حنان تعيش في أجواء قلقة ممزوجة بالتوتر.
خفق قلبها برهبة وهي تجوب بأنظارها المكان لترى انعكاس الماضي على جدران تلك البنايات القديمة ، واضطربت أنفاسها بدرجة ملحوظة مقاومة تدفق سيل الذكريات القاسية ..
نعم فقد عانت الأمرين مع زوجها في صراعهما ضد زوجة الحاج خورشيد ، تلك السيدة التي كانت تعتبر التجسيد الحقيقي لمصطلح ( جبروت امرأة )
أعادت أسيف تكرار سؤالها حينما تجاهلت أمها الرد عليها قائلة :
-سمعاني يا ماما ، ده المكان اللي عايشة فيه عمتي ؟
أجابتها حنان بحذر وهي تبتلع ريقها :
-ايوه !
ابتسمت عفوياً ، واستمتعت بإهتمام بالأجواء من حولها ..
تساءلت مجدداً وهي تسلط أنظارها على المحال الشعبية المتجاورة :
-أومال هي ساكنة فين ؟
احتارت حنان في تحديد البناية التي كانت تقطن بها عزيزة زوجة الحاج خورشيد ، فقد مر زمن منذ أن حضرت إلى هنا ..
بدت جميع البنايات متشابهة بدرجة كبيرة ، فزادت حيرتها أكثر وتخبطت أفكارها.
هزت كتفيها قائلة بإستياء بعد أن عجزت عن تحديد وجهتها :
-مش فاكرة يا بنتي
تفهمت أسيف صعوبة الأمر على والدتها ، وأردفت قائلة برقة :
-مش مشكلة يا ماما ، اللي يسأل مايتوهش ، هي اسمها عواطف خورشيد ، أكيد في حد هايعرفها هنا ، صح
ردت عليها حنان بفتور :
-جايز !
وقعت عيناي أسيف على محل الجزارة ، فظنت أنه ربما يتمكن من مساعدتهما في الوصول إليها ، فعلى الأغلب هو يعرف معظم القاطنين بالمكان بسبب تعاملهم معه وشراءهم للحم من عنده ..
أشارت بعينيها نحوه بعد أن مالت على والدتها مرددة بجدية :
-أنا هاروح أسأل الجزار اللي هناك ده ، ممكن يكون عارف بيتها
هتفت حنان قائلة بتأكيد :
-احتمال كبير !
أكملت أسيف دفعها لمقعد والدتها المتحرك حتى وقفت بها عند الرصيف ، ثم تركتها واتجهت نحو ذلك الرجل الجالس أمام محله ..
أشاحت بيدها ذلك الذباب المتطاير أمام وجهها ، وابتسمت بود وهي تسأله بنبرة حرجة :
-لو سمحت !
انتبه لها الجزار الذي كان ينفث دخــان أرجيلته بشراهة ، ورمقها بنظرات مطولة جريئة أشعرتها بالحرج منه .
تابع تأمله لها وهو يرد بصوت متحشرج :
-خير يا أبلة ؟
ضغطت على شفتيها لتقول بإرتباك قليل وبأدب واضح :
-حضرتك متعرفش بيت الست عواطف خورشيد ؟
تجهمت تعابير وجهه بدرجة ملحوظة ، وأخفض أرجيلته للأسفل ليسندها إلى جواره ..
ثم نفخ بضجر ، وبدا النفور واضحاً على نظراته وفي نبرته وهو يجيبها بخشونة :
-أعوذو بالله من العيلة الفقر دي !
انزعجت من أسلوبه الفظ والوقح في الإساءة إلى عمتها، وعفوياً كورت قبضة يدها وهي تهتف بإمتعاض :
-أنا بسألك عن بيت عمتي ، عارف ولا لأ ؟
رد عليها بتهكم أثار سخطها للغاية :
-هي عمتك ، اتلم المتعوس على خايب الرجا !
اصطبغ وجهها بحمرة قوية من إهانته الوقحة ، وضغطت على شفتيها محاولة كتم غيظها منه ..
هي لم ترغب في إثارة القلق ، خاصة في وجود والدتها ، حتى لا تفسد الزيارة وتُلتغى قبل أن تبدأ.
عمدت إلى الحفاظ على هدوء أعصابها وهي تعيد سؤاله بقوة زائفة :
-عارف بيتها ولا لأ ؟
أجابها بتأفف وهو يشير بإصبعيه نحو بناية ما :
-البيت الكحيان اللي هناك ده ، هتلاقيهم ساكنين فيه !
التفتت أسيف إلى حيث أشـــار فتجمدت نظراتها على تلك البناية القديمة للحظات .
خفق قلبها بتوتر رهيب ، وإنتابتها أحاسيس كثيرة متحرقة فيها شوقاً لمقابلة فرد جديد اكتشفت وجوده مؤخراً من عائلتها ..
أفاقت من جمودها المؤقت ، وعاودت النظر إلى الجزار بإشمئزاز ، ثم تركته وانصرفت دون حتى أن تشكره على تقديمه للعون ..
رمقها هو بنظرات مستخفة ، وأمسك بأرجيلته ليدخنها بإنزعاج من تجاهلها له ، وتمتم بغيظ من بين أسنانه لاعناً إياها :
-هي هاتجيبه من برا يعني ، كلهم عيلة ..... في قلب بعض !!!
رجعت أسيف عند والدتها وهي ترسم إبتسامة مصطنعة على وجهها ، ثم استطردت حديثها مرددة بهدوء :
-خلاص يا ماما عرفت مكان البيت ، هو اللي هناك ده !
حركت حنان مقعدها للأمام ، وتبعتها أسيف بخطوات متمهلة لكن روحها كانت في حالة حماسة رهيبة ..
بعد عدة لحظات كانت كلتاهما تقف أمام مدخل البناية.
بالطبع لم يخلو المكان من هؤلاء الصغار الذين يتراشقون الكرة وهم يلعبون بعنف وصراخ لعل أحدهم يحقق الفوز في مباراتهم الحيوية الهامة ..
ابتسمت لهم أسيف بود ، ثم استدارت بأنظارها في اتجاه المدخل.
حدقت فيه بنظرات مطولة مدققة في تفاصيل المكان ، فكل شيء كان يشير إلى قدمه ؛ الطلاء الباهت ، الألوان المطفية ، الدرج الخشبي العتيق ، والكراكيب المتراصة على الجانبين ..
نعم تكاد تشم رائحة عبق الزمن وأن تطأ بقدمين المكان .
اختلف إحساس حنان كلياً عن ابنتها ، هي زارت تلك البناية من قبل ، منذ سنوات طويلة مضت ..
مرت الأيام وتكرر المشهد من جديد
فقد كانت جالسة على مقعدها المتحرك عند هذا المدخل ، وتركها زوجها ريـــاض بمفردها هنا ليصعد إلى زوجة أبيه .. تلك القاسية الجاحدة التي لا تعرف أي شفقة ..
انتاب قلبها الرعب حينما سمعت صراخهما المحتد ، وفزعت نظراتها وهي تراه مقبلاً عليها حاسماً أمره بعدم العودة إلى هنا مرة أخرى ..
ازدردت ريقها بخوف ، وتمنت في قرارة نفسها ألا يتكرر الأمر مجدداً مع ابنتها ، فهي لا تزال قعيدة عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها ، فماذا عن ابنتها ؟
أخفضت أسيف نظراتها لتحدق في والدتها الشاردة ، وظنت أنها تفكر في طريقة للصعود للأعلى بمقعدها هذا ، والاثنتان بمفردهما، وبالتالي لن تتحمل هي عبء دفعها ..
