
رواية كبرياء رجل الفصل الثامن8 بقلم داليا السيد
الغابة
سعلت كثيرا كي تلقي تلك المياه التي سدت الهواء عن رئتيها وهي تشعر باحتراق شديد بصدرها، تركت المياه تخرج ربما تسترد أنفاسها حتى انتهت وتنفست بصعوبة من ألم صدرها حتى استعادت نفسها وفتحت عيونها لتجد بدر يجلس بجوارها على الشاطئ والمياه تتساقط من جسده وهو يحدق بوجهها قبل أن يقول وهو يلهث
"يا الله! هل أنتِ بخير؟"
شعرت بصدرها ما زال يحترق ولكنها بالتأكيد سعيدة لأنها ما زالت على قيد الحياة فقد ظنت أنها رحلت من الحياة، أبعدت شعرها المبلل من على وجهها بضعف وهزت رأسها وقالت "نعم، أين الأولاد؟"
انتبه إليهم فالتفت وقال "سأذهب لإخراجهم من المياه"
تراجع بينما اعتدلت هي وما زالت مياه البحر تصطدم بجسدها وهي جالسة على الرمال ورأته وهو يدفع الأطفال بقوة إلى الخارج فنهضت وتقدمت لتجذب براء وأكمل هو مسيرته مع باسل
جففت الأولاد ومنحتهم بعض الطعام وهو أيضا قبل أن ينظر إليها ويقول بجدية "أخبرتني أنكِ تجيدين السباحة فماذا حدث؟"
نظرت إليه ولم تعرف ما إذا كان سيصدقها أم لا لكنها قالت "لا أعلم ولكني شعرت بشيء يقبض على قدمي ويجذبني إلى الأسفل بقوة وعندما حاولت أن أقاوم زاد من جذبه لي وبالطبع لم أتمكن من الإفلات منه وحدث ما حدث"
ظل ينظر إليها وهلة قبل أن تقول "كنت أعلم أنك لن تصدقني"
أحاط نفسه بسحابة من الدخان الأبيض الناجم عن سيجارته قبل أن يقول "هل رأيت ماذا كان يجذبك لأسفل؟"
هزت رأسها نفيا وهي تتذكر تلك اللحظات المخيفة وقالت "لا، لم أر أي شيء، هناك أيضا أشياء غريبة حدثت لي بالأيام السابقة وخشيت إن أخبرتك فلا تصدقني"
نظر إليها دون أي تعبير وقال "كم مرة أخبرك ألا تظني بي شيء؟ فقط أخبريني واتركي الأحكام لي أنا؟ تحدثي"
تراجعت وهي تخبره عن الشركة وعن البيت وعندما انتهت تبدلت ملامحه وتجهم وجهه وقد تذكر فجأة باسم أخيه فنهض ولكنه لم يتحدث بل اكتفى بأن قال "أظن أننا لابد أن نعود البيت كي يمكننا العودة قبل الليل"
تعجبت من تصرفه وأنه لم يمنحها أي تعليق على ما قالته فسألته بحيرة واضحة "ماذا حدث بدر أنت لم ترد على ما أخبرتك به ألا تصدقني؟"
لم ينظر إليها وقال "هل نذهب الآن ونؤجل حديثنا هذا لوقت آخر؟"
ظلت مندهشة من تغيره المفاجئ ولا تبعد نظراتها عن وجهه ربما تفهم أي شيء ولكن بلا فائدة فقالت بضيق "لست بحاجة لتفعل كنت أعلم أنك لن تصدق ولن تهتم"
ثم نهضت لتجهيز الأشياء ولكنه قال بحزم "هل أبدو كذلك لكِ؟"
واجهته وقالت "تبدو وكأنك تريد التخلص مني وكأني مجنونة أو مصابة بمرض معدي وتريد الابتعاد عنه"
كانت نظرات الغضب بعيونها تصيبه بالغضب ولكن الغضب يحتاج إلى أضعاف منه كي يتمكن من ذلك الرجل فقال "أنتِ بالفعل مجنونة، أتظنين أني شخص غبي لا أعقل الأمور جيدا ولا يمكنك منحه ثقتك؟ أرى ذلك بعيونك أسيل وهذا أمر يثير غضبي حقا لأن من المفترض أن لا شخص آخر غيري جدير بتلك الثقة"
تراجعت أمام نبرة صوته الغاضبة ولكنها قالت "وأنى لي بتلك الثقة وأنت حتى لم تمنحني أي بادرة ثقة"
اقترب منها وقال "لم أمنحك أي بادرة ثقة وأنا أقضي معك وقت أكثر مما أقضيه مع نفسي؟ لم أمنحك الثقة وأنا طلبتك زوجة لي أكثر من مرة؟ إنه أنت التي ترفضين منحي ثقتك أسيل وكأنك ترفضين وجودي أصلا بحياتك فلو سيظل الأمر كذلك فأخبريني الآن حتى أتراجع لأني لن أتحمل رفضك هذا أكثر من ذلك"
ثم ابتعد من أمامها وهو يتجه إلى الأولاد ليخبرهم بالذهاب رغم تذمرهم وتركها والدموع تتجمع بعينيها من كلماته وقد أدركت أنها أشعرته بالإهانة لإحساسه بأنها ترفضه ولا تثق به.
عادوا في صمت واغتسل الأولاد وارتدوا ملابسهم بمساعدتها واختفى هو ولم تراه وبالخامسة كانت تضع الحقائب أمام الباب وقد كان هو يعد السيارة للذهاب وتملكه الصمت كما تملكها هي الأخرى ولم تجد ما يمكن أن توقف به تلك الأزمة التي أصابت علاقتهم دون سبب واضح.
تحرك بالسيارة بمجرد أن ركبت بجواره دون أن يتحدث وتغير الجو من حولهم مرة أخرى كما حدث بالأمس للرعد والمطر ولم ينم الأولاد إلا بعد مضي وقت طويل، وفجأة توقف بالسيارة وقد رأت أن الطريق قد أغلق بفعل العاصفة فشعرت بالخوف وقالت
"والآن ماذا سنفعل؟"
تراجع بالسيارة وقال "هناك طريق آخر ولكنه أكثر طولا وغير ممهد ولكن لا بديل له فقد أصبحنا بعيدا عن البيت الخشبي ولن يمكننا العودة وربما أثرت العاصفة على الطريق"
لم ترد وقد تملكها الخوف وهو يستدير بالسيارة إلى الطريق الآخر ولاحظت بعد فترة أن الظلام يشتد والأمطار لا تتوقف وأخيرا بدا ضوء على جانب الطريق فقال "ربما نبقى بذلك البيت حتى تهدأ العاصفة هو بيت طوارئ معد لمثل تلك الأجواء"
توقف أمام البيت وقال "سأذهب لأرى من به أولا، لا تتحركي"
هزت رأسها رغم الخوف الذي انتابها ولكن ما أن ذهب حتى اختفى من أمامها وهي ترى بصعوبة من بين الأمطار من يجذبه إلى الداخل ليختفي من أمامها فتملكها الفزع وهي تقول "سأذهب لأرى بابا لا تتحركا من هنا"
ونزلت بسرعة من السيارة ولكن ما ان وضعت قدميها على الأرض المليئة بالمياه والطينة حتى تراجعت وهي تجد أن كل شيء اختفى من حولها، لم ترى البيت ورأت ظلام يحيطها؛ لم تعد ترى السيارة ولا البيت، فقط ظلام، التفتت حول نفسها ولكنها لم تجد أي شيء فقط أمطار واشتد الظلام من حولها دون أن ترى أي معالم فقط المياه تتساقط عليها بغزارة.
نادت بدر والأولاد بصوت مرتفع يملأه الفزع ولكن ما من مجيب بذلك الليل الحالك وصوت الرعد يثير الرعب بأوصالها ويغطي على صراخها فجأة شعرت بيد تلمسها ففزعت مرتدة إلى الخلف لتفر منه عندما لمحت شبح غير واضح المعالم أيضا يقترب منها فصرخت بقوة وأسرعت تجرى بدون هدى لتجد أغصان تتشابك من حولها وأخرى تسقط وكأنها ستسقط عليها وهي تحاول أن تتفاداها بصعوبة ومع ذلك صرخت من الألم عندما أصابتها إحداهم بذراعها ولكنها لم تتوقف
ازداد الأمر سوء بزيادة الريح والمطر وذلك الصوت الذي يلاحقها دون توقف وفجأة ودون أن تأخذ حذرها تعثرت قدمها بغصن سميك جعلها تفقد اتزانها ويلتوي كاحلها بقوة جعلتها تعود وتصرخ من الألم وهي تسقط على الأرض المليئة بالزرع المختلط بالماء والطينة
أمسكت كاحلها بيدها وهي تتألم حتى استعادت نفسها وهي تنظر حولها ولا ترى إلا أشجار وصوت الرعد يتبع ضوء البرق الذي لا ترى منه سوى الأشجار الكثيفة ثم ذلك الظلام الذي يتبع رحيل البرق ويثير الرعب في أوصالها
فجأة انتفضت عندما رأت ذلك الشبح يقترب مرة أخرى وأدركت أن لا شيء سيمنعه عنها، حاولت أن تسحف على الأرض مبتعدة ولكن شيء ما ثبتها بالأرض ودفعها لترقد على ظهرها وجمدها مكانها بلا قدرة على التحرك. ظل الشبح يقترب منها وهو ينحني حتى كاد يلمسها ولكنه توقف على مقربة منها وهي ترتجف وتفقد القدرة على الحركة أو طلب النجدة وكأن لسانها أيضا أصيب بالشلل
حاولت بكل قوتها أن تسحف إلى الخلف هربا من ذلك الشبح ولكنها اصطدمت بشجرة أخرى خلفها أوقفتها فعرفت أنها هالكة وهي ذلك الشبح يتجسد لها وكأنه ذلك الجسد اليافع ولكن دون أي معالم وامتدت يدين سوداء باتجاهها وهي تحاول أن تهرب دون مفر لتصل اليد إلى عنقها فتقبض عليها بقوة وهي تحاول أن تتحرك مرة أخرى ولكن ظل جسدها مشلول وازدادت اليد شدا على عنقها وللمرة الثانية اليوم تذهب أنفاسها وقد تأكدت أنها لن تنفذ من الموت تلك المرة
لم يجد بدر أحد ببيت الإنقاذ فأضاء النور الداخلي وعاد ليأخذ الأولاد ولكن ما أن عاد إلى السيارة حتى تراجع عندما لم يجد أسيل، أصابه الجنون لعدم وجودها والحيرة من سبب اختفائها بذلك المكان، التف حول نفسه بجنون تحت الأمطار وهو ينادي باسمها ولا يرى شيء وسط الظلام، زاد خوفه عليها وهو يتذكر كلامها عن الشبح والبيت والبحر فزاد فزعه وتملكته الأفكار والخوف عليها فلم يتراجع وهو يندفع إلى الأشجار الكثيفة واندس بداخلها وما زال يبحث عنها وينادي باسمها دون أي رد إلى أن لاح له نور من بعيد فأسرع إليه وقد عاد الأمل له من بين الظلام المحيط وهو يشعر بخوف فظيع من أن يفقدها وحيرة مما يحدث لها وتساؤلات تربط بين الماضي والحاضر؟
****
زادت اليد إحكاما على عنقها وتقطعت أنفاسها ولم تعد تستطيع أن تأخذ أي نفس وجحظت عيونها وشعرت بنفس الدوار يهاجمها مرة أخرى ولكن قبل أن تفقد وعيها اندفع ضوء أبيض ليصطدم بالشبح الأسود ليرده إلى الخلف بعيدا عنها ويختفي الشبح الذي أراد قتلها ومعه ذلك الضوء الأبيض وهي تسمع صوت ينادي باسمها، انتابها السعال وهي تحاول إعادة الهواء إلى رئتيها وقد تحرر جسدها فجأة، وضعت يدها حول عنقها من الألم نتيجة تلك اليد وأخذت تسعل بشدة مرة أخرى وسرعان ما شعرت بأقدام بجوارها فعاودها الخوف وهي تحاول أن تنهض بصعوبة ولكن الألم بقدمها وذراعها وربما بكل جسدها أوقفها وجعلها تئن بتعب وألم حتى سمعت صوت بدر يخرج من بين الأغصان وهو سندفع لها ويصرخ
"أسيل، يا الله أسيل، ماذا حدث؟"
بالطبع لم تكن بحالة تسمح بأن ترد وهو يرفع نصفها الأعلى بين ذراعيه ورأسها تستند على صدره فصرخت من ألم ذراعها، لم يفهم ما حدث لها وهو يرى دماء تلطخ ملابسها ففزع من حالتها ونهض وهو يحملها وسط المطر
عاد بها إلى البيت الصغير ووضعها على أريكة قديمة ككل شيء بالمكان، لحظات وكان يحمل الأولاد للداخل وهم نائمين فوضعهم بمكان آخر واعتنى بهم قبل أن يعود لها
كانت ترتجف بشدة من البرد والخوف وشعرها يلتصق بوجهها الملطخ بالطينة وبعض الخرابيش والدماء تنزف من ذراعها بلا توقف بينما ألم قدمها أصبح لا يطاق وأدركت أنها تورمت
أسندت رأسها والصداع زاد عليها عندما عاد إليها وبدأ يفحص جراحها دون أن ينظر بعيونها وهو ويهتف "ما الذي حدث أسيل؟ لماذا تركت السيارة؟ وأين ذهبت؟"
تملكها الصمت فهو لن يصدقها، لم ينتظر إجابتها وهو يتحرك ليبحث عن أي شيء بالمكان يضمد به جراحها ثم عاد إليها عندما وجد علبة الإسعافات الأولية وما زال ذراعها ينزف وقد زاد شعورها بالضعف يسري بجسدها والبرد يتمكن منها ولكنها تحاملت وهو يقطع قماش بلوزتها من حول جرح ذراعها ليرى مدى سوء الحالة
كان الألم شديد وهي تأن بصوت مكتوم وهو ينظف الجرح ببطء وهي تتألم بصمت يدركه من معالم وجهها، طهر الجرح ووضع مادة طبيبة للعلاج ثم وضع الضمادة عليه بعناية
حدق بعيونها المغلقة وتنفسها الثقيل وأصابعها التي تقبض على الأريكة فأدرك إنها تتألم وتألم قلبه معها
انتقل إلى قدمها التي تلونت بألوان متعددة وتورمت فقال "للأسف لن يمكنني أن أفعل معها شيء لابد من أن يراها الطبيب ولكن فقط سأنظفها وأضع مادة مضادة للكدمات أعلم أنها مؤلمة ولكن ليس هناك حل آخر"
لم ترد لأن لا شيء يمكن قوله أو عمله أكثر مما يقدمه لها، لم يقل الألم وهي تتألم بنفس الطريقة وقد شعرت بالغثيان أكثر من مرة ولكنها تحاملت على نفسها حتى انتهى أخيرا وتركها ترتاح بينما خرج إلى السيارة مرة أخرى وعاد وقد وأحضر معه حقيبتها وقال
"لابد أن تتخلصي من تلك الملابس وإلا ازداد الأمر سوء"
هزت رأسها بالنفي وقالت بألم واضح وجسدها وفمها يرتجفون من البرد "لا أستطيع تحريك ذراعي فهي تؤلمني ولا يمكنني تحريك قدمي"
حدق بها ثم قال "إن لم تفعلي أسيل فسأفعل أنا بالغصب"
تراجعت أمام جديته وعيونها المتعبة تحدق به فقال مؤكدا "أنا لا أمزح أسيل هيا"
وترك الحقيبة أمامها وتحرك مبتعدا ليغير ملابسه هو الآخر وبالطبع تعلم أنه لم يكن يمزح لذا تحركت بصعوبة وحاولت أن تفعل ولكن الألم كان أقوى منها فلم تتمكن من فك أزار بلوزتها حتى، لتراه عائدا وقد استبدل ملابسه بأخرى جافة وهو ينظر إليها وقال بإصرار
"إذن لا مفر من أن أفعلها"
ولكنها قالت بتعب واضح "لا من فضلك لا"
ولكنه لم يتراجع أمام اعتراضها ولم يكن يسمعها بالأساس وهي تترجاه أن يتركها وقد لفها بمنشفة كبيرة بحذر ثم ساعدها في خلع الملابس المبللة دون أن يتجاوز بنظره إلى جسدها الملفوف بالمنشفة ووضع عليها ملابسها الجافة وقد سرى الدفء بجسدها أخيرا رغم الألم حتى انتهى وجذب الغطاء عليها وهو يرفعه حتى عنقها عندما سقطت نظراته على العلامات الزرقاء التي كانت بعنقها فاقترب ليراها وقال بدهشة
"ما هذه العلامات أسيل؟ من أين أتت تلك العلامات؟ ماذا حدث أسيل هناك؟ هل يمكن أن تخبريني؟ أنا طلبت منك عدم الخروج من السيارة ولكني عدت فلم أجدك"
نظرت إليه بشك من أنه سيصدق أي شيء مما ستحكي وهو أدرك ذلك فأمسك يدها وربت عليها بحنان وقال وهو يفهم نظراتها "أنا أسمعك أسيل ولا مجال للشك"
يده بثت الطمأنينة بقلبها فحكت له ما حدث حتى وجدها بالغابة وتوقفت تنظر لملامح وجهه المتجهمة وهو ظل صامتا فترة طويلة وما زال يتذكر أشياء من الماضي ولكنه ينكر صلتها بالواقع وأخيرا سمعها تقول
"أنا لا أعرف ماذا يحدث لي وما تلك الأشباح التي أراها؟ وماذا تريد مني؟ أخبرني أنك تصدقني"
نهض متحركا بالمكان الضيق بلا هدى إلى أن قال "لم يعد هناك مجال لعدم التصديق أسيل، ولكن للأسف لا أجد تفسير منطقي"
أغمضت عيونها من التعب ثم فتحتها وقالت "هذا الشيء يريد أن يقتلني يا بدر، بالبحر مرة وبالغابة مرة أخرى، ولولا ذلك الضوء الأبيض لتمكن مني"
التفت إليها بانتباه وقال مرددا "الضوء الأبيض؟ ألم تخبريني أنه هو الذي أتاك بالبيت أيضا وأصدر صوت وتحدث معك؟"
هزت رأسها بالموافقة ولكن بلا فهم فاقترب منها ووقف أمامها وقال "هذا يعني أن الضوء الأبيض شيء مختلف عن الشبح الأسود ولكن بالنهاية نحن لا نعرف ماذا يمثل كلاهما"
زاد الخوف داخلها فقالت "من فضلك بدر أنا أشعر بخوف فظيع ولا أعرف ماذا يحدث لي"
أمسك يدها واقترب أكثر وقال بهدوء ظنت أنها نبرة حنان "لا تخشين شيء أسيل، لن يحدث لك شيء لن أسمح بأن يصيبك أي مكروه، لن أتركك لحظة بعد الآن"
تراجعت وهي تعلم أن ذلك مستحيل ولكنه مرر يده على وجهها وقال بحنان أدركته هذه المرة "حاولي أن تنامي فأنتِ بحاجة للراحة"
ظلت تنظر إليه، ابتسم ليمنحها الراحة، أغمضت عيونها فترك يدها وأحضر مقعد خشبي ووضعه بجوار الأريكة وجلس وهو يخرج سجائره وقد تملكته الأسئلة بدون أي إجابات وتذكر أواخر أيام أخيه باسم عندما كان يتصل به ويخبره بتلك الأشياء الغريبة التي تحدث له والشبح الأسود الذي كان يطارده، اعتدل ووضع رأسه بين يديه وهو يحاول ألا يسرح بأفكاره إلى الحادث الفظيع الذي اقتلع أخيه الصغير من حياته بلا رجعة.
مع إشراقة النهار فتح عيونه وقد نام على المقعد فاعتدل بصعوبة وقد تألم جسده من الجلوس والنوم بتلك الطريقة، وجدها ما زالت نائمة وكذلك الأولاد، اهتز هاتفه الصامت برقم سلمى فلم يرد فأتت رسالة منها
"أتمنى أن تكون قد أمضيت رحلة سعيدة"
نهض وهو يحاول ألا يشغل ذهنه بتلك المرأة المجنونة التي حتى لم تسأل عن أولادها.
وأخيراً استيقظ الجميع وبدت هي أفضل من الأمس لكن الأولاد كان لديهم الكثير من الأسئلة والخوف بعيونهم ولكنه منحهم الهدوء والأمان بكلماته
كان قد أعد كل شيء للرحيل فقالت "لقد تعطلت عن عملك"
نظر إليها وقال "إنها أملاكي أسيل وبإمكاني التغيب وقتما أشاء، ولدي من العاملين ما يكفي ليسد غيابي"
ابتسمت بتعب وقالت "نعم غيابك لن يتم خصمه من راتبك"
ابتسم وقال "وكذلك أنتِ؟ هي ميزة رائعة أليس كذلك؟"
هزت رأسها وقالت "أعتقد أنك ستبحث عن بديل لي بعد تلك الحالة التي وصلت إليها الآن"
حملها مرة أخرى وقال "وتتخلصين مني بسهولة؟ لن يحدث وليس هناك من يمكن أن يكون بديل لك بأي يوم"
نظرت لوجهه القريب وهي تستمتع بين ذراعيه وملامحه قريبة منها وتكاد تسمع دقات قلبه وعيونها تجوب ملامحه بسعادة وحب حتى سمعته يقول "لو لم تكفي عن تلك النظرة فسأعود بك إلى الداخل ولن يمنعني عنك أي دين أو تقاليد فأنت لا تدركين ما أعانيه كي أمنع نفسي عنكِ وأنت بين ذراعي"
احمر وجهها وشعرت بخجل فظيع يجتاحها وسرعة خفقان قلبها تخبرها عن سعادتها وخجلها. لم ترد بالطبع وهو يضعها داخل السيارة وظل بجوارها دون أن يبتعد عنها ونظراتهم متصلة وتعني الكثير من كلاهم وزاد اقترابه حتى أدركت أن الحرارة التي هبت على وجنتها هي أنفاسه المعطرة بعطره الفاخر والذي حفظته وأحبته، أغمضت عيونها باستسلام ولم تشعر وهو يأخذ شفتيها بين شفتيه بقبلة رقيقة لم يمكنها أن توقفه أو توقف نفسها وكأنها كانت بحاجة إليها ليؤكد لها أنه ما زال معها ولن يتركها، لحظة ممتعة عاشتها براحة تلك المرة لأنها كانت بحاجة لها وأدركت أنه رجل يدرك كيف يمنح المرأة أجمل إحساس بمجرد قبلة، بل يعرف متى يمنحها حبه كي تهدأ وتشعر بالأمان وهو ما حدث لها بالفعل
ابتعد قليلا بدون رغبة من كلاهم وهمس دون أن يبعد وجهه من أمام وجهها ولم تبعد هي يدها عن عنقه "من الصعب أن تكوني بين ذراعي دون أن أنال تلك القبلة التي تأخذني لعالم آخر لم أعرفه من قبلك أسيل ولا أعلم إلى متى سيمكنني تركك دون المزيد"
أفلتت يدها وأخفضت وجهها من الخجل فتراجعت وهو يشعر براحة من استجابتها لقبلته تلك المرة أكثر من المرات السابقة فهذا يمنحه إحساس أنها لا تكرهه كما كان يشعر دائما
عاد بها إلى بيتها وحملها إلى الداخل بالطبع وهو يضعها بفراشها وراسيل تتبعه وهي تتساءل عما أصابها، نظر إليها وقال "حادث بسيط راسيل، أسيل أنا سأعيد الأولاد إلى البيت ثم أحضر الطبيب وأعود"
هزت رأسها وقبل أن يذهب نادته "بدر"
التفت إليها فقالت "كن على حذر في القيادة ولا تتأخر"
هز رأسه وتحرك مبتعدا وهو يعلم أنها تشعر بالخوف، ساعدتها راسيل في الاغتسال وتغيير ملابسها، مر الوقت بطيئا ولكن بالنهاية سمعت سيارته تقف أمام البيت ثم دقات الباب لتراه يدخل ويتبعه رجل بأواخر الأربعينات عرفت أنه الطبيب
لم يتطلب أمر قدمها جبيرة ولكنه أعاد ربطها بعد وضع دهان طبي وأعاد تضميد جرح ذراعها وإن قال أنه كان بحاجة إلى غرز جراحية وقام باللازم تحت نظراته
بالطبع شعرت بالراحة بعد ذهاب الطبيب والمسكنات التي أعطاها إياها قبل أن يرحل ثم عاد هو إليها ووقف أمامها فقالت "لابد أن تذهب"
تذكر نظرات سلمى له من نافذة القصر عندما عاد إلى البيت ليعيد الأولاد دون كلمات ولكنه لم يهتم ولم ينزل من السيارة بالأساس
قال "هذا طلب أم رجاء أم أمر؟"
أبعدت وجهها وقالت بحزن "وما الفارق بدر، بالنهاية لابد أن تذهب"
جذب مقعد إلى جوار فراشها وجلس عليه وقال وهو ينحني باتجاهها "لن تكون هناك نهاية بعد اليوم أسيل، وبالضبط"
ثم نظر إلى ساعته الثمينة وعاد يقول "بعد نصف ساعة لن يتمكن أحد ولا أنتِ من إخراجي من هنا"
امتلأت عيونها بالدهشة والتساؤلات وهي تترك يدها بيده ثم قالت "لا أفهم شيء"
قبل يدها برقة تأخذ قلبها ثم قال "لن يمكنني أن أتركك بعد اليوم أسيل ولأنك لن تسمحي لي بالبقاء هنا فكان لابد من حل ولم أجد سوى حل واحد"
تراجعت دون أن تبعد يدها عن يده وكأنها نستها وهي تحاول أن تفهم كلماته فقالت "الذي هو ماذا؟ تحدث بدر من فضلك"
ابتسم وكم بدا جذابا رغم الإرهاق الذي ارتسم على وجهه ثم قال "الذي هو زواجنا أسيل، أخبرتك أني لن أتراجع وإنما أمنحك الوقت كي تستسلمي وأعتقد أن بعد كل ما حدث لن يمكنك الرفض وأنا لن أسمح لكِ، لن يمكنني تركك وحدك بعد ما حدث"
حدقت بعيونه دون أن تجد كلمات وإنما تسارعت أنفاسها وهي تشعر بعدم القدرة على التفكير وكأن عقلها توقف وانفصل عن كل ما يحدث حولها، عندما لم ترد قال "لا أفهم معني سكوتك هذا، أنا أعلم أنكِ لا ترفضيني أسيل فماذا؟"
كانت تنظر له بعيون حزينة ولا تعرف أين الخطأ من الصواب؟ هي تحبه ولا تعرف كيف تقاومه؟ كما وأنها ترفض تلك التجاوزات التي تحدث بينهم ومهما رفضت فلن يتركها، كان واضح بكلماته عن سلمى ورأت كيف عاملها هنا فهل يمكنها الاستمرار بالرفض؟
"أنا لا أرفضك بدر ولكن زوجتك، الأولاد، الناس، أنا لا أعرف بدر، لا أعرف"
أغمضت عيونها فنهض وتحرك بالغرفة خطوات بطيئة قبل أن يقول "أخبرتك كثيرا أن كل هذا لا يمكن أن يوقفني، فقط شيء واحد هو الذي يوقفني أسيل"
ثم اقترب منها مرة أخرى حتى وقف أمامها وقال بجدية واضحة "أن تخبريني أنكِ لا تريديني أنا شخصيا زوجا لك وأنني دخيل بحياتك ولا يمكنك تحمله وقتها أعدك أن أخرج من حياتك بلا رجعة"
ظلت تنظر إليه بعيون حزينة وحائرة ثم أغمضت عيونها وهي تعلم رد قلبها الذي يسيطر عليها ولا يمنحها أي فرصة حتى للتفكير سمعته يهمس "لا أسمع ردك أسيل"
فتحت عيونها بدموع خوف وحزن فدفع يده إلى وجهها ليمسح دموعها وهو يجلس بجوارها على طرف الفراش وقال "هذه الدموع تعني الرفض؟ هل تريدين مني الرحيل؟"
لم يمكنها أن تقاوم أكثر فوجدت نفسها تهز رأسها نفيا فتنهد براحة وجذبها إلى أحضانه بقوة وهمس "إذن دعيني أفعل ما أراه مناسبا لنا، أعدك ألا تندمي، فقط كوني معي"
تملكتها الراحة وهي بين ذراعيه ولم ترد وقد تمنت بالفعل أن تكون معه إلى نهاية العمر.
انتهت اجراءات الزواج على يد المأذون والشهود وما أن انصرف الجميع حتى عاد إليها وأغلق باب الغرفة واتجه نحوها وهو يخلع جاكته ويضعها بهدوء على أحد المقاعد ثم نظر إليها وقد رأى ما بعيونها من خجل واضح فابتسم وهو يجلس على المقعد أمام فراشها وهو يراها تخفي عيونها عنه فقال
“والآن زوجتي الجميلة من أين نبدأ حياتنا؟"
ارتجفت من الخوف والخجل وهي لا تعرف حقا من أين ستبدأ معه؟ ألم يبدأوا بالفعل؟
أنا حياتي ابتدأت منذ رأيتك بدر، أنا عرفت معاني ومشاعر لم أعرفها سوى معك، بوجودك السعادة وبغيابك الضياع فلا تتركني
كانت تحدق به وهي تفكر بكل ذلك حتى أخفضت عيونها تائهة لا تعرف ماذا تقول ولكنه قال "أسيل، أسيل انظري إلي"
بصعوبة رفعت عيونها التي سلبته عقله لتواجه نظراته فقال دون أن يتحرك من مكانه "أعلم أن من حقك حفل زفاف وفستان أبيض وكل ما تتمناه أي فتاة، وأنا أعدك أن أمنحك كل ذلك بيوم ما، وقبل ذلك تأكدي أني لن أجبرك على شيء لا ترغبين به"
دارت عيونها بملامح وجهه قبل أن تقول "وأنا لا أريد كل ذلك بدر فقط أريد أن أعيش بسلام وراحة"
ابتسم وقال "ستفعلين ومعي، فقط لا تفكري بأي شيء الآن وحاولي أن تنامي وترتاحي"
قالت وهي تدرك معني كلماته "لابد أن تذهب لقد تأخر الوقت و"
انحنى الى الأمام حتى كاد يلمس وجهها بوجهه وقال "وماذا؟ يبدو أن التعب أثر على عقلك، كيف أذهب وهذا بيتي وأنت زوجتي وراحتي هنا معكِ أسيل"
ابتسمت فقال "ربما فقط أطلب ملابس جديدة، لا يمكنني البقاء بتلك الملابس أكثر من ذلك، هيا نامي الآن وأنا هنا لن أذهب"
ابتسمت براحة وسعادة لوجوده ثم اعتدلت بالفراش وظلت تنظر إليه وهو يبادلها النظرة إلى أن غلبها النوم ولم تشعر بشيء
عندما فتحت عيونها كان النهار قد انتصف، سمعت دقات على الباب فاعتدلت وهي تبحث عنه بعيونها ولكن لم تجده وتساءلت هل كان حلم؟ دق الباب مرة أخرى وفتح فرأت راسيل تدفع الباب وهي تحمل الطعام وتقول
"مساء الخير مدام، الف مبروك الزواج، مستر بدر أخبرني ألا أوقظك قبل موعد الغداء"
نظرت إليها وهي تحاول أن تعتدل رغم ألم ذراعها ثم قالت بلا تفكير "وأين هو؟"
وضعت الفتاة الطعام أمامها وقالت "أخبرني أنه لن يتأخر عن موعد العشاء فقد تواصلت رنات هاتفه وظل فترة طويلة بغرفة المعيشة يعمل ويجيب الهاتف قبل أن يذهب"
هزت رأسها وقالت "أين هاتفي؟"
دارت راسيل برأسها بالغرفة إلى أن وجدته فأحضرته لها فقالت "شكرا راسيل يمكنك الذهاب"
طلبت رقمه فأجاب على الفور "أنت بخير؟"
ابتسمت لرنة القلق بصوته وقالت "كنت بخير وأنت معي ولكن الآن أشعر بالوحدة"
أشار إلى رجله ليخرج ففعل وتراجع هو بمقعده بمكتبه الرئيسي بشركاته وقال "أعلم أني ما كان ينبغي أن أتركك ولكن.."
قاطعته بصدق "أنا أمزح بدر فأنا أعلم مدى انشغالك"
اختار سيجار وأشعله ونهض إلى نافذة مكتبه ووقف أمامها وقال "كدت أصدق أنكِ تفتقدين وجودي"
صمتت قليلا وكلماته تجعلها حائرة فقالت بصدق "هل أنت بحاجة لأن تسمعها؟"
نفخ الدخان فرسم أشكال لا معنى لها على الزجاج وقال "ربما، ألا أستحق؟"
ارتجفت يدها وقد صمت لسانها ولكنها قالت "أنت لا تستحق كلمات وإنما أفعال وهي ما أقدمها لك فأنا منحتك حياتي بدر وأنت تفعل بها ما تشاء ألا يكفيك هذا؟"
لم يتراجع وهو يقول "أحيانا أشعر أني أغصبك على كل ذلك لأني لا أرى الرضا بعيونك ولا أسمعه بكلماتك"
أغمضت عيونها وقالت "لقد تركت بلدي وحياتي وأتيت هنا لأكون معك ألا يعني ذلك شيء لك؟"
ابتعد عن النافذة وقال "أنت ماهرة بسبل الهروب زوجتي فكيف يمكن التغلب على مكرك هذا؟"
ابتسمت وقالت "تلميذتك أيها الراهب"
ابتسم وقال "راهب؟ لا أظن فقد فقدت الرهبنة بمجرد أن سقطت يدك الصغيرة على وجهي وجعلتني ألتمس سبيل للخروج إلى الحياة التي لم أعرفها إلا معكِ"
كاد قلبها يفر من بين ضلوعه وكأنها لا تصدق أنه يخبرها بهذه الكلمات فقالت "ندمت بدر، ندمت على ما فعلت معك فأنت لا تستحق ذلك"
جلس مرة أخرى وقال "وماذا أستحق؟ هل تسمعين نفسك لقد عدنا لنقطة البداية والآن عليك الإجابة على السؤال"
ابتسمت وقالت "وأنت صائد ماهر زوجي، ولكنك تستحق الأفضل فأنا لم أرى معك سوى كل جميل، وجودك غير حياتي كلها بدر"
صمتت فقال "لا، هذا ليس عدل وليس بكافي، هيا أسيل لن أحرم من كل شيء"
ضحكت وقالت "لا بل هذا يكفي للآن هل سأراك اليوم؟"
أطفأ السيجارة وقال "وهل تظنين أنه يمكنك التخلص مني بسهولة؟ ليس بعد أن أصبحت زوجتي، لي أنا وحدي، وما زلت لم أنل شهر عسل بعد ولن أتنازل عنه، سأنتهي من بعض الأعمال ونتناول العشاء سويا"
دق قلبها من كلماته وهي تفهم معناها ولم ترد ولكنه كاد يغلق عندما نادته "بدر"
لم يرد لأنها عندما تناديه بتلك النبرة يفقد نفسه ويشعر وكأنها بين ذراعيه وهو وهي فقط معا بلا معالم لما حولهم، جذبته بصوتها الرقيق "أنا بالفعل أشعر بالوحدة بدونك ولا معنى لحياتي وأنت لست بها"
ابتسم وشعر بسعادة تغمره وراحة تملأ قلبه وتنفس بقوة وهو يغمض عيونه ويقول "أخيرا، يا لك من امرأة صعبة حقا"
ضحكت فعاد وقال "أنا نسيت معنى السعادة بحياتي ولم أتذكرها إلا منذ عرفتك أسيل"
احتضنت الهاتف بينما ظل هو ممسكا به لحظة قبل أن يرن هاتف مكتبه فيعيده الى العمل ولكن وجزء كبير من عقله مشغول بها
مر اليوم وهي تتابع العمل بالشركة على اللاب إلى أن انتصف النهار عندما رن هاتفها بكلمة مكالمة بدون رقم فأجابت ظنا أنه خاص بالعمل أو من خارج البلد ولكن عندما انتظرت أن يجيب المتصل جاءها نفس الصوت الذي كان يناديها بالبيت باسمها، فزعت وألقت بالهاتف على الفراش وتراجعت وهي تمتلئ بالخوف مرة أخرى
مرت لحظات وهي تحدق بالهاتف الصامت أمامها إلى أن مدت يدها المرتجفة إليه لتأخذه وهو يرتجف من ارتجاف أصابعها التي تمسكه وبتردد وفضول وضعته على أذنها مرة أخرى لتسمع الصوت يقول "ساعديني كي أساعدك أسيل، ساعديني كي أساعدك"
لم تبعد الهاتف وهي تقول بصوت مرتجف "من أنت؟ وكيف أساعدك؟"
اختفى الصوت ولم تعد تسمع أي شيء فأبعدت الهاتف وهي تنظر إليه ولكنها لم تر أي شيء فقد أغلق الهاتف
لم يتركها الخوف وهي تتجول بنظراتها بالغرفة كما لو أنها تشعر بأن هناك عيون تنظر إليها وتراقبها، لم تعرف ماذا تفعل وهل تتصل ببدر وتخبره أم تنتظر؟ ربما كان أحدهم يضايقها ولكنها تذكرت ما حدث لها مؤخرا فتملكها الخوف مرة أخرى ولم تعرف ماذا يمكنها أن تفعل، لم تتساءل كثيرا حيث غلبها النوم دون أن تشعر وربما من تأثير المسكنات
غموض.. خوف..
طارت رائحة عطر إلى أنفها لتوقظها من النوم وهي تعرف تلك الرائحة المميزة فابتسمت شفاهها قبل أن تفتح عيونها وتراه جالسا أمامها يتأمل ملامحها بهدوء كعادته وعيونه الزرقاء تلمع بنظرة تسحرها، أبعدت شعرها واعتدلت ببطء من إصابتها فنهض وساعدها بوضع الوسادات خلفها ثم عاد إلى مكانه فقالت
"متى عدت؟ وكم الساعة؟ أنا نمت كثيرا ولم أشعر بالوقت"
دخن سيجاره وقال "ما زالت السابعة أسيل، أنا انتهيت مبكراً ولم أشأ إيقاظك"
كانت سعيدة بوجوده فقالت "من الرائع عودتك، هل تناولت العشاء؟"
قال بطريقة لم تعجبها وكأنه ليس على ما يرام "لا، أنتظرك"
ساعدها على النزول لغرفة الطعام بعد إصرارها وقد كانت سعيدة بوجوده معها وقالت "لابد أن أعود الشركة غدا بقائي هنا سيؤدي بي إلى الجنون"
نظر إليها وقال بدهشة "غدا؟ وساقك هذه؟ الطبيب قال اسبوع على الأقل"
لم تنتبه لملامحه المتغيرة وقالت "لا، لن يمكنني التواجد هنا بهذا الشكل لقد مللت"
انهى الطعام بلا كلمات للرد أو حتى سواها وشعرت بتبدل به، هل شعر بالندم لزواجهم؟ قلبها انكمش بركن مظلم من الخوف وظلت تحدق بزوجها الجديد وهو يبتعد باحثا عن السجائر فلم تدع الأفكار تلتهمها أكثر من ذلك وقالت
"ماذا بك بدر؟ هل ضايقتك بشيء؟"
أشعل السيجار كالعادة وقال دون أن ينظر إليها "لا"
ثم نهض ونظر اليها وقال "أسيل أنا لن يمكنني البقاء بجوارك اليوم كله"
نظرت إليه بدهشة ولم تفهم من أين أتى بتلك الفكرة؟ هي من كانت ترسله بعيدا وهو المعترض فهل تبدل الحال بسرعة ووجد أنها كانت على صواب؟
هل الأمر خاص بسلمى؟ هل تصالحا ويرغب بالعودة لها؟ أصابها التفكير بذلك بفزع ورعب شديد وغيرة ستعميها لا محالة
هذا هو الحب.. تملك
تماسكت وتخلت بالهدوء وقالت "أعلم ولم أطالبك بذلك"
أبعد عيونه عنها فنهضت بصعوبة وتحركت إليه حتى وقفت أمامه وقالت "ماذا بك؟ لا تبدو بخير؟"
نظر إليها لحظة قبل أن يبتعد ويقول "لا شيء"
ولكنها لم تتركه، كانت تشعر أن هناك ما يخفيه عنها جعله يتصرف بتلك الطريقة الغريبة
أين لهفته عليها؟ أين الدفء بكلماته والحنان بعيونه؟
تحركت إليه مرة أخرى وأمسكت ذراعه ليعود إليها وهي تنظر ببحر عيونه العميق ثم قالت "عيونك لا تعرف الكذب بدر، والألم لا يمكن إخفاؤه، ماذا بك؟"
لأول مرة يجد من يقرأ عيونه ويعرف أن هناك ما يخفيه داخله، بعد موت أمه لم يعد هناك من كان قريب منه بتلك الدرجة لكنه يعلم أنها مختلفة، هي بداخله، الوحيدة التي كانت تغرق داخل عيونه، وتخترق جدران قلبه وتهزم عقله
رفع يده الى وجهها ولمس وجنتها براحته وظل ينظر بعيونها ثم قال "لم يقرأ أحد عيوني سوى أمي، أخبريني ماذا تجدين بهم؟"
قالت بحنان صادق "ألم، حزن وحيرة"
أصابت بكل كلمة فقال "هل تظنين أنك ماهرة بقراءة العيون؟ ما زلت أكتشف مواهبك"
ثم ابتعد من أمامها هاربا من مواجهتها لا يمنحها أي شيء وهذا هو بدر المسيري، ما يريده هو ما يكون، يتلاعب الآن بقلبها. هذا يؤلمها
شعرت بالحزن يلفها لأنه لا يصارحها بما يخفيه وأخفضت وجهها فاقدة الرغبة بالجدال فهو لا يرغب بالتحدث بينما سمعته يقول "يمكنك نزول الشركة وقتما تشائين، ربما أتغيب بعض الأيام فهل يزعجك هذا؟"
عندما لم ترد التفت إليها وهو يتساءل بعيونه فابتعدت وقالت "لا، أخبرتك أني أعلم أنك مشغول"
كاد ينطق ببعض الكلمات ولكنه تراجع وقال وهو لا يواجه عيونها "سأضع حراسة خاصة على البيت، وستتبعك أينما تذهبين من فضلك لا أريدك أن تذهبي إلا للشركة فقط"
جلست على مقعد المائدة بتعب لم تظهره ولكنه كان يعلم به ويراه على ملامحها ولكنه لم يتحدث وهي لم ترد بأي كلمات فنظر إليها ثم أغمض عيونه لحظة وهو يتنفس بقوة وعمق ليفرض الهدوء على نفسه حتى شعر بالسيجارة تحرق إصبعه فأبعدها إلى المطفأة وقال
"لن يمكنني البقاء أكثر"
لم ترد أيضا وكأن فجوة كبيرة انفجرت بينهما فجأة دون أن تعرف السبب وهوت داخلها السعادة التي كانت تظن أنها نالتها أخيرا وستظل تعيش بها للأبد ولكنها أفاقت على
الأحلام..
سمعته يقول "أسيل أنا أتحدث إليكِ"
رفعت عيونها له وقد انتبهت لكلماته فقالت "حسنا، أقصد بالطبع يمكنك الذهاب أنا بخير"
كاد يقترب منها ويتحدث وهو يعلم أن ذهنها الآن تشوش بالكثير من الأفكار ولكن ليس بإمكانه أن يتحدث وبالنهاية هز رأسه وقال "حسنا هل أنت بحاجة إلى شيء؟"
لم تنظر إليه وهي تحاول منع الدموع من أن تتجاوز خارج مقلتيها وتعمد هو عدم النظر إليها وهو يقبل جبينها بطريقة آليه لم تشعر بأي معنى بها ثم تحرك إلى الخارج دون أي كلمات أخرى
عندما سمعت صوت سيارته يختفي أطلقت سراح الدموع والأفكار والتساؤلات فشعرت بصداع يهاجمها وألم ساقها يزداد وكأن كل جسدها الآن يعلن الاعتراض على ما يحدث لها وعادت لأفكارها عن ندمه على الزواج فاختار الابتعاد كحل مؤقت حتى يجد البديل فهل يمكنها أن تتحمل ما حدث؟
هل بذلك انتهت حياتها معه؟
الآن هو بالتأكيد عاد لزوجته الحقيقية وبيته وأولاده، هي الحقيقة المرة التي نستها بلحظة ضعف ولكن ها هي تعلن عن نفسها، هي زوجته أمام الجميع فلابد بالنهاية أن يعود لها والنهاية أتت بسرعة لم تتوقعها، لقد وصلت للنهاية قبل أن تبدء الحكاية..
تغلبت على حزنها كالعادة فالوحدة التي عاشتها بعد موت والدها علمتها أن تواجه الأحزان بشجاعة وألا تنهار من بعض الرياح الخفيفة
مرت أيام لم تعرف عنه أي شيء ولم يتصل حتى بها ولا هي حاولت أن تفعل وكلما أمسكت الهاتف لتتصل تراجعت فهو كان واضح بأنه سيبتعد ولو أراد أن يسمع صوتها لفعل فهي اعتادت على اتصالاته ولكن..
تعافت ساقها بنهاية الاسبوع الثاني كما التئم جرح ذراعها ولكنها لم تكن تهتم لأن هناك الأهم مما يشغلها، حياتها الضائعة والعمل الذي اندمجت به لدرجة أنها كانت تعود بوقت متأخر خاصة وأن تلك الأشباح لم تطاردها مرة أخرى منذ حادث الغابة
"مساء الخير مدام تأخرت جدا ونحن بنهاية الأسبوع"
خلعت معطفها ومنحته لراسيل وقالت "العمل لا ينتهي راسيل"
دخلت غرفة الجلوس وجلست بإرهاق واضح فقالت راسيل "العشاء جاهز ولا يمكن ألا تتناولينه فهو طعام مصري أعددته مخصوص من أجلك"
نظرت إليها بدهشة وقالت "مصري؟ ومن أين أتتك الفكرة"
ابتسمت راسيل وقالت "لأنك لم تعودي تتناولين أي طعام فظننت أن التغيير سيفيد"
ابتسمت بامتنان للفتاة وقالت "هذا شعور رائع منك راسيل وأنا سأتناول الطعام فقط من أجل كلماتك هذه"
الفتاة حقا كانت مخلصة لها جدا وكلما رأتها تفقد وزنها من عدم الطعام كانت تلومها وتلح عليها بتناول القليل وأحيانا كانت ترضخ لها
كان العشاء بالفعل جميل واستمتعت به جدا وما أن انتهت حتى سمعت طرقة على الباب فلم تهتم وظنت أنه أحد الحراس يطلب شيء من راسيل ولكن الطرقة عادت مرة أخرى فانتبهت وهي تنصت عندما نهضت إلى خارج غرفة الطعام فلم تجد أحد بالصالة وفزعت عندما ارتفع صوت الطرق أكثر وكأنه متتالي ومنتظم
تحركت ببطء إلى النافذة التي بجوار الباب ونظرت إلى الخارج فلم تر أي شيء بل ولم تر رجال الحراسة، كادت تخرج إليهم عندما فزعت مرة أخرى وهي تسمع الطرقة تعود تلك المرة انتبهت إلى أنه ليس من باب البيت وإنما من المطبخ، ظل الطرق مستمر بانتظام وقد زاد صوته فنادت
"راسيل، راسيل هل أنتِ بخير؟"
لم يأتها أي رد ونادت مرة أخرى ولكن ما من مجيب فجأة تذكرت ما أصابها بالبحر والغابة وخشيت أن تكون تلك الأشياء قد عادت فشعرت بالخوف على نفسها وعلى راسيل
لم يمكنها التوقف وترددت هل تبحث عن الحراس أم تنادي راسيل وترى سبب هذا الصوت؟
بالنهاية اتخذت قرارها ظنا منها أنه لا شيء فتحركت بخطى بطيئة إلى المطبخ دون أن تصدر أي صوت ولكن الطرق لم يرحل ومع ذلك لم تقف وقد وصلت المطبخ ورأت راسيل وهي واقفة وتمنحها ظهرها
تنفست براحة لرؤيتها ولكنها سرعان ما لاحظت أن الصوت الصادر كان من راسيل نفسها وهي تمسك بساطور كبير وتضع قطعة لحم كبيرة أمامها وكأنها فخذ حيوان وترفع يدها بالساطور ببطء وتسقط به على اللحم ولكن اللحم تقطع وتهتك تحت الساطور وأصبح الساطور يسقط على الخشب فيصدر ذلك الصوت
لا تعلم لماذا لم تنادي باسم راسيل بل تلجم لسانها ربما من الخوف الذي انتشر بكل جسدها وهي تتحرك ببطء تجاه الفتاة وما أن اقتربت حتى استدارت راسيل فجأة لتتراجع أسيل وهي تصرخ بلا توقف بصوت قوي من شدة الفزع لمظهر هذه الأخيرة التي كان رأسها فقط هو ما يلف وعنقها بالأساس ينزف بالدماء نتيجة جرح عميق به وعيونها تحدق بالأعلى دون أن ترى أمامها وأدركت أسيل أن الفتاة لا تمت للحياة بأي صلة.
تصلب جسدها والفزع يتملكها وهي تصرخ بلا توقف باسم الفتاة التي بدأت تتحرك باتجاهها دون أن تتوقف وتحرك الساطور بالهواء بنفس الحركة من أعلى إلى أسفل باتجاهها فتحركت للخلف لتبتعد عنها بخطوات مهتزة وما زالت تثبت عيونها على الفتاة التي تناثر الدم بغزارة على ملابسها.
كانت تتراجع بلا وعي ولا إدراك لخطواتها ودون أن تدرك طريقها للخروج والفزع هو ما كان يسيطر عليها من المشهد الذي لا يتركها بل ويتقدم إليها
بدأت راسيل تشيح بيدها في الهواء بالساطور تجاه أسيل التي زاد فزعها أكثر وارتبكت خطواتها التي زادتها للخلف دون أن تنتبه الى المقعد الخشبي الذي انتصف المكان خلفها فتعثرت به لتفقد توازنها وتسقط على الأرض وتصطدم رأسها بدولاب المطبخ بقوة كادت تفقدها الوعي وما زالت تصرخ ولكن ما أن اعتدلت وهي تمسك رأسها بيدها بموضع الإصابة حتى رأت راسيل تقف أمامها فتراجعت زاحفة ولكن لا يوجد مهرب فقد وجدت نفسها بركن محاط بدولاب المطبخ والحائط الخلفي ووجدت راسيل تلقي بجسدها فوقها لتقيد جسدها بثقلها وأسيل تصرخ بطلب النجدة ولكن ما من مجيب وربما سمعت صوت طرق من الخارج على الباب ولكنها لم تكن تنتبه إلا لتلك الفتاة التي فقدت الحياة وما زالت تتحرك والآن تقيدها بثقل جسدها
رفعت راسيل يدها بالساطور لتنقض به عليها ولكنها أمسكت بمعصمها لتوقفها والغريب أن قوة راسيل كانت غير طبيعية رغم أنها بعداد الأموات وبدأت تدفع الساطور بقوة وأسيل تقاومها وتدفعها بعيدا عنها وهي تمسك بيدها الملطخة بالدماء وتحاول إبعادها عنها
لكن راسيل كانت أقوى ويدها الحرة ترتفع بالهواء ثم دفعتها بوجه أسيل بقوة فصرخت أسيل من الألم وضعفت يدها الأخرى التي تمسك بيد راسيل حتى دفعت هذه الأخيرة يدها الحرة مرة أخرى ولكن إلى جرح أسيل الذي بذراعها والذي كانت تقاوم به يدها الممسكة بالساطور
صرخت أسيل من الألم نتيجة ضغطها على الجرح فتركت يد راسيل التي ما أن تحررت يدها حتى رفعت الساطور بيديها الاثنان في الهواء فأغمضت أسيل عيونها وقد استسلمت إلى أن الموت هو مصيرها بالتأكيد