رواية كبرياء رجل الفصل السادس عشر16 بقلم داليا السيد


 رواية كبرياء رجل بقلم داليا السيد
رواية كبرياء رجل الفصل السادس عشر16 بقلم داليا السيد
ألم
لم يكن من السهل عليها أن تعود للحياة وقد أصبحت حطام امرأة، حبست نفسها بشقتها واستسلمت للحزن والألم فترة طويلة حتى كاد اليأس والحزن يأخذان حياتها ويدمراها فقد قل طعامها وفقدت وزن كثير وتحلقت عيونها من عدم النوم والراحة حتى قادتها قدماها لمقبرة والدها وهناك جلست على الأرض بجوار قبره وقاومت دموعها وهي تحكي له ما أصابها وختمت
"هل أخطأت لأني أحببته؟ آسفة بابا لم أكن فتاتك الصالحة التي كنت تعرفها جيدا، لفترة هجرني عقلي وانسقت وراء قلبي ولكن حبك لماما جعلني أؤمن أن الحب موجود ويكفي فلم أقاومه لكن يبدو أني أحببت من لم يستحق قلبي، أو ربما الحب وحده لا يكفي، أو أسأت اختيار من منحته قلبي، لا أعلم ماذا أفعل بابا، أشعر بالضياع ولا أستطيع مواجهة الدنيا من جديد فقد فقدت كل قوتي وأصبحت أضعف من نسمة الهواء، أخبرني بابا، أخبرني ماذا أفعل، أشتاق إليك وإلى صوتك، أشتاق لأحضانك، كم أشعر بالوحدة بابا فهي تقتلني وتضعفني وتجعلني أخاف ولا أعلم كيف أهزم أحزاني"
وعادت للبكاء حتى شعرت بيد على كتفها ففزعت ورفعت وجهها لترى امرأة عجوز تقف بجوارها بملابس سوداء لكن أنيقة جدا وابتسامة مشرقة على وجه مستدير تحت طرحة سوداء تلتف بها 
قالت المرأة بصوت هادئ ذكرها بهدوء من كان حبيب قلبها "لا تبكي يا ابنتي فالبكاء يوقف العقل عن التركيز ويزيد الألم"
حدقت بالمرأة التي أكملت بعيونها السوداء "هل كان قريبك؟"
ونظرت للمقبرة فهزت أسيل رأسها وقالت "أبي"
عادت لها بعيونها وقالت "أتيت لتلقي له بهمومك، هل تظنين أنه يحمل لك الحلول؟"
اندهشت من كلمات المرأة ولكنها لم تمانع صحبتها وقالت "ليس لدي سواه"
ابتسمت بحنان وقالت "وأين ذهب مالك الملك يا ابنتي؟ هو كل من لنا وبيده كل شيء"
أخفضت وجهها ولم ترد وهي تخجل من كلماتها رغم أنها لم تنسى الله بأي يوم فهو ملجأها الأول والأخير
ربتت المرأة على كتفها وأشارت لمقبرة قريبة وقالت "أنا فوزية المصري وهذه مقبرة ابني مات وهو بالثلاثين من عمره"
رفعت نظرها للمرأة التي ما زالت تحتفظ بابتسامتها وهي تكمل "لم يكن مريض فقط عاش حياة فرضتها أنا عليه بزواجه من ابنة أختي دون رضاه وحرمته من الفتاة التي أحبها ولكني ندمت لكن بعد فوات الأوان ورحل ابني وتركني أعيش مع الله"
اعتدلت ومسحت دموعها وقالت "ليس لديك أبناء أخرى"
هزت رأسها وقالت "ولا بنات ومات زوجي منذ عشر سنوات وأعيش وحدي"
تألمت للمرأة وتساءلت هل يمكنها أن تكون هادئة مثلها بيوم ما وتتعايش مع أحزانها مثلها؟
نظرت المرأة لساعتها وقالت "أعتقد أن السائق وصل يمكنني أن أنقلك لأي مكان؟"
شكرتها وقالت "لا شكرا، سأبقى قليلا"
ابتسمت لها المرأة وتحركت مبتعدة وقد توقفت دموعها لوهلة وشعرت بالراحة بعد أن تحدثت مع المرأة فنهضت لتذهب وما أن تحركت خارجة حتى رأت المرأة تستند على مقبرة وتضع يدها على قلبها فأسرعت لها وقالت 
"هل حضرتك بخير؟"
قالت المرأة بتعب واضح على وجهها الشاحب "نعم لا تقلقي يمكنك الذهاب"
ولكنها لم تفعل وقالت بتصميم "بل دعيني أساندك للخارج"
استندت عليها المرأة بالفعل حتى خرجا من المقابر ليسرع لهم رجل كبير بالعمر يرتدي ملابس رسمية ويقول "سيدتي هل أنت بخير؟ ماذا حدث؟"
قالت المرأة بتعب "يبدو أنها الأزمة يا عم رضا"
لم تبعد يدها عن المرأة والرجل يساندها من الجانب الآخر وقال "لنذهب للمشفى"
لم ترد العجوز وساعدتها هي على ركوب السيارة وقالت "هل أذهب مع حضرتك؟"
قالت المرأة "لا داعي يا ابنتي سأكون بخير"
ولكن ملامحها تبدلت للأسوأ وتلاحقت أنفاسها فركبت وقالت "بسرعة لو سمحت، يبدو أنها متعبة جدا"
انطلق عم رضا بالسيارة إلى مشفى معروف وهناك عرفت أن الجميع يعرف المرأة فزوجها كان شخصية معروفة ويبدو أيضا أنها ليست مرتها الأولى هنا. 