عضت على شفتها بحرج ، وتنهدت بعمق ، ثم مالت على أمها لتهمس لها :
-أنا هاطلع أسأل حد من الجيران عن بيتهم ، وأعرف هما ساكنين في أنهو دور وأنزلك يا ماما
هزت حنان رأسها إيجاباً وهي تقول بحذر :
-طيب ، بس خلي بالك من نفسك
-حاضر
قالتها أسيف وهي تتجه نحو الدرابزون لتصعد بتريث عليه.
تعلقت أنظار حنان بإبنتها ، وخفق قلبها بدقات متتالية ..
دعت الله في نفسها بتيسير الأمور عليها ..
وصلت هي بعد لحظات إلى الطابق الأول ، وسلطت أنظارها على أول باب وقعت عيناها عليه ..
ابتلعت ريقها بتوتر بادي عليها ، واستجمعت شجاعتها لتقرع الجرس ..
عاودت النظر للأسفل لتطمئن على والدتها القابعة عند المدخل ..
فتحت إحدى الجارات الباب ، وتفرست في أسيف بنظرات حادة مدققة ، وسألتها بجمود :
-ايوه ؟ عاوزة مين يا شابة ؟
استدارت أسيف برأسها نحوها ، ورسمت ابتسامة مهذبة على شفتيها ساءلة إياها بحرج :
-أومال الست عواطف خورشيد ساكنة في أنهو دور ؟
أجابتها الجارة بجدية وهي تشير بعينيها للأعلى :
-فوقينا بدورين ، الباب اللي زي ده
ضغطت أسيف على شفتيها – مع احتفاظها بإبتسامتها الرقيقة – مرددة بإمتنان :
-شكراً
نزلت مسرعة على الدرج لتعود إلى والدتها ، ثم وقفت قبالتها ، وهتفت بصوت شبه لاهث ومتحمس :
-خلاص عرفت البيت يا ماما ، أنا طالعة عندها ، وهاعرفها إنك تحت !
مـــدت حنان يدها إلى ابنتها ، وأمسكت بكفها ، ثم رمقتها بنظرات جادة قبل أن تنطق محذرة :
-متتأخريش فوق ، انزلي على طول ، ماشي يا أسيف
أومــأت ابنتها برأسها مرددة بطاعة :
-حاضر يا ماما ، اطمني !
أولتها ظهرها ، واتجهت للدرج لتصعد إلى عمتها والحماس الممزوج بالتلهف والفضول يقتادها للأعلى ..
ضمت حنان كفي يدها معاً ، وضغطت عليهما بقلق واضح رغم تعابير وجهها الجامدة ..
هي تخشى ألا تصير المقابلة على ما يرام .. وتصدم ابنتها في عمتها الوحيدة.
عاتبت نفسها على تركها بمفردها لتقوم بهذا الأمر دون وجودها لدعمها.
أخذت تدعو الله في نفسها أن يمر اللقاء على الخير وتقابل بحفاوة وترحيب ..
أسرعت أسيف في خطواتها لتصل إلى الطابق المنشـــود ..
كانت متوترة بصورة بائنة ، ولما لا ؟ فتلك هي المرة الأولى التي سترى فيها عمتها الوحيدة ..
قبضت بأصابعها على الدرابزون وهي تكمل صعودها ..
شعرت أن حلقها قد جف من فرط التوتر أو الحماس ، لا تعرف أيهما تحديداً هو المتحكم بها الآن .. لكنها متشوقة لرؤيتها ..
وقفت أمام باب منزلها ، وتلاحقت أنفاسها بصورة سريعة ..
سحبت نفساً عميقاً وحبسته لثانية داخل صدرها لتضبط انفعالاتها ..
تمتمت لنفسها بتشجيع :
-اهدي يا أسيف ، واضربي الجرس ، إن شاء الله خير
وبالفعل مدت يدها لتقرع الجرس ، وانتظرت بترقب فتح الباب لها ..
كورت قبضتي يدها ورمشت بعينيها عدة مرات ..
لا جديد يحدث ، الوضـــع كما هو .. الصمت هو سيد الموقف ..
حدثت نفسها مبررة :
-يمكن ماسمعتش الجرس !
قرعت الجرس مجدداً ، وانتظرت بشغف أن تفتح عمتها الباب وتستقبلها ..
طال انتظارها أمامه ..
تملكها الإحباط سريعاً ، وتشكلت علامات اليأس على محياها ..
خبا بريق عينيها ، وتهدل كتفيها بضيق ..
عللت لنفسها عدم الرد عليها :
-جايز .. جايز محدش موجود !
زفرت بعمق ، واستدارت لتعود من حيث أتت ولكن بخطوات متخاذلة وبطيئة نسبياً وهي تتجه للدرج ..
في نفس التوقيت ، وصلت عواطف ومعها ابنتها نيرمين ورضيعتها إلى مدخل المنطقة الشعبية بعد أن فحصها الطبيب وأعطاها الدواء المناسب لحالتها ..
تهادت عواطف في خطواتها متمتمة بتعب :
-كويس إنها جت على أد كده ، إحمدي ربنا
ردت عليها بتنهيدة مطولة :
-الحمدلله ، البت لسه بتسنن وزورها مقفول !
أضافت عواطف قائلة بصوت هاديء :
-خدي من ده كتير ، شوية تسخن وشوية حركتها تتقل ، يعني من هنا لحد ما سنانها كلها تطلع
ردت عليها نيرمين بجدية :
-ربنا يسهل ، أنا هاديها الدوا في مواعيده
أكدت عليها عواطف أهمية ذلك الأمر محذرة :
-اه لازم ، وربنا الشافي
-يا رب
ثم أكملتا سيرهما نحو البناية القريبة ..
في نفس ذات الآن ،
بقيت أنظــــار حنان المتوجسة معلقة بالدرج ، وشفتاها تتمتمان بكلمات خافتة للغاية ومبهمة.
الفضول يقتلها لمعرفة نتائج المقابلة الأولى ..
وفجـــأة التفتت برأسها للخلف على صوت صراخ أحد الصغار بحدة :
-شوط يا عم ، مستني إيه !
تجمدت عيناها على تلك الكرة التي قذفها الأخر بكل ما أوتي من قوة فتحولت لقذيفة موجهة ارتطمت بعنف بألواح الخشب وكراكيب الأثاث المتواجدة على مقربة منها ..
اختل توازن تلك الأشياء بفعل الضربة القوية ، وبدأت في التهاوي ، ولكن عليها ..
شخصت أبصارها بهلع كبير حينما رأت تلك الكومة الهائلة تتساقط عليها ، فرفعت كفيها أمام وجهها لتحميه ، وصدرت عنها – عفوياً – صرخــــة هائلة ومخيفة ...
قفز قلب أسيف برعب جلي في قدميها على إثر ذلك الصوت المألوف الذي تعرفه جيداً.
تجمدت في مكانها لوهلة محاولة إستيعاب تلك الصدمة المباغتة.
كما اتسعت حدقتيها بفزع وهي تستمع إلى صوت إرتطام متتالي ومدوي ..
صاحت لا إرادياً بفزع :
-ماما !
أفاقت من حالة الشلل المؤقتة التي أصابتها ، وهبطت مسرعة على الدرجة محاولة الوصول إلى والدتها ..
رأى الصغار ما حدث نتيجة لعبهم الطائش ، وصاحوا بخوف كبير بعد سقوط الألواح الخشبية والأثاث على تلك القعيدة محدثين فوضى بالمكان ..
