رواية الدكان الفصل الخامس والسبعون75بقلم منال محمد سالم

رواية الدكان 
الفصل الخامس والسبعون75
بقلم منال محمد سالم 
أصر على استضافته - مع أغلب رجال عائلته - في داره الكبير ليرتدي ثيابه هناك، وأظهر ترحيبًا لائقًا به وبكرمه المعروف كعمدة لتلك البلدة، فأثنى الحاج طه على أخلاقه الكيّسة وطبائعه الخلوقة، انتهى منذر من ارتداء بدلته الداكنة، واستعان بأخيه ليعقد له رابطة العنق، فبدا – رغم صلابته – مهيبًا وجاذبًا للأنظار.

هتف دياب متحمسًا وهو يضبط ياقته:
-مبروك يا عريس!
رد عليه منذر بهدوء:
-عقبالك يا دياب!
تنهد مضيفًا بإحباط طفيف:
-كثف دعا وحياة أبوك، لأحسن العملية ناشفة على الأخر معايا، معقدة وكلها كلاكيع
ربت على كتفه بقوة مرددًا بثقة:
-بتيجي على أهون سبب!
رفع دياب كفيه للأعلى هاتفًا:
-يا ميسر يا رب!
صــاح طه قائلاً بجدية ليثير انتباههما:
-يالا يا شباب، كده احنا هنتأخر
التفت منذر ناحيته ليرد مبتسمًا:
-على طول يا حاج!
تحرك بخطوات ثابتة نحوه، ثم انحنى على كفه الممسك برأس عكازه ليقبله بامتنان كبير، فمسح والده على رأسه وظهره قائلاً:
-مبروك يا ابني، وربنا يجعلها جوازة دايمة إن شاء الله
اعتدل في وقفته مرددًا:
-يا رب أمين
-عرفت تختار، هي بنت كويسة ومتربية، وتعتبر يعني من العيلة
-طالما انت راضي عني يا حاج فأنا مبسوط
-ربنا يراضيك دايمًا
سبقهما ديــاب ليشير بيده للسائق الذي استأجر حافلته لإحضار بعض الأقارب والمعارف لحضور الحفل بتتبعه كي يصل إلى وجهته دون أن يضل طريقه في تلك البلدة الغريبة عليه، فامتثل الأخير له واستعد للتحرك خلفه،
ســـار منذر بجوار والده يتبادلان عبارات خافتة حتى ركبا السيارة، لحق بهما الحاج إسماعيل وبصحبته العمدة، وعدد من رجال القرية، وبدأ الجميع بالتحرك نحو السرادق كل على حسب وسيلة مواصلاته.
تعالت أصوات الزغاريد فخفق قلبها بقوة معتقدة أنه قد جاء بالخارج، توترت أنفاسها وازدردت ريقها بارتباك كبير، اشرأبت بعنقها للأعلى محاولة رؤيته، لكنها مجرد تعبيرات عادية عن فرحة النساء بالعروس المتواجدة بالمنزل، خبا حماسها، وهدأ توترها لتصبح كما كانت شبه ساكنة.
اقتربت منها بسمة بخطوات متهادية هاتفة بانفعال متحمس:
-ها يا سوفي، ايه رأيك في فستاني؟
رفعت أسيف عينيها نحوها لتمعن النظر في ثوبها اللامع الذي ارتدته من اللون البترولي، كان متماشيًا مع نحافتها وحجابها الزاهي، ضيقًا من خصره ومتسعًا من الأسفل، وأكمامه فضفاضة وتضيق عند الرسغين، ابتسمت لها مبدية إعجابها به وهي تقول:
-شكله حلو عليكي
ردت عليها بسمة بلهو:
-بس مش يجي حاجة جمبك يا عروسة!
اكتفت بالابتسام الخجل لها، لكن سريعًا ما اختفت من على محياها حينما رأت نيرمين تقترب منها لترمقها بنظراتها الساخطة، أدارت وجهها للجانب متحاشية التشاجر معها ، فهي متيقنة أنها ستفتعل شيء ما لتثير أعصابها المشدودة، وهي لن تتحمل المزيد من التهكمات خاصة في ليلة متوترة كهذه.
انتفض قلبها بين ضلوعها حينما سمعت أبواق السيارات، أحست بدقاته العنيفة تخترق أذانها فارتكبت بشدة، واضطربت حواسها، هتفت بسمة متحمسة:
-الظاهر العريس وصل!
صدحت أصوات الزغاريد الممزوجة بأصوات المزامير لتؤكد صدق حدسها، فتلاحقت ضربات فؤادها من تلك الحماسة المتدفقة في الأدرينالين المندفع في شرايينها، لا تعرف إن كان اضطرابها دليلاً على الفرح أم ماذا، لكنها حتمًا لم تكن مزعوجة بما يحدث لها.
سدت بسمة الطريق بجسدها لتمنعه من المرور ومن رؤية عروسه، رأها دياب أولاً فتوهجت عيناه بوميض غريب، امتعضت ملامحه إلى حد ما لكونها ستظهر أمام الغرباء بصورة جميلة لافتة للأنظار، فربما تثير في نفس شاب ما خيالات متهورة أو أفكارًا حمقاء مخجلة نحوها، سيطر عليه شعور الغيرة فجاهد كثيرًا ليبدو طبيعيًا، لكن عبرات تعبيراته عن حاله
تعمدت فرد ذراعيها هاتفة بمرح:
-عروستنا لسه قدامها شوية
عقد منذر ما بين حاجبيه قائلاً باستغراب كبير:
-مش معقول ماتكونش خلصت!
لوت ثغرها قائلة بمكر وهي توميء برأسها:
-اها، لسه!
تساءل بغرابة وهو يدير رأسه نحو أخيه:
-ازاي؟ ده المأذون جه!
جمد دياب أنظاره على بسمة قائلاً بتجهم مزعوج:
-شكلها بتهزر، يا أبلة جرس الفسحة ضرب من زمان! خلي العريس يشوف عروسته!
نظرت له بضيق مبدية عدم تقبلها من طريقته في الحديث، وردت باقتضاب:
-ظريف!
أبعد نظراته المحتقنة عنها مطلقًا زفيرًا حادًا من صدره باذلاً مجهودًا مضنيًا في ضبط هدوئه، تنحت للجانب لتفسح الطريق لمنذر ليلج إلى الداخل فقابلته والدته صائحة بسعادة:
-مبروك يا حبيبي، ربنا يسعدك يا رب
احتضنها بذراعيه للحظات، ثم تراجع مبتعدًا عنها، وانحنى على رأسها مقبلاً إياها قائلاً:
-الله يبارك فيكي يا أمي!
مسحت على وجهه بكفها المجعد، فأمسك به وطبع قبلة صغيرة عليه قبل أن يتركها ليكمل خطاه نحو الداخل متلهفًا لرؤيتها، اشتاقت إليها عيناه، خفق قلبه بقوة حينما لمح تلك الهالة البيضاء التي تغلفها، أهذا سحر الحب الذي يجعلنا نرى ما نحب كالملائكة؟
ردد بإعجاب كبير:
-بسم الله تبارك الخلاق!
خجلت من نظراته المتطلعة بعشق إليها، شعرت بسخونة شديدة تجتاحها من لا شيء، بتوتر رهيب يعصف بخلاياها الساكنة، أتلك هي بوصلة الحب التي تدل قلوبنا على نصفنا الأخر، فنضطرب خجلاً من اكتشاف أمرنا؟ أخفضت رأسها حرجًا منه رامشة بعينيها بحياء كبير، اقترب منها ممررًا عيناه ببطء على كل جزء فيها، أصبحت لهفته مضاعفة نحوها، لم يصدق أنها ستصبح زوجته، سيكتب اسمها إلى جوار اسمه وتقترن به.
تقوس فمه بابتسامة عذبة وهو يقول:
-مبروك!
همست بنبرة غير مسموعة:
-الله يبارك فيك!
تحسس رأسه الممشط جيدًا مداعبًا:
-ولو إني مش سامع حاجة من الدوشة، بس أكيد مبسوطة؟ صح؟
عضت على شفتها السفلى بخجل أكبر، واكتفت بإظهار ابتسامة صغيرة على ثغرها.
سحب منذر نفسًا مطولاً حرره دفعة واحدة وهو يقول بجدية:
-أسيف!
انتبهت لصوته الذي تحول للجدية، وحدقت فيه بارتباك قليل، عمق نظراته نحوها متابعًا بثبات:
-أوعدك قبل ما نكتب الكتاب إني مش هاخلي حاجة تضايقك أو تزعلك طول ما إنتي معايا، ولو حبتي لما نرجع نـ....
استشعرت من طريقته التلميح إلى رغبته في الانفصال عنها حينما تنتهي الأمور هنا، ليس أمرًا مشوقًا على الإطلاق، خفق قلبها خوفًا، وقبل أن يضيف كلمة أخرى قاطعته بتوتر:
-ماتكملش!
استغرب كثيرًا مما قالته، فسألها بعدم تصديق:
-ايه؟
حركت شفتيها لتجيبه لكن منعها من الكلام هتاف والدته الصائح:
-يالا يا ابني، الناس مستنينا!
التفت برأسه للخلف مبديًا انزعاجه من مجيئها في تلك اللحظة تحديدًا، ورد بعبوس:
-ماشي جايين، مش تدونا فرصة نتكلم!
عاود النظر إليها متسائلاً بفضول:
-كنتي هاتقولي ايه؟
ابتسمت بخجل وهي ترد:
-يالا بينا!
زفر مستاءً من ضياع فرصة ثمينة لسماع ما تريد قوله، لكن استشعر قلبه شيئًا مطمئنًا منها، نظراتها نحوه، ابتساماتها، حتى عيونها، كل شيء يوحي بأمر محمود، تمنى في نفسه أن يصدق حدسه، ويحمل قلبها مشاعرًا ما إليه حتى وإن كانت قليلة، ثنى ذراعه لتتأبط هي فيه، ارتجفت أطرافها من شدة الحماسة وهي تعلق رسغها به، تحركت بحذر متمهل معه، وسار للأمام محدقًا بها بنظرات متيمة.
تعالت الزغاريد مجددًا طوال سيرهما حتى السيارة، واعتلت أصوات المزامير والدفوف المصحوبة بالأغاني المهنئة بالأفراح، سبقها منذر بخطوة ليفتح لها الباب، وتحركت بحذر لتجلس بالمقعد الخلفي ساحبة ذيل ثوبها معها، وما إن تأكد من جلوسها حتى صفق الباب برفق ليدور حول السيارة لكي يجلس إلى جوارها.
تفاجأت بتلك الأضواء البارقة التي زينت الطريق الزراعي وصولاً إلى ذلك المكان الذي حبست أنفاسها حينما خمنت وجهتها التالية، حدقت بجمود فيه، لم يطرأ ببالها مطلقًا أن تعود إلى أرض والدها، بل أن ترى سرادق الحفل مقامًا عليه وبالقرب من تلك الشجرة التي تضمنت الكثير من ذكريات طفولتها وصباها، تهدجت أنفاسها متأثرة، ولمعت عيناها ببريق واضح، أحس منذر بما يختلج صدرها من مشاعر مختلطة، فمال عليها برأسه قائلاً:
-مكانش ينفع الفرح يتعمل إلا هنا!
التفتت ناحيته برأسها لتحدق مباشرة في عينيه العاشقتين لها، خانتها العبرات التي تجمعت بكثافة عند طرفي مقلتيها، وانهمرت سريعًا على وجنتيها مبللة كلتاهما بغزارة غير مكترثة بمساحيق التجميل التي يمكن أن تفسد من بكائها، مد منذر أنامله بحذر ماسحًا بعضهم برفق وهو يضيف مبتسمًا:
-أحلامك أوامر بالنسبالي!
عجزت عن إيجاد الكلمات المناسبة لشكره، لقد حقق لها حلمًا تمنته في حياة أبويها، وظنت أنه ذهب مع رحيلهما، لكنه صار واقعًا بوجوده معها، التفتت برأسها لتحدق في النافذة من جديد، وارتسم على ثغرها ابتسامة أكثر اتساعًا امتزجت بعبراتها الفرحة، لم يرغب سوى في رؤيتها سعيدة تضحك، لا تلقي بالاً لهموم الحياة، يكفيه أن تبتسم فتشرق الحياة من حوله، وتتحول متاعبها إلى أمور هينة يمكن تحملها.
توقفت السيارة عند مقدمة السرادق، وصدحت أكثر أصوات الدفوف والطبول المتراصة على الجانبين، لم تستطع منع نفسها من البكاء فرحًا، هي تعيش يومًا مميزًا في حياتها، ذكرى جديدة ستحفر في عقلها للأبد، ترجلت منها حينما فتح بابها لها، وحدقت فيه بنظرات ممتنة، ابتسم لها ابتسامة عذبة، واصطحبها بتمهل إلى الداخل..
ركض الصغيران يحيى وأروى أمامهما قاذفين الورود على وجهيهما وهما يلهوان لتتسارع أنفاسها من فرط السعادة، استدارت للجانب لتنظر إلى ذلك الذي سلب قلبها رغمًا عنها بفرحة جلية، قبض بأنامله على كفها ضاغطًا عليه برفق قائلاً بصوت خفيض:
-مبروك!
واصلا سيرهما حتى بلغا "الكوشة" الموضوعة في أحد الأركان ليجلس كلاً منهما على مقعد منفصل، تجمع حولهما الأحبة والمقربين فيما عدا نيرمين التي جلست على المقعد المواجه لهما تحدجهما بنظراتها الغاضبة، نيران غيرتها تآكلها، كم تمنت أن تحظى به زوجًا يحبها وتحبه، يلاطفها بمعسول الكلام فتغدق عليه من حبها الفطري، لكن بقي لها فقط أحلام مؤودة.
هتف الحاج إسماعيل قائلاً بصوت جهوري:
-يالا يا أستاذ منذر، شرفنا مع الرجالة عشان نكتب الكتاب
لوح له بيده قبل أن ينهض من مقعده متوجهًا نحوه، وقبل أن يبتعد عنها رمقها بنظرة أخيرة عاشقة شعرت بها تخترقها ببساطة لتصيب قلبها وتحمسه.
بدأت مراسم عقد القران بهدوء تام، وقبل أن يشرع المأذون في إتمام باقي الإجراءات المعروفة قاطعه منذر قائلاً بجدية:
-لازم الحاج فتحي يكون وكيل العروسة!
اندهش الجميع من مطلبه الغريب، واستدار برأسه مسلطًا أنظاره على قريبها المتجهم الوجه متسائلاً بنبرة موحية:
-ولا ايه رأيك يا حاج، مش إنت برضوه وكيلها؟!
أشــار له بحاجبيه مؤكدًا مغزى عبارته الخفي، فامتعض وجه فتحي على الأخير، ولم يجد بدًا من الاعتراض، ضغط على فمه هاتفًا بصوت متحشرج:
-طبعًا، ده أنا خالها!
شهقت أسيف مصدومة مما سمعته توًا، لم تكن أوهامًا أو تخيلات اختلقها عقلها، لقد أعلن قريبها صراحةً أمام الجميع أنه وكيلها الشرعي في عقد القران ليقضي بهذا الحديث الجاد على أخر ذرة نزاع بينهما مؤكدًا على عودة علاقات الود معها، حركت عينيها نحو منذر لترمقه بنظرات مذهولة غير مصدقة ما يفعله من أجلها، كل لحظة يثبت لها أنه جدير بها، أنه يستحقها ويحبها حبًا جمًا، بل يثبت لها أيضًا أنها كانت مخطئة في حقه منذ البداية، لم يكن بالبشاعة أو الطمع الذي تخيلته عليه، بل هو أكثر الرجـــال شهامة ورجولة
اشرأبت بعنقها محاولة رؤيته لكن غطى حضوره المهيب أجساد الرجال المحاوطين له، فبات الأمر عسيرًا عليها، أخرجت تنهيدة مطولة من صدرها، ونكست رأسها بإحباط واضح، للحظة شردت في لمحات سريعة من ذكريات جمعتهما سوى، لم تكن البدايات مبشرة، لكن حتمًا النهايات طيبة، هو عرف الطريق الصحيح لدربها، وسار بتمهل عليه حتى وصل إلى قلبها فاتخذ مكانه فيه، ابتسمت بخفوت ممررة أنظارها على الجميع.
مالت عليها بسمة مداعبة:
-هيكتبوا كتابك يا قمر!
رفعت أسيف رأسها نحوها محدقة فيها بأعين لامعة، واكتفت بابتسامة خجلة على محياها، بالطبع لم تفارقها نظرات نيرمين المحتقنة غيظًا، شعرت بدمائها الفائرة تحرق خلايا عقلها، بل إنه كاد ينفجر من كثرة ما تكتمه في نفسها مجبرة، وخزات حادة ألمتها في رأسها، فكزت على أسنانها بقوة غير قادرة على إخفاء حزنها الممزوج بوجعها.
-قول ورايا يا أستاذ منذر، إني استخرت الله!
انتبه الجميع إلى صوت المأذون الجهوري الذي صدح في السرادق لتنخفض الأصوات العالية تدريجيًا، ويخفق مع نبرته قلبها أكثر، إنها الآن تزوج إليه ووكيلها قريبها الذي أنكرها يومًا، الآن ترفع رأسها عاليًا وترد كرامتها بين الأشهاد، كذلك سيجمع القدر بينها وبين أكثر الرجال احترامًا ومهابة في رابط له قدسيته، اعتلى خلجاتها فرحة خافية رغم وضوحها في نظراتها، لكنها أيقنت أنها مستعدة كليًا إلى تلك الخطوة الحاسمة في حياتها، ستصنع مما تمر به ذكريات أخرى خاصة بها تحمل السعادة والبهجة، وستمحو أثار ما خلفه الزمن من أحداث مؤلمة، نعم عقدت العزم بشدة على نسيان ما يؤلمها، والتشبث أكثر بحاضرها ومستقبلها.
انتهت الإجراءات الخاصة بعقد القران، ووقعت بأنامل ثابتة على ورقة زيجتها لتعلو بعدها أصوات الزغاريد والتهليلات الفرحة، تهدجت أنفاسها أكثر وهي تبتسم لمن حولها، لكن سريعًا اكتسى وجهها حمرة قوية حينما سمعت صوت المأذون يردد:
-كلنا يا أحباب الله ندعلهم ونقول "بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير"!
ترددت العبارات بقوة بداخل السرادق ليزداد مع أصواتهم خفقات قلبها المتحمس، زاد توترها حينما التقطت أذنيها نبرته وهو يقول بانزعاج زائف:
-ممكن أعدي بعد اذنكم!
أفسحت النساء والفتيات المجال له ليمر، فوقعت أنظاره عليها سريعًا، تجنبت النظر إليه متحرجة بشدة من كم الأعين المراقبة لهما، بينما دنا منذر منها هاتفًا:
-مبروك يا عروسة، ربنا يقدرني وأسعدك
هتفت جليلة بسعادة وهي تربت على ظهر ابنها:
-والله ربنا بيحبك وعوضك خير يا بني!
التفت ناحية والدته مبتسمًا، فتابعت مضيفة بتفاؤل:
-يجعلها جوازة الهنا، وعقبال الليلة الكبيرة!
هتفت عواطف بنبرة عالية وهي تشير بيديها:
-يالا يا بنات انزلوا تحت خلوا العرسان يقعدوا سوا!
عدلت بسمة من طرحة العروس قبل أن تبتعد بحذر من جوارها، لتنسحب في إثرها باقي النساء والفتيات واحدة تلو الأخرى من الكوشة تاركين فسحة للعروسين للجلوس سويًا، فيما عدا أروى التي أصرت على الجلوس على مسند مقعد العروس متغنجة بنفسها بمرح وهي ترتدي مثلها.
سلط منذر أنظاره على وجه حبيبته التي كانت تختلس النظرات إليه بحياء مكشوف عليها، تعالت دقات قلبه حتى باتت أكثر عنفًا وهو يتخيلها في أحضانه، تدفقت دمائه المتحمسة في عروقه من فرط الانفعال الفرح، نعم هو غارق حتى النخـــاع في حب امرأة سلبت قلبه وسيطرت على عقله، تمنى في نفسه أن تدوم تلك الفرحة وألا تنتهي بذهابهما من هنا وعودة الأمور إلى سابق عهدها.
على الجانب الأخر، لمح الصغير يحيى ذلك الجرو الصغير الذي يلهو بالخارج فأثار فضوله لتتبعه واللعب معه، فانسل دون أن ينتبه له أحد من السرادق ليلحق به، رأته بسمة مصادفة فتوجست خيفة أن يرتكب شيئًا أحمقًا دون أن يعي أو أن يضل الطريق فيقلق الجميع عليه، لذا أسرعت خلفه محاولة اكتشاف ما الذي يفعله.
دومًا كانت أعينه عليها متابعة لكل ما يصدر منها، فاستغرب كثيرًا لابتعادها عن أجواء الحفل دون إبداء أي مقدمات، بدا مزعوجًا من خروجها بمفردها خاصة أنها ترتدي ثوبًا لافتًا للأنظار رغم احتشامه، لكنه لا يعرف نوايا البشر، لذلك بلا أدنى لحظة تفكير أو تردد، انطلق ورائها وهو متجهم الوجه.
وجد صعوبة في ضبط انفعالاته حينما سمع أحد الشباب يعلق عليها قائلاً بعبثٍ لاهٍ:
-بنات بحري دول حكاية
رد عليه أخر مؤكدًا بضحكة غير مريحة:
-بالظبط زي الكتاب ما قال!
استدار ناحيتهما مسلطًا أنظاره النارية عليهما، تشنجت تعابيره، وبدا على وشك الفتك بهما وهو يقول بانفعال:
-ما تلم نفسك انت وهو
اعتدل الشاب في وقفته المائلة قائلاً بجفاء:
-خير يا أستاذ؟ حد جه جمبك!
صاح به بنبرة غاضبة ملوحًا بذراعه بتهديد صريح:
-انت عارف إنت بتكلم عن مين؟
تفهم الشاب سريعًا سبب ثروته المتعصبة، فلكز رفيقه قائلاً بتوجس:
-شكلها تبعه!
سلط دياب عينيه المتقدتين بشرر مخيف عليه وهو يرد بصوت متشنج:
-اه يا سيدي تبعي، دي المدام!
تبادل الشابين نظرات حرجة، وهتف أحدهما معتذرًا:
-احنا أسفين والله، منقصدش، اعذرنا يا أستاذ!
-حقك علينا، زلة لسان و...
قاطعه دياب هادرًا بعدائية مخيفة:
-تاني مرة تفكروا قبل ما تكلموا، لأحسن لسانكم ده ممكن يوديكم في داهية!
نظر لها بازدراء قبل أن يسير مبتعدًا ليلحق بها مغمغمًا بين نفسه بغيظ:
-شكلي هارتكب جناية هنا!
خطت بتمهل حريص على الأرضية الطينية الغير ممهدة باحثة بأعين قلقة عن الصغير يحيى الذي لم يكن ظاهرًا حولها، انقبض قلبها إلى حد كبير خوفًا عليه، واصلت سيرها رافعة أطراف ثوبها الطويل كي لا تتعثر به، تلفتت برأسها تجوب بأنظارها كل ما تقع عليه عينيها هاتفة:
-يحيى! انت فين يا حبيبي؟ يحيى!
تسرب إليها هلع طفيف لعدم وجود أي رد على نداءاتها المتكررة، تعمقت أكثر في سيرها حتى بلغت حقول الذرة، ففزعت أكثر بسبب الظلام المغلف للأجواء، ارتجفت أطرافها بقوة لإحساسها بالخطر، وتأكد شعورها حينما سمعت تلك الهمهمات الخافتة، وضعت يدها على فمها حابسة أنفاسها متوقعة الأسوأ، خرجت منها صرخة مذعورة حينما سمعت صوتًا يأتي من خلفها متسائلاً بجمود:
-جاية هنا ليه؟
التفتت سريعًا برأسها ووجهها قد صار أكثر شحوبًا، لكن سريعًا ما تحول خوفها إلى حنق ظاهر في نظراتها حينما تأكدت من هويته، دنا منها متسائلاً بتجهم:
-بتعملي هنا ايه لوحدك؟ ولا عاجبك الرجالة يتفرجوا عليكي ويعاكسوكي
استنكرت طريقته الهجومية على شخصها دون تقديم أي مبررات تستوجب ذلك ناهيك عن اقتحامه لحريتها بشكل سافر، استشاطت نظراتها سريعًا، وردت بتشنج:
-ايه اللي بتقوله ده، رجالة مين، ومعاكسة ايه دي؟
نظر لها بأعين مغلولة موضحًا بانفعال:
-يعني مش شايفة البهوات كانوا بيبصولك ازاي
قطبت جبينها مستغربة مما يتفوه به، فصاحت غاضبة:
-أنا معرفش أصلاً إنت بتكلم عن ايه!
اقترب منها أكثر مضيفًا بتهكم:
-هو إنتي فايقة غير لـ....
قاطعته رافعة كفها أمام وجهه محذرة إياه من التمادي في افتراءه قائلة:
-عندك، ولا كلمة زيادة، مش هاسمح بأي اتهام أو إهانة!
جمد أنظاره المشتعلة عليها، فتابعت بسخط متعمدة تحميله اللوم لتسرعه معها:
-انت مكلفتش خاطرك حتى تشوف بأدور عليه هنا!
لوى ثغره متسائلاً ببرود متهكم:
-هايكون على ايه؟
ضاقت نظراته نحوه حتى باتت أكثر حدة، ثم أجابته بامتعاض ذو مغزى:
-على ابنك اللي ناسيه
وكأنه قد عاد إلى رشده بعد سماعه لاسم ابنه يتردد بين شفتيها، فهتف بلا وعي:
-يحيى!
تابعت معاتبة بنبرة لاذعة:
-ايوه، ما انت لو عينك في وسط راسك ومركز كنت شوفت إن ابنك خرج ومحدش عارف هو فين!
ارتسم على تعابيره علامات الانزعاج سريعًا، هي محقة في هذا الأمر، هو غفل دون قصد عن ابنه، وتناسى أنه بصحبته في تلك البلدة الغريبة، والأطفال بطبيعة الحال يسعون لاكتشاف كل ما هو غامض ومجهول بالنسبة إليهم بفعل فضولهم الطفولي، تلفت حوله هاتفًا بنبرة مرتعدة:
-يحيى، يحيى، انت فين!
بحث بخوف كبير عنه مدققًا النظر في حقول القصب المظلمة عله اختبأ بداخلهم، هوى قلبه في قدميه حينما لم يسمع منه خبرًا، وقبل أن يفقد أعصابه المتلفة سمع صوته يقول بعبوس:
-أنا هنا مش لاقيت الكلب! استخبى مني!
تنفست بسمة الصعداء لكون الصغير بخير، فتحركت نحوه بتمهل حذر مرددة بعتاب لطيف:
-خضتنا عليك!
أحاطت كتفيه بذراعها وضمته إليها بحنو محاولة التهوين عليه، لكن انفعل والده بعصبية بائنة معنفًا إياه بقسوة:
-في حد يعمل كده؟ مش ممكن كنت تقع في ترعة ولا.....
ارتعدت فرائص الصغير من طريقة والده العنيفة معه، فتوجست بسمة خيفة أن يتهور عليه ويضربه، نظرت له مستنكرة انفلات أعصابه الدائم فردت بجدية:
-قدر ولطف! بالراحة مش كده يا أستاذ دياب!
زاد عبوس الصغير حتى كاد يبكي عفويًا، فهمس بنبرة مختنقة:
-مش تزعقلي بابي، الكلب ده...
ضمته بسمة أكثر إليها ماسحة على كتفه برفق وهي تقول برقة:
-خلاص يا حبيبي، بابا لما الجنونة بتمسك فيه مش بيشوف قدامه!
انزعج من سخريتها منه محذرًا:
-ها، هنغلط؟
ضغطت على شفتيها محدقة فيه بنظرات قوية، واكتفت بعدم الرد عليه تجنبًا لافتعال أي مشاكل معه، انحنت برأسها نحو الصغير هامسة له بحنو:
-متزعلش يا يحيى
اشرأب الصغير بعنقه طابعًا على وجنتها قبلة وهو يقول ببراءة:
-أنا بأحبك انتي!
راقب دياب اندماجهما العفوي بنظرات حالمة، تمنى لو فقط أبدت موافقتها على ارتباطهما سويًا وأصبحت زوجته، لظفر بها كحبيبة عشقها، ونال ابنه أمًا حنونًا ترعاه بلا تكلف أو ضغينة، أفاق من شروده فاركًا مؤخرة رأسه مرددًا بهدوء:
-طب يالا بينا، مالهاش لازمة الواقفة هنا في الحتة المقطوعة دي!
وافقته الرأي في تلك النقطة تحديدًا، وتحركت معه عائدة من حيث أتت وهي قابضة بكفها على يد الصغير الذي فضل أن يمسك بها دون أبيه، لمحت بطرف عينها شيئًا أثار ريبتها بين عيدان القصب الطويلة، دققت النظر أكثر في ذلك الدخان المنبعث هاتفة بقلق:
-انت شايف الدخان اللي هناك ده؟
سألها دياب بعدم اكتراث:
-فين بالظبط؟ أنا مش شايف حاجة!
ابتلعت ريقها وهي تجيبه بخفوت:
-اللي طالع من وسط القصب!
حرك أنظاره نحو ما أشارت بعينيها فرأى خيطًا رفيعًا من الدخان يندفع بطريقة مخيفة إلى حد ما من بين الحقول، توتر قليلاً، ولكنه جاهد ليحفظ على ثبات انفعالاته، فابتسم قائلاً بحذر:
-تلاقيها شابورة!
تعقدت تعبيراتها من رده الغير منطقي، وهتفت مستنكرة سذاجته:
-شابورة ايه دي اللي هاتطلع في حتة واحدة بس!
فرك طرف ذقنه بيده متابعًا بجمود:
-متحطيش في بالك!
نظر الصغير إلى ذلك الدخان فشعر بالهلع، فمد يده الأخرى ليلتقط كف والده هامسًا بفزع:
-أنا خايف يا بابي!
رد عليه مداعبًا:
-ومين سمعك يا بني، جايز الحتة دي مليانة عفاريت، أنا سمعت إنهم بيطلعوا في الميعاد ده!
شخصت أبصار بسمة على الأخير بعد عبارته تلك، وتدفق إلى عقلها الكثير من مشاهد أفلام الرعب الخاصة بالمناطق المهجورة والمظلمة وما تحمله من نهايات مأساوية مهلكة، جف حلقها بصورة كبيرة، وشعرت بتسارع دقات قلبها خوفًا، فالتفتت نحو دياب متوسلة بنبرة شبه مرتجفة:
-بلاش الكلام لو سمحت!
تعجب من تبدل حالها من العبوس والغضب إلى الذعر الملحوظ، ارتفع حاجباه بدهشة قليلة، وسألها مهتمًا وقد تشكل على ثغره ابتسامة عابثة:
-هو إنتي بتخافي؟
أجابته بخفوت شديد وهي تزدري ريقها:
-أنا هاموت في جلدي!
صدح صوتًا متحشرجًا قويًا من بين عيدان القصب متسائلاً بنبرة أخافت الجميع:
-إنتو مين؟
صرخت بسمة لا إراديًا من بين شفتيها:
-عـفريت!
فزع يحيى هو الأخر من صوته، وأرخى قبضته عن أبيه ليحتضنها صائحًا بهلع أكبر:
-ماما، ماما!
انتفض دياب في مكانه مفزوعًا من ذلك الشخص المريب الذي ظهر لهم من العدم، لكنه تمالك نفسه سريعًا حينما أمعن النظر في تفاصيله الدقيقة، كان رجلاً عاديًا يرتدي جلبابًا داكنًا وممسكًا في يده سلاحه المرخص الذي وجه فوهته نحوهم، بالإضافة إلى سيجارة عالقة بين شفتيه المشققتين، رمقه بنظرات محتقنة إلى حد ما مستنكرة طريقة ظهوره، وهتف مغتاظًا:
-يخربيتك، قطعت خلفنا، إنت مين؟
رد عليه الرجل متسائلاً بنبرة خشنة وهو يخفض سلاحه للأسفل:
-إنتو اللي مين وبتعملوا ايه هنا؟
وضعت بسمة يدها على صدرها تتحسس قلبها الذي بدأت نبضاته تخبو بعد تداركها للموقف، لكن جسدها المرتعش لم يسكن بعد، صاح دياب بحدة:
-في حد يستخبى كده وسط القصب
رد عليه الرجل بجمود وهو يجوب بأنظاره عليهم متفحصًا هيئتهم بدقة:
-أنا غفير الأرض، مقولتوش إنتو مين؟
أجابه دياب بامتعاض:
-أنا أخو الأستاذ منذر حرب اللي .....
قاطعه الرجل قائلاً بفتور:
-ايوه العريس، مبروك!
رد عليه دياب ساخرًا وهو ينظر نحوه بغيظ:
-بعد جو الرعب ده مبروك، مالهاش لازمة
سلط الرجل أنظاره على بسمة متسائلاً بنبرة أكثر خشونة:
-وانتي مين يا أبلة؟
رمقته بنظرات مزعوجة من أسلوبه الفج، وقبل أن تجيبه تعلق الصغير يحيى بها أكثر هاتفًا بخوف وهو يدفن وجهه في أحضانها:
-مامي، شكله يخوف!
اعتقد الرجل أن تلك الشابة هي والدة ذلك الطفل، فسألها بصوت آجش:
-إنتي المدام؟
أجابه دياب بنبرة قوية متعمدًا صرف انتباهه عنها:
-كلمني أنا، أه هي المدام، وده ابني يحيى وكنت بأفرجهم على البلد! عندك اعتراض ولا حاجة؟
رد الرجل ببرود:
-شوفوها بالنهار، الدنيا ليل، والعتمة وحشة!
علق سلاحه على كتفه مضيفًا بتحذير:
-وجايز يطلع عليكم حد واد حرام كده ولا كده!
نفخ دياب قائلاً:
-ايوه، عندك حق!
تابع الرجل بصوته المتحشرج:
-سلملنا على العريس وباركله، بنت المرحوم رياض زينة البنات والله، فعلاً عرف يختار الأصل الطيب!
هز دياب رأسه قائلاً:
-الله يبارك فيك! يوصل حاضر!
ثم أومأ بعينيه إلى بسمة مرددًا بنبرة ذات مغزى:
-يالا يا مدام!
احتدت نظراتها نحوه واضطرت مجبرة ألا تعلق عليه ريثما يبتعد ثلاثتهم عن المكان، وما إن اطمأنت من عدم ملاحقة ذلك الرجل لهما حتى عنفته بغيظ مكتوم:
-مين دي اللي مدام؟
رد عليها دياب مبررًا:
-مش أحسن ما يغتالنا!
زاد انعقاد ما بين حاجبيها بانزعاج واضح من طريقته في إعطاء نفسه الأسباب للتصرف كيفما يشاء في أمورها الخاصة، لاحظ الوجوم البادي عليها، فابتسم مازحًا:
-اللي زي ده مخه مقفل، ومش هايستوعب أي حاجة تانية!
تقوس فمه أكثر وهو يضيف بطريقة تهكمية مقلدًا صوت الرجل المتحشرج:
-نتخانق في النور مش هنا، دي العتمة وحشة يا أبلة!
انفجرت ضاحكة من طريقته الساخرة المحاكية للرجل، ولم تستطع ضبط نفسها، فواصلت ضحكاتها اللاهية، نظر لها بأعين لامعة محاولاً حفر تلك الصورة المشرقة لوجهها في مخيلته علها تهدأ من لوعة قلبه الذي يهواها بجنون
تعليقات



<>