تم اتخاذ اللازم لإسعاف الأزمة القلبية التي أصابتها حتى خرج الطبيب من العناية فتحركت له فقال "من حضرتك؟"
قالت بقلق "مدام أسيل تعرفت عليها بالمقابر حيث أصابها التعب، هل هي بخير؟"
تأمل الطبيب ملامحها المتعبة وقال "لا، الأزمة تتكرر للمرة الثانية خلال وقت قصير وهذا مؤشر غير جيد مدام"
شحب وجهها وقالت "والحل؟"
ظل صامتا لحظة ثم قال "الوحدة وموت طارق رحمه الله يذهبون روحها"
قالت بحزن "طارق ابنها أليس كذلك؟"
هز رأسه وقال "نعم، كان صديقي تخرجنا سويا وكنا نعمل بنفس المشفى"
عادت تسأله باهتمام "وما الحل مع المدام يا دكتور؟"
قال وهو يغوص داخل عيونها العسلية وقال "ليث، ليث مصطفى، دكتور باطنة وقلب"
هزت رأسها وقالت "أهلا دكتور ليث، ماذا سيكون وضعها؟"
قال "ستظل بالعناية حتى نطمئن على سلامة القلب وعودته للعمل وتخطي الأزمة وبعدها نقرر ماذا سنفعل ربما نقوم بعمل جراحة ولكن عمرها لا يتحمل"
هزت رأسها وقالت "معك حق الأمر صعب"
ابتسم وقد أخذته ملامحها الرقيقة رغم أنها ما زالت تعاني من أزمتها ولم تتخطاها، قال بكلمات رقيقة "من الجميل اهتمامك وأنت بالكاد تعرفينها"
حدقت بعيونه الخضراء ووجه الأبيض المستدير ووسامته الظاهرة ولكنها لم تجد أي شيء سوى طبيب فقالت "هي اهتمت بي أيضا وهي بالكاد تعرفني"
تراجع وقال "لا أفهم"
أبعدت وجهها عنه وقالت "لا تهتم، هل يمكنني البقاء حتى أطمئن عليها؟"
ابتسم فبدا بريئا جدا وبسيطا أيضا وتذكرت بدر وهو يرفع رأسه بشموخ وسيجاره بيده بعيدا جدا عن البساطة 
سمعته يقول "بالتأكيد ستحصلين على غرفة خاصة باسم المدام ولا تقلقي بأمر الاستقبال فبيانتها موجودة ولها حساب مفتوح هنا"
هزت رأسها بابتسامة بسيطة عندما وصلت ممرضة وقالت "دكتور ليث دكتور صبري يطلبك بغرفة "١٧" الآن"
هز رأسه وعاد لأسيل وقال "سنلتقي مرة أخرى مدام"
قالت "ربما"
تم توصيلها للغرفة وجلست بها فترة ليست قليلة حتى دق الباب ودخلت ممرضة وقالت "دكتور ليث يطلب حضرتك بالعناية مدام"
تحركت مسرعة للخارج حتى وجدته مع طبيب آخر انصرف بوصولها فابتسم ليث وقال "لقد أفاقت والغريب أنها سألت عنك"
ابتسمت وقالت بسعادة لأن المرأة أفاقت "هل يمكن أن أراها؟"
هز رأسه وأشار للباب، فتحه وتركها لتمر وتبعها وهو يرشدها لفراش المرأة التي بدت متعبة وجهاز النفس على وجهها
لم تلاحظ نظرات ليث لها وهو لا يعلم لماذا انجذب لها من أول نظرة؟ بها براءة لم يعهدها بامرأة من قبل، فقط لو يعرف سبب هذا الحزن بعيونها؟
لمست يد المرأة فالتفتت لها وفتحت عيونها وما أن رأتها حتى ابتسمت لها وأزاحت جهاز النفس وقالت "لقد تسببت لك بالتعب يا ابنتي"
ابتسمت أسيل أكثر وقالت بصدق "لا، بالطبع ليس هناك أي تعب، بل سعيدة لأني رأيتك بخير ولو شئتِ بقيت حتى تخرجي"
قالت فوزية بضعف "هذا أكثر مما يمكن أن أتخيل، لا حبيبتي بالتأكيد لك أهل سيقلقون عليك"
أخفضت وجهها وتساقط شعرها على وجنتيها وقالت "لا تقلقي ليس هناك من يقلق لغيابي صدقيني"
رفعت المرأة يدها لها فأمسكتها فقالت فوزية "سيكون من الجيد أن تكوني بانتظاري عندما أخرج من العناية"