تحول المدخل إلى حالة من الهرج والمرج ، وواصل الصغار صياحهم المذعور ..
تجمع بعض الجيران والمارة عند المدخل لتفقد الأمر ..
وصلت أسيف إلى مقدمة الدرج فرأت تلك الكومة الهائلة تغطي أمها.
وضعت يديها على فمها لتكتم شهقة على وشك الخروج منها.
وجحظت عيناها أكثر وهي تلمح جزء من مقعد أمها المتحرك أسفل الأخشاب ..
زاد خفقان قلبها ، وتلاحقت أنفاسها بصورة مخيفة ، ثم أخرجت صرخة هائلة من صدرها :
-ماما .. مامـــــــــــــــــــــا !
ركضت نحوها محاولة إزاحة تلك الأثقال عنها ، لكنها فشلت بمفردها ، وبقيت عالقة في مكانها ، عاجزة عن الوصول إليها ..
وكأنها أصيب بحالة هيسترية فواصلت صراخها الهلع والمرعب ليزداد على إثره تجمع الجيران وأهالي المنطقة ..
لمحت عواطف من على بعد تلك الحشود التي تقف على مقربة من بنايتهم وتسد المدخل ، فتساءلت بإستغراب :
-هو الناس ملمومة هناك كده ليه ؟
ردت عليها نيرمين بحيرة وهي تهدهد صغيرتها :
-مش عارفة !
ركض أحدهم في اتجاههما ، فسألته عواطف بسجية :
-في ايه اللي بيحصل ؟
أجابها الرجل بصوت لاهث وقلق :
-بيقولوا العفش اللي كان في حوش العمارة وقع على واحدة ست !
ارتعد قلب نيرمين ، وشهقت مصدومة :
-يا ساتر يا رب !
بينما غمغمت عواطف بفزع وقد اضطربت نبضات قلبها :
-الطف بينا يا كريم !
وقف منذر على عتبة باب وكالته يوقع على أحد أوراق توصيل إحدى الطلبيات العاجلة لأحد العملاء. ثم أعطى الإيصال إلى عامل لديه ، ووجه حديث للسائق الواقف قبالته مردداً بصوت آمر :
-توصلهم عند المعرض على طول ، هما مستنين ، مش عاوز تأخير ، وخد بالك ، البضاعة فرز أول !
هز السائق رأسه بالإيجاب :
-تمام يا ريسنا !
تابع منذر أوامره مردداً بصوت آجش :
-وتاخد منهم إيصال الاستلام ، مفهوم !
-اطمن يا ريس !
هتف بتلك العبارة السائق ثم اتجه لشاحنته لينطلق بها ..
لاحظ منذر حالة التوتر والإرتباك الحادثة في المنطقة ، فنظر بغرابة في أوجه الجميع الذين بدوا وكأنهم يسيرون نحو وجهة معينة ..
تحرك عدة خطوات للأمام ، ودقق النظر أمامه ، ثم وضع كفي يده على منتصف خصره ، وتساءل بفضول مع نفسه :
-هو في ايه ؟
انتبه لصوت صراخ متتابع ، وصياحات عالية ، فزاد فضوله أكثر لمعرفة السبب ..
ركض ناحيته أحد العمال التابعين للوكالة ، وهلل قائلاً بخوف :
-ريس منذر ، يا ريس منذر
سلط منذر أنظاره عليه ، وسأله بجمود وقد قست تعابير وجهه :
-في ايه ؟
أجابه العامل بصوت لاهث ومتقطع وهو يجاهد لإلتقاط أنفاسه :
-عاوزين نطلب يا باشا الاسعاف ولا البوليس يجوا يغتونا !
ضاقت نظرات منذر أكثر ، وسأله بجدية :
-ليه ؟ في ايه ؟
انحنى العامل للأمام ليلتقط أنفاسه ، وأجابه بصعوبة مشيراً بيده :
-بيقولوا في عفش وقع على ولية كبيرة عند بيت خورشيد !
تبدلت تعابير وجه منذر للقلق ، وردد بإندهاش وقد إرتخى أحد كفيه عن خصره :
-عفش ! وحصل للست ايه ؟
رد عليه العامل بصوت مرتبك :
-مش عارفين إن كانت عايشة ولا ميتة ، الجدعان هناك بيشيلوا الخشب من عليها !
أشار منذر بإصبعه للخلف مردداً بجدية :
-طب خش اطلبهم من جوا ، وأنا هاروح أشوف بنفسي !
حرك العامل رأسه بالإيجاب قائلاً :
-ماشي يا ريسنا
مرر منذر يده على رأسه ، وهتف لنفسه بصوت جاد لكنه منزعج :
-ربنا يعديها على خير !
ثم ســــار بخطوات متمهلة نحو البناية ليتابع هو الأخر ما يدور ..
تسابق الرجال في حمل الكتل الخشبية لإنقاذ تلك السيدة ..
وبالطبع صراخ أسيف جعل جميع الجيران يلتفون حولها – وخاصة الجارات – لمواستها والوقوف إلى جوارها ، ومنعها من التحرك ..
هتفت إحداهن بتفاؤل :
-إن شاء الله هيلحقوها
وأضافت أخرى بضجر محملة اللوم على أصحاب الأثاث :
-غلطانين انهم سايبن العفش كده من غير ما يربطوه ، ولا آآ...
قاطعتها ثالثة مرددة بجدية :
-مش وقته ، خلونا في المصيبة دي !
عاد إلى ذاكرة أسيف تلك اللحظات الموجعة و الحزينة - والتي لم تكن بعيدة عنها - حينما فقدت والدها الحبيب ..
نفس الحشد ، نفس الأصوات المواسية ، نفس الوجوه العابسة ، مع اختلاف المشهد .. فمن تعاني الآن هي أغلى ما تبقى لديها ، هي والدتها ونبض فؤادها ...
تراقصت العبرات في عينيها ، وتعالت شهقاتها مع تذكرها لمشهد وداع أبيها ..
حاولت الافلات منهن للوصول إلى أمها والمساعدة في انقاذها ، لكنها لم تنجح ، فأياديهن كانت محكمة حولها.
واصلت صراخها مرددة ببكاء حارق :
-ماما ، سمعاني ، سيبوني ، عاوزة أنقذها ، مـــاما ، أنا هنا !
أشفق الجميع على حالها ، فحياة أمها على المحك ، والكل يتسابق على انقاذها ..
وصـــــل منذر إلى المدخل ، وبدأ في إختراق الجمع المرابط أمامه ليرى بوضوح ما يحدث ..
أثار حواسه الصراخ المفجوع الصادر من الداخل ، وبحث بعينين مترقبتين عن صاحبته.
تمكن من بلوغ المقدمة ، وأصبح قاب قوسين وأدنى من رؤية السيدة الملاقاة أسفل الأخشاب ..
مال بجسده للجانب ليتفادى قطعة أثاث يتناقلها الرجال فيما بينهم ليخرجوها فيفسحوا المجال للمرور..
سقطت أنظاره تلقائياً على ساق مكشوفة ترتعش بحركات عصبية متتالية ، فانتفض قلبه بخوف ..
صرخة أخـــرى مكلومة أخرجتها أسيف من صدرها صائحة بهلع أكبر وجسد أمها المتهالك يتكشف من أسفل الحطام :
-ماما ، مـــــاما !
رفع منذر عيناه نحو صاحبة الصراخ ، فتجمدت نظراته عليها ، واتسعت حدقتيه في ذهـــــــول عجيب . كما انفرجت شفتاه بصدمة أكبر ..
لقد كانت هي .. نعم لم يكن لينسى ذلك الوجه البائس للحظة
كان هذا من الناحية الظاهرية ، لكنها في قرارة نفسها أرادت أن توصل رسالة شديدة اللهجة لدياب لكي لا يتدخل مجدداً في أمور حياتها .. هي ليست ضعيفة لتستعين بالغير للدفاع عنها أو حمايتها واستعادة حقها المسلوب ، فهي كفيلة بفعل هذا بمفردها وبكفاءة ..
استعدت للذهاب إلى منزلهم القريب من بناية عائلتها ، وعمدت إلى إرتداء أبهى ما تمتلكه لتبدو أنيقة غير عابئة بالمال أو غيره ..
رأتها والدتها قبل أن تخرج فهتفت بسعادة :
-ربنا يكرمك يا بسمة ويصلح حالك ويحبب فيكي خلقه !
التفتت برأسها نصف التفاتة لترد بجمود :
-متشكرين على الدعوة !
أضافت عواطف مشجعة إياها على بذل الجهد :
-ارفعي راسنا يا حبيبتي ، شرفينا عند الجماعة !
ضاقت نظرات بسمة ، وصارتا أكثر حدة ، ثم هتفت مستنكرة توصيتها تلك :
-هي أول مرة أدي درس ، جرى ايه ؟!
رفعت والدتها كفها أمام وجهها قائلة بحذر :
-خلاص ، مش هانشد على بعض ، اتوكلي على الله وشوفي حالك
تمتمت بسمة بخفوت وهي تلج للخــــارج :
-يكون أحسن بردك !
تنهدت عواطف بعدها بعنق ، واتجهت للمطبخ لتحضر أدوات التنظيف لترتيب المنزل وتنظفه ..
.في نفس الوقت بالداخل ،
وضعت نيرمين يدها على جبهة رضيعتها ( رنا ) فوجدتها ملتهبة للغاية.
جذع قلبها خوفاً عليها ، وتحسست باقي جسدها الصغير لتتأكد من ظنونها ..
كانت الحرارة تبعثت منها بطريقة مقلقة للغاية ، فأسرعت بلفها بالغطاء الخاص بها ، وحملتها بين ذراعيها ، ثم هتفت بنبرة خائفة :
-ماما ، الحقيني !
ركضت إلى خـــارج الغرفة ضامة إياها إلى صدرها ومحنية عليها برأسها تقبلها بتلهف ..
أقبلت عليها عواطف متساءلة بتوجس :
-في ايه يا نيرمين ؟
أجابتها نيرمين بفزع :
-البت سخنة أوي ، وأنا مش عارفة أعمل ايه
هتفت عواطف بتلهف وهي تدنو منها :
-وريني كده
ثم وضعت يدها على جبينها لتتحسسه ، واتسعت حدقتيها مصدومة حينما شعرت بتلك السخونية المنبعثة منها ، فهتفت بهلع هي الأخرى :
-يا نصيبتي ، دي مولعة على الأخر !!!!
فزعت نيرمين أكثر ، وتساءلت بخوف :
-طب والعمل ؟ أنا اديتها مخفض بس مش جايب نتيجة معاها
رددت والدتها بجدية وهي تشير بيدها :
-احنا نطلع بيها دلوقتي على الوحدة !
وافقتها نيرمين الرأي قائلة :
-أنا بأقول كده بردك ، الدكاترة يشوفوها ويكشفوا عليها ، ويعرفوا مالها !
حركت عواطف رأسها بإيماءة قوية وهي تضيف بصوت آمر :
-ايوه ، البسي عبايتك بسرعة وأنا هادخل أحط العباية والطرحة عليا وأحصلك !
استدارت نيرمين بظهرها مرددة بتلهف :
-ماشي
لم تصدق ولاء أذنيها حينما أخبرتها أمها بما فعلته مع الحاج مهدي وما أجبرته على فعله من أي مصلحة ابنتها ..
ارتفع حاجبها للأعلى في حماس كبير ، وهتفت مندهشة وقد تهللت أساريرها :
-بجد يا ماما ؟ قولتي لأبوه مهدي ؟!
أجابتها شادية بثقة وهي تبتسم لها بغطرسة :
-طبعاً ، هو أنا رايحة أهزر معاه !
سـألتها ولاء بتلهف وقد تمكن الفضول منها :
-وهو قالك ايه ؟
تنهدت شادية ببطء ، ونظرت إلى طلاء أظافرها بتفاخر ، ثم أجابتها بتريث :
-هايجيب ابنه وهايعمل الصح !
زادت ابتسامتها إشراقاً ، فقد أوشكت على تحقيق خطوة هامة في حياتها ، لكن سريعاً ما تلاشت تلك البسمة وحل بديلاً عنها القلق والوجوم وهي تردد بتلعثم :
-بس .. بس دياب آآ...
تجمدت تعابير وجـــه شادية للغاية ، وانعقد ما بين حاجبيها بوضوح ، ثم قاطعتها قائلة بجدية متحدية :
-دياب أخره معاكي يرفع قضية ضم لابنه لو عرف بجوازك ، ومش هايعرف ياخده أصلاً ، لأني هاقف قصاده ، وفي الأخر الحضانة هاتروح ليا ، يعني القانون في صفنا يا ولاء !
نظرت ولاء لأمها بإندهاش ، فلم تتوقع أن تحسب الأمور من منظور قانوني مختلف كان غائباً عنها ..
عاتبت نفسها على تفكيرها محدود الأفق مرددة :
-إزاي مافكرتش في الحكاية دي
رمقتها والدتها بنظرات مستخفة وهي تجيبها بإهانة :
-عشانك عبيطة ، باصة تحت رجلك وبس
زمت ابنتها شفتيها ، وزفرت بضيق ، فرغم كل شيء أمها محقة ، هي دوماً تنظر للأمور من الناحية المادية فقد ، ولا تضع مخططات بعيدة المدى بما يخدمها في المستقبل ..
أضاف شادية قائلة بمكر :
-لازم تفكري كويس وتحسبيها صح وتستفيدي من الكل !
-أها ..
ثم تابعت بخبث لئيم وقد برقت عيناها بوميض شيطاني :
-طول ما يحيى معانا انتي هاتقدري تاخدي اللي عاوزاه من دياب ، وفي نفس الوقت هاتضمني فلوس وأملاك مازن في جيبك وخصوصاً لما تجيبي عيل منه !
كزت ولاء على أسنانها مرددة بغيظ :
-ده أنا كنت غبية أوي ، خوفي من دياب عاميني عن حاجات كتير !
لوت شادية ثغرها بإبتسامة عابثة وهي تضيف :
-طبعاً ، اللي برا الحكاية غير اللي جواها !
احتضنت ولاء أمها بقوة ، وشكرتها ممتنة لذكائها ودهائها :
-ربنا يخليكي ليا يا ماما ، دايما في ضهري ومسنداني !
ربتت شادية على ظهرت ابنتها برفق مرددة بجدية :
-المهم انتي تركزي الأيام الجاية وتثبتي !
ثم أبعدتها عنها لتحدق مباشرة في عينيها ، وأضافت محذرة :
-اوعي تباني ضعيفة أو مهزوزة قصادهم ! فاهمة !
هزت رأسها بالإيجاب وهي تقول :
-حاضر ، هاعمل كل اللي تقوليلي عليه بالحرف !
استقبلت الحاجة جليلة بسمة التي حضرت إليها بترحاب كبير ..
مسحت على ظهرها بنعومة مرددة بنبرة سعيدة ومهللة :
-يا مرحب بالأبلة ، نورتي بيتنا يا حبيبتي
ابتسمت لها بسمة بتصنع ، وولجت إلى الداخل وهي تجوب المكان من حولها بنظرات سريعة وعامة ..
مجيئها إلى هذا المنزل كان تحت ضغط كبير ، لكنها مضطرة لهذا لغرض في نفسها ..
ربتت جليلة على ظهرها وهي تتابع بحماس :
-تعالي يا بنتي أوضة المذاكرة من هناك ، هما غاوين يذاكروا في السفرة على التربيذة ، واحنا بنسيبهالهم
ردت عليها بسمة بجدية :
-اوكي ، بس أنا هادي كل واحد لوحده ، المنهج مختلف عن بعض !
اتسعت ابتسامة جليلة ، ورحبت بالأمر قائلة :
-أه وماله ، الصح اعمليه ، وأنا معاكي فيه !
تساءلت بسمة بإهتمام :
-شكراً ، بس السفرة مقفولة ولا لأ... ؟!
أجابتها جليلة بنبرة عادية وهي تشير بذراعها :
-هو محدش بيقعد فيها إلا ساعة الغدا ، ولو في ضيوف ممكن تقعدي في أوضة من أوض العيال
-طيب
وفجـــأة صاحت جليلة عالياً وهي محدقة أمامها :
-بت يا أروى ، تعالي الأبلة بتاعتك جت ، ونادي يحيى خليه يجي يسلم عليها !
ثم التفتت برأسها نحو بسمة التي كانت مصدومة من تصرفاتها ، وتابعت قائلة بأريحية :
-إن شاء الله هاتتبسطي معانا ، ده زي بيتك !
مطت بسمة فمها لترد بإقتضاب :
-إن شاء الله
سألتها جليلة وهي تبتسم لها ابتسامة عريضة :
-ها تحبي تشربي ايه ؟ ولا أقولك نجيب أكل الأول ؟
هزت بسمة كلاً من يدها ورأسها نافية وهي تهتف معترضة بشدة على ما قالته :
-لالالا .. أنا جاية أشتغل وبس ، مش عاوزة حاجة !
استغربت جليلة من ردة فعلها المبالغة قائلة بعتاب خفيف :
-عيب عليكي ، ده احنا بيت كرم ، ولا عاوزاني أزعل
ردت عليها بسمة بإصرار :
-لأ ، شكراً ، أنا واكلة وشاربة كويس !
يئست جليلة من إقناعها بتناول الطعام قبل الشروع في درسها ، وهتفت متساءلة بحذر :
-طيب ، أعملك شوية شاي حلوين ؟ ها ايه رأيك ؟
ردت عليها على مضض مستسلمة لعروضها الملحة :
-ماشي !
حافظت جليلة على ابتسامتها المرحبة وتابعت مشجعة إياها على التحرك :
-طيب يا حبيبتي ، اتفضلي .. اتفضلي
لم تتمكن بسمة من رؤية ديـــاب رغم محاولتها اختلاس النظرات ، فظنت أنه ربما يكون غير متواجد بالمنزل.
نفضت مؤقتاً فكرة البحث عنه ، واتجهت نحو غرفة الطعام لتبدأ مهمتها في الاستذكار مع أبناء عائلة حرب ...
وبخ الحاج مهدي ابنه مـــــازن بشدة لخروجه عن المألوف والمتبع وزواجه بطليقة ديـــاب سراً .. وظل يكيل له بالكلمات اللاذعة والإهانات الموجعة ..
اغتاظ مازن من تحامل والده عليه ، وهتف محتجاً وقد اكفهرت قسماته :
-جرى ايه يا حاج مهدي ، هو أنا أذنبت يعني ؟ انا راجل وقادر أتجوز
صاح به مهدي بغضب :
-ايوه بس في النور مش من ورانا كلنا
رد عليه غير مكترث :
-اللي حصل بقى !
استشاط مهدي غضباً من برود ابنه المستفز ، وعدم اهتمامه بتبعات أفعاله التي دوماً تزج به في المصائب.
هـــدر به بصوت محتقن :
-تصدق انت معندكش دم !
رد عليه مازن بنبرة جامدة :
-انت مكبر الموضوع ليه يا حاج ، عادي يعني ، واحدة زي أي واحدة !
انفجر فيه مهدي بصوت جهوري متشنج :
-لأ مش زيهم ، ده كفاية أمها الفقر !
نفخ مازن مردداً بنفاذ صبر وهو يشيح بذراعه في الهواء :
-يووه !!!
أضـــاف والده قائلاً بصرامة :
-لازم تتصرف وتصلح الموضوع ده على طول ، ومن غير فضايح
ضيق مازن نظراته نحوه ، ورد عليه بفتور :
-مش فاهم يعني !
أوضح له مقصده بجدية :
-هاتجوزها رسمي ، ومافيش حد هايخد خبر بده !
تقوس فم مازن بسخرية قائلاً بعدم مبالاة :
-قصدك المحروس دياب
رد عليه مهدي بصوت متصلب وقد اشتعلت نظراته :
-أه هو ، أنا مش عاوز عداوة معاه ولا مع عيلته ، أنا مصدقت إننا خدنا هدنة واتصالحنا
انزعج مـــازن من أسلوب والده المكبر للأمور ، فأردف قائلاً ببرود متعمداً الإساءة إليهم :
-يا حاج انت عاملهم قيمة ، وهما مايجوش جزم في رجلنا !
لكزه أباه في كتفه بقسوة محذراً :
-خليك إنت كده بتفكر بمخك التخين ده لحد ما تخرب ، يا أهبل بص لقدام ، مصالحنا كلها معاهم !
رد عليه غير مكترث وقد حل الوجوم عليه :
-بناقص منها إن كانت من وشهم !
ثم تابع قائلاً بشراسة :
-ده بدل ما ناخد بتار مجد أخويا المحبوس ده !
رد عليه والده بضيق :
-بكرة اخوك يخرج من حبسه ، فمش لازم تحصله إنت كمان !
صمت مازن وظل محدقاً أمامه في الفراغ بنظرات غامضة يفكر في شيء ما ..
راقبه والده عن كثب ، ثم دار حوله ليقف قبالته ، وسأله بجدية :
-ها ، هاتعمل ايه ؟
رد بإمتعاض :
-هاشوف
صاح به أباه بجدية وهو يشير بسبابته محذراً إياه من التهاون في المسألة :
-انجز في الليلة دي ، مش عاوز رطرطة كلام فيها ! سامعني !
ضغط مازن على شفتيه قائلاً على مضض :
-طيب !
حمدت أسيف الله في نفسها أن المسافة من الفندق للمنطقة الشعبية لم تكن بعيدة .. وبالتالي لم تحتاج كلتاهما لإستئجار سيارة خاصة لتوصلهما إليها ..
استمرت هي في دفع مقعد والدتها عبر الطرقات الجانبية حتى وصلت إلى المكان المنشود ..
ومع أول خطوات وطأتها بداخله تسارعت دقات قلبها ، وزادت الحماسة بداخلها ..
حاولت قدر المستطاع أن تختطف نظرات شمولية عن المكان من حولها لتحفرها في ذاكرتها ، فربما لن تتكرر الزيارة مرة أخــرى ..
زادت حماستها ، وتشجعت لسؤال والدتها بتلهف :
-هو ده المكان صح يا ماما ؟
على عكسها تماماً كانت حنان تعيش في أجواء قلقة ممزوجة بالتوتر.
