
رواية الدكان
الفصل التاسع والعشرون29
بقلم منال محمد سالم
لم تتكبد العنـــاء في انتقــاء ما سترتديه ، فعباءة سوداء ستفي بالغرض ، خاصة أنها في فترة حداد ممتدة.أحكمت ربط حجاب رأسها عليها، وتحركت خارج الغرفة وهي متحفزة للحصول على حقها المسروق.
لحقت بها عواطف مستطردة حديثها بتوجس :
-بالراحة يا بنتي ، الأمور ماتتخدتش قفش !
ردت عليها بنبرة صارمة وهي ترمقها بنظرات محتقنة:
-أنا مش هاسكت عن حقي ، وفلوسي اللي اتسرق هاعرف ازاي هارجعها
أومـــأت عمتها برأسها قائلة :
-حاضر ، بس بالعقل !
تحركت صوب باب المنزل هاتفة بصوت شبه آمر :
-يالا يا عمتي ، وريني فين مكانه !
ابتلعت ريقها بتوتر بادي على ملامح وجهها وهي تقول:
-طيب .. استر يا رب وعدي اليوم ده على خير !
راقبتهما نيرمين بنظرات نارية من خلف باب غرفتها الموارب ، وحدثت نفسها بنبرة مغلولة :
-على أخر الزمن البت دي جاية تعمل راسها براسه !
كزت على أسنانها بعنف وهي تردد بنبرة عدائية :
-مفكرة نفسها مين ، وربنا ماهسيبها في حالها ! هاخلي عيشتها أسود من قرن الخروب !!!!
وقف أمام مكتبه ينهي أحد مكالمات عمله قائلاً بجدية :
-الفاتورة فيها كل حاجة ، راجع بس البضاعة وانت بتنزلها
مط منـــذر فمه للأمام ليضيف بهدوء :
-تمام ، وأنا معاك لو في حاجة ناقصة !
ضغط بعدها على زر الإيجاب واتجه عائداً لمقعده ليجلس عليه مسترخياً ..
حرك عنقه للجانبين وهو يفركه بكفه مخففاً من حدة ذلك الإرهــاق المسيطر عليه.
سمع أصواتاً خارجية غير واضحة ، فاعتدل بجلسته ، ودقق النظر أمامه ليرى إلى من يتحدث أحد عماله.
تساءلت عواطف بتوتر وهي تشير بيدها :
-هو موجود يا بني نقدر نشوفه ؟
أجابها العامل قائلاً بإبتسامة لطيفة :
-اه يا حاجة عواطف ، اتفضلي !
ردت عليه بود وهي تتحرك بحذر للداخل :
-كتر خيرك !
تأهبت أسيف لتلك المواجهة المحتدمة معه ، واستعدت بالكامل لذلك اللقاء المثير.
تفاجيء منذر بقدوم عواطف وابنة أخيها إلى وكالته، فنهض واقفاً مرحباً بهما :
-يا أهلاً وسهلاً نورتوا الوكالة
ازدردت عواطف ريقها قائلة بإرتباك ملحوظ وهي توجه أنظارها إلى أسيف :
-منورة بيك يا سي منذر !
سلط أنظاره على أسيف والتي بدت ملامحها غريبة إلى حد ما ..
كانت على تلك الحالة المتشنجة التي رأها من قبل بالمشفى ، لكنه لم يستطع تفسير سبب تجهمها.
حاولت عواطف الابتسام وهي تضيف بنبرة ودودة محاولة تلطيف الأجواء بعد أن لاحظت نظراته المتساءلة في صمت :
-اعذرنا إن كنا جينالك من غير ميعاد
أشار لهما بكف يده لتجلسا قائلاً بجدية :
-ولا يهمك ، اتفضلوا اقعدوا !
ثم إشرأب بعنقه صائحاً بصوت آجش آمر لأحد عماله:
-الشاي بسرعة ياض !
رد عليه أحدهم :
-تؤمر يا سي منذر
اعترضت أسيف قائلة بجمود غريب :
-احنا مش جايين نضايف هنا
ضاقت نظراته نحوها ، وعبست تعابير وجهه عقب عبارتها المريبة تلك.
قبضت عواطف على ذراعها قائلة بإبتسامة مصطنعة ومانعة إياها من التفوه بالمزيد :
-احنا مش عاوزين نتعبك يا بني ، هما كلمتين هانقولهم ونمشي على طول !
اضطرت أسيف على مضض أن ترضخ لتوسل عمتها ، وصمتت مجبرة.
بدا غير مقتنع بما قالته عواطف ، لكنه مرر الأمر ولم يعلق عليه كثيراً ..
ظن في نفسه أن مجيئهما إليه لتأكيد مسألة بيع الدكان بعد أن أعطته والدته فكرة مسبقة عن موافقة الجميع على هذا الأمر ، وقدوم أسيف اليوم ما هو إلا لتحديد قيمة المبلغ المطلوب نظير بيع حصتها فيه .
لم يخطر بباله مطلقاً أنها حضرت إليه لأجل سبب أخر ..
همست عواطف لها برجاء خفي :
-اهدي يا بنتي الأول ، وخليني أنا أتكلم
جلس منـــذر خلف مقعد مكتبه منتصباً ، ثم استند بمرفقيه على سطحه متساءلاً بهدوء وموجهاً حديثه إلى عواطف :
-أخبارك ايه ست عواطف ؟
أجابته بإبتسامتها المتكلفة :
-بخير والحمدلله !
أضـــاف قائلاً بجديه وهو يشير بكفه الأيمن :
-الحاجة جليلة قالتلي على موافقتكم كلكم على بيع الدكان ، وإن شاء الله زي ما عرفتكم قبل كده مش هانختلف !
نظرت عواطف إلى أسيف بنظرات زائغة ، ثم عاودت النظر إلى منذر مبتسمة بصعوبة وهي ترد بإرتباك :
-أكيد .. بس .. بس آآ...
استدار منذر نحوها مضيفاً بنبرة عقلانية :
-شوفي يا ست عواطف ، أنا راجل حقاني وعملي ، وهاكلمك بلغة السوق ، الدكان هاشتريه بسعر اليومين دول ، وشوفي انتي دلوقتي سعر السهم بكام ، يعني بنتكلم في مبلغ محترم ، وفي الأخر الكل هايطلع كسبان !
حرك وجهه لينظر في اتجاه أسيف موجهاً حديثه لها :
-ولا إيه رأيك يا آآ.... !
صاحت فيه مقاطعة بحدة :
-مش هايحصل !
اندهش من ردها الغريب ، وتصلبت قبضتي يده نوعاً ما.
فقد كان واثقاً من موافقتها على بيعه ، والآن هي تخبره بالعكس ..
لم يحد بعينيه بعيداً عنها ، وحدق فيها بنظرات مطولة متفرسة.
كررت هي عبارتها مؤكدة بنبرة حاسمة :
-الدكان مش هيتباع !
كان متحكماً في أعصابه رغم الفضول الذي يعتريه لمعرفة سبب رفضها المفاجيء لمسألة البيع ، فسألها بجفاء مريب :
-مش فاهمك ؟ يعني ايه مش هيتباع ؟
أجابته بنبرة قاتمة وقد قست نظراتها نحوه :
-يعني زي ما قولتلك ، بيع الدكان مش هايحصل ، وأنا جايالك أصلاً في حاجة تانية خالص إنت عملتها !
سألها بهدوء حذر محاولاً ضبط انفعالاته بعد صدمته في إلغاء صفقة البيع وما سيترتب عليها من تبعات مزعجة للكل :
-عملت ايه بالظبط ؟
هبت واقفة من مكانها وهي تجيبه بصوت متعصب:
-فين فلوسي اللي كانت في الشنطة ؟
رفع حاجبه للأعلى مردداً بصدمة قليلة :
-فلوس ؟
لم يفهم مقصدها جيداً ، وحاول استيعاب جملتها الغامضة ..
أجابته بنفس النبرة العصبية وهي تهز رأسها بالإيجاب :
-ايوه كانوا في شنطتي في اللوكاندة ، وانت بنفسك قولت إنك الوحيد اللي لم الحاجة
نهض واقفاً بهدوء من مقعده متذكراً ما فعله بداخل غرفتهما المؤجرة بالفندق ، هو لم يجد سوى الثياب ، وجمعها بعناية واضعاً إياها بداخل الحقائب دون أن يدقق النظر في باقي محتوياتها.
بدت نظراته حادة ، لكنه كان بارعاً في إخفاء عصبيته ، وأجابها بصوت شبه ثابت :
-ايوه أنا لميت الحاجة ، بس لا فتشت في شنط ، ولا شوفت فلوس من أصله !
هدرت فيه صارخة بإتهام شديد اللهجة :
-انت كداب !
هنا احتدت نظراته ، وعبس وجهه بصورة مقلقة.
هتف فيها مستنكراً إتهامها الباطل :
-نعم !
تابعت مؤكدة بعزم وهي تشير بسبابتها :
-ايوه كداب ، تلاقي ده ملعوب عامله عشان تجبرني أبيع الدكان !
فشلت عواطف في السيطرة على ابنة أخيها ، هي عقدت العزم على تنفيذ ما قالته حرفياً دون أي مقدمات ممهدة وبدأت ثورتها في وجهه ..
سمع جميع نزلاء السجن صوت فتح أحد الأقفـــال الموصدة لعنبر حبسهم بالسجن العمومي .. وتعلقت أنظارهم بذلك الصول الضخم الذي ولج للداخل ..
صــــاح هو بصوت جهوري غليظ :
-المسجون مجد مهدي أبو النجا !
أتاه صوته من بعيد وهو يعتدل من متكأه :
-ايوه يا شاويش !
هتف فيه بصوت آمر :
-قوم معايا كلم المأمور !
نهض بتثاقل من مكانه قائلاً بصوت بارد :
-طيب !
همس له من خلفه أحد المساجين قائلاً بحماس :
-بينها البشارة يا كبيرنا
رد عليه مج بحذر :
-الظاهر كده !
ربت على كتفه قائلاً بسعادة :
-ربنا معاك !
صـــاح الصول بحدة بعد أن لاحظ تباطيء حركته :
-اتحرك يا مسجون !
رد عليه مجد برخامة :
-جاي يا شاويش ، بس رجلي منملة شوية !
رمقه الصــــول بنظرات احتقارية وهو يرد ساخراً :
-تحب أخليهالك تفك ؟!
تقوس فمه للجانب قائلاً بصوت خشن :
-وعلى ايه ، هي هاتفك لوحدها !
ركضت أروى ناحية باب المنزل لتفتحه بعد أن سمعت صوت قرع الجرس معتقدة أن الطارق أحد أخويها.
وجدت رجلاً غريباً ممسكاً بأوراق ما فيه يرمقها بنظرات عادية ، فنظرت له بتعجب متساءلة :
-انت عاوز مين يا عمو ؟
أجابها بنبرة جادة :
-ناديلي حد كبير من جوا يا شاطرة يكلمني !
لوت ثغرها قائلة بإمتعاض :
-طيب ..
ثم استدارت برأسها للخلف صائحة بنبرة عالية :
-ماما ، في واحد كبير على الباب عاوزك
أتاها صوت والدتها مردداً بتوتر :
-يا ساتر ، مين ده اللي عاوزني ؟
جذبت ابنتها الصغرى من كتفها للخلف لتقف هي على عتبة الباب متساءلة بتوجس محدقة فيه بغرابة :
-خير يا حضرت ، انت عاوز مين ؟
أجابها بنبرة رسمية وهو يخرج ورقة ما من وسط الأوراق الموضوعة بداخل الملف الذي يمسكه :
-ده بيت الأستاذ دياب طه حرب
انقبض قلبها نوعاً ما خافقاً بدقات سريعة وهي ترد بالإيجاب :
-اه هو .. خير في حاجة ؟ أنا أمه
رد عليها متساءلاً بنفس النبرة الخالية من التعابير :
-هو فين ؟
أجابته متوجسة :
-جاي في السكة ، طمني بس في حاجة حصلت ؟
ناولها تلك الورقة قائلاً ببرود معتاد :
-معايا إخطار من المحكمة للسيد دياب !
أخذتها منه متساءلة بحيرة :
-إخطار ايه ده ؟
رد عليها بنبرة جافة وهو يقرب دفتر ما منها مشيراً إلى مكان ما فيه لتوقع به :
-معرفش ، اتفضلي امضي هنا بالإستلام
-طيب ..
قالتها وهي توقع باسمها بجوار إصبعه ، ثم طوت الورقة الرسمية التي بحوزتها
أغلق المحُضر دفتره مردداً :
-متشكر !
ثم انصرف بعدها تاركاً إياها في حالة حيرة وتخبط ..
أغلقت الباب خلفه محاولة قراءة وفهم ما هو مدون في ذلك الإخطار ...
وقفت قبالتها ابنتها متساءلة بفضول :
-مين ده يا ماما ؟
ردت عليها جليلة بحدة معنفة إياها :
-خشي شوفي مذاكرتي بدل ما انتي مضيعة وقتك كده على الفاضي !
عبست أروى بوجهها قائلة بتذمر وهي تركل بقدمها الأرضية :
-حاضر .. مافيش إلا المذاكرة وبس !!!
قرأت بتأني ما كتب بداخل الإخطار ، فانفرجت شفتاها بصدمة كبيرة.
شهقت غير مصدقة ما عرفته ، وتسمرت في مكانها محاولة استيعاب الأمر.
بقيت على حالها للحظات حتى سمعت صوت فتح باب المنزل بالمفتاح.
استدارت برأسها عفوياً في اتجاهه فرأت ابنها دياب يلج مبتسماً وهاتفاً :
-سلامو عليكم
لم ترد عليه فقطب جبينه مستغرباً حالة الوجوم الظاهرة عليها ...
نظر لها متعجباً ، ثم دنا منها متساءلاً :
-مالك يا أماه ، واقفة كده ليه مبلمة مش بتردي السلام ؟
رفعت الورقة أمام وجهها قائلة :
-الإخطار ده جالك من شوية !
ردد بغير فهم وقد زاد انعقاد ما بين حاجبيه :
-إخطار !
هزت رأسها بإيماءة مترددة وهي تجيبه :
-اه من المحكمة ، المحضر لسه جايبه ، انتو ماشفتوش ؟
حرك رأسه نافياً :
-لأ .. مخدتش بالي !
ثم مد يده نحوها متساءلاً بإهتمام :
-فيها ايه الورقة دي ؟
أعطته إياها ، فبدأ في قراءة ما بها على عجالة .
تبدلت تعابير وجهه من الاسترخاء للتشنج ، وازدادت حمرة عيناه ، يمكن القول بإختصار أن أحواله تغيرت من الهدوء للعصبية الشديدة ..
طوى الورقة بغل وهو يصيح بسباب لاذع ومهين :
-بنت الـ ...... ضحكت عليا واستغفلتني !
قفز قلبها في قدميها رعبا ً من هياج ابنها ، وتوسلته برجاء :
-اهدى يا دياب خلينا نفهم هي عملت كده ليه ؟
صرخ فيها بجنون :
-أفهم ايه ، ده مكتوب هنا يا أماه إن الـ ...... نقلت حضانة الواد يحيى لأمها لأنها اتجوزت ، يعني الهانم مخططة ومرتبة لكل حاجة ، وأنا الأهبل المغفل اللي إداها الواد ومش في دماغه حاجة !
اندفع كالثور الهائج ناحية باب المنزل صارخاً بنبرة عدائية وقاذفاً بإحدى المزهريات التي التقطها من على الطاولة بالحائط :
-ورب العزة ما سايبها ، هاجيبها من شعرها !
تحطمت المزهرية إلى أجزاء صغيرة وتناثرت قطعها المهشمة في أرجاء المكان.
انتفضت جليلة فزعاً في مكانها.. وركضت خلفه قائلة :
-اهدى يا دياب ماتتهورش !
وضعت يدها على كتفه مانعة إياه من الذهاب ، فأزاح قبضتها عنه بعنف ثائر وهو يقول بتوعد صريح :
-اوعي يا أمي ، مش هارحمها ، مش دياب حرب اللي يتسك على قفاه !
انطلق خارج المنزل صافقاً الباب بقوة عنيفة خلفه ، فاستندت جليلة بكفي يدها عليه مرددة بهلع :
-يا مصيبتي ، الواد هايضيع نفسه !!!
لطمت على صدرها مرددة بحسرة :
-فينك يا حاج طه ، فينك يا منذر تلحق أخوك !!
أسرعت في خطاها نحو الهاتف قائلة :
- لازم أكلمهم يتصرفوا ويمنعوه بدل ما يودي نفسه في داهية !!!!
وجدت رجلاً غريباً ممسكاً بأوراق ما فيه يرمقها بنظرات عادية ، فنظرت له بتعجب متساءلة :
-انت عاوز مين يا عمو ؟
أجابها بنبرة جادة :
-ناديلي حد كبير من جوا يا شاطرة يكلمني !
لوت ثغرها قائلة بإمتعاض :
-طيب ..
ثم استدارت برأسها للخلف صائحة بنبرة عالية :
-ماما ، في واحد كبير على الباب عاوزك
أتاها صوت والدتها مردداً بتوتر :
-يا ساتر ، مين ده اللي عاوزني ؟
جذبت ابنتها الصغرى من كتفها للخلف لتقف هي على عتبة الباب متساءلة بتوجس محدقة فيه بغرابة :
-خير يا حضرت ، انت عاوز مين ؟
أجابها بنبرة رسمية وهو يخرج ورقة ما من وسط الأوراق الموضوعة بداخل الملف الذي يمسكه :
-ده بيت الأستاذ دياب طه حرب
انقبض قلبها نوعاً ما خافقاً بدقات سريعة وهي ترد بالإيجاب :
-اه هو .. خير في حاجة ؟ أنا أمه
رد عليها متساءلاً بنفس النبرة الخالية من التعابير :
-هو فين ؟
أجابته متوجسة :
-جاي في السكة ، طمني بس في حاجة حصلت ؟
ناولها تلك الورقة قائلاً ببرود معتاد :
-معايا إخطار من المحكمة للسيد دياب !
أخذتها منه متساءلة بحيرة :
-إخطار ايه ده ؟
رد عليها بنبرة جافة وهو يقرب دفتر ما منها مشيراً إلى مكان ما فيه لتوقع به :
-معرفش ، اتفضلي امضي هنا بالإستلام
-طيب ..
قالتها وهي توقع باسمها بجوار إصبعه ، ثم طوت الورقة الرسمية التي بحوزتها
أغلق المحُضر دفتره مردداً :
-متشكر !
ثم انصرف بعدها تاركاً إياها في حالة حيرة وتخبط ..
أغلقت الباب خلفه محاولة قراءة وفهم ما هو مدون في ذلك الإخطار ...
وقفت قبالتها ابنتها متساءلة بفضول :
-مين ده يا ماما ؟
ردت عليها جليلة بحدة معنفة إياها :
-خشي شوفي مذاكرتي بدل ما انتي مضيعة وقتك كده على الفاضي !
عبست أروى بوجهها قائلة بتذمر وهي تركل بقدمها الأرضية :
-حاضر .. مافيش إلا المذاكرة وبس !!!
قرأت بتأني ما كتب بداخل الإخطار ، فانفرجت شفتاها بصدمة كبيرة.
شهقت غير مصدقة ما عرفته ، وتسمرت في مكانها محاولة استيعاب الأمر.
بقيت على حالها للحظات حتى سمعت صوت فتح باب المنزل بالمفتاح.
استدارت برأسها عفوياً في اتجاهه فرأت ابنها دياب يلج مبتسماً وهاتفاً :
-سلامو عليكم
لم ترد عليه فقطب جبينه مستغرباً حالة الوجوم الظاهرة عليها ...
نظر لها متعجباً ، ثم دنا منها متساءلاً :
-مالك يا أماه ، واقفة كده ليه مبلمة مش بتردي السلام ؟
رفعت الورقة أمام وجهها قائلة :
-الإخطار ده جالك من شوية !
ردد بغير فهم وقد زاد انعقاد ما بين حاجبيه :
-إخطار !
هزت رأسها بإيماءة مترددة وهي تجيبه :
-اه من المحكمة ، المحضر لسه جايبه ، انتو ماشفتوش ؟
حرك رأسه نافياً :
-لأ .. مخدتش بالي !
ثم مد يده نحوها متساءلاً بإهتمام :
-فيها ايه الورقة دي ؟
أعطته إياها ، فبدأ في قراءة ما بها على عجالة .
تبدلت تعابير وجهه من الاسترخاء للتشنج ، وازدادت حمرة عيناه ، يمكن القول بإختصار أن أحواله تغيرت من الهدوء للعصبية الشديدة ..
طوى الورقة بغل وهو يصيح بسباب لاذع ومهين :
-بنت الـ ...... ضحكت عليا واستغفلتني !
قفز قلبها في قدميها رعبا ً من هياج ابنها ، وتوسلته برجاء :
-اهدى يا دياب خلينا نفهم هي عملت كده ليه ؟
صرخ فيها بجنون :
-أفهم ايه ، ده مكتوب هنا يا أماه إن الـ ...... نقلت حضانة الواد يحيى لأمها لأنها اتجوزت ، يعني الهانم مخططة ومرتبة لكل حاجة ، وأنا الأهبل المغفل اللي إداها الواد ومش في دماغه حاجة !
اندفع كالثور الهائج ناحية باب المنزل صارخاً بنبرة عدائية وقاذفاً بإحدى المزهريات التي التقطها من على الطاولة بالحائط :
-ورب العزة ما سايبها ، هاجيبها من شعرها !
تحطمت المزهرية إلى أجزاء صغيرة وتناثرت قطعها المهشمة في أرجاء المكان.
انتفضت جليلة فزعاً في مكانها.. وركضت خلفه قائلة :
-اهدى يا دياب ماتتهورش !
وضعت يدها على كتفه مانعة إياه من الذهاب ، فأزاح قبضتها عنه بعنف ثائر وهو يقول بتوعد صريح :
-اوعي يا أمي ، مش هارحمها ، مش دياب حرب اللي يتسك على قفاه !
انطلق خارج المنزل صافقاً الباب بقوة عنيفة خلفه ، فاستندت جليلة بكفي يدها عليه مرددة بهلع :
-يا مصيبتي ، الواد هايضيع نفسه !!!
لطمت على صدرها مرددة بحسرة :
-فينك يا حاج طه ، فينك يا منذر تلحق أخوك !!
أسرعت في خطاها نحو الهاتف قائلة :
- لازم أكلمهم يتصرفوا ويمنعوه بدل ما يودي نفسه في داهية !!!!
وكأنها استخدمت مطرقة قوية لتطرق بعنف على ذلك الحديد الساخن فأطلقت شرارته اللتهبة في الهواء.
واصلت أسيف اتهاماتها صائحة بإنفعال :
-محدش ليه مصلحة يعمل كده غيرك ، إنت اللي خدت الفلوس عشان تجبرني أبيع الدكان
انفجر فيها غاضباً بهياج :
-أنا مش حرامي يا بنت الأصول !
ثم التفت إلى عواطف متابعاً بشراسة :
-جرى ايه يا ست عواطف ، ماتفهمي بنت أخوكي أنا أبقى مين
حاولت تبرير الموقف قائلة بتلعثم :
-هي .. هي متقصدش آآ.. بس أصل آآ...
قاطعها قائلاً بإزدراء وهو ينظر لأسيف بنظرات نارية :
-هي في الأخر غلطتي أني عملت فيكي معروف
ردت عليه بصوت متشنج :
-معروف ! بقى السرقة اسمها معروف !
ثم أخفضت نبرتها نسبياً وهي تضيف بسخط متهكم :
-أنا مشوفتش كده في حياتي ، بجح وبيتكلم !
صرخ فيها هادراً وهو يلوح بذراعه مهدداً :
-بردك هاتقولي سرقة ، متخلنيش أتهور عليكي !
ثم تحرك ليقف قبالتها ليزيد من سوء الوضع ويضيق عليها الحصار ..
لم تهابه أسيف رغم حالة التوتر الكبيرة المسيطرة عليها ، لكنها قررت ألا تبدو لقمة سائغة له أو لغيره ، ستدافع عن حقها المسلوب وتستعيده .. ولن تمكنه من تحقيق مراده ، فواصلت جمودها وثباتها أمامه متحدية إياه ..
أدركت عواطف أن الموقف قد تأجج وبلغت ذروته ، فتحركت هي الأخرى لتقف حائلاً بينهما بجسدها ، وهتفت بإستعطاف :
-الله يخليك يا سي منذر ، الحكاية أكيد فيها لبس ! هي .. هي متقصدش
تجاهلها منذر ، وتابع قائلاً بصوت قاتم قاسي وقد أظلمت عيناه :
-لو عندك دليل واحد يقول إني سرقت ، روحي القسم واشتكي عليا !
خفق قلب عواطف بخوف ، فقد رأت في نظرات منذر ما يهدد بنسف كل شيء وإحراق الأرض بمن عليها.
هتفت بنبرة متوسلة :
-أقسام ايه بس ، مش للدرجادي يا سي منذر ، والله الموضوع ما كده ، ما تسكتي يا أسيف وتسمعيه للأخر !
حضر أحد صبيان القهوة حاملاً صينية بها مشروبات ساخنة مقترباً منهم وهو يقول :
-الشاي يا ريس !
ضرب منـــذر الصينية بقبضة يده صائحاً بنبرة محتدة :
-غور من هنا !
فلتت الصينية من يد الصبي ، وسقطت على الأرضية محدثة دوياً هائلاً على إثر تحطم الأكواب الزجاجية..
انتفضت أسيف في مكانها بسبب حركته العنيفة المباغتة ، وتراجعت عفوياً خطوة للخلف ..
ارتعد الصبي خوفاً من عصبيته الزائدة ، واختفى من أمام أنظاره على الفور ...
شكلت عواطف بجسدها حائلاً ، واختنق صوتها وهي تستجديه :
-اهدى يا سي منذر ! أكيد في غلطة ، والموضوع مش سرقة ولا الـ آآ...
هدر فيها بنبرة مخيفة أجبرتها على الصمت فجـــأة :
-مش أنا اللي يتقالي الكلام ده !
تيقنت عواطف أنه لا رجعة الآن عما حدث .. فقد صــار ما كانت تخشاه ، واكتسبت عداوته .. وأصبحت على وشك خسارة أكبر داعم لها..
لم تهتز عضلة واحدة من وجـــه أسيف ، وردت عليه بتحدٍ سافر بعد أن استجمعت كل ذرات شجاعتها لتبدو على قدر المواجهة :
-وأنا مش هاسكت عن حقي ، والدكان اللي طمعان فيه انت أو غيرك مش هاسيبوه يتباع مهما حصل
واصلت أسيف اتهاماتها صائحة بإنفعال :
-محدش ليه مصلحة يعمل كده غيرك ، إنت اللي خدت الفلوس عشان تجبرني أبيع الدكان
انفجر فيها غاضباً بهياج :
-أنا مش حرامي يا بنت الأصول !
ثم التفت إلى عواطف متابعاً بشراسة :
-جرى ايه يا ست عواطف ، ماتفهمي بنت أخوكي أنا أبقى مين
حاولت تبرير الموقف قائلة بتلعثم :
-هي .. هي متقصدش آآ.. بس أصل آآ...
قاطعها قائلاً بإزدراء وهو ينظر لأسيف بنظرات نارية :
-هي في الأخر غلطتي أني عملت فيكي معروف
ردت عليه بصوت متشنج :
-معروف ! بقى السرقة اسمها معروف !
ثم أخفضت نبرتها نسبياً وهي تضيف بسخط متهكم :
-أنا مشوفتش كده في حياتي ، بجح وبيتكلم !
صرخ فيها هادراً وهو يلوح بذراعه مهدداً :
-بردك هاتقولي سرقة ، متخلنيش أتهور عليكي !
ثم تحرك ليقف قبالتها ليزيد من سوء الوضع ويضيق عليها الحصار ..
لم تهابه أسيف رغم حالة التوتر الكبيرة المسيطرة عليها ، لكنها قررت ألا تبدو لقمة سائغة له أو لغيره ، ستدافع عن حقها المسلوب وتستعيده .. ولن تمكنه من تحقيق مراده ، فواصلت جمودها وثباتها أمامه متحدية إياه ..
أدركت عواطف أن الموقف قد تأجج وبلغت ذروته ، فتحركت هي الأخرى لتقف حائلاً بينهما بجسدها ، وهتفت بإستعطاف :
-الله يخليك يا سي منذر ، الحكاية أكيد فيها لبس ! هي .. هي متقصدش
تجاهلها منذر ، وتابع قائلاً بصوت قاتم قاسي وقد أظلمت عيناه :
-لو عندك دليل واحد يقول إني سرقت ، روحي القسم واشتكي عليا !
خفق قلب عواطف بخوف ، فقد رأت في نظرات منذر ما يهدد بنسف كل شيء وإحراق الأرض بمن عليها.
هتفت بنبرة متوسلة :
-أقسام ايه بس ، مش للدرجادي يا سي منذر ، والله الموضوع ما كده ، ما تسكتي يا أسيف وتسمعيه للأخر !
حضر أحد صبيان القهوة حاملاً صينية بها مشروبات ساخنة مقترباً منهم وهو يقول :
-الشاي يا ريس !
ضرب منـــذر الصينية بقبضة يده صائحاً بنبرة محتدة :
-غور من هنا !
فلتت الصينية من يد الصبي ، وسقطت على الأرضية محدثة دوياً هائلاً على إثر تحطم الأكواب الزجاجية..
انتفضت أسيف في مكانها بسبب حركته العنيفة المباغتة ، وتراجعت عفوياً خطوة للخلف ..
ارتعد الصبي خوفاً من عصبيته الزائدة ، واختفى من أمام أنظاره على الفور ...
شكلت عواطف بجسدها حائلاً ، واختنق صوتها وهي تستجديه :
-اهدى يا سي منذر ! أكيد في غلطة ، والموضوع مش سرقة ولا الـ آآ...
هدر فيها بنبرة مخيفة أجبرتها على الصمت فجـــأة :
-مش أنا اللي يتقالي الكلام ده !
تيقنت عواطف أنه لا رجعة الآن عما حدث .. فقد صــار ما كانت تخشاه ، واكتسبت عداوته .. وأصبحت على وشك خسارة أكبر داعم لها..
لم تهتز عضلة واحدة من وجـــه أسيف ، وردت عليه بتحدٍ سافر بعد أن استجمعت كل ذرات شجاعتها لتبدو على قدر المواجهة :
-وأنا مش هاسكت عن حقي ، والدكان اللي طمعان فيه انت أو غيرك مش هاسيبوه يتباع مهما حصل
لا يعرف كيف وصل إلى البناية القاطنة بها وهو يقود سيارته بجنون جـــامح ، سيطر عليه غضبه كلياً ، فلم يفكر بذهن صافٍ .
لم يتوقف عقله للحظة عن عتاب نفسه لوقوعه في تلك الخدعة بسذاجة .
لقد نجحت ولاء في تدبير مكيدة له ، وساقته قدميه إلى مصيدتها مرة أخرى بدون تفكير واعٍ منه .
ضرب بيده على المقود بعنف كبير معنفاً نفسه :
-أنا غبي .. غبي ، صدقتها ، وفكرت إنها بني آدمة ! بس هي ........... !!!
كز على أسنانه هاتفاً بتوعد شرس :
-وربنا لأدفعها تمن عملتها دي غالي أوي ، ومش هاتشوف ضافر ابني تاني !
ترجل من السيارة دون أن يعبأ بالتأكد من غلقها ، وركض مسرعاً في اتجاه مدخل البناية ..
ضرب بعنف على زر استدعاء المصعد ، لكنه لم يكن على قدر كافٍ من الصبر لينتظره ، فصعد على الدرج وهو ينفث ناراً ...
وصل إلى الطابق المتواجد به منزلها ، ودق الباب بعنف حتى كاد أن يخلعه صائحاً بصوت جهوري منفعل :
-افتحي يا بنت الـ ..... !! فين ابني ؟
ظل يطرق بقوة أكبر مسبباً إزعاجاً رهيباً للجيران ، وتابع صراخه الهادر والمهدد :
-مش هاسيبهولك ، سمعاني ، افتحي وإلا هاهد البيت على اللي فيه !
لم يجرؤ أي أحد من الجيران على التدخل ، فالجميع يعرف هويته ، وأي اشتباك معه لن ينذر بخير مطلقاً .. فاكتفوا بالمتابعة في صمت .. لأن الفضول في تلك المواقف الغير متوقعة يكن دوماً سيد الموقف ..
فُتح بــــاب المصعد ليلج منه والده الحــــاج طه ، والذي أبلغته زوجته بحالة ابنها العصبية فور تلقيه خبر الإخطــار فخمن على الفور مكان تواجده الحالي.. وصدق حدسه ..
اتجه ناحيته بخطى متعجلة قائلاً بصوت مرتفع وصــارم :
-ديــــاب
لم يلتفت نحوه ، بل استمر في دقـــه العنيف على الباب شاتماً ولاء بسباب مهين ..
وضع والده قبضته على ذراعه مردداً :
-اهدى يا دياب !
حاول تحرير ذراعه من قبضته قائلاً بهياج :
-سبني يا حاج
جذبه بقوة هاتفاً بصوت آمر :
-تعالى معايا !
رد عليه بحــــدة :
-مش هاسيبلها ابني !
حذره أباه قائلاً بضيق من تصرفاته :
-الناس بتتفرج علينا !
صرخ فيه بإهتياج وهو ينظر إليه بطرف عينه :
-خليهم يتفرجوا ويشوفوا بنت الـ .... اللي ماشية على حل شعرها
ثم ضرب بقبضته المتكورة بعنف على الباب متابعاً بتوعد شرس :
-والجبان اللي اتجوزته هاعرفه وهوريه !
رد عليه والده بضجر محاولاً إمتصاص غضبه :
-يا بني ماهي من حقها تتجوز تاني ، وهي غارت في داهية وبعدت عنك ، سيبك منها بقى !
صــاح فيه بإنفعال :
-تغور لوحدها ، مش تاخد ابني معاها !
هتف فيه طــــه بصوت صارم يحمل الحزم :
-ابنك هيرجعلك ، اطمن ، وخدها كلمة من أبوك !
وبصعوبة شديدة رضخ دياب لرجاء والده وترك المكان على مضض وهو مستمر في سبها والإساءة إليها
على الجانب الأخر ، أبلغ أحـــد الجيران الحاج مهدي هاتفياً – والذي يعد على صلة مقربة به ويعلم بمســألة زواج ابنه - بما يدور في منزل ولاء ..
أنهى معه الأخير المكالمة مردداً بتوجس :
-ولعتيها يا شادية انتي وبنتك وارتاحتي !
نظر مـــازن إلى أبيه بغرابة متساءلاً :
-في ايه يا حاج ؟
حدجه بنظرات مغلولة مجيباً إياه بصوت مزعوج :
-الجيران اتصلوا يقولولي عن الفضايح اللي في العمارة !
ضيق نظراته متساءلاً ببرود وكأنه لا يعرف السبب :
-فضايح ايه دي ؟
أجابه مهدي بحدة وعيناه ترمقاه بنظرات محتقنة :
-ما انت ولا على بالك ، تعمل المصيبة ومش سائل !
انزعج مـــازن من طريقته الغريبة في توبيخه ، ورد عليه قائلاً :
-في ايه يا حاج ، هاتكلمني بالألغاز كده كتير ؟
رد عليه مهدي بعصبية :
-اتأدب معايا !
ضغط مــازن على شفتيه بقوة متمتماً بكلمات مبهمة ، لكن قبل أن تخرج من فمه أضــاف مهدي مردداً بتأفف :
-طليق المحروسة عرف بجوازكم !
انتبهت جميع حواسه عقب تلك العبارة ، وهتف قائلاً بإرتباك قليل :
-دياب ؟ وعرف انه أنا اللي آآآ..
قاطعه مهدي نافياً :
-لأ لسه ! بس أكيد هايعرف ، هو في حاجة بتستخبى !
تجمع العمال بالوكـــالة على إثر صوته المرتفع ، لكن بقوا بالخــارج يراقبون الشجار الكلامي الدائر بين رب عملهم وقريبته عواطف وابنة أخيها..
همس أحدهم للأخر :
-الدنيا والعة جوا
رد عليه الأخر محذراً :
-مالناش دعوة ، دي مسائل عائلية ، خلينا بعيد بدل ما الريس منذر يبستفنا !
أضــاف ثالث مؤكداً :
-على رأيك ، دي لما الجنونة بتطلع مابيشوفش قدامه !
حدج منـــذر أسيف بنظرات نــــارية تعكس ما بداخله من ثورة غضب مشتعلة ..
هي أهانته ، اتهمته بشيء لم يرتكبه وهو الذي لم يتأخر عنها للحظة حينما كانت في أمس الحاجة إلى أي مساعدة.
انقذها من براثن قريبها القاسي ، عاونها في العودة إلى أهلها سالمة ، رد إليها اعتبارها وتأكد من ضمان ميراثها وعدم استيلاء الغرباء عليه
وفي الأخير أنكرت كل هذا .. فبدت جاحدة ، ناكرة الجميل ..
حافظت أسيف على تأجج حماسها الغاضب تجاهه ، ربما هيأت الظروف لها الإعتقاد بأنه الســارق ، لكن لا يوجد ما يشير مطلقاً إلى أنه الفاعل .. ربما كان أحد المشتبه به لكنه ليس اللص الحقيقي ..
هي حسمت الأمر بأنه كذلك ، وفكرت بصورة غير عقلانية نتيجة الضغط النفسي والعصبي عليها ، ولم تحسب بتفكير حكيم عواقب تهورها الطائش واندفاعها الأهوج ...
أخرجها من حالة الصمت صوته الخشن وهو يقول :
-مش منذر حرب اللي يمد ايده ويسرق !
ثم أولاها ظهره ليتجه نحو خزينة النقود القديمة الموضوعة في الزاوية خلف مكتبه ، وقــام بفتحها ليخرج منها رزماً من النقود ثم جمعهم بين كفيه ، وألقاهم أمامها على سطح مكتبها قائلاً بصوت غليظ :
-ولو ناقصك كمان أحطلك أدهم عشــر مرات !!!!
نعم ألقى أمامها ما تخطى حاجز أحلامها الوردية ..
فغرت شفتاها مصدومة من فعلته ، وحدقت فيه بذهـــول تام ..
كتمت عواطف شهقتها واضعة يدها على فمها ..
خالف منذر كل توقعاتها ، وفعل ما لم يخطر على بالها ..
ظلت أنظــــار منذر جامدة مسلطة عليها هي فقط ، متأملاً تعابيرها التي تحولت من القسوة لصدمة ..
بينما شعرت هي بمهانة عظيمة وهو يقذف بالنقود في وجهها وكأنها تستجديه حقها الضائع ..
رن هاتفه المحمول لأكثر من مرة ، فتجاهله غير مكترث بالمتصل ولا بإلحاحه المزعج ..
صـــاح بصوت قاتم آمراً أسيف وهو يحدجها بنظراته المزدرية :
-مدي ايدك وخديهم ، مالك متخشبة في مكانك ليه ؟
ابتلعت إهانتها بصعوبة ، ورفعت رأسها للأعلى في إباء وهي ترد :
-أنا .. أنا مابخدش غير حقي وبس !
هتفت عواطف بنزق مجاهدة لبذل أخر محاولة لها في ضبط الأمور :
-فلوس ايه بس يا سي منذر ، انت .. انت كده آآآ..
التفت هو نحوها لينظر لها بقوة فصمتت على الفور خوفاً منه ، ثم دنا من أسيف حتى صـــار على بعد خطوة واحدة منها.
نظر مباشرة في عينيها متابعاً بنبرة جافة لكنها تحمل الكثير من الحنق :
-ولو ده حقك خديه !
ثم ضيق لنظراته لتصبح أكثر قسوة وهو يسألها متعمداً :
-بس انتي متأكدة إن أنا الحرامي ؟
اهتزت نبرتها من طريقته المهيبة في التصرف معها :
-آآ.. مـ.. معرفش !
بدت غير واثقة من حكمها المطلق ، تداخلت أفكارها وتخبطت ...
إن كان هو اللص حقاً فلماذا يتكبد عناء دفع أضعاف ما كان معها ؟
ازدردت ريقها مجدداً ، وبررت هجومها المندفع عليه :
-أنا .. أنا ليا لي في اللي حصل قدامي ، وانت الوحيد اللي روحت اللوكاندة وآآ...
عبس بوجهه مقاطعاً بصوت قاتم أرجفها :
-انتي شوفتيني وأنا بأسرق ؟
انفرجت شفتاها للأسفل ولم تستطع الرد بالجزم عليه ..
زادت نظراته نحوها سخطاً وهو يضيف بنبرة ذات مغزى مستنكراً مجرد التفكير في كونه اللص :
-فلوس ايه اللي هاخدها من واحدة يتيمة زيك ؟ انتي متعرفنيش كويس !
خجلت أسيف من نفسها .. وبدأت حمرة جلية تسري في وجنتيها لتزيد من حرجها أمامه ..
لم يختلف موقف عواطف عنها كثيراً ، بل كانت تشعر بالغباء وأنها ناكرة للمعروف ..
عاتبت نفسها قائلة :
-يا ريتني ما هاودتك يا بنت أخويا ، أديكي وصلتينا لنصيبة سودة ، ربنا وحده عالم أخرتها إيه !!!
ظنت أسيف أنه ربما لجأ لذلك التصرف لإشعارها بالحرج ، وبالفعل نجح في هذا ، لا تستطيع إنكار أنه صدمها ..
لكن ما أملاه عليها عقلها – وتفكيرها الغير منضبط - أنه من المحتمل أن تكون محاولة أخرى للضغط عليها بوسيلة خفية لإجبارها على بيع الدكان .
هتفت بنزق مؤكدة :
-لو بتعمل كده عشان أبيع الدكان ، مش هايحصل !
همست عواطف قائلة بتوجس :
-بردك يا أسيف !
رمقها منذر بنظرات غريبة متعجباً من تفكيرها المحدود وخبرتها المعدومة في الحكم على الأمور بروية ، ثم ردد محذراً بعينيه :
-ماتدخليش المواضيع في بعضها !
وقبل أن تنطق بالمزيد أضـــاف بتحدٍ واثق :
-ولعلمك لو عاوز أخد الدكان هاخده ، بالذوق ، بالعافية ، أو بأي شكل !
بدت نظراته أكثر إظلاماً وهو يتابع مهدداً بقوة وملوحاً بكف يده :
-وإنتي بالشوية بتوعك دول مش هاتمنعيني !
ارتعدت من نبرته العدائية ، لكنها وقفت ثابتة في مكانها رغم تلك الرجفة الظاهرة عليها ..
استدارت برأسها نحو النقود الملاقاة على سطح المكتب ، وأشارت بكف يدها قائلة بكبرياء :
-أنا مش هاخد فلوسك دي !
هزت رأسها بإعتراض وهي تلوي ثغرها مكملة بكرامة :
-هما مايلزمونيش ، وحقي اللي ضــاع هاعرف ارجعه سواء منك أو من غيرك !!!
نظرت له لمرة أخيرة بإزدراء ، ثم أولته ظهرها مرددة بصوت مختنق :
-يالا يا عمتي من هنا !
تحرك منـــذر سريعاً ليسد عليها الطريق بجسده فشهقت مرعوبة من ظهوره المفاجيء ، وتسمرت في مكانها منكمشة على نفسها أكثر..
مال برأسه عليها ليهمس لها بقسوة مخيفة :
-وحقي أنا كمان هاخده بطريقتي !
لم تفهم المقصد من عبارته الغامضة تلك .. لكنها كانت كافية لتربكها وتدب الرعب في قلبها ..
تسارعت دقات قلبها فجأة ، وتوترت إلى حد ما ..
هي كلمات مريبة تحمل بين طياتها الكثير ، بها ما يهدد سكونها ، وما ينذر بهبوب عواصــــف ستقتلع ما على الأخضر واليابس ...
تنحى للجانب مشيراً بذراعه وهو يقول ببرود جامد :
-اتفضلي ، أظنك عارفة السكة ازاي !!!
التفتت برأسها نحوه لترمقه بنظرات أخيرة شبه مذعورة ، ثم أسرعت في خطاها لتختفي من أمامه ..
ظلت عواطف باقية في مكانها للحظة تتوسله بإستعطاف علها تستطيه إصلاح ما أفسد :
-سامحها يا سي منذر ، هي على نيتها ومش فاهمة حاجة ، واللي .. واللي ما يعرفك يجهلك !
بدت ملامحه جامدة وهو يجيبها بصوت مهدد بخطر مهلك :
-اللي حصل ده يا عواطف مش هايعدي على خير ، خليكي فاكرة ده كويس !
شهقت قائلة بهلع :
-بس أنا ماليش ذنب وآآ...
قاطعها هاتفاً بصرامة وهو يشيح بوجهه بعيداً عنها :
-ده أخر ما عندي ، مات الكلام ، بالسلامة يا بنت خالة أبويا !
لم تضف المزيد ، وانصرفت لتلحق بإبنة أخيها مرددة بتخوف كبير :
-عملتي كده ليه بس يا بنتي ، استرها علينا يا رب في اللي جــاي ا!!
طالع الأوراق الرسمية الموضوعة أمامه بنظرات متفحصة ، ثم رفع عيناه للأعلى ليستطرد حديثه قائلاً بنبرة جادة :
-مبروك يا مجد ، اسمك مع اللي هايخدوا افراج !
ابتسم الأخير بمكر وهو يرد عليه بصوت رخيم وخشن :
-الله يبارك فيك يا باشا
حذره المأمور قائلاً بجدية :
-مش عاوزين مشاكل تاني يا أبو النجا ، امشي عدل !
أومأ برأسه ممتثلاً :
-اطمن يا باشا !
لوح له بظهر كف يده متابعاً بصرامة :
-اتفضل ، خده يا شاويش !
رفع الصــول كفه أعلى جبينه مؤدياً التحية العسكرية وهو يرد بصوت رسمي :
-تمام يا فندم !
ثم اقترب من السجين وقبض على ذراعه ساحباً إياه خارج غرفة مكتب المأمــــور ..
تنفس مجد بإرتيــــاح كبير ، ودندن مع نفسه بسعادة بصافرات خافتة ..
آمـــال الصول رأسه على مجد قائلاً بصوت خفيض :
-هنيالك يا عم ! افتكرني !
رد عليه مجد بخبث :
-مش ناسيك يا شاويش ، وقت ما أخرج من المخروبة دي عدي عليا في المطعم ، انت معاك العنوان ، صح ؟
أجابه الصول هامساً :
-اه كاتبه !
مسح على صدره عدة مرات ، كما برقت عيناه بوميض غريب وهو يتابع مردداً :
-حلو أوي ! وهنتقابل كتير
تنحنح الصول بخفوت قائلاً بإبتسامة صفراء :
-احم .. ماشي !
ثم خشن من نبرة صوته ليبدو أكثر صرامة وهو يصيح بحدة :
-يالا يا مسجون ، اتحرك شوية !
قام مجد بمجاراته في تلك التمثيلية المصطنعة قائلاً :
-ماشي يا شاويش !
لم ترغب أسيف في العودة إلى منزل عمتها دون المرور أولاً على الدكـــان لتراه ..
كانت في وضع نفسي سيء ..
أرادت أن تخرج من تلك الحالة المتخبطة المسيطرة عليها وترى أخــر ما تُرك لها من أبيها الراحل لعل ذلك يثلج صدرها الملتاع ..
لم تجد صعوبة في البحث عنه ، فقد وجدته بسؤال أحد المارة القاطنين بالمنطقة الشعبية ..
اتجهت إلى حيث أرشدها ، وهرولت مسرعة نحوه.
تباطئت خطواتها حينما وقعت أنظارها عليه ..
التقطت عيناها تلك اللافتة المتهالكة التي تعتلي ذلك المكان العتيق ..
دققت النظر في كلماتها الباهتة ، وقرأتها بصوت خافت :
-دكان الحاج خورشيد !
اضطربت ضربات قلبها ، وتهدجت أنفاسها من الحماس ..
كان الدكان واضحاً للعيان بسبب إحاطته بتلك المحال حديثة التجهيز ..
بدا كبقعة أثرية قديمة تتوسط تلك التصاميم الحديثة ..
قفز قلبها طرباً ، ولمعت عيناها بعبرات خفيفة ..
تنفست بعمق ، وتقوس فمها بإبتسامة باهتة ..
شعرت أنها وجدت جزءاً مفقوداً منها ..
سارت بثبات نحوه مخرجة مفتاحه من حافظة نقودها ..
لوهلة ظنت أنها عادت بالزمن لأشهر مضت حيث كانت في كنف أبويها ..
سالت منها العبرات دون وعي فكفكفتها براحة يدها ..
أخذت شهيقاً عميقاً ، ودنت أكثر منه.
مــــدت أسيف يدها تتحسس ملمس بابه الخشبي الخشن. رجفة قوية دبت في أوصـــالها وهي تشعر بقوة الزمن ..
إنه نفس ذلك الإحساس الفطري الذي يبعث على نفسها الهدوء حينما تستعيد شيئاً عزيزياً عليها ..
زاد خفقان قلبها ، ونهج صدرها من التوتر ..
أغمضت عيناها مستعيدة ذكريات قديمة مطمئنة ..
تنفست بعمق ، ثم عاودت فتح جفنيها لتشرع في فتحه.
رأت ذلك القفل الصدأ الذي يزين بابه ، فدست المفتاح به وأدارته بحذر شديد ..
وجدت صعوبة في فتحه ، فقد كان صدئاً للغاية ..
استجمعت كل قوتها لتفتحه لكنها لم تستطع ، كانت تحتاج لمجهود كبير لتتمكن من فتحه..
خشيت أن ينكسر المفتاح بالقفل فيتعذر عليها إخراجه لذا تراجعت مؤقتاً عن تلك الفكرة حتى تستعين بذوي الخبرة في فتحه ..
أكثر ما أراحها أنها شعرت بأن لذلك المكان روحاً .. روحاً تذكرها بماضيها الطيب ، بحنينها إلى من تشتاقهم .. بعائلتها الغالية ...
ألقت نظرة أخيرة على الدكان قبل أن تودعه قائلة لنفسها بإصرار عنيد :
-انت ملكي ، مش هافرط فيك !
رأتها عواطف من بعيد بعد أن كانت تبحث عنها بخوف، فهتفت صائحة :
-أسيف !
استدارت الأخيرة نحوها عقب سماعها لصوتها ، وتحركت عائدة إليها بخطوات سريعة نسبياً ..
أكملت عمتها هاتفة بتساؤل :
-كنتي فين يا بنتي ؟
أجابتها بصوت شبه مختنق :
-عند دكان أبويا !
رفعت عواطف أنظارها للأعلى لتحدق خلف كتف أسيف فرأت بالفعل الدكان ..
لقد وصلت إليه بمفردها.. وبدا عليها التأثر من رؤيته.
تنهدت بآسى وهي تربت على ذراعها :
-طب يالا بينا نرجع البيت !
لم تعترض أسيف ، وأكملت معاها السير وهي تفكر فيما ستفعله فيما بعد
لاحقاً ، سردت عواطف على ابنتها نيرمين ما دار بين منـــذر وأسيف ..
أصرت الأخيرة على معرفة كافة التفاصيل خلال تلك المشادة الحــــادة ..
تلون وجهها بحمرة غاضبة واحتقنت عيناها بشدة عقب سماعها لتلك الإتهامات القاسية من ابنة خالها له ..
فبغبائها أفسدت العلاقات بين الأسرتين ، وربما حولته إلى عداء شخصي لأجل دكان لا يثمن ولا يغني من جوع ، ناهيك عن زيف إدعائها الباطل بالسرقة ..
صرخت في أمها بتعنيف وهي تكز على أسنانها :
-وإزاي تسكتيلها يا ماما ؟ مجريتهاش من شعرها ليه قبل ما تتنيل تبوظ الدنيا ؟
ردت عليها عواطف بقلة حيلة وهي تضرب على فخذيها بكفيها :
-مجاش في بالي انها هتعمل كده !
توعدتها نيرمين قائلة بشراسة :
-أنا هاروح أموتها ، مش سيباها !
أمسكت بها والدتها بصعوبة قائلة بنبرة حادة :
-اقعدي انتي كمان ، هو أنا كل ما أهديها من ناحية ، تولع من الناحية التانية !
صاحت فيها نيرمين بإنفعال جلي مهينة إياها :
-لأن البت دي غبية ومابتفهمش ، عاملة نفسها ناصحة وهي جاية من ورا الجاموسة !
صرخت فيها عواطف بنفاذ صبر :
-بس بقى كفاية ، أنا معنتش قادرة
أصرت نيرمين على الإشتباك معها قائلة بعصبية :
-مش هاسكتلها يا ماما ، دي هاتسوق فيها !
تملصت من قبضة أمها ، ثم اندفعت بجنون نحو الخــــارج صارخة بصوت مرتفع مهتاج :
-انتي يا اللي اسمك زفت أسيف ، إنتي يا وش البومة يا فقر ، تعالي هنا كلميني !
التقطت أذن أسيف إهانتها اللاذعة من داخل الغرفة ، فاستشاطت نظراتها ، واصطبغت وجنتيها بحمرة مزعوجة للغاية ..
لم تكبح ذلك الأدرينالين الغاضب المتدفق بشراهة في عروقها ليحفز خلايا جسدها على الإنقضاض والدفاع عن نفسها ..
لذا نهضت من رقدتها متجهة للخارج صارخة فيها بصوت متشنج :
-اكلمي عدل معايا !
لم تمهلها نيرمين الفرصة للحديث ، بل غرزت أصابعها في خصلات شعرها متعمدة جذبها منه بشراسة وكأنها تريد اقتلاعه من جذوره صائحة بحنق كبير :
-مفكرة نفسك مين عشان تخلينا نعادي أسيادك ؟!
صرخت أسيف متأوهة من شدة الآلم ، وحاولت تخليص شعرها من يدها قائلة بجنون :
-آآآآه ، سيبي شعري يا متخلفة ، آآآآه !
ردت عليها نيرمين بإهانة وقحة وهي تهز رأسها المأسور في قبضة يدها بعنف :
-المتخلفة دي اللي هاتربيكي يا تربية الزرايب !
من المعروف أن أبسط وسائل الدفــاع عن النفس هي المبادرة بالهجوم المباغت على الخصم في مواضع الآلم لتشتت تركيزه ..
وهذا ما فعلته أسيف .. تحاملت على نفسها ذلك الوجع الرهيب ، وثنيت ركبتها قليلاً ، ثم ركلت بها بقوة أسفل بطن نيرمين .. فصاحت الأخيرة متآلمة :
-آآآه ، يا بنت الـ ..... !!
أفلتت أصابعها نسبياً عن شعرها واضعة قبضة يدها الأخرى على بطنها.
نجحت أسيف في إلهائها ، و حازت على فرصة أخرى لرد الصاع صاعين ، خاصة أن إهانات نيرمين لها كانت وضيعة للغاية ، وبلا أي مقدمات باغتتها بصفعة عنيفة على وجنتها قائلة بجموح :
-إياكي تغلطي فيا تاني ، مش هاسكتلك ، والقلم ده يعرفك أنا مين !
صدمت نيرمين من صفعتها تلك .. وبرقت عيناها بنيران محتدة للغاية ..
في تلك اللحظة تحديداً شهقت عـــواطف غير مصدقة ما يدور بين الاثنتين ..
أسرعت بالتدخل بينهما ، وشكلت بجسدها حائلاً لتفصل بينهما قائلة بذهول :
-انتو اتجننوا ، بتضربوا بعض قصــادي
وضعت نيرمين يدها على صدغها متحسسة إياه ، وصارخة بإهتياج وهي تشير بسبابتها الأخرى :
-هولع فيها النهاردة ، هاجيب أجلها !
ردت عليها أسيف بجرأة غريبة لا تعرف من أين جاءتها :
-فكري بس تقربي مني وأنا هادبحك !
-بــــــــــــــــــــــــــس !!
صرخت عواطف بتلك الكلمة الموجزة وهي تضع يديها على أذنيها ..
تابعت قائلة بصوت متشنج وهي توزع نظراتها المستنكرة على الاثنين :
-اعملولي احترام ، في ايــــــــــــــــه ؟؟؟!!!!
ثم ركزت أنظارها على أسيف وحدها .. تلك الضعيفة التي تحولت فجـــأة من مجرد حمل وديع إلى وحش ضــاري ..
كانت صدمتها فيها أكبر من قدرتها على إستيعاب تبدلها المريب والمخيف في نفس الآن ..
لقد برزت لها أنياب تهدد وتتوعد غير عابئة بتبعات أي شيء ..
في لحظــــة ما فاصلة في حياة الفرد ، تتعرض فيها شخصيته الطبيعية لضغوطات نفسية قاسية ومستمرة مصحوبة بإهانات تتجاوز حد المقبول من المحيطين به ، فتدفعه دفعاً للإنفجـــــار في وقت غير متوقع حينما يصل الأمر معه لذروته .. وهذا ما صـــار مع أسيف ..
لقد بلغت القمة بتحميل نفسها مالا تطيق .. فإنهارت قواها المتماسكة ، وتحفزت حواسها للدفــــاع عن نفسها بشراسة ضد من يهددها
لم يتوقف عقله للحظة عن عتاب نفسه لوقوعه في تلك الخدعة بسذاجة .
لقد نجحت ولاء في تدبير مكيدة له ، وساقته قدميه إلى مصيدتها مرة أخرى بدون تفكير واعٍ منه .
ضرب بيده على المقود بعنف كبير معنفاً نفسه :
-أنا غبي .. غبي ، صدقتها ، وفكرت إنها بني آدمة ! بس هي ........... !!!
كز على أسنانه هاتفاً بتوعد شرس :
-وربنا لأدفعها تمن عملتها دي غالي أوي ، ومش هاتشوف ضافر ابني تاني !
ترجل من السيارة دون أن يعبأ بالتأكد من غلقها ، وركض مسرعاً في اتجاه مدخل البناية ..
ضرب بعنف على زر استدعاء المصعد ، لكنه لم يكن على قدر كافٍ من الصبر لينتظره ، فصعد على الدرج وهو ينفث ناراً ...
وصل إلى الطابق المتواجد به منزلها ، ودق الباب بعنف حتى كاد أن يخلعه صائحاً بصوت جهوري منفعل :
-افتحي يا بنت الـ ..... !! فين ابني ؟
ظل يطرق بقوة أكبر مسبباً إزعاجاً رهيباً للجيران ، وتابع صراخه الهادر والمهدد :
-مش هاسيبهولك ، سمعاني ، افتحي وإلا هاهد البيت على اللي فيه !
لم يجرؤ أي أحد من الجيران على التدخل ، فالجميع يعرف هويته ، وأي اشتباك معه لن ينذر بخير مطلقاً .. فاكتفوا بالمتابعة في صمت .. لأن الفضول في تلك المواقف الغير متوقعة يكن دوماً سيد الموقف ..
فُتح بــــاب المصعد ليلج منه والده الحــــاج طه ، والذي أبلغته زوجته بحالة ابنها العصبية فور تلقيه خبر الإخطــار فخمن على الفور مكان تواجده الحالي.. وصدق حدسه ..
اتجه ناحيته بخطى متعجلة قائلاً بصوت مرتفع وصــارم :
-ديــــاب
لم يلتفت نحوه ، بل استمر في دقـــه العنيف على الباب شاتماً ولاء بسباب مهين ..
وضع والده قبضته على ذراعه مردداً :
-اهدى يا دياب !
حاول تحرير ذراعه من قبضته قائلاً بهياج :
-سبني يا حاج
جذبه بقوة هاتفاً بصوت آمر :
-تعالى معايا !
رد عليه بحــــدة :
-مش هاسيبلها ابني !
حذره أباه قائلاً بضيق من تصرفاته :
-الناس بتتفرج علينا !
صرخ فيه بإهتياج وهو ينظر إليه بطرف عينه :
-خليهم يتفرجوا ويشوفوا بنت الـ .... اللي ماشية على حل شعرها
ثم ضرب بقبضته المتكورة بعنف على الباب متابعاً بتوعد شرس :
-والجبان اللي اتجوزته هاعرفه وهوريه !
رد عليه والده بضجر محاولاً إمتصاص غضبه :
-يا بني ماهي من حقها تتجوز تاني ، وهي غارت في داهية وبعدت عنك ، سيبك منها بقى !
صــاح فيه بإنفعال :
-تغور لوحدها ، مش تاخد ابني معاها !
هتف فيه طــــه بصوت صارم يحمل الحزم :
-ابنك هيرجعلك ، اطمن ، وخدها كلمة من أبوك !
وبصعوبة شديدة رضخ دياب لرجاء والده وترك المكان على مضض وهو مستمر في سبها والإساءة إليها
على الجانب الأخر ، أبلغ أحـــد الجيران الحاج مهدي هاتفياً – والذي يعد على صلة مقربة به ويعلم بمســألة زواج ابنه - بما يدور في منزل ولاء ..
أنهى معه الأخير المكالمة مردداً بتوجس :
-ولعتيها يا شادية انتي وبنتك وارتاحتي !
نظر مـــازن إلى أبيه بغرابة متساءلاً :
-في ايه يا حاج ؟
حدجه بنظرات مغلولة مجيباً إياه بصوت مزعوج :
-الجيران اتصلوا يقولولي عن الفضايح اللي في العمارة !
ضيق نظراته متساءلاً ببرود وكأنه لا يعرف السبب :
-فضايح ايه دي ؟
أجابه مهدي بحدة وعيناه ترمقاه بنظرات محتقنة :
-ما انت ولا على بالك ، تعمل المصيبة ومش سائل !
انزعج مـــازن من طريقته الغريبة في توبيخه ، ورد عليه قائلاً :
-في ايه يا حاج ، هاتكلمني بالألغاز كده كتير ؟
رد عليه مهدي بعصبية :
-اتأدب معايا !
ضغط مــازن على شفتيه بقوة متمتماً بكلمات مبهمة ، لكن قبل أن تخرج من فمه أضــاف مهدي مردداً بتأفف :
-طليق المحروسة عرف بجوازكم !
انتبهت جميع حواسه عقب تلك العبارة ، وهتف قائلاً بإرتباك قليل :
-دياب ؟ وعرف انه أنا اللي آآآ..
قاطعه مهدي نافياً :
-لأ لسه ! بس أكيد هايعرف ، هو في حاجة بتستخبى !
تجمع العمال بالوكـــالة على إثر صوته المرتفع ، لكن بقوا بالخــارج يراقبون الشجار الكلامي الدائر بين رب عملهم وقريبته عواطف وابنة أخيها..
همس أحدهم للأخر :
-الدنيا والعة جوا
رد عليه الأخر محذراً :
-مالناش دعوة ، دي مسائل عائلية ، خلينا بعيد بدل ما الريس منذر يبستفنا !
