رواية الدكان الفصل الثاني والاربعون42بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان
 الفصل الثاني والاربعون42
بقلم منال محمد سالم
بدت منزعجة من تجاوز ابنها للأعراف والتقاليد المتبعة في منطقتهم الشعبية ، وتصرفه بعقلانية قليلة مع قريبة عواطف.

ربما هي تتعاطف معها لكنها لن تسمح بحدوث شيء غير لائق.
أغلقت الباب بعد انصراف الجميع ، وســارت تفكر مليًا فيما رأته عيناها.
استمرت في حك ذقنها وهي تحدث نفسها بضجر :
-مايصحش أسكت عن اللي شوفته ده ، حتى لو نيته يساعدها !
هزت جليلة رأسها بإيماءة واضحة وهي تضيف مستنكرة :
-بردك دي مش أصول ، وهو المفروض يبقى عارف ده ، والناس ليها الظاهر!
ظلت هكذا لعدة دقائق تحاول اقناع نفسها أن صمتها عما صار يعني رضاؤها التام وهو ما لم يحدث.
هي لديها مخططات من أجله ، ولن تحيد عنها في الوقت الحالي ، ولن تدع أي شيء يعكر صفوها.
ظل حاملًا إياها طوال هبوطه على الدرج ، وهي بالطبع كانت في قمة خجلها منه. هو يبرع في استغلال الموقف ، وهي مضطرة لمواكبته رغمًا عنها.
لم تخلو بشرتها من تلك الحمرة الساخنة التي اكتست وجهها كليًا، وتحاشت قدر المستطاع التحديق به على الرغم من إحساسها بأن نظراته لم تفارقها.
أصاب حدسها الأنثوي في ذلك ، فمنذر واظب على مطالعتها بنظرات غريبة. نظرات حملت بين طياتها خوفًا من أن تلاقي تلك الهزيلة مصيرًا مشابهًا للمراهقة المتوفاة.
هي مصادفة علقت مع شخص يعلم جيدًا بنواياه الدنيئة .. ولكنها غير مدركة بعد لحقيقة الوضع. لذلك أخذ على نفسه العهد أن يمنعه عنها ، مهما كلفه الأمر.
لحقت بهما نيرمين وعيناها تطلقان شررًا متقدًا.
لو كان الحنق شخصًا لتجسد ببشاعته ليعكس ما تشعر به الآن.
لم تتوقف عن رمقها بنظرات احتقارية مشتعلة ، فتلك البائسة تعيسة الحظ تنعم بما حُرمت هي منه ، من أبسط الأحلام الوردية لأي فتاة مقبلة على الزواج ..
حرمت من زوج محب يدافع عنها ويحميها ، من شخص يخشى عليها من إصابتها بالسوء ، بل يفني عمره من أجلها هي فقط ..
فأسيف من وجهة نظرها تملك – رغم يتمها – الكثير والكثير. وهي لن تقف في وضع المشاهد الصامت تراقب اندلاع شرارة التجاذب بينهما.
خشيت نيرمين أن تعترف لنفسها بأنها تكن شيئًا لذلك الذي يجذبها إليه رغم جفاءه معها. بأن قلبها قد تحرك ونبض لأجله.
ربما هي مجرد أوهام في عقلها ، ليست واثقة من تفكيرها ، لكنها إن تركت العنان لمشاعرها ، وسمحت لها بالخروج من بوتقتها سيظهر الأمر واضحًا عليها.
تريثت فيما تفكر به .. ومع ذلك ستمنع غيرها من التطلع إليه.
بعد لحظات كان قد وصل بها إلى مدخل البناية ، وحينما اقترب من سيارته أنزلها على ساقيها.
اتكأت هي على كتف عمتها لتكمل المسافة القصيرة المتبقية سائرة بخطوات عرجاء.
فتح منذر الباب الخلفي لسيارته لتركب بسمة أولًا ، وانتصفت في جلستها بالمقعد لتشكل حاجزًا بين أختها وابنة خالها.
جلست إلى جوارها أسيف ، وفي الجانب الأخر نيرمين ، بينما جلست عواطف في المقعد الأمامي.
عدل هو من وضعية المرآة ليطالع من خلالها وجهها الحزين.
بقيت أنظاره عليها ، وكذلك ظلت أنظار نيرمين تراقبه عن كثب .
كانت دومًا تعقد تلك المقارنة المؤلمة ..
تمنت لو شعر بتلك الحرقة المتأججة في نفسها. أن تتعلق رغمًا عنك بمن لا يشعر بوجودك.
هي لم تنعم مطلقًا بنظرات كتلك ، ولم تحظَ بفرصة للتعبير عن مشاعرها تجاه طليقها. فقط البؤس والإهانة حتى في أبسط الأشياء.
نفضت عن عقلها ذلك التفكير المرهق ، ورسمت على ملامح وجهها تعابير جامدة.
فقبل أن تشرع في أي شيء عليها أن تتأكد أولًا مما يؤرقها..
أوقف السيارة عند المدخل تقريبًا ، فترجلت أسيف سريعًا منها لتهرب منه قبل أن يحاصرها بأفعاله التي تخجلها، وتحاملت على نفسها تلك الآلام الموجوعة لتلج للبناية.
لحقت بها بسمة ، ومن خلفهما كانت تسير عواطف بخطى متمهلة.
أطفأ منذر المحرك ، واستعد للنزول والدخول للمدخل للتأكد من وصولهن للأعلى ، لكن أسرعت نيرمين بإعتراض طريقه لتمنعه من تكرار الأمر ، وشكلت بجسدها حائطًا أمامه ، ثم ابتسمت هاتفة بنعومة مصطنعة:
-ربنا يخليك لينا يا سي منذر ، والله لولاك كنا بقينا في حوسة!
نظر لها بجمود وهو يرد بفتور :
-عادي يعني !
تابعت قائلة عن عمد :
-الحق يتقال مافيش زي شهامتك ولا جدعنتك ، وخصوصًا مع آآ..
توقفت عن اتمام عبارتها لتخفض نبرتها قائلة بقصد :
-مع الكل حتى لو كان قليل الأدب وناكر للجميل !
انعقد ما بين حاجبيه مرددًا بعبوس :
-نعم !!!
أشارت بكفها للخلف وهي توضح غموض عبارتها بتجهم خفيف :
-قصدي على القاسية اللي معدنهاش دم ، بنت خالي ، وشهامتك معاها مع إنها ماتستهلش!
التوى ثغرها بابتسامة تهكمية وهي تضيف بمكر :
-بس هي بردك زي أختك الصغيرة، إنت أكيد اتصرفت معاها على الأساس ده ، صح؟
هتف مشدوهًا وقد ارتفع حاجبه للأعلى بإستنكار جلي :
-أختي ؟!
ابتسمت ببلاهة وهي تكمل بخبث :
-اه ، ماهي لو مكانتش أختك مكونتش إنت تعبت نفسك عشانها وشلت همها معانا!
فهم منذر ما الذي ترمي إليه ، فانتصب في وقفته ، ورمقها بنظرات حادة هاتفًا ببرود :
-أها .. ما انتو كلكو أخواتي !
اتسعت حدقتاها إلى حد كبير عقب جملته المتعمدة تلك ، وتابع بجفاء :
-وخصوصًا إنتي !
انفرج ثغرها بصدمة أكبر ، وقبل أن تفيق منها ، استأنف حديثه بجمود مستفز :
-ويالا بقى عشان تلحقي أمك وأخواتك يا .. يا أختي !
رمقها بنظرات أخيرة جافة قبل أن يستدير بظهره ليركب سيارته ويقودها مبتعدًا عنها.
ظلت متسمرة في مكانها عدة لحظات محاولة استيعاب الموقف.
غمغمت مع نفسها بغيظ :
-أخته مين ! هو اللي هاعمله فيها هايطلع عليا ، والله ما يحصل أبدًا !!!
عاودت تكرار العبارة الأخيرة هاتفة بإستنكار:
-هـــــه ، بيقولي يالا ياختي ، أل أخته أل !
لاحقًا، دس في فمه الكثير من الطعام دفعة واحدة يلكوه بطريقة مقززة.
نظر له أباه بنفور مرددًا :
-بالراحة يا بني ، دي مش طريقة أكل !
رفع مجد أنظاره عن صحنه ليرد عليه بصوت متحشرج وبقايا الطعام تتقاذف من فمه:
-جرى ايه يا حاج ، معدتي نشفت من الزفت اللي كنت بأكله
نظر له مهدي شزرًا وهو يقول :
-مقولتش حاجة ، بس مش كده
عبس بوجهه أكثر قائلًا :
-طيب ! خلاص !
وضع مهدي كفه على الكف الأخــر محدقًا أمامه بشرود ، ثم تمتم مع نفسه بضجر:
-استرها يا رب في اللي جاي!
ضيق مجد نظراته نحوه ، ثم مسح يديه في المنشفة الموضوعة أمامه وهو يسأله بجمود:
-انت لسه شايل هم الولية شادية ؟
رد عليه بامتعاض:
-اه ، انت مش عارفها دي عقربة ، قرصتها والقبر
غرز مجد ظافر يده في أسنانه يسلكها ، وصاح بصوته الخشن :
-على نفسها مش عليا !!
حذره أباه قائلًا بغلظة :
-بأقولك ايه أنا مش عاوز مشاكل لا معاها ولا مع غيرها ، وكفاية إن الدور اتلم قبل ما يولع من تاني مع عيلة حرب
أغاظته كلماته الأخيرة ، فهب واقفًا من معقده ، ثم ضبط حزام بنطاله ليرد بتهكم ساخط:
-انتو لسه بتخافوا منهم ؟ دول هوا!