خفق قلبها برهبة وهي تجوب بأنظارها المكان لترى انعكاس الماضي على جدران تلك البنايات القديمة ، واضطربت أنفاسها بدرجة ملحوظة مقاومة تدفق سيل الذكريات القاسية ..
نعم فقد عانت الأمرين مع زوجها في صراعهما ضد زوجة الحاج خورشيد ، تلك السيدة التي كانت تعتبر التجسيد الحقيقي لمصطلح ( جبروت امرأة )
أعادت أسيف تكرار سؤالها حينما تجاهلت أمها الرد عليها قائلة :
-سمعاني يا ماما ، ده المكان اللي عايشة فيه عمتي ؟
أجابتها حنان بحذر وهي تبتلع ريقها :
-ايوه !
ابتسمت عفوياً ، واستمتعت بإهتمام بالأجواء من حولها ..
تساءلت مجدداً وهي تسلط أنظارها على المحال الشعبية المتجاورة :
-أومال هي ساكنة فين ؟
احتارت حنان في تحديد البناية التي كانت تقطن بها عزيزة زوجة الحاج خورشيد ، فقد مر زمن منذ أن حضرت إلى هنا ..
بدت جميع البنايات متشابهة بدرجة كبيرة ، فزادت حيرتها أكثر وتخبطت أفكارها.
هزت كتفيها قائلة بإستياء بعد أن عجزت عن تحديد وجهتها :
-مش فاكرة يا بنتي
تفهمت أسيف صعوبة الأمر على والدتها ، وأردفت قائلة برقة :
-مش مشكلة يا ماما ، اللي يسأل مايتوهش ، هي اسمها عواطف خورشيد ، أكيد في حد هايعرفها هنا ، صح
ردت عليها حنان بفتور :
-جايز !
وقعت عيناي أسيف على محل الجزارة ، فظنت أنه ربما يتمكن من مساعدتهما في الوصول إليها ، فعلى الأغلب هو يعرف معظم القاطنين بالمكان بسبب تعاملهم معه وشراءهم للحم من عنده ..
أشارت بعينيها نحوه بعد أن مالت على والدتها مرددة بجدية :
-أنا هاروح أسأل الجزار اللي هناك ده ، ممكن يكون عارف بيتها
هتفت حنان قائلة بتأكيد :
-احتمال كبير !
أكملت أسيف دفعها لمقعد والدتها المتحرك حتى وقفت بها عند الرصيف ، ثم تركتها واتجهت نحو ذلك الرجل الجالس أمام محله ..
أشاحت بيدها ذلك الذباب المتطاير أمام وجهها ، وابتسمت بود وهي تسأله بنبرة حرجة :
-لو سمحت !
انتبه لها الجزار الذي كان ينفث دخــان أرجيلته بشراهة ، ورمقها بنظرات مطولة جريئة أشعرتها بالحرج منه .
تابع تأمله لها وهو يرد بصوت متحشرج :
-خير يا أبلة ؟
ضغطت على شفتيها لتقول بإرتباك قليل وبأدب واضح :
-حضرتك متعرفش بيت الست عواطف خورشيد ؟
تجهمت تعابير وجهه بدرجة ملحوظة ، وأخفض أرجيلته للأسفل ليسندها إلى جواره ..
ثم نفخ بضجر ، وبدا النفور واضحاً على نظراته وفي نبرته وهو يجيبها بخشونة :
-أعوذو بالله من العيلة الفقر دي !
انزعجت من أسلوبه الفظ والوقح في الإساءة إلى عمتها، وعفوياً كورت قبضة يدها وهي تهتف بإمتعاض :
-أنا بسألك عن بيت عمتي ، عارف ولا لأ ؟
رد عليها بتهكم أثار سخطها للغاية :
-هي عمتك ، اتلم المتعوس على خايب الرجا !
اصطبغ وجهها بحمرة قوية من إهانته الوقحة ، وضغطت على شفتيها محاولة كتم غيظها منه ..
هي لم ترغب في إثارة القلق ، خاصة في وجود والدتها ، حتى لا تفسد الزيارة وتُلتغى قبل أن تبدأ.
عمدت إلى الحفاظ على هدوء أعصابها وهي تعيد سؤاله بقوة زائفة :
-عارف بيتها ولا لأ ؟
أجابها بتأفف وهو يشير بإصبعيه نحو بناية ما :
-البيت الكحيان اللي هناك ده ، هتلاقيهم ساكنين فيه !
التفتت أسيف إلى حيث أشـــار فتجمدت نظراتها على تلك البناية القديمة للحظات .
خفق قلبها بتوتر رهيب ، وإنتابتها أحاسيس كثيرة متحرقة فيها شوقاً لمقابلة فرد جديد اكتشفت وجوده مؤخراً من عائلتها ..
أفاقت من جمودها المؤقت ، وعاودت النظر إلى الجزار بإشمئزاز ، ثم تركته وانصرفت دون حتى أن تشكره على تقديمه للعون ..
رمقها هو بنظرات مستخفة ، وأمسك بأرجيلته ليدخنها بإنزعاج من تجاهلها له ، وتمتم بغيظ من بين أسنانه لاعناً إياها :
-هي هاتجيبه من برا يعني ، كلهم عيلة ..... في قلب بعض !!!
رجعت أسيف عند والدتها وهي ترسم إبتسامة مصطنعة على وجهها ، ثم استطردت حديثها مرددة بهدوء :
-خلاص يا ماما عرفت مكان البيت ، هو اللي هناك ده !
حركت حنان مقعدها للأمام ، وتبعتها أسيف بخطوات متمهلة لكن روحها كانت في حالة حماسة رهيبة ..
بعد عدة لحظات كانت كلتاهما تقف أمام مدخل البناية.
بالطبع لم يخلو المكان من هؤلاء الصغار الذين يتراشقون الكرة وهم يلعبون بعنف وصراخ لعل أحدهم يحقق الفوز في مباراتهم الحيوية الهامة ..
ابتسمت لهم أسيف بود ، ثم استدارت بأنظارها في اتجاه المدخل.
حدقت فيه بنظرات مطولة مدققة في تفاصيل المكان ، فكل شيء كان يشير إلى قدمه ؛ الطلاء الباهت ، الألوان المطفية ، الدرج الخشبي العتيق ، والكراكيب المتراصة على الجانبين ..
نعم تكاد تشم رائحة عبق الزمن وأن تطأ بقدمين المكان .
اختلف إحساس حنان كلياً عن ابنتها ، هي زارت تلك البناية من قبل ، منذ سنوات طويلة مضت ..
مرت الأيام وتكرر المشهد من جديد
فقد كانت جالسة على مقعدها المتحرك عند هذا المدخل ، وتركها زوجها ريـــاض بمفردها هنا ليصعد إلى زوجة أبيه .. تلك القاسية الجاحدة التي لا تعرف أي شفقة ..
انتاب قلبها الرعب حينما سمعت صراخهما المحتد ، وفزعت نظراتها وهي تراه مقبلاً عليها حاسماً أمره بعدم العودة إلى هنا مرة أخرى ..
ازدردت ريقها بخوف ، وتمنت في قرارة نفسها ألا يتكرر الأمر مجدداً مع ابنتها ، فهي لا تزال قعيدة عاجزة حتى عن الدفاع عن نفسها ، فماذا عن ابنتها ؟
أخفضت أسيف نظراتها لتحدق في والدتها الشاردة ، وظنت أنها تفكر في طريقة للصعود للأعلى بمقعدها هذا ، والاثنتان بمفردهما، وبالتالي لن تتحمل هي عبء دفعها ..