أضــاف ثالث مؤكداً :
-على رأيك ، دي لما الجنونة بتطلع مابيشوفش قدامه !
حدج منـــذر أسيف بنظرات نــــارية تعكس ما بداخله من ثورة غضب مشتعلة ..
هي أهانته ، اتهمته بشيء لم يرتكبه وهو الذي لم يتأخر عنها للحظة حينما كانت في أمس الحاجة إلى أي مساعدة.
انقذها من براثن قريبها القاسي ، عاونها في العودة إلى أهلها سالمة ، رد إليها اعتبارها وتأكد من ضمان ميراثها وعدم استيلاء الغرباء عليه
وفي الأخير أنكرت كل هذا .. فبدت جاحدة ، ناكرة الجميل ..
حافظت أسيف على تأجج حماسها الغاضب تجاهه ، ربما هيأت الظروف لها الإعتقاد بأنه الســارق ، لكن لا يوجد ما يشير مطلقاً إلى أنه الفاعل .. ربما كان أحد المشتبه به لكنه ليس اللص الحقيقي ..
هي حسمت الأمر بأنه كذلك ، وفكرت بصورة غير عقلانية نتيجة الضغط النفسي والعصبي عليها ، ولم تحسب بتفكير حكيم عواقب تهورها الطائش واندفاعها الأهوج ...
أخرجها من حالة الصمت صوته الخشن وهو يقول :
-مش منذر حرب اللي يمد ايده ويسرق !
ثم أولاها ظهره ليتجه نحو خزينة النقود القديمة الموضوعة في الزاوية خلف مكتبه ، وقــام بفتحها ليخرج منها رزماً من النقود ثم جمعهم بين كفيه ، وألقاهم أمامها على سطح مكتبها قائلاً بصوت غليظ :
-ولو ناقصك كمان أحطلك أدهم عشــر مرات !!!!
نعم ألقى أمامها ما تخطى حاجز أحلامها الوردية ..
فغرت شفتاها مصدومة من فعلته ، وحدقت فيه بذهـــول تام ..
كتمت عواطف شهقتها واضعة يدها على فمها ..
خالف منذر كل توقعاتها ، وفعل ما لم يخطر على بالها ..
ظلت أنظــــار منذر جامدة مسلطة عليها هي فقط ، متأملاً تعابيرها التي تحولت من القسوة لصدمة ..
بينما شعرت هي بمهانة عظيمة وهو يقذف بالنقود في وجهها وكأنها تستجديه حقها الضائع ..
رن هاتفه المحمول لأكثر من مرة ، فتجاهله غير مكترث بالمتصل ولا بإلحاحه المزعج ..
صـــاح بصوت قاتم آمراً أسيف وهو يحدجها بنظراته المزدرية :
-مدي ايدك وخديهم ، مالك متخشبة في مكانك ليه ؟
ابتلعت إهانتها بصعوبة ، ورفعت رأسها للأعلى في إباء وهي ترد :
-أنا .. أنا مابخدش غير حقي وبس !
هتفت عواطف بنزق مجاهدة لبذل أخر محاولة لها في ضبط الأمور :
-فلوس ايه بس يا سي منذر ، انت .. انت كده آآآ..
التفت هو نحوها لينظر لها بقوة فصمتت على الفور خوفاً منه ، ثم دنا من أسيف حتى صـــار على بعد خطوة واحدة منها.
نظر مباشرة في عينيها متابعاً بنبرة جافة لكنها تحمل الكثير من الحنق :
-ولو ده حقك خديه !
ثم ضيق لنظراته لتصبح أكثر قسوة وهو يسألها متعمداً :
-بس انتي متأكدة إن أنا الحرامي ؟
اهتزت نبرتها من طريقته المهيبة في التصرف معها :
-آآ.. مـ.. معرفش !
بدت غير واثقة من حكمها المطلق ، تداخلت أفكارها وتخبطت ...
إن كان هو اللص حقاً فلماذا يتكبد عناء دفع أضعاف ما كان معها ؟
ازدردت ريقها مجدداً ، وبررت هجومها المندفع عليه :
-أنا .. أنا ليا لي في اللي حصل قدامي ، وانت الوحيد اللي روحت اللوكاندة وآآ...
عبس بوجهه مقاطعاً بصوت قاتم أرجفها :
-انتي شوفتيني وأنا بأسرق ؟
انفرجت شفتاها للأسفل ولم تستطع الرد بالجزم عليه ..
زادت نظراته نحوها سخطاً وهو يضيف بنبرة ذات مغزى مستنكراً مجرد التفكير في كونه اللص :
-فلوس ايه اللي هاخدها من واحدة يتيمة زيك ؟ انتي متعرفنيش كويس !
خجلت أسيف من نفسها .. وبدأت حمرة جلية تسري في وجنتيها لتزيد من حرجها أمامه ..
لم يختلف موقف عواطف عنها كثيراً ، بل كانت تشعر بالغباء وأنها ناكرة للمعروف ..
عاتبت نفسها قائلة :
-يا ريتني ما هاودتك يا بنت أخويا ، أديكي وصلتينا لنصيبة سودة ، ربنا وحده عالم أخرتها إيه !!!
ظنت أسيف أنه ربما لجأ لذلك التصرف لإشعارها بالحرج ، وبالفعل نجح في هذا ، لا تستطيع إنكار أنه صدمها ..
لكن ما أملاه عليها عقلها – وتفكيرها الغير منضبط - أنه من المحتمل أن تكون محاولة أخرى للضغط عليها بوسيلة خفية لإجبارها على بيع الدكان .
هتفت بنزق مؤكدة :
-لو بتعمل كده عشان أبيع الدكان ، مش هايحصل !
همست عواطف قائلة بتوجس :
-بردك يا أسيف !
رمقها منذر بنظرات غريبة متعجباً من تفكيرها المحدود وخبرتها المعدومة في الحكم على الأمور بروية ، ثم ردد محذراً بعينيه :
-ماتدخليش المواضيع في بعضها !
وقبل أن تنطق بالمزيد أضـــاف بتحدٍ واثق :
-ولعلمك لو عاوز أخد الدكان هاخده ، بالذوق ، بالعافية ، أو بأي شكل !
بدت نظراته أكثر إظلاماً وهو يتابع مهدداً بقوة وملوحاً بكف يده :
-وإنتي بالشوية بتوعك دول مش هاتمنعيني !
ارتعدت من نبرته العدائية ، لكنها وقفت ثابتة في مكانها رغم تلك الرجفة الظاهرة عليها ..
استدارت برأسها نحو النقود الملاقاة على سطح المكتب ، وأشارت بكف يدها قائلة بكبرياء :
-أنا مش هاخد فلوسك دي !
هزت رأسها بإعتراض وهي تلوي ثغرها مكملة بكرامة :
-هما مايلزمونيش ، وحقي اللي ضــاع هاعرف ارجعه سواء منك أو من غيرك !!!
نظرت له لمرة أخيرة بإزدراء ، ثم أولته ظهرها مرددة بصوت مختنق :
-يالا يا عمتي من هنا !
تحرك منـــذر سريعاً ليسد عليها الطريق بجسده فشهقت مرعوبة من ظهوره المفاجيء ، وتسمرت في مكانها منكمشة على نفسها أكثر..
مال برأسه عليها ليهمس لها بقسوة مخيفة :
-وحقي أنا كمان هاخده بطريقتي !
لم تفهم المقصد من عبارته الغامضة تلك .. لكنها كانت كافية لتربكها وتدب الرعب في قلبها ..
تسارعت دقات قلبها فجأة ، وتوترت إلى حد ما ..
هي كلمات مريبة تحمل بين طياتها الكثير ، بها ما يهدد سكونها ، وما ينذر بهبوب عواصــــف ستقتلع ما على الأخضر واليابس ...
تنحى للجانب مشيراً بذراعه وهو يقول ببرود جامد :
-اتفضلي ، أظنك عارفة السكة ازاي !!!
التفتت برأسها نحوه لترمقه بنظرات أخيرة شبه مذعورة ، ثم أسرعت في خطاها لتختفي من أمامه ..
ظلت عواطف باقية في مكانها للحظة تتوسله بإستعطاف علها تستطيه إصلاح ما أفسد :
-سامحها يا سي منذر ، هي على نيتها ومش فاهمة حاجة ، واللي .. واللي ما يعرفك يجهلك !
بدت ملامحه جامدة وهو يجيبها بصوت مهدد بخطر مهلك :
-اللي حصل ده يا عواطف مش هايعدي على خير ، خليكي فاكرة ده كويس !
شهقت قائلة بهلع :
-بس أنا ماليش ذنب وآآ...
قاطعها هاتفاً بصرامة وهو يشيح بوجهه بعيداً عنها :
-ده أخر ما عندي ، مات الكلام ، بالسلامة يا بنت خالة أبويا !
لم تضف المزيد ، وانصرفت لتلحق بإبنة أخيها مرددة بتخوف كبير :
-عملتي كده ليه بس يا بنتي ، استرها علينا يا رب في اللي جــاي ا!!
طالع الأوراق الرسمية الموضوعة أمامه بنظرات متفحصة ، ثم رفع عيناه للأعلى ليستطرد حديثه قائلاً بنبرة جادة :
-مبروك يا مجد ، اسمك مع اللي هايخدوا افراج !
ابتسم الأخير بمكر وهو يرد عليه بصوت رخيم وخشن :
-الله يبارك فيك يا باشا
حذره المأمور قائلاً بجدية :
-مش عاوزين مشاكل تاني يا أبو النجا ، امشي عدل !
أومأ برأسه ممتثلاً :
-اطمن يا باشا !
لوح له بظهر كف يده متابعاً بصرامة :
-اتفضل ، خده يا شاويش !
رفع الصــول كفه أعلى جبينه مؤدياً التحية العسكرية وهو يرد بصوت رسمي :
-تمام يا فندم !
ثم اقترب من السجين وقبض على ذراعه ساحباً إياه خارج غرفة مكتب المأمــــور ..
تنفس مجد بإرتيــــاح كبير ، ودندن مع نفسه بسعادة بصافرات خافتة ..
آمـــال الصول رأسه على مجد قائلاً بصوت خفيض :
-هنيالك يا عم ! افتكرني !
رد عليه مجد بخبث :
-مش ناسيك يا شاويش ، وقت ما أخرج من المخروبة دي عدي عليا في المطعم ، انت معاك العنوان ، صح ؟
أجابه الصول هامساً :
-اه كاتبه !
مسح على صدره عدة مرات ، كما برقت عيناه بوميض غريب وهو يتابع مردداً :
-حلو أوي ! وهنتقابل كتير
تنحنح الصول بخفوت قائلاً بإبتسامة صفراء :
-احم .. ماشي !
ثم خشن من نبرة صوته ليبدو أكثر صرامة وهو يصيح بحدة :
-يالا يا مسجون ، اتحرك شوية !
قام مجد بمجاراته في تلك التمثيلية المصطنعة قائلاً :
-ماشي يا شاويش !
لم ترغب أسيف في العودة إلى منزل عمتها دون المرور أولاً على الدكـــان لتراه ..
كانت في وضع نفسي سيء ..
أرادت أن تخرج من تلك الحالة المتخبطة المسيطرة عليها وترى أخــر ما تُرك لها من أبيها الراحل لعل ذلك يثلج صدرها الملتاع ..
لم تجد صعوبة في البحث عنه ، فقد وجدته بسؤال أحد المارة القاطنين بالمنطقة الشعبية ..
اتجهت إلى حيث أرشدها ، وهرولت مسرعة نحوه.
تباطئت خطواتها حينما وقعت أنظارها عليه ..
التقطت عيناها تلك اللافتة المتهالكة التي تعتلي ذلك المكان العتيق ..
دققت النظر في كلماتها الباهتة ، وقرأتها بصوت خافت :
-دكان الحاج خورشيد !
اضطربت ضربات قلبها ، وتهدجت أنفاسها من الحماس ..
كان الدكان واضحاً للعيان بسبب إحاطته بتلك المحال حديثة التجهيز ..
بدا كبقعة أثرية قديمة تتوسط تلك التصاميم الحديثة ..
قفز قلبها طرباً ، ولمعت عيناها بعبرات خفيفة ..
تنفست بعمق ، وتقوس فمها بإبتسامة باهتة ..
شعرت أنها وجدت جزءاً مفقوداً منها ..
سارت بثبات نحوه مخرجة مفتاحه من حافظة نقودها ..
لوهلة ظنت أنها عادت بالزمن لأشهر مضت حيث كانت في كنف أبويها ..
سالت منها العبرات دون وعي فكفكفتها براحة يدها ..
أخذت شهيقاً عميقاً ، ودنت أكثر منه.
مــــدت أسيف يدها تتحسس ملمس بابه الخشبي الخشن. رجفة قوية دبت في أوصـــالها وهي تشعر بقوة الزمن ..
إنه نفس ذلك الإحساس الفطري الذي يبعث على نفسها الهدوء حينما تستعيد شيئاً عزيزياً عليها ..
زاد خفقان قلبها ، ونهج صدرها من التوتر ..
أغمضت عيناها مستعيدة ذكريات قديمة مطمئنة ..
تنفست بعمق ، ثم عاودت فتح جفنيها لتشرع في فتحه.
رأت ذلك القفل الصدأ الذي يزين بابه ، فدست المفتاح به وأدارته بحذر شديد ..
وجدت صعوبة في فتحه ، فقد كان صدئاً للغاية ..
استجمعت كل قوتها لتفتحه لكنها لم تستطع ، كانت تحتاج لمجهود كبير لتتمكن من فتحه..
خشيت أن ينكسر المفتاح بالقفل فيتعذر عليها إخراجه لذا تراجعت مؤقتاً عن تلك الفكرة حتى تستعين بذوي الخبرة في فتحه ..
أكثر ما أراحها أنها شعرت بأن لذلك المكان روحاً .. روحاً تذكرها بماضيها الطيب ، بحنينها إلى من تشتاقهم .. بعائلتها الغالية ...
ألقت نظرة أخيرة على الدكان قبل أن تودعه قائلة لنفسها بإصرار عنيد :
-انت ملكي ، مش هافرط فيك !
رأتها عواطف من بعيد بعد أن كانت تبحث عنها بخوف، فهتفت صائحة :
-أسيف !
استدارت الأخيرة نحوها عقب سماعها لصوتها ، وتحركت عائدة إليها بخطوات سريعة نسبياً ..
أكملت عمتها هاتفة بتساؤل :
-كنتي فين يا بنتي ؟
أجابتها بصوت شبه مختنق :
-عند دكان أبويا !
رفعت عواطف أنظارها للأعلى لتحدق خلف كتف أسيف فرأت بالفعل الدكان ..
لقد وصلت إليه بمفردها.. وبدا عليها التأثر من رؤيته.
تنهدت بآسى وهي تربت على ذراعها :
-طب يالا بينا نرجع البيت !
لم تعترض أسيف ، وأكملت معاها السير وهي تفكر فيما ستفعله فيما بعد
لاحقاً ، سردت عواطف على ابنتها نيرمين ما دار بين منـــذر وأسيف ..
أصرت الأخيرة على معرفة كافة التفاصيل خلال تلك المشادة الحــــادة ..
تلون وجهها بحمرة غاضبة واحتقنت عيناها بشدة عقب سماعها لتلك الإتهامات القاسية من ابنة خالها له ..
فبغبائها أفسدت العلاقات بين الأسرتين ، وربما حولته إلى عداء شخصي لأجل دكان لا يثمن ولا يغني من جوع ، ناهيك عن زيف إدعائها الباطل بالسرقة ..
صرخت في أمها بتعنيف وهي تكز على أسنانها :
-وإزاي تسكتيلها يا ماما ؟ مجريتهاش من شعرها ليه قبل ما تتنيل تبوظ الدنيا ؟
ردت عليها عواطف بقلة حيلة وهي تضرب على فخذيها بكفيها :
-مجاش في بالي انها هتعمل كده !
توعدتها نيرمين قائلة بشراسة :
-أنا هاروح أموتها ، مش سيباها !
أمسكت بها والدتها بصعوبة قائلة بنبرة حادة :
-اقعدي انتي كمان ، هو أنا كل ما أهديها من ناحية ، تولع من الناحية التانية !
صاحت فيها نيرمين بإنفعال جلي مهينة إياها :
-لأن البت دي غبية ومابتفهمش ، عاملة نفسها ناصحة وهي جاية من ورا الجاموسة !
صرخت فيها عواطف بنفاذ صبر :
-بس بقى كفاية ، أنا معنتش قادرة
أصرت نيرمين على الإشتباك معها قائلة بعصبية :
-مش هاسكتلها يا ماما ، دي هاتسوق فيها !
تملصت من قبضة أمها ، ثم اندفعت بجنون نحو الخــــارج صارخة بصوت مرتفع مهتاج :
-انتي يا اللي اسمك زفت أسيف ، إنتي يا وش البومة يا فقر ، تعالي هنا كلميني !
التقطت أذن أسيف إهانتها اللاذعة من داخل الغرفة ، فاستشاطت نظراتها ، واصطبغت وجنتيها بحمرة مزعوجة للغاية ..
لم تكبح ذلك الأدرينالين الغاضب المتدفق بشراهة في عروقها ليحفز خلايا جسدها على الإنقضاض والدفاع عن نفسها ..
لذا نهضت من رقدتها متجهة للخارج صارخة فيها بصوت متشنج :
-اكلمي عدل معايا !
لم تمهلها نيرمين الفرصة للحديث ، بل غرزت أصابعها في خصلات شعرها متعمدة جذبها منه بشراسة وكأنها تريد اقتلاعه من جذوره صائحة بحنق كبير :
-مفكرة نفسك مين عشان تخلينا نعادي أسيادك ؟!
صرخت أسيف متأوهة من شدة الآلم ، وحاولت تخليص شعرها من يدها قائلة بجنون :
-آآآآه ، سيبي شعري يا متخلفة ، آآآآه !
ردت عليها نيرمين بإهانة وقحة وهي تهز رأسها المأسور في قبضة يدها بعنف :
-المتخلفة دي اللي هاتربيكي يا تربية الزرايب !
من المعروف أن أبسط وسائل الدفــاع عن النفس هي المبادرة بالهجوم المباغت على الخصم في مواضع الآلم لتشتت تركيزه ..
وهذا ما فعلته أسيف .. تحاملت على نفسها ذلك الوجع الرهيب ، وثنيت ركبتها قليلاً ، ثم ركلت بها بقوة أسفل بطن نيرمين .. فصاحت الأخيرة متآلمة :
-آآآه ، يا بنت الـ ..... !!
أفلتت أصابعها نسبياً عن شعرها واضعة قبضة يدها الأخرى على بطنها.
نجحت أسيف في إلهائها ، و حازت على فرصة أخرى لرد الصاع صاعين ، خاصة أن إهانات نيرمين لها كانت وضيعة للغاية ، وبلا أي مقدمات باغتتها بصفعة عنيفة على وجنتها قائلة بجموح :
-إياكي تغلطي فيا تاني ، مش هاسكتلك ، والقلم ده يعرفك أنا مين !
صدمت نيرمين من صفعتها تلك .. وبرقت عيناها بنيران محتدة للغاية ..
في تلك اللحظة تحديداً شهقت عـــواطف غير مصدقة ما يدور بين الاثنتين ..
أسرعت بالتدخل بينهما ، وشكلت بجسدها حائلاً لتفصل بينهما قائلة بذهول :
-انتو اتجننوا ، بتضربوا بعض قصــادي
وضعت نيرمين يدها على صدغها متحسسة إياه ، وصارخة بإهتياج وهي تشير بسبابتها الأخرى :
-هولع فيها النهاردة ، هاجيب أجلها !
ردت عليها أسيف بجرأة غريبة لا تعرف من أين جاءتها :
-فكري بس تقربي مني وأنا هادبحك !
-بــــــــــــــــــــــــــس !!
صرخت عواطف بتلك الكلمة الموجزة وهي تضع يديها على أذنيها ..
تابعت قائلة بصوت متشنج وهي توزع نظراتها المستنكرة على الاثنين :
-اعملولي احترام ، في ايــــــــــــــــه ؟؟؟!!!!
ثم ركزت أنظارها على أسيف وحدها .. تلك الضعيفة التي تحولت فجـــأة من مجرد حمل وديع إلى وحش ضــاري ..
كانت صدمتها فيها أكبر من قدرتها على إستيعاب تبدلها المريب والمخيف في نفس الآن ..
لقد برزت لها أنياب تهدد وتتوعد غير عابئة بتبعات أي شيء ..
في لحظــــة ما فاصلة في حياة الفرد ، تتعرض فيها شخصيته الطبيعية لضغوطات نفسية قاسية ومستمرة مصحوبة بإهانات تتجاوز حد المقبول من المحيطين به ، فتدفعه دفعاً للإنفجـــــار في وقت غير متوقع حينما يصل الأمر معه لذروته .. وهذا ما صـــار مع أسيف ..
لقد بلغت القمة بتحميل نفسها مالا تطيق .. فإنهارت قواها المتماسكة ، وتحفزت حواسها للدفــــاع عن نفسها بشراسة ضد من يهددها