زم والده فمه هاتفًا بحدة وهو يشير بكفه :
-لا بنخاف ولا مابنخافش ، احنا بقينا حبايب وفينا بينا مصالح !
انعقد ما بين حاجبيه بإندهاش مريب ، وردد باستغراب :
-مصالح ، ده كلام جديد بقى !
هز أباه رأسه بإيماءة ظاهرة وهو يجيبه :
-ايوه ، ما انت غايب بقالك كتير!
تجشـــأ مجد قائلًا وهو يدنو منه :
-بالراحة كده عليا ، واحكيلي بالظبط على اللي فاتني كله!
قبلت بعرضه السخي بعد تفكير مرهق، وارتضت أن تبيع ابنتها مقابل ذلك المبلغ المادي الضخم، ولكنها أخفت عنها الأمر حتى تتماثل تمامًا للشفاء.
تنهدت بعمق ، ثم دنت من فراشها الطبي بغرفة العناية المركزة لتقف أمامها محدقة فيها بنظرات مطولة أسفة على حالها البائس.
كانت دومًا أداتها للحصول على مبتغاها من الأموال، واليوم هي تراها عاجزة عن الشعور بأنوثتها الكاملة.
ابتلعت شادية ريقها بتوتر، ثم مدت يدها لتمسح على ساق ابنتها الغائبة عن الوعي مرددة بخفوت حزين:
-سامحيني يا بنتي، كان لازم أوافق ، انتي مش عارفة الزفت أخوه ممكن يعمل فيكي ايه!
احتدت نظراتها ، ثم زفرت بحنق وهي تتابع:
-ده ابن حرام ومش هايسيبك لو حطك في دماغه ، وكده كده هتطلعي برضوه خسارة!
رفعت رأسها للأعلى لتكمل بوعيد :
-بس وعد مني هأمنك وهاجيب حقك كله بعدين !
سمع تلك الدقات الخافتة على باب غرفته وهو يتقلب على فراشه ، فاستدار برأسه نحوه صائحًا بنبرة ثقيلة :
-ايوه!
فتحت والدته الباب راسمة على ثغرها ابتسامة هادئة وهي تسأله:
-صاحي يا منذر ؟
أجابها بتثاؤب وهو يمط ذراعيه:
-اه يامه ، في حاجة ؟
ولجت إلى داخل الغرفة قائلة بجدية :
-معلش يا بني ، كنت عاوةز أتكلم معاك في كلمتين كده
اعتدل في نومته ، وسحب الوسادة ليضعها خلف ظهره ، ثم سألها بإهتمام :
-خير ؟
جلست على طرف الفراش إلى جواره ، ورسمت تعابير جادة على ملامحها وهي تكمل حديثها بعتاب :
-يصح اللي شوفته قصادي النهاردة ؟
عبس وجه منذر بدرجة ملحوظة ساءِلًا إياها باستفهام :
-هو في حاجة حصلت وأنا معرفش ؟
أومــأت برأسها بالإيجاب وهي ترد :
-اه .. انت مش واخد بالك من آآ..
ضغطت على شفتيها مانعة نفسها من الحديث ، فانزعج منذر من صمتها المفاجيء، وصاح بنبرة غليظة :
-كملي يا أمي سكتي ليه ؟
تنحنحت جليلة بحرج، وتابعت بامتعاض ظاهر على وجهها:
-بص أنا مش عاجبني اللي حصل مع بنت أخو عواطف! هي البت صعبانة عليا ، بس بردك مايصحش تـ..آآ.....
تصلبت قسمات منذر بانزعاج كبير، واحتدت نظراته صائحًا بصوت آجش منفعل :
-في ايه يا حاجة ؟ هو انتي شوفتني بأعمل الغلط معاها ، دي حيالله حتة مساعدة لا راحت ولا جت!
ردت عليه بحذر :
-لأ مقصدش !
ثم أخفضت نبرتها لتتابع بتبرم:
-بس الناس تقول ايه لما يشوفك شايلها كل شوية وداخل بيها عليا ؟!
أشـــاح منذر بوجهه للجانب ، ورفع يده واضعًا يده على رأسه ليحكها عدة مرات، ثم نفخ بنفاذ صبر مرددًا بعصبية:
-يادي أم الناس اللي طالعنلي في البخت !
التفت ناحيتها مكملًا بصوت قاسٍ يحمل التهديد:
-خليهم يكلموا بس وأنا هاقطع لسانهم!
ردت عليه بتجهم :
-انت مش هاتمنع الناس تتكلم، ولو مش قدامك هيبقى من وراك! واللي يعيبك يعبنا!
صــاح بها بنفاذ صبر:
-هاتي الناهية يامه
تنهدت جليلة بإرهاق وهي تتابع بهدوء:
-يا حبيبي أنا بس بأنصحك!
تحركت ناحيته قليلًا لتضيف بمكر:
-وبعدين ماتنساش نيرمين كانت موجودة معانا وشافت اللي حصل بعنيها ، يعني تفكر في ايه لما آآ....
فهم منذر سريعًا ما رمت إليه في كلماتها ، لذا قاطعها بتجهم :
-أنا كده مش هاخلص بقى!
ردت عليه معللة إصرارها على التفكير في الزواج بابنة عواطف:
-ماهو انت مش بتفكر في مصلحتك، والعمر بيجري منك !!!
رد عليها بحدة وقد أظلمت نظراته:
-أنا عاوز أفضل كده ولو حكمت هاتجوز أي حد ، بس مش بالشكل ده ، ولا هي بالذات!!!
تفاجئت من ردة فعله المبالغة ، وهتفت مستنكرة رفضه لها:
-ليه بس ؟
صاح بنبرة مزعوجة وقد ارتفع حاجباه للأعلى :
-هو بالعافية! يا البت دي يا لأ ؟ جرى ايه يامه !!!
بررت موقفها بحذر محاولة إقناعه:
-هي مضمونة يا بني وبتخلف، يعني هاتجيبلك العيل اللي نفسك فيه من زمان
حدج منذر والدته بنظرات مغتاظة من طريقتها في فرض تلك السمجة عليه، ويئس من تمسكها بها وكأنها أخر النساء على الأرض.
أزاح الوسادة من خلف ظهره، وتزحزح للأسفل قائلًا باقتضاب:
-قومي يا حاجة جليلة شوفي البيت، وسيبني أتخمد! أنا مصدع
نظرت إليه جليلة وهو يوليها ظهره بنظرات معاتبة، ثم تابعت قائلة باستسلام وهي تنهض عن الفراش:
-ماشي .. براحتك!
تحركت في اتجاه باب الغرفة ، وقبل أن تخرج منها استدارت برأسها هاتفة بتحذير:
-بس أديني بردك نبهت عليك عشان تاخد بالك!
رفع رأسه عن الوسادة ليصيح بصوت متثاقل:
-أمـــه
ردت عليه بتلهف وقد ظنت أنه ربما رضح لتحذيرها :
-نعم يا ضنايا
سألها بجمود بادي عليه :
-اياكي تكوني لمحتي بالموضوع ده ليها ولا فاتحتيه فيه ؟!
هزت رأسها نافية وهي تقول:
-والله ما حصل!
ثم ابتلعت ريقها مضيفة بارتباك:
-آآ.. هو بس أبوك !
زاد انعقاد ما بين حاجبي منذر وهو يتساءل :
-ماله أبويا ؟
أجابته بتوجس قليل:
-عنده فكرة عنه بس آآ....
صاح مقاطعًا بتذمر من تصرفاتها:
-بردك عملتي اللي في دماغك !
حاولت أن تغطي على فعلتها ، فزفرت قائلة بإحباط:
-يوووه يا منذر ، والله الواحد ما عارف يرضيك ازاي، أحسن حاجة أسيبك تنام!
ثم اندفعت للخـــارج غالقة الباب خلفها.
ظلت أنظاره معلقة عليه لثوانٍ قبل أن يلقي برأسه على الوســادة مرة أخرى.
حدق في سقفية الغرفة مخرجًا زفيرًا عميقًا من صدره، وحدث نفسه بعناد أشد:
-طيب يا أمي .. وأنا مش هاتجوزها لو عملتي ايه
علم من أبيه تفاصيل ذلك المشروع التجاري المشترك بينهما، وكيف أوصلهم أخاه الأصغر إلى ذلك الأمر بتصرفاته المتهورة.
لم يبدو مجد مقتنعًا بما قاله مهدي، فمن حق أخيه مازن أن يفعل ما يحلو له، فهم لا يملكون السلطة عليه.
صمت ليفكر بتمهل شديد في كل خطوة سيقدم عليها لاحقًا، فقد تيقن أنه بات شريكًا صريحًا مع عائلة حرب، وتلك العائلة تحديدًا يكن نحوها الكثير من العداوات والمشاعر البغيضة.
فلم ينسَ أن منذر هو من أدخله السجن وتركه يتعفن لأعوام خلف القضبان القاسية. وأنه من أهانه بشدة أمام المراهقة التي انتحرت مباشرة قبل زواجه منها.
تراكمات وتراكمات احتفظ بها في صدره لتؤجج مشاعر البغض والعدوانية لديه.
واليوم سيحصد نتيجة زرعه.
استدار مجد برأسه ببطء ناحية والده. ونظر له مطولًا دون أن ينبس بكلمة.
دس يده في جيبه ثم أخرج قداحته ليشعل بها سيجارته التي وضعها بين شفتيه، وهتف بصوت غريب مُقلق :
-وماله يا حاج، خلينا شركا!
ضاقت نظراته أكثر وهو يكمل بنبرة غير مريحة بالمرة:
-ده حتى المثل بيقول، ما محبة إلا بعد عداوة!
أكمل عد ما بحوزته من أموال بسيطة قبل أن يطويها ويضعها في جيب قميصه الأمامي.
فقد ادخر من إحدى المصالح الخاصة - والتي قضاها سراً -مبلغًا زهيدًا من المال لكي يعطيه لها خلسة.
راقبته أمه بنظرات متفرسة محاولة تخمين ما يفعله ، وقبل أن يتحرك مبتعدًا عنها، تركت ما تقطعه من خضروات في الصينية لتسأله بنبرة عالية أجفلته:
-على فين العزم ؟
تمتم حاتم لنفسه بكلمات مبهمة ، ثم التفت بجسده ناحيتها ، وأجابها بهدوء حذر:
-خارج شوية، ورايا كام حاجة عاوز أعملها!
نهضت عن المقعد، ونفضت يديها من البقايا العالقة بين أصابعها، ثم دنت منه وهي ترمقه بنظرات ثابتة.
وضعت يدها على منتصف خاصرتها، وسألته بعبوس مشيرة بعينيها:
-وايه الفلوس دي ؟
وضع يده عفويًا على جيب قميصه، ثم أخفضها بحذر.
ابتلع ريقه مجيبًا إياها بإرتباك خفيف:
-دي .. دي عشان بنتي!
رفعت "لُبنى" كف يدها أمام جبينها لتؤدي حركة مستنكرة به وهي تهتف ساخطة:
-بنتك! وده من امتى ان شاء الله ؟ إيش حال الليلة كلها كانت على يدي! ده انت لا بتطيقها ولا بتطيق اللي ماتتسمى!
ضغط حاتم على شفتيه هاتفًا بامتعاض:
-يا أمي ارحميني من اسطوانة كل يوم، البت ملزومة مني ولازمها مصاريف!
ردت عليه بقسوة وهي تلوح بذراعيها في الهواء:
-احنا أولى بالفلوس دي ، وبعدين هي المفضوحة أمها فقيرة؟ ما هي علي قلبها أد كده!
تجهمت تعابير وجه حاتم إلى حد كبير، وصــاح نافيًا:
-منين ؟ ما أديكي شوفتي بنفسك
حركت لبنى جسدها بحركة مائعة هاتفة بحنق كبير :
-لا يا روحي ، دي كانت بس بتدعي الفقر معاك! لكن على قلبها كوم فلوس أد كده! ولا نسيت زيارات أمها اللي كانت بتجيبها ؟!
فرك حاتم طرف ذقنه متابعًا بغيظ:
-تتنيل ولا تولع ، هي معدتش تفرق معايا ، أنا ليا لي بنتي وبس!
ردت عليه أمه بوقاحة فجة :
-خلفة العار والندامة، يا ريتها كانت حتى جابت واد تفرح قلبنا بيه ، لكن نقول ايه هي جوازة ......... من يومها!
زفـــر حاتم من كلمات والدته النابية، وأدار رأسه للناحية الأخرى.
تابعت هي قائلة بفظاظة:
-ده حتى أختك شاهندة اتفك نحسها وربنا كرمها بعريس لقطة من يوم ما بوز الإخص دي غارت من هنا ، زي ما يكون عملالها عمل ، ربنا يحرقها مطرح ماهي أعدة!
نفخ مجددًا بضجر من ثرثرتها الزائدة، ولكن عبس وجهه بحدة حينما أمرته وهي تشير بيدها:
-بأقولك ايه هات الفلوس دي، احنا محتاجينهم لزوم الخطوبة ، ولما المفضوحة تعوز حاجة تاخدها من المحكمة! هـــات !!!
ارتفع حاجباه للأعلى باستنكار أكبر وهو يهتف معترضًا:
-يا أمي ..آآآ
قاطعته بصرامة غليظة وهي تشير بيدها أمام وجهه:
-بلا أمي بلا هباب ، هــــات!
اضطر أسفًا أن يخرج المبلغ الزهيد من جيبه ليعطيها إياه، فتناولته منه وقد تقوس ثغرها بابتسامة متباهية.
تابعت متمتمة بازدراء:
-حار ونار في جتتها!
رد عليها حاتم بغيظ:
-ارتاحتي كده
أومـــأت برأسها إيجابًا وهي تضيف ببرود متعمدة استثارته:
-آه ، ولسه هارتاح أكتر لما تتجوز تاني !
لوح بذراعه أمام وجهها قائلًا بغلظة :
-مش عاوز!
سألته مستنكرة عذوفه عن الزواج:
-ليه هاتفضل عاذب طول عمرك؟
نظر لها مطولًا قبل أن يجيبها بامتعاض:
-اه!
استأنفت لبنى حديثها هاتفة بمكر:
-يا واد أنا المرادي منمرالك على واحدة إنما حاجة، نقاوة ايدي وحياتك ،سيبلي بس نفسك وأنا هاظبطك!
ظل مسلطًا أنظاره الحانقة عليها، ثم أولاها ظهره وسار بخطوات متعجلة نحو باب المنزل.
تابعته بعينيها وهي تتساءل باستغراب:
-ماله ده ؟ مش بيرد ليه؟
صفق حاتم الباب بعنف بعد أن خرج من المنزل، فاهتزت جدارنه من قوة الصوت.
زمت لبنى شفتيها مرددة بسخط قاسي:
-منها لله بنت الـ....... سدت نفسه عن كل حاجة! إلهي تولعي يا بنت عواطف مطرح ما انتي أعدة، ومتلاقي حد يطفيكي!
ســار متبخترًا بخطواته أمام العامة ليعلن صراحةً عن وجوده بالمنطقة، وبالطبع كانت تعابير وجوههم تشير إلى نفورهم التام منه.
التوى ثغره للجانب وهو يدنو من تلك المحــال الموضوعة قيد الإصلاح.
دقق النظر في العاملين بهم قبل أن يصيح بصوته الجهوري الخشن:
-شغل نضيف الصراحة!
انتبه له أغلب العاملين، وتبادلوا نظرات حائرة فيما بينهم.
اقترب منهم متابعًا بصوته الآجش وهو يشير بيده موضحًا:
-خدوا راحتكم، واشتغلوا برواقة ، على فكرة أنا مش غريب، أنا شريك في الهلومة دي!
وقف قبالته المهندس المسئول عن الديكورات الهندسية، وكور قبضة يده مقربًا إياها من فمه وهو يقول بحرج قليل:
-احم .. أنا الـ designer الـ..آآآ....
قاطعه مجد قائلًا بسخافة:
-كلمني عربي وحياة أبوك! محسوبك رد سجون ومالوش في الهري ده!
ارتسمت سريعًا علامات الانزعاج على وجه المهندس، وازدرد ريقه مرددًا بتوتر:
-اها ..آآ.. تمام، أنا بأفهم حضرتك إني مصمم الديكورات اللي هنا
وضع مجد يده على رأسه وبدأ في حكها قائلًا بصوت متحشرج:
-وماله مش عيب!
مــرر أنظاره ببطء على واجهات المحــال، فلفت انتباهه ذلك الدكان العتيق الذي يتوسطهم، فتساءل باندهاش:
-وده مش تبعهم ولا ايه؟
سلط المهندس أنظاره على الدكان، وأجابه موضحًا:
-حاليًا لأ، بس الأستاذ منذر مبلغنا إنه هايشتريه من أصحابه عشان نقدر نضمه ونشتغل فيه
اكفهر وجه مجد قليلًا من ذكر اسمه، ورد بتأفف:
-ماشي.. عمومًا انت هتلاقيني فوق راسك كل شوية، أنا مش ورايا حاجة!
ابتسم المهندس بتكلف، ثم يده لمصافحته قائلًا بود:
-تشرفنا يا فندم ، ماتشرفتش باسم حضرتك؟
رمقه مجد بنظرات دونية، وأدار رأسه للجانب ليبصق، ثم عاود النظر إليه ، ورد عليه بغلظة:
-سيدك مجد أبو النجا!
شحب وجـــه الأخير عقب تصرفاته الهمجية تلك، وأدرك أنه يتحدث مع شخصية أقل ما توصف به هي الحقارة والتقزز.
على الجانب الأخر، ورد إليه اتصالًا هاتفيًا من أحد رجاله بالمحال الجديدة التي يتم إعدادها لتكون من أكبر المطاعم مُبلغًا إياه بمجيء مجد إليهم.
هب الأخير واقفًا من مكانه شاخصًا أبصاره بذعر كبير.
كان يخشى من حدوث اصطدام آخر لأسيف مع ذلك المقيت إن كانت متواجدة هناك.
لذا هتف بلا وعي وقد تسارعت دقات قلبه:
-وفي حد كان هناك؟
لم يفهم الرجل المغزى من سؤاله الغامض، فسأله مستفهمًا:
-قصدك على مين يا ريسنا ؟
جاهد ليبدو طبيعيًا في نبرته وهو يرد:
-أي حد من معارفنا
أجابه نافيًا بعدم فهم:
-لا مافيش
اشتدت أعصاب منذر حتى بلغت ذروتها، وبات يحترق من داخله وهو يتساءل بصعوبة:
-والدكان ؟
رد عليه الرجل متساءلًا بحيرة:
-ماله؟
هتف فيه منذر بحدة بعد أن نفذ صبره:
-حد كان فيه؟
انتظر بترقب كبير إجابته التي لم تستغرق سوى ثوانٍ معدودة ليعرفها:
-لأ.. مقفول زي ماهو!
تنفس منذر الصعداء لعدم وجودها به، فهي متهورة في تفكيرها الغير عقلاني، وربما كانت تخطط لزيارته أو المكوث فيه كعادتها. ووجودها على مقربة من ذلك البلطجي يضعها على خط النيران والمواجهة المباشرة معه. وهي مخاطرة غير محسوبة العواقب.
حافظ على ثبات نبرته وهو يكمل بصوت آمر:
-طب اسمع مني للأخر!
رد عليه رجله بهدوء:
-أؤمر يا ريس منذر
استطرد منذر حديثه بصرامة واضحة بعد أن قست نظراته:
-تفضل عينيك على الدكان ده 24 ساعة، مش عاوزها تتشال للحظة من عليه، ولو مشيت حد تاني يستلم مكانك!
تعجب الرجل من أمره الغريب، وسأله مستفسرًا:
-ماشي يا ريس، بس هو في حاجة لده كله؟
صاح به بصرامة حادة:
-من غير ما تسأل، انت تنفذ وانت ساكت!
توجس الرجل خيفة من إغضابه ، وهتف ممتثلًا:
-حاضر
أنهى معه المكالمة، وألقى بهاتفه على سطح المكتب بعصبية.
تحرك من مكانه ليدور حول مكتبه واضعًا يديه على رأسه ضاغطًا عليها بقوة.
نفخ بحنق ظاهر ، ثم أظلمت نظراته للغاية، وهتف بسباب نابي:
-بدأنا القرف معاك يا ....... !!
-مش بطـــال
هتف بها مجد بفتور وهو يجلس باسترخاء على المقعد في مطعم أبيه.
التفت الأخير ناحيته، وسأله بجدية :
-انت روحت شوفته ؟
رد عليه ابنه بابتسامة ساخرة:
-وهي دي تفوتني!
هز مهدي رأسه بإيماءات متتالية وهو يتابع:
-طيب.. هما شغالين فيه ، ووقت ما يخلصوا موضوع الدكان هيكملوا التوضيب وآآ...
انتبه مجد لعبارته الأخيرة، وسأله بفضول عن التفاصيل التي تخص ذلك الدكان العتيق:
-دكان مين ده؟ أنا مش فاكر صاحبه أوي، هو مكتوب عليه دكان الحاج خورشيد، فكرني بالراجل ده؟
أجابه والده عفويًا:
-عارف عواطف أم البنات نيرمين وبسمة، قرايب طه حرب ، الست آآ.... ؟!!
قاطعه مجد مشيرًا بيده:
-ايوه، افتكرتها خلاص
أكمل مهدي مفسرًا:
-ده بقى دكانها من أبوها ، وهي آآ...
سئم مجد من استرسال أبيه في الحديث عن ذلك الهراء الملل، فقاطعه وهو ينهض عن المقعد:
-خلاص يا أبا، مش محتاجة توضيح، الموضوع في بيته، دكانهم وهيخلصوه!
-بالظبط
ســـار مجد في أرجــاء المكتب يتجول به بخطى متمهلة ممعنًا النظر في تفاصيله.
سلط والده أنظاره عليه، وبدا متوجسًا من صمته المريب، وتصرفاته المباغتة ، لذلك سأله مهتمًا :
-وإنت ناوي تعمل ايه بعد كده يا بني؟
لم يلتفت مجد ناحيته، وواصل تحديقه في تفاصيل المكتب قائلًا بنبرة مُقلقة:
-ولا حاجة، مش ورايا غير عيلة حرب وبس!
استشعر من نبرته وجود خطب ما ، فحذره هاتفًا بتوجس:
-اوعى تكون ناوي على مصايب، إنت لسه مافيش كام آآ...
هنا التفت مجد برأســه ناحيته، وهتف بابتسامة باهتة:
-اطمن يا حاج ، ده بيزنس!
ضرب أباه كفه على الأخر مرددًا بعدم اقتناع وهو مثبت عيناه عليه :
-ربنا يسترها ويطلع شغل وبس!
بعد مرور عدة أيـــام ،،،
مكثت حبيسة الغرفة رافضة الخروج منها إلا في أضيق الأحوال. فضلت أن تعتزلهن جميعًا وتكتفي بأن تكون جليسة نفسها ووحدتها. فلا حاجة بها لسماع ما يزعجها من فظة اللسان ابنة عمتها التي لم تتورع عن مضايقتها للحظة، ولا لعتاب عمتها الرقيق الذي يلومها لطيشها في لحظة أوشكت على الانهيار فيها.
كذلك أرادت ألا تشعرهن بحاجتها للرعاية والاهتمام بعد تورم قدمها اليسرى، وواظبت بنفسها على مداواتها.
تنهدت أسيف بتعب ، وحدقت في حقيبة والدتها المسنودة إلى جوار خزينة الملابس بنظرات لامعة ، وتمتمت مع نفسها بحزن:
-وحشني حضنك أوي يا ماما!
أخرجت تنهيدة قوية من صدرها محملة بالكثير من الأحزان وهي تكمل بصوت شبه مختنق :
-واحشني الكلام معاكي انتي وبابا!
أدمعت عيناها بشدة عندما أضافت قائلة بقهر عاجز:
-أنا فعلًا يتيمة من غيركم!
مـــر ببالها مقتطفات سريعة وومضات خاطفة من مواقفها العديدة منذ لحظة تفكيرها في تلك الزيارة المشؤومة حتى الوقت الحالي.
أغمضت عيناها بانكسار ، وتابعت حديثها الموجع معاتبة نفسها بقسوة:
-يا ريتني ما فكرت أجي هنا ، يا ريتني!
بدأت تتعالى شهقاتها تدريجيًا ، فدفنت وجهها بين راحتي يدها ، وواصلت تعنيف نفسها بحدة:
-أنا السبب في كل حاجة .. ايوه ، أنا السبب!
في نفس التوقيت ، خرجت نيرمين من المرحاض وهي تلف منشفة قطنية حول شعرها المبتل متغنجة بجسدها بميوعة أزعجت أمها.
نظرت لها عواطف بإزدراء مرددة :
-مالك يا بت ؟ ماتمشي عدل كده!
ردت عليها ببرود مستفز:
-الله ! مش أفرح بنفسي وبشبابي كده!
أشاحت عواطف بوجهها بعيدًا عنها ، وهتفت مستنكرة:
-على ايه ياختي ؟ حوش حوش مش ملاحقة على الهنا اللي بأشوفه منك !
عبست نيرمين بوجهها ، ونزعت المنشفة عن رأسها بعصبية، ثم صاحت بنبرة متشنجة:
-عاوزاني أعمل ايه؟ ها قوليلي ؟؟؟
اقتربت من أمها ، وواصلت صراخها المتعصب:
-كان في ايدي ايه ومعملتوش ؟
ضغطت على شفتيها بقوة وهي تتابع بصوت مختنق:
-ما أنا رضيت بالهم ، والهم مرضاش بيا، اتنيلت اتجوزت واحد كرهني في صنف الرجالة كله ، واتطلقت وأنا ملحقتش أتهنى أصلًا!!
ابتسمت لنفسها بتهكم وهي تواصل سرد مآساتها:
-لأ وعلى كتفي عيلة منه، بلوى هتفضل في رقبتي ربطاني بيه!
لمعت عيناي عواطف بوضوح، وعجزت عن الرد عليها.
تحول وجه نيرمين للإظلام أكثر، ثم كزت على أسنانها قائلة بمرارة:
-ده غير إن مافيش حد هيرضى بواحدة زيي مطلقة وعندها عيال ، فسبيني أفرح بنفسي ، كفاية قهر بقى وقرف!
حدقت فيها عواطف بذهول، فقد كانت كالبركان الملتهب بحممه وانفجر فجــأة في وجهها.
ردت عليها بحسرة:
-لا حول ولا قوة إلا بالله !
اغتاظت نيرمين من ردة فعلها ومن عبارتها تلك وكأنها تستنكر عليها حتى التنفيس عن غضبها، فاستشاطت نظراتها ، وصرخت بقسوة معنفة إياها على تخاذلها معها:
-ده بدل ما تطبطبي عليا زي المحروسة أم النكد اللي جوا لازم تسممي جتتي بكلمتين من بتوعك ، حسي بيا بقى شوية
انزعجت عواطف من إلصاق ابنتها لكل كارثة تحل بها لتلك اليتيمة، فردت عليها بضجر:
-هو أنا يعني مبسوطة من الوضع اللي شيفاكي فيه ، ما أنا نفسي تتجوزي تاني وآآ...
قاطعتها نيرمين بصرامة قوية وقد قست نظراته للغاية:
-جواز تاني من واحد زي عينة الزفت حاتم ده مش هايحصل!
نظرت لها والدتها بصدمة، وبدت حائرة تبحث عن كلمات مناسبة ترد بها عليها، لكنها كانت بلا حيلة مع شراستها الحادة.
تبدلت نظرات نيرمين للقتامة، وأصبحت نبرتها أكثر ريبة وهي تضيف:
-المرادي أنا هاختار بنفسي اللي هاتجوزه، ولازم قبلها يدخل مزاجي الأول 
تعليقات



<>