نظرت للعجوز وقالت "سأفعل حضرتك"
أعادت المرأة جهاز النفس بينما لمس ليث ذراعها فانتبهت له وهو يشير لها بالخروج فتبعته بصمت للخارج وتوقف أمامها وقال وهو لا يرغب بتركها تذهب 
"لاحظت أنك لم تتناولي أي طعام منذ الصباح وبصراحة أنا أيضا لم أفعل فهل أدعوك على بعض الطعام بالكافيتريا؟"
كادت تعترض فهي بالكاد تعرفه ولكنه ابتسم وقال "سيكون أمري معلق بموافقتك فأرجو بعض الرأفة بحالي، لن يمكنك رفض دعوة مسكين مثلي"
ابتسمت لطريقته وقد كانت ملامحه الهادئة تمنحها بعض الراحة. تناولت الطعام بشهية فقدتها منذ الكثير والقهوة التالية كانت رائعة أما ليث فكان رفيق ممتع وتحدث بعفوية منحتها راحة غريبة حتى تسلل لحياته الشخصية عندما قال 
"طلاقي كان سبب عودتي لمصر وماما فوزية هي من ساعدتني على العمل هنا"
رفعت وجهها له بدهشة وقالت "كنت متزوج؟"
تناول القهوة وقال "منذ ثلاث سنوات، تزوجت لمدة عام من ابنة رجل مصري كان يعيش بأمريكا تعرفنا هناك وتزوجنا ولكن بالطبع اختلفت طباعنا وهي رفضت الانجاب ضد رغبتي فاتفقنا على الطلاق مما أثار غضب والدها وطاردني بكل عمل حتى تركت البلد وعدت"
تساءلت "انتقام؟"
انهى القهوة وهو يهز رأسه بالإيجاب ويقول "بالتأكيد فهو شخصية معروفة هناك ولم يكن ليترك حق ابنته هكذا، وأنت؟"
حدقت به وقالت بصوت متقطع "أنا، ماذا؟"
ظل يتجول بعيونها بلا رغبة بقطع الاتصال بينهما محاولا اختراق حياتها ومعرفة كل شيء عنها
غريب الأمر، عرفها من ساعات ولكن يشعر أنه يعرفها منذ سنوات ولا يرغب بأن يفلتها 
قال "سمعتك تقولين أن ليس هناك من يقلق عليك فأين أهلك وزوجك؟"
قاومت عبراتها وارتدادها للذكرى وأبعدت عيونها وقالت "والداي ماتا وزوجي أقصد طليقي انفصلنا من شهر تقريبا"
تراجع بالمقعد وهو يحدق بها وقد شعر بأنه تجاوز معها للألم الذي ظهر بعيونها فظل صامتا حتى تمر بلحظتها ثم قال "شهر فقط!؟ لذا تبدين وكأنك خارجة من زلزال"
ظلت تنظر له دون أن تجيب حتى أبعدت عيونها فقال "ما دمت تحبينه فلماذا الطلاق؟"
وقفت الدموع على أعتاب عيونها ولكنها رفضتها وهي تقول "كان زواج خطأ وكلا منا ذهب لطريقه، هل يمكن أن نصعد لرؤيتها؟"
ليس لديها أي رغبة بفتح ما انغلق داخلها لا معه ولا مع سواه وهو بالكاد يعرفها وليس من حق أحد سبر أغوار أحزانها وجراحها 
نهضت فاضطر للنهوض مدركا أنه تدخل بما لا يعنيه بطريقة غبية عاتب نفسه عليها، ارتبك وقال "آسف لتدخلي، لم أقصد إغضابك"
لم ترد ولم تنظر له فأكمل محاولا إنهاء حالة الإحراج بينهم "ماما فوزية لن تخرج الآن ولن يمكنك رؤيتها قبل الصباح أقترح عليك الراحة بالغرفة"
هزت رأسها وتحركت معه حتى تركها عند باب الغرفة فدخلت وأغلقت الباب واستندت عليه وهي تغلق عيونها وتترك دموعها لتتساقط دون حواجز لتشاركها الألم، لن تنتهي جراحها مهما حاولت..
بالطبع لم تخرج المرأة باليوم التالي وعادت لشقتها، استبدلت ملابسها وتناولت بعض الطعام ثم عادت للمشفى بالمساء وسمحوا لها بالدخول للعناية ثم عادت لغرفة المرأة وبحثت عن أي رسائل للأولاد ولكن ككل يوