
رواية كبرياء رجل الفصل الاول1 بقلم داليا السيد
المقدمه والفصل الأول
انتهى الانتقام بالصفعة وحل مكانه شيء غريب..
كيف لم يعاقبها أو يدمرها بل يجذبها له بجنون وهي تزحف لعالمه بلا وعي..
رحل وتركها هاربة من فضيحة الميديا وعندما ظنت أنه لن يعود عاد. متسترا بالظلام سمع رجلا آخر يطلبها للزواج..
لن تضيع.. لقد عاد من أجلها وكلمة 'لا' التي تخرج واهنة منها، أضعف من أن تقف بطريق بدر المسيري
عندما رحلت لعالمه لم تظن أن الثمن سيكون غالي..
المطرقة لا تختار أين تسقط لكن وقت تسقط تفتت والواقع كان كالمطرقة حطمها لشظايا تناثرت بلا أمل بجمعها
كان له زوجة وأولاد فأين رحل عقلها قبل قلبها؟
وعندما عاند كلاهم الواقع سقطت بطريق الدمار
شبح..
روح شيطانية شريرة حبست روحها وحرمته منها وحرمتها من الحياة وظن كلاهم أنها النهاية
الفراق..
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الاول
صفعة
لم تكن أسيل تهوى الحفلات ولكن عملها كمندوبة إعلانات لشركة معروفة كان يفرض عليها الحضور إلى تلك الحفلات الصاخبة، التي لم تجن من وراءها سوى الصداع وبعض الأرباح الجيدة عندما تنجح في جذب عميل جديد لشركتها. لم يكن هذا هو حلم حياتها؛ فقد تمنت أن تكون إلى جوار أبيها في شركته الصغيرة قبل أن تدمرها الشركة العملاقة التي تسببت بالنهاية في وفاته نتيجة ضياع كل شيء.
قطع أفكارها صوت محمود رئيسها المباشر في العمل وهو ينظر إليها "كعادتك.. لا تستقر عيونك حتى تنتهي الحفلة، أليس كذلك؟"
نظرت إليه بعينيها البنيتين الواسعتين وقالت بكسل غريب لا يتناسب مع نشاطها المعتاد وقت العمل "أنت تعلم أني أكره هذه الأجواء، ومع ذلك مجبرة على الحضور ولقد أصبح الأمر ممل"
لم يرد محمود، إذ قاطع حديثهما ضجة كبيرة عند مدخل الفيلا واندفع الصحفيون نحو الباب فتابعتهم بدهشة
"ماذا حدث؟ لماذا كل هذه الضجة؟" سألت أسيل
أبعد محمود نظره عنها وقال "عندما يدخل بدر المسيري أي مكان لابد أن يحدث ذلك. هو يجذب دائما كل الأضواء بدون منافس خاصة بعد صفقته الأخيرة والتي أثارت ضجة كبيرة بالوسط التجاري وعودته إلى مصر مؤخراً، ألم تسمعي عنه؟"
انقبض قلبها بمجرد سماع اسمه. كيف لا تعرفه؟ هي تحفظ اسمه عن ظهر قلب؛ هو الرجل الذي قلب حياتها رأسا على عقب وكان سبب بموت والدها. كم انتظرت كثيراً هذا اليوم، يوم الحساب وربما اليوم هو المنتظر، وبدون أي تفكير أو تردد نهضت فجأة غير مهتمة بنداءات محمود ولا بالجلبة التي أثارها المصورون والصحفيون حول ذلك الرجل الذي ظهر أخيراً أمامها.
ازداد خفقان قلبها وهي تراه بذلك الجسد الرياضي تحت البدلة الكحلية الفاخرة ولم تحاول أن تدقق بملامح وجهه البرونزي يعلوه شعر أسود مصفف إلى الخلف علاه الشيب على جانبيه مما منحه عمرا يتجاوز منتصف الثلاثينات
لم تهتم بنظرات الحضور، بل شقت طريقها وسط الجموع وقفت أمامه وهي ترى نظرات اليأس بعيون والدها وهو يودعها بعد أن صارع المرض وفقد الرغبة في الحياة ولم تسمع كلمات من حولها وكلمات والدها الأخيرة ترن في أذنها وهو يفوض أمره إلى الله فيمن ظلمه واستولى على شركته ظلما
نطقت بصوت واضح ثابت "بدر المسيري؟"
عندما لم يلتفت أحد إليها رفعت نبرة صوتها أكثر حتى تعلو على الضوضاء "أنت بدر المسيري صاحب شركات المسيري للعقارات، أليس كذلك؟"
التفت إليها، فالتقطت الكاميرات نظراته المتفاجئة وهو يواجه نظراتها الغاضبة قبل أن يقول "نعم، هل أعرفك؟"
لوت شفتيها بسخرية حزينة وقالت "أمثالنا لا تراهم أعين من هم مثلك"
اقتربت حتى وقفت أمامه وأكملت "ولكن أنا أعرفك.. أنت من تسبب في موت أبي. أنا أسيل، ابنة صادق حسين الرافعي الذي مات عندما استولت شركاتك على شركته ظلما وافتراء، أنا اليوم أسدد ديني لروح أبي"
رفعت يدها فجأة وصفعته بقوة.
اشتعلت أضواء الكاميرات، وتم تصوير لحظة الصفع من جميع الزوايا.
استدارت مبتعدة وسط دهشة الجميع دون أن يحاول أحد إيقافها. لم تعبأ بنداءات محمود المتكررة ولا بحركة رجال بدر الذين بدا أنهم تجمدوا من وقع المفاجأة. خرجت من الفيلا إلى الشارع المظلم، تعدو بلا هدف سوى الهرب من كل من حولها وصورة والدها تعلو أمام عيونها وبدى لها أنه يبتسم لها وكأنه سعيد بما فعلت من أجله وما زالت صورته وهو يودعها بابتسامة حزينة في لحظاته الأخيرة هي كل ما تراه أمامها
رأت شارعا ضيقا به بعض المحلات الصغيرة فاتجهت إلى إحداها. شعرت بنظرات الموجودين تلاحقها بفستانها الأسود الضيق القصير ملتفا حول قوامها الفارع موضحا بياض بشرتها الناعمة، لكنها لم تهتم. أسرعت إلى التواليت وأغلقت الباب على نفسها وهي تحاول أن تستعيد قواها وتوقف ارتجافة جسدها
أغمضت عيونها وهي تتذكر ما فعلت، وتذكرت ترى هل هذا هو الانتقام الذي كانت تتمناه لوالدها؟ نعم ولم لا؟ بدر المسيري الآن في عناوين الأخبار، صورته تتصدر مواقع التواصل وسيكون الخبر على كل لسان ولن يقل ضرره عما فعله بوالدها.
استعادت نفسها ثم وقفت أمام المرآة وهي تحاول أن تجيد التفكير في ما سوف تفعل الآن؟ ليس معها حقيبتها ولا هاتفها ولا أي شيء لقد تركتهم على مائدتها مع محمود وعليها أن تتصرف الآن.
عندما خرجت عادت النظرات تطاردها ولكنها اتجهت إلى الرجل الذي يقف خلف البار وقالت بثبات
"من فضلك أريد أن أستعير هاتفك لإجراء مكالمة واحدة فقط"
تردد الرجل لحظة ثم أعطاها هاتفه أسرعت تطلب رقم محمود رد بانفعال:
“أسيل يا إلهي ، أين أنت؟ لقد جن الجميع هنا! بدر لم يقل شيئا حتى الآن. أخبريني أين أنت؟"
أخبرته بمكانها وطلبت منه أن يحضر حقيبتها وهاتفها.
جلست على مائدة جانبية، رأسها بين كفيها، تحاول ألا تنهار. فجأة، جاءها صوت أجش منخفض "آنسة أسيل؟"
رفعت رأسها لتجد أمامها رجلا ضخم الجسد في بدلة سوداء وملامح جامدة، أعاد السؤال بنبرة صارمة "آنسة أسيل، بدر بيه ينتظرك.. الأفضل أن تأتي معنا دون مشاكل"
تراجعت ودقات قلبها تنذرها بالخطر، لكنها تماسكت. فكرت بالصراخ ولكنها اكتشفت أن المكان شبه خاو فجأة من الجميع ولم ترى حتى المسؤول، انحنى الرجل وقال بنبرة أكثر هدوء
“ لدي تعليمات ألا أسيء التصرف معك ولكن لدي أيضا تعليمات بضرورة إحضارك"
وكأنه قرأ أفكارها بالهروب فحدقت بعيونه السوداء قبل أن تتخذ قرارها فهي لا تخاف من مصيرها لقد فعلت ما أرادت وإن تمنت أن تنغص عليه حياته كما فعل بها.
نهضت بثبات فابتعد الرجل لتتقدم هي أمامه إلى الخارج لتجد سيارة سوداء فارهة لا يبدو من بداخلها من سواد كل جزء بها حتى زجاج النوافذ، كانت السيارة تقف أمام الباب مباشرة وكأنها تسد عليها طريق الهروب
فتح الرجل لها الباب الخلفي فرأت بدر يجلس هناك متجهم الملامح دون أن ينظر إليها رغم أنها لمحت عيناه الزرقاوان تتألقان في الظلام وهو يقول:
“لقد كلفتني فعلتك هذه الكثير، وما زال أثرها مستمر ولا أعلم متى سينتهي، لذا أعتقد أن من حقي أن أسمع تبرير مقنع لم فعلت"
عندما لف وجهه لها تألقت عيونه التي أصبحت فجأة قاتمة مع سواد الليل المحيط ولكنها لم تخيفها وقالت ببرود "أخبرتك.. هذا حق أبي، هل ظننت أنك فوق الحساب؟"
لم يرد بدر على الفور، اكتفى بالنظر إلى عيونها التي تحدق به مطولا وقد رأى كم الكره الذي بها
دفعها الرجل برفق للداخل دون مقاومة منها وهي تدرك أن محمود قد تخلى عنها بسهولة، ارتجف جسدها من برد الشتاء بفستانها الخفيف وفكرت بمعطفها ليمنحها بعض الدفء
ما أن جلست بجواره حتى رأت حقيبتها ومعطفها أمامها. فجأة شعرت أنها انتقلت إلى عالم آخر; عالم من الدفء بعيد عن البرد، والثراء الواضح من فخامة صالون السيارة التي توسطها زجاج يفصل بينهم وبين السائق والرجل الذي أحضرها ورائحة الجلد الذي يبدو وكأنه ما زال جديدا.
انتبهت بسرعة إلى الرجل الذي يجلس بجوارها بهدوء غريب لا يتناسب مع ما فعلته به منذ دقائق، وتشبعت أنفاسها برائحة عطر ما بعد الحلاقة الذي شاع حولها لتدرك أن ثراء ذلك الرجل لا يمكنها أن تدرك مداه.
فجأة التفت إليها لترتبك من حركته ولكنها أخفت ارتباكها وهي تقول بقوة "لن يمكنك أن تفعل بي شيء وإلا سيعلم الجميع أنك تنتقم مني"
لم تتغير معالم وجهه وظل الجمود واضحا عليه، انتظر تفسير منها ولكن بدلا من ذلك تهاجمه وتتهمه بالزور، لم ينساق وراء تكهناتها بل قال بنفس الصوت العميق "هل هذا يعني أنكِ تخافين مما يمكن أن أفعله بكِ؟ هذا إذا كنتِ تدركين من أنا وماذا يمكنني أن أفعل بك أو ربما تفضلين إخباري سبب كل تلك المهزلة"
قالت وهي تبعد نظراتها عن وجهه "هو أبي من تنعته بالمهزلة، أنت سبب موته"
ثم عادت تنظر إليه بكره واضح وأكملت بلا ضعف "هل تنكر أن رجالك طاردوا بابا كي يبيع شركته لكم بأقل من نصف ثمنها مما لم يكفي لسداد ديونه للبنك ولم يتوقفوا بل انتهزوا ديونه التي أثقلت كاهله ودفعوا البنك ليفعل المثل حتى اضطر أن يبع الأرض التي كانت كل ما تبقى لنا ليكمل دين البنك"
أبعدت وجهها ورفضت أن تسمح للدموع أن تهاجم عيونها لم تفعل ولن تفعل.
ظل جامدا مكانه بلا أي معاني على وجهه، ربما كان يستوعب حكايتها وربما كان لديها المزيد لكن صمتها جعله أخيرا يسأل بشكل جعلها لا تفهمه "هل يمكن أن تخبريني بعنوانك؟ المطر شديد والوقت تأخر وربما تفضلين العودة إلى منزلك"
نظرت إليه بحيرة، لم يكن هذا ما توقعته منه، الانتقام منها، تعذيبها، اي شيء غير عنوانها ومع ذلك هي فرصتها وانتهزتها "فقط اتركني هنا لست بحاجة لخدماتك المدمرة لم أعد أملك سوى نفسي لتأخذها"
أبعد عيونه وكلماتها تذهب لمنطقة هي لن تعرفها فقط سمعته ينطق بنفاد صبر "أمامك عشر ثواني لإعطائي العنوان يا آنسة هذا إذا كنت تريدين العودة إلى منزلك أما إذا كنت تريدين تضييع الوقت فأنا لن أصبر كثيراً"
لم يعجبها غروره الواضح فقالت بغضب "من تظن نفسك أيها المغرور؟ ثم هل تظن أني أخاف منك أو.. "
رفع يده وأشار إلى السائق دون الاهتمام بثرثرتها التي لا تشغله وتحدث بهدوء يتخلله نبرة الأمر دون أن ينظر إليها "لقد انتهت المهلة يا آنسة وأنصحك في ما بعد أن تأخذي كلامي على محمل الجد"
لم تراقب مسيرة السيارة وهي لا تصدق ما تراه أمامها ولا تفهم تصرفاته مما زاد غضبها وهي تسأله بحدة "والآن إلى أين؟ هذا يعتبر خطف وأكيد محمود سيدرك اختفائي و"
قاطعها وهو يغلق عيونه ويتراجع بالمقعد الوثير ذا الجلد الثمين وقال "لست متهورا لأفعل، يكفيني فضائح بسببك حتى الآن يا آنسة، نحن فقط بحاجة لتبادل الحديث بمكان مناسب ولأنكِ أضعت فرصة الذهاب لبيتك فسنذهب لمكان آخر أنا شخصيا أفضله واطمئني ليست لي أي رغبة في الاتهام بقضية اغتصاب"
تراجعت بمقعدها وقد منحتها كلماته شعور لا تعرفه، خوف، راحة أم قلق؟ هي لا تعرف ولكنها استسلمت إلى أن ليس أمامها إلا الاستسلام والهدوء كي تجيد التفكير لمواجهة ما يخفيه ذلك الرجل ذا الوجه الحديدي
لم تعرف عنه أي شيء، لا أحد يتحدث عن بدر المسيري كشخص لكن كصاحب امبراطورية لا أول لها من آخر، صرح شاهق بمجال العقارات، أسد إيطاليا، رجل محنك بالأسواق العالمية للعقارات لكن من هو بدر المسيري هذا ما لم يعرفه أحد والآن لن يمكنها التنبؤ بتصرفه القادم معها، هي لم ولن تندم على ما فعلت ولا يهمها ما سيفعله بها
أدركت أن السيارة تقف بالإشارة وقبل أن تفكر بفتح الباب والنزول قال دون أن يفتح عيونه "صابر السائق، يغلق الأبواب الكترونيا بمجرد التحرك بالسيارة فاهدئي، لن أنتقم منكِ الآن كما أخبرتك رغم أن لكل فعل رد فعل"
قالت بغضب "وأنا على أتم الاستعداد للحساب فلست نادمة على ما فعلت ولن أندم فأنت تستحق"
لم يرد وإن كانت كلماتها جعلته يدرك مدى الكره الذي تكنه له وهو يحاول الآن أن يجيد التفكير بكل ما حدث ويعد ردودا لم سوف يثار حوله نتيجة ما فعلته به ويكون جاهزا كعادته لمواجهة التدخل السافر للصحافة بحياته ولكن ليس قبل أن يعرف ما سبب كل ذلك ولن يترك ذات العيون البنية قبل أن يسمع ويحقق في اتهاماتها
لم يتوقف المطر والماسحات تقذف بالمياه على الجانبين بلا رحمة بلا فائدة من أن ترى ما أمامها ولكنها لم تهتم والسيارة تهدئ من سرعتها ثم تدخل بوابة الكترونية وتعود إلى السرعة بذلك الممر الحجري بين الأشجار المجاورة لبعضها البعض إلى أن انتهت لترى
حدقت بالبيت الكبير الذي لم ترى مثله من قبل والسيارة تقف أمام بوابته الخشبية الكبيرة ونزل السائق وفتح لها بأدب لم تتوقعه بينما فتح، الرجل الذي قابلها بالمحل، له الباب ونزل كلاهما ولم تلاحظ توقف الأمطار وباب البيت، القصر أو الفيلا لا تعلم المهم أن الباب انفتح
قبل أن تتحرك أو تعترض على وجودها هنا شعرت بيد تلمس ذراعها برقة غريبة وصوته الهادئ يقول "بيتي ومكتبي بالأخص هو أفضل مكان لمناقشة مشكلتنا يا آنسة فأنا لا أفضل مقر الشركة هنا، تفضلي ولا تقلقي أخبرتك أني لا أميل للعلاقات غير المشروعة"
تقدمت مع دفعته الرقيقة لها واندهشت لأنه يتعامل معها بتلك الطريقة المهذبة على غير ما توقعت. لا تعلم كيف تركته يقودها داخل بيته الذي من أول لحظة بدا الثراء عليه بكل جدار من جدرانه وكل قطعة أثاث مرت بها وهو يقودها عبر بهو كبير انتهى بباب جانبي فتحه وما زال يدفعها بيده إلى أن دخل الاثنان فتركها وهو يغلق الباب وقد أدركت أنه مكتبه وإن بدا كبيرا جدا على امرأة بحجمها الضئيل إلا أنه كان مناسب لحجمه الذي بدا لها الآن بوضوح
سار الدفء بأوصالها بينما لاحظت أنه تحرك إلى مكتبه بخطى ثقيلة وإن كانت واثقة وهادئة وفتح الحاسوب المحمول قبل أن يجلس أمامه ويعبث بأزراره وهو يقول "إذا كنتِ بحاجة لأن أدلك على المقعد فهو على يمينك يمكنك الجلوس، والآن أصبح اسمي مثار لكل كائن على وجه الأرض والفضل يعود إليك يا آنسة"
وأخيراً التفت ونظر إليها مما أربكها لحظة ولكنها استعادت نفسها وبادلته النظرة بجرأة وقالت "هل يمكن أن تخبرني بسبب وجودي هنا؟"
تراجع بكرسيه وهو ينظر إليها قبل أن يقول وهو يدير الجهاز تجاهها لترى الشاشة تشتعل بصورتها والفيديو الخاص بها وهي تصفعه وتتبعها التعليقات "هذا، هذا هو السبب، السبب الذي سيطارد اسمي وسمعتي وسمعة شركاتي، والآن أريد أن أسمع كل صغيرة وكبيرة خاصة باتهامك لشركاتي، الآن"
تحركت إلى المقعد الوثير الذي أشعرها بالراحة عندما احتضنها ولم تنظر إلى غريمها وهي تتذكر أيام لا تثير داخلها إلا الأحزان والآلام وحاول الضعف أن يجتاحها ولكنها قاومته وحاربته كثيرا وهي تسمع والدها يقول "تمتلكين شجاعة تثير إعجابي يا أسيل وقوة لا يحظى بها الكثير من أمثالك"
عادت ترفع وجهها بشجاعة وكلمات والدها وقودها بالحياة، قالت "أبي كان يمتلك شركة استيراد وتصدير بمبنى العالمية قبل أن تشتريه شركتك وتقرر هدمه، وقتها ساومته الشركة على المقر وقد كان هو آخر من تبقى بالمبنى وعندما رفض البيع تعاملت شركتكم بشكل غير قانوني حيث كنا وقتها نمر بضائقة مادية نتيجة مرض والدتي واستدان هو كثيراً وحصل على قروض من البنك، كان البنك يميل إلى منحه فرصة أخرى للسداد لاسمه النقي بالوسط لكن عرفنا بعد ذلك أن شركتك استطاعت أن تؤثر على البنك بشكل ما واشترت مديونياته وساومته على الشركة إلى أن حصلت عليها بثمن بخس لا يتعدى ربع ثمنها مما أفقدنا كل شيء حتى الأرض، ولم يتحمل أبي فسقط صريع المرض ومات منذ عامين وقتها أقسمت أن أنال ممن فعل به ذلك وعندما فحصت أوراقه الخاصة عرفت أن خصمي هو رجل ذا نفوذ كبير ولا يمكن لمثلي أن تمثل له أي ضرر ولم يمكنني إلا أن أفعل ما فعلت الليلة"
نهض وتحرك باتجاهها وقد أثارته كلماتها وبدأ الشك يتسرب إليه عن من يمكن أن يكون قد فعل ذلك بوالدها، ليس هذا أسلوبه بالعمل بأي شكل ومن يعرفه جيدا يدرك ذلك، وقف أمامها وقال "والآن لا أفهمك، هل تعنين أنكِ لم تخططي لم حدث اليوم؟"
نظرت إليه وتساقطت خصلات شعرها الأسود القاتم على كتفيها وقالت "بلى لم أفعل، أنا لم أكن أعلم أنك ستكون موجود بالحفل، أنت لا يمكن التنبؤ بخطواتك وإلا لواجهتك قبل اليوم"
هي على حق، ليس لأنه كذلك بل لأنه لا يأتي مصر كثيرا والصحافة لا تعرف عنه الكثير فحياته ليست هنا
ظل ينظر بعيونها ولا يعلم لماذا يصدقها بل لا يفهم سبب تصرفه الهادئ معها وهناك نيران تشتعل حوله بالخارج وبدلا من أن يتجاهل رنين هاتفه الذي لم يتوقف أو يمنح الصحافة غذاء تقتات عليه، هو فقط هنا، يقف أمامها بلا أي حركة والعالم يلف من حوله يكاد يدهسه والبورصة تصرخ على فقدان الاتزان حول أسهم شركاته
ابتلع ريقه محاولا استيعاب تصرفاته وابتعد قليلا وهو يقول "أعتقد أننا بحاجة إلى مشروب دافئ قبل العشاء"
اتجه إلى مكتبه وضغط على زر جانبي وهي تقف وتقول بإصرار رغم التعب الذي هاجمها فجأة من كل ما نالته بتلك الليلة "لست بحاجة لأي شيء، فقط أريد أن أذهب من فضلك"
تحولت نظراته الصارمة لها ورفع إصبعه وقال "أعتقد أني لابد أن أتحقق من كلامك أولا يا آنسة فمن الممكن أن يكون مجرد افتراء"
شعرت بالاستفزاز من كلماته فقالت بتحدِ واضح "ليس افتراء أستاذ بدر إنها الحقيقة وأنت تعلم ذلك، هي شركتك من فعلت بنا ذلك ولابد أنك تعلم ما يحدث فيها أليس كذلك؟"
واجه نظراتها الغاضبة بنفس الهدوء الذي تحلى به منذ سنوات كثيرة وقال "هل لديكِ أدنى فكرة عن حجم أملاكي وشركاتي؟ ألا تستنتجين من غيابي بالخارج أن هنا بالذات هو آخر ما يمكن أن يحظى باهتمامي من الأساس لولا تلك الصفقات المرتبطة بعملي بالخارج"
لوهلة وجدت نفسها بطريق آخر غير ما يحدث بينهم وهي تتساءل عن لون عيونه الجميلة، هل هي زرقاء باهتة كلون السماء الصافية؟ أم قاتمة كزرقة البحر العميق الذي لا نهاية لأعماقه ولا مجال لاختراق ما يخفيه داخله؟
ابتعدت من أمامه قبل أن يدق الباب وتدخل فتاة لم تتعدى العشرين وقالت "سيدي! آسفة حقا ولكننا لم نشعر بعودتك! حضرتك سبق وبلغت بتأخرك الليلة"
ابتعد إلى مكتبه وقال "غيرت خططي، أريد قهوة من فضلك والآنسة ماذا تفضل؟"
التفتت إليه فرأته يواجها بوجه جامد جاد حقا ولكنه جذاب بشكل لا يمكن مقاومته دون النظر له والسقوط أمامه مهزوما ومع ذلك قالت دون ارتباك يظهر شيء من أفكارها
"قهوة مضبوطة من فضلك"
تأملتها الفتاة وكأنها لم تكن تراها وهي تهز رأسها كاتمة أي تصريح أما مخدومها بينما أكمل هو بنفس النبرة الآمرة "أخبري مدام ماري أن تعد العشاء لنا إذا لم يكن الأمر صعب بالنسبة لها"
هزت الفتاة رأسها وقالت "لا سيدي، ليس بصعب بالطبع، اسمح لي"
وتحركت مسرعة إلى الخارج بينما أمسك هاتفه ليتصل بالمحامي الخاص بالشركات عليه أن يحصل على إجابات ولن ينتظر أكثر من ذلك، سمعته يقول "اسم شركة والدك يا آنسة من فضلك"
قالت بدهشة "حقا!؟ وكأنك لا تعرف؟"
أبعد الهاتف وهو يقول مواجها إياها "وهل تظنين أني سأسألك لو كنت أعلم؟ اسمعي أنا بالفعل نالني منكِ الكثير اليوم ولا أظن أني سأتحمل أكثر من ذلك فكوني فتاة مطيعة وأحسني التصرف، هذا ليس وقت مزاح أو لعبة القط والفأر"
ثار غضبها ليطغى على مخاوفها وقالت "أو ماذا؟ هل تعد لي غرفة الفئران؟ أم تعد لي انتقام يليق بم فعلت بك؟ أنا لا أعلم ماذا أفعل هنا من الأساس؟ أنا أريد الذهاب والآن"
وتحركت إلى الباب ولكنه بالطبع وصل إليها دون أن تدرك متى وكيف، فقط التفت قبضته حول ذراعها بلا أدنى تردد منه وهو يجذبها تجاهه بقوة لتواجه نظراته الغاضبة وهو يقول بغضب لم يصل له منذ وقت
"والآن أنت حقا أثرتِ كل الغضب داخلي يا ابنة الرافعي، وإن لم تتوقفي عن تصرفات الأطفال هذه فسأجعلك تندمين على اليوم الذي فكرت فيه بالوقوف حتى أمامي، ألا تفهمين؟ أنا لست ضدك يا فتاة وإنما أحاول أن أحقق بكلامك واتهامك"
التهب الغضب بعيونها وتعتمت نظراتها وهي تدفع يده بقوة بعيدا عن ذراعها وهي ترد بنفس الغضب "على أساس أن هذا الوقت سيكون مناسب؟ هل تمزح معي؟ لقد انتصف الليل ولا يعمل أحد بمثل ذلك الوقت"
قاطعها بتحد "إذن أنتِ حقا لا تعرفين من أنا، فأنا لا موانع لطلباتي، أنا أدفع الكثير كي لا يكون الوقت أو المكان أو أي شيء عقبة لتعطيل أوامري"
تراجعت أمام قوة كلماته والكبرياء والثقة الواضحة بنبرة صوته، دق الباب مرة ولكنه لم يقطع تواصل نظراتهم الغاضبة ولا توتر الجو حولهم وقد شعر كلاهم بأن برد الشتاء تحول لجهنم حمراء تشتعل بلهيب الغضب مما ارتفعت معه حرارة الجو حولهم بل وحرارتهم أيضا
عاد الدق ليعيدهم لبعض الصواب فكان هو أول من استعاد نفسه وأذن، دخلت امرأة قصيرة وبدينة ترتدي ملابس الخدم الأنيقة جدا، تقدمت المرأة بصينية القهوة وبجوارها طبق به بعض الكعك وهي تقول:
“ كان عليك إبلاغي بالأمر مستر بدر"
نزع عيونه من عيونها التي تشبه لون حبات البن الغامقة وتنفس بانتظام ليستعيد جياشته ومكانته التي لن يفقدها بسبب امرأة أسقطتها السماء عليه من حيث لا يدري لتحول يومه لجحيم، تراجع إلى مكتبه وجلس بمقعده كملك متوج يعرف أنه يستحق مكانه وقال
"هل الأمر صعب مدام ماري؟ إنه عشاء لفردين"
قالت ماري وهي تحني رأسها تحية لأسيل التي اصطبغ وجهها بالأحمر وتقوست حواجبها من الغضب ومع ذلك تعاملت مع المرأة بلياقة حتى عادت تسمع لكلمات ماري "لا، ليس بصعب سيدي ولكنك تعلم أني لا أحب العجلة، نصف ساعة ويكون العشاء جاهز"
واستأذنت في الذهاب وتعجبت هي من طريقته في التعامل مع المرأة وقد فهم تفكيرها فقال "ماري تعتبر شخص مهم بحياتي فهي تعرفني منذ مولدي وتكون معي بكل مكان سواء بروما أو أي مكان أذهب إليه، هي لا تعد خادمة بالنسبة لي"
تأملته وهو ينظر إلى اللاب مرة أخرى، رأسه محنى بكبرياء على الحاسوب الذي يلمع بنور ينعكس على وجه ذلك الرجل، كان شبه غائب عنها وهو يدفن نظراته بالمعلومات التي تتراقص أمامه وكأنها هي كل عالمه بينما انزوت هي بمقعدها بلا حركة فقط تراقبه وكأنه الملك وهي من الحاشية وتساءلت ألم تكن ترغب بالانتقام؟ لقد فعلت وهي من ستتحمل توابعه
أبعدت نفسها عن متابعته فلن تجني منها شيء، لماذا لا تخرج من هنا؟ لماذا يحتجزها هنا وهي تجلس أمامه كالطفل الوديع بلا حول ولا قوة؟
دارت عيونها بالمكان وهي تبحث عن مخرج من كل هذا وفجأة شعرت بالبرد يتسرب إليها، هل الشتاء قارص حتى داخل تلك القلعة الصغيرة أم جسدها الواهن لم يعد يتحمل كل ما يصيبه الليلة؟
أحاطت نفسها بذراعيها ربما تبث نفسها بعض الدفء ولا يتجمد ذهنها قبل أن يجد لها حل لوضعها ويخرجها من هنا ورغم أن ذلك المتكبر لم يثور بوجهها حتى الآن ولم يقتلها لم فعلت إلا أنها لا تنتظر أن يستمر قناع اللطف هذا كثير بالنهاية سيثور لكرامته ويطعنها ثائرا لما سقط منها فوق رأسه
فجأة شعرت بشيء ثقيل يسقط حول كتفيها وظل طويل يمنع عنها النور ودفء غريب يشع بجسدها من القماش الفاخر الذي التصق بها أما العطر فقد عرفته منذ التقت بصاحبه
لمست أطراف الجاكيت الذي لف جسدها النحيل بسهولة ورفق وبصعوبة رفعت عيونها لصاحب الظل الذي تلقى نظرتها بلا أي تعابير على وجهه وهو يقول بصوت رخيم ملأ الجو بشحنة مثيرة من حولها
"يبدو أن المكيف لا يعمل جيدا وأنت نسيت معطفك بالسيارة، أرجو أن يفي هذا بالغرض"
ارتبكت رغم الراحة وانحل تجمد جسدها من الحرارة التي سرت بجسدها والتي زادت عندما التقت بعيونه واستمعت لكلماته المهذبة بشكل لم تعرفه من قبل خاصة من رجل صفعته هي على وجه بلا تردد وعلى مرأى من العالم كله
لا يمكنها أن تقبل شيء منه هو عدوها فكيف يفعل معها ذلك؟ ما غايته من تلك التصرفات؟ هل حقا يحاول معرفة الحقيقة؟ على أساس أنه لم يكن يعرفها أو هو من كان سببها؟ هل تثق به؟ بالطبع لا، لن يكون، من كان سبب بموت والدها سيظل للأبد عدوها
أبعدت الجاكيت لتعيده إليه ولمعت عيونها ببريق القوة والعناد وهي تنهض لتبتعد بل تفر من سلطان هذا الملك الذي يتصرف بكبرياء تحاول أن تعتاد عليه وغطت على توترها بكلمات حاولت أن تجعلها قوية
"أشكرك لست بحاجة إليه أنا بخير"
سقط الجاكيت بين أصابعه وراقبها وهي تبتعد بتصميم غريب، ربما هي عنيدة، قوية، مصممة على ما بداخلها من كره له، هذا أكيد بالنسبة لها هو قاتل والدها
تلك المرأة غريبة، من قليل تسببت له بكارثة وفضيحة لم تواجه من قبل وبدلا من أن يخنقها بيداه العارية بسهولة بعد أن تعتذر أمام العالم عما فعلت هو يضعها هنا بمكتبه ويعاملها بأدب واحترام، هل فقد عقله؟
تلك العيون التي تشبه حبات البن اللامعة تشع ببريق غريب يجعله مبهور، وكأن هذا البريق خلق فقط ليسجنه ويفقده أي حركة ضدها، خصلات شعرها تكومت حول وجنتيها بشكل زادها فتنة ورقة وجمال، تتأرجح بشكل جعله يرغب بلمسه والاستمتاع بنعومته
من الواقع رن هاتفه ليلقيه على الأرض هابطا من سماء التخيلات بلا رحمة وصوت غاضب داخله يثور به، أنت لست ذلك الرجل الذي يسبح بغزل أي امرأة
بخطوات واسعة امتلأت بغضب، قوة، اعتراض عاد إلى مكتبه ليلتقط هاتفه عندما لاحظ الاسم فرفع وجه لها وهي ترتعد أمامه كنملة تخشي من خطوات سليمان الملك الذي سيحطمها بلا رحمة وقال
"سأضطر لتركك لحظات"
نظرات الحيرة بعيونها وعدم تعبيرها عن مخاوفها جعله يكمل بهدوء مصطنع أو ربما هي الطبيعة الغالبة عليه "من فضلك تصرفي على راحتك حتى موعد العشاء"
اتسعت عيونها لتغلب على وجهها المستدير الأبيض وهي لا تصدق أنه يصر على ما قال. لا، لن تبقى، لابد أن ينتهي هذا الكابوس
هل هو حقا كابوس!؟
قبل أن يتحرك أسرعت تقول لتوقفه "أستاذ بدر من فضلك! فقط دعني أذهب أنا لا أريد التواجد هنا، من فضلك دعني أعود إلى بيتي، لا داعي لوجودي هنا"
عيونه ظلت تتجول على ملامحها الجميلة وكأنه يصورها من مكانه ولكنها أبدا لن تفهم ما يختفي خلف تلك الحدقتان اللامعتان بالأزرق، هو وسيم، جذاب، لا رجل رأته من قبل نافسه القوة والجاذبية والرجولة التي تصرخ بهالة قوية حوله
عاد صوته للهدوء بلا أدنى مجهود منه وإصرار لا تفهمه "ليس قبل أن ننهي ما بدأناه يا آنسة، لا تفكري بالذهاب، المكان متطرف ولا يوجد أي بشر حولنا فأنا أحب الهدوء ولا أفضل الزحام هذا بالإضافة طبعا للرياح الصاخبة والأمطار، ورجالي التي تحيط القصر"
ثم تحرك خارجا من الغرفة بخطوات تركت صوتا عميقا مع كل خطوة منه في أذنها تاركا خلفه المكان معبق برائحة عطره الممتزج برائحة رجولته التي طغت على كل ما حولها وهي تجر أقدامها لأقرب مقعد لتنهار بجسدها الضئيل عليه ونظراتها تحدق بالفراغ من حولها
هل سجنها هنا؟
هل يعد للانتقام؟
معاملته المؤدبة بدرجة زائدة عن الحد جعلتها لا تعرف أي شيء، فقط كانت ضائعة، تائهة بلا هدى، كالغريق الذي لا يحمل إلا ثقل أنفاسه تكاد تغرقه بلا رحمة أو هوادة، أسئلة تجرها للأعماق، حيرة تلتف حول عنقها تخنقها وكأن الموت هو ما يحيط بها ويصمم على الفوز
يتبع
الفصل الثاني من هنا
لقراءة باقي الفصول من هنا