عضت على شفتها بحرج ، وتنهدت بعمق ، ثم مالت على أمها لتهمس لها :
-أنا هاطلع أسأل حد من الجيران عن بيتهم ، وأعرف هما ساكنين في أنهو دور وأنزلك يا ماما
هزت حنان رأسها إيجاباً وهي تقول بحذر :
-طيب ، بس خلي بالك من نفسك
-حاضر
قالتها أسيف وهي تتجه نحو الدرابزون لتصعد بتريث عليه.
تعلقت أنظار حنان بإبنتها ، وخفق قلبها بدقات متتالية ..
دعت الله في نفسها بتيسير الأمور عليها ..
وصلت هي بعد لحظات إلى الطابق الأول ، وسلطت أنظارها على أول باب وقعت عيناها عليه ..
ابتلعت ريقها بتوتر بادي عليها ، واستجمعت شجاعتها لتقرع الجرس ..
عاودت النظر للأسفل لتطمئن على والدتها القابعة عند المدخل ..
فتحت إحدى الجارات الباب ، وتفرست في أسيف بنظرات حادة مدققة ، وسألتها بجمود :
-ايوه ؟ عاوزة مين يا شابة ؟
استدارت أسيف برأسها نحوها ، ورسمت ابتسامة مهذبة على شفتيها ساءلة إياها بحرج :
-أومال الست عواطف خورشيد ساكنة في أنهو دور ؟
أجابتها الجارة بجدية وهي تشير بعينيها للأعلى :
-فوقينا بدورين ، الباب اللي زي ده
ضغطت أسيف على شفتيها – مع احتفاظها بإبتسامتها الرقيقة – مرددة بإمتنان :
-شكراً
نزلت مسرعة على الدرج لتعود إلى والدتها ، ثم وقفت قبالتها ، وهتفت بصوت شبه لاهث ومتحمس :
-خلاص عرفت البيت يا ماما ، أنا طالعة عندها ، وهاعرفها إنك تحت !
مـــدت حنان يدها إلى ابنتها ، وأمسكت بكفها ، ثم رمقتها بنظرات جادة قبل أن تنطق محذرة :
-متتأخريش فوق ، انزلي على طول ، ماشي يا أسيف
أومــأت ابنتها برأسها مرددة بطاعة :
-حاضر يا ماما ، اطمني !
أولتها ظهرها ، واتجهت للدرج لتصعد إلى عمتها والحماس الممزوج بالتلهف والفضول يقتادها للأعلى ..
ضمت حنان كفي يدها معاً ، وضغطت عليهما بقلق واضح رغم تعابير وجهها الجامدة ..
هي تخشى ألا تصير المقابلة على ما يرام .. وتصدم ابنتها في عمتها الوحيدة.
عاتبت نفسها على تركها بمفردها لتقوم بهذا الأمر دون وجودها لدعمها.
أخذت تدعو الله في نفسها أن يمر اللقاء على الخير وتقابل بحفاوة وترحيب ..
أسرعت أسيف في خطواتها لتصل إلى الطابق المنشـــود ..
كانت متوترة بصورة بائنة ، ولما لا ؟ فتلك هي المرة الأولى التي سترى فيها عمتها الوحيدة ..
قبضت بأصابعها على الدرابزون وهي تكمل صعودها ..
شعرت أن حلقها قد جف من فرط التوتر أو الحماس ، لا تعرف أيهما تحديداً هو المتحكم بها الآن .. لكنها متشوقة لرؤيتها ..
وقفت أمام باب منزلها ، وتلاحقت أنفاسها بصورة سريعة ..
سحبت نفساً عميقاً وحبسته لثانية داخل صدرها لتضبط انفعالاتها ..
تمتمت لنفسها بتشجيع :
-اهدي يا أسيف ، واضربي الجرس ، إن شاء الله خير
وبالفعل مدت يدها لتقرع الجرس ، وانتظرت بترقب فتح الباب لها ..
كورت قبضتي يدها ورمشت بعينيها عدة مرات ..
لا جديد يحدث ، الوضـــع كما هو .. الصمت هو سيد الموقف ..
حدثت نفسها مبررة :
-يمكن ماسمعتش الجرس !
قرعت الجرس مجدداً ، وانتظرت بشغف أن تفتح عمتها الباب وتستقبلها ..
طال انتظارها أمامه ..
تملكها الإحباط سريعاً ، وتشكلت علامات اليأس على محياها ..
خبا بريق عينيها ، وتهدل كتفيها بضيق ..
عللت لنفسها عدم الرد عليها :
-جايز .. جايز محدش موجود !
زفرت بعمق ، واستدارت لتعود من حيث أتت ولكن بخطوات متخاذلة وبطيئة نسبياً وهي تتجه للدرج ..
في نفس التوقيت ، وصلت عواطف ومعها ابنتها نيرمين ورضيعتها إلى مدخل المنطقة الشعبية بعد أن فحصها الطبيب وأعطاها الدواء المناسب لحالتها ..
تهادت عواطف في خطواتها متمتمة بتعب :
-كويس إنها جت على أد كده ، إحمدي ربنا
ردت عليها بتنهيدة مطولة :
-الحمدلله ، البت لسه بتسنن وزورها مقفول !
أضافت عواطف قائلة بصوت هاديء :
-خدي من ده كتير ، شوية تسخن وشوية حركتها تتقل ، يعني من هنا لحد ما سنانها كلها تطلع
ردت عليها نيرمين بجدية :
-ربنا يسهل ، أنا هاديها الدوا في مواعيده
أكدت عليها عواطف أهمية ذلك الأمر محذرة :
-اه لازم ، وربنا الشافي
-يا رب
ثم أكملتا سيرهما نحو البناية القريبة ..
في نفس ذات الآن ،
بقيت أنظــــار حنان المتوجسة معلقة بالدرج ، وشفتاها تتمتمان بكلمات خافتة للغاية ومبهمة.
الفضول يقتلها لمعرفة نتائج المقابلة الأولى ..
وفجـــأة التفتت برأسها للخلف على صوت صراخ أحد الصغار بحدة :
-شوط يا عم ، مستني إيه !
تجمدت عيناها على تلك الكرة التي قذفها الأخر بكل ما أوتي من قوة فتحولت لقذيفة موجهة ارتطمت بعنف بألواح الخشب وكراكيب الأثاث المتواجدة على مقربة منها ..
اختل توازن تلك الأشياء بفعل الضربة القوية ، وبدأت في التهاوي ، ولكن عليها ..
شخصت أبصارها بهلع كبير حينما رأت تلك الكومة الهائلة تتساقط عليها ، فرفعت كفيها أمام وجهها لتحميه ، وصدرت عنها – عفوياً – صرخــــة هائلة ومخيفة ...
قفز قلب أسيف برعب جلي في قدميها على إثر ذلك الصوت المألوف الذي تعرفه جيداً.
تجمدت في مكانها لوهلة محاولة إستيعاب تلك الصدمة المباغتة.
كما اتسعت حدقتيها بفزع وهي تستمع إلى صوت إرتطام متتالي ومدوي ..
صاحت لا إرادياً بفزع :
-ماما !
أفاقت من حالة الشلل المؤقتة التي أصابتها ، وهبطت مسرعة على الدرجة محاولة الوصول إلى والدتها ..
رأى الصغار ما حدث نتيجة لعبهم الطائش ، وصاحوا بخوف كبير بعد سقوط الألواح الخشبية والأثاث على تلك القعيدة محدثين فوضى بالمكان ..
تحول المدخل إلى حالة من الهرج والمرج ، وواصل الصغار صياحهم المذعور ..
تجمع بعض الجيران والمارة عند المدخل لتفقد الأمر ..
وصلت أسيف إلى مقدمة الدرج فرأت تلك الكومة الهائلة تغطي أمها.
وضعت يديها على فمها لتكتم شهقة على وشك الخروج منها.
وجحظت عيناها أكثر وهي تلمح جزء من مقعد أمها المتحرك أسفل الأخشاب ..
زاد خفقان قلبها ، وتلاحقت أنفاسها بصورة مخيفة ، ثم أخرجت صرخة هائلة من صدرها :
-ماما .. مامـــــــــــــــــــــا !
ركضت نحوها محاولة إزاحة تلك الأثقال عنها ، لكنها فشلت بمفردها ، وبقيت عالقة في مكانها ، عاجزة عن الوصول إليها ..
وكأنها أصيب بحالة هيسترية فواصلت صراخها الهلع والمرعب ليزداد على إثره تجمع الجيران وأهالي المنطقة ..
لمحت عواطف من على بعد تلك الحشود التي تقف على مقربة من بنايتهم وتسد المدخل ، فتساءلت بإستغراب :
-هو الناس ملمومة هناك كده ليه ؟
ردت عليها نيرمين بحيرة وهي تهدهد صغيرتها :
-مش عارفة !
ركض أحدهم في اتجاههما ، فسألته عواطف بسجية :
-في ايه اللي بيحصل ؟
أجابها الرجل بصوت لاهث وقلق :
-بيقولوا العفش اللي كان في حوش العمارة وقع على واحدة ست !
ارتعد قلب نيرمين ، وشهقت مصدومة :
-يا ساتر يا رب !
بينما غمغمت عواطف بفزع وقد اضطربت نبضات قلبها :
-الطف بينا يا كريم !
وقف منذر على عتبة باب وكالته يوقع على أحد أوراق توصيل إحدى الطلبيات العاجلة لأحد العملاء. ثم أعطى الإيصال إلى عامل لديه ، ووجه حديث للسائق الواقف قبالته مردداً بصوت آمر :
-توصلهم عند المعرض على طول ، هما مستنين ، مش عاوز تأخير ، وخد بالك ، البضاعة فرز أول !
هز السائق رأسه بالإيجاب :
-تمام يا ريسنا !
تابع منذر أوامره مردداً بصوت آجش :
-وتاخد منهم إيصال الاستلام ، مفهوم !
-اطمن يا ريس !
هتف بتلك العبارة السائق ثم اتجه لشاحنته لينطلق بها ..
لاحظ منذر حالة التوتر والإرتباك الحادثة في المنطقة ، فنظر بغرابة في أوجه الجميع الذين بدوا وكأنهم يسيرون نحو وجهة معينة ..
تحرك عدة خطوات للأمام ، ودقق النظر أمامه ، ثم وضع كفي يده على منتصف خصره ، وتساءل بفضول مع نفسه :
-هو في ايه ؟
انتبه لصوت صراخ متتابع ، وصياحات عالية ، فزاد فضوله أكثر لمعرفة السبب ..
ركض ناحيته أحد العمال التابعين للوكالة ، وهلل قائلاً بخوف :
-ريس منذر ، يا ريس منذر
سلط منذر أنظاره عليه ، وسأله بجمود وقد قست تعابير وجهه :
-في ايه ؟
أجابه العامل بصوت لاهث ومتقطع وهو يجاهد لإلتقاط أنفاسه :
-عاوزين نطلب يا باشا الاسعاف ولا البوليس يجوا يغتونا !
ضاقت نظرات منذر أكثر ، وسأله بجدية :
-ليه ؟ في ايه ؟
انحنى العامل للأمام ليلتقط أنفاسه ، وأجابه بصعوبة مشيراً بيده :
-بيقولوا في عفش وقع على ولية كبيرة عند بيت خورشيد !
تبدلت تعابير وجه منذر للقلق ، وردد بإندهاش وقد إرتخى أحد كفيه عن خصره :
-عفش ! وحصل للست ايه ؟
رد عليه العامل بصوت مرتبك :
-مش عارفين إن كانت عايشة ولا ميتة ، الجدعان هناك بيشيلوا الخشب من عليها !
أشار منذر بإصبعه للخلف مردداً بجدية :
-طب خش اطلبهم من جوا ، وأنا هاروح أشوف بنفسي !
حرك العامل رأسه بالإيجاب قائلاً :
-ماشي يا ريسنا
مرر منذر يده على رأسه ، وهتف لنفسه بصوت جاد لكنه منزعج :
-ربنا يعديها على خير !
ثم ســــار بخطوات متمهلة نحو البناية ليتابع هو الأخر ما يدور ..
تسابق الرجال في حمل الكتل الخشبية لإنقاذ تلك السيدة ..
وبالطبع صراخ أسيف جعل جميع الجيران يلتفون حولها – وخاصة الجارات – لمواستها والوقوف إلى جوارها ، ومنعها من التحرك ..
هتفت إحداهن بتفاؤل :
-إن شاء الله هيلحقوها
وأضافت أخرى بضجر محملة اللوم على أصحاب الأثاث :
-غلطانين انهم سايبن العفش كده من غير ما يربطوه ، ولا آآ...
قاطعتها ثالثة مرددة بجدية :
-مش وقته ، خلونا في المصيبة دي !
عاد إلى ذاكرة أسيف تلك اللحظات الموجعة و الحزينة - والتي لم تكن بعيدة عنها - حينما فقدت والدها الحبيب ..
نفس الحشد ، نفس الأصوات المواسية ، نفس الوجوه العابسة ، مع اختلاف المشهد .. فمن تعاني الآن هي أغلى ما تبقى لديها ، هي والدتها ونبض فؤادها ...
تراقصت العبرات في عينيها ، وتعالت شهقاتها مع تذكرها لمشهد وداع أبيها ..
حاولت الافلات منهن للوصول إلى أمها والمساعدة في انقاذها ، لكنها لم تنجح ، فأياديهن كانت محكمة حولها.
واصلت صراخها مرددة ببكاء حارق :
-ماما ، سمعاني ، سيبوني ، عاوزة أنقذها ، مـــاما ، أنا هنا !
أشفق الجميع على حالها ، فحياة أمها على المحك ، والكل يتسابق على انقاذها ..
وصـــــل منذر إلى المدخل ، وبدأ في إختراق الجمع المرابط أمامه ليرى بوضوح ما يحدث ..
أثار حواسه الصراخ المفجوع الصادر من الداخل ، وبحث بعينين مترقبتين عن صاحبته.
تمكن من بلوغ المقدمة ، وأصبح قاب قوسين وأدنى من رؤية السيدة الملاقاة أسفل الأخشاب ..
مال بجسده للجانب ليتفادى قطعة أثاث يتناقلها الرجال فيما بينهم ليخرجوها فيفسحوا المجال للمرور..
سقطت أنظاره تلقائياً على ساق مكشوفة ترتعش بحركات عصبية متتالية ، فانتفض قلبه بخوف ..
صرخة أخـــرى مكلومة أخرجتها أسيف من صدرها صائحة بهلع أكبر وجسد أمها المتهالك يتكشف من أسفل الحطام :
-ماما ، مـــــاما !
رفع منذر عيناه نحو صاحبة الصراخ ، فتجمدت نظراته عليها ، واتسعت حدقتيه في ذهـــــــول عجيب . كما انفرجت شفتاه بصدمة أكبر ..
لقد كانت هي .. نعم لم يكن لينسى ذلك الوجه البائس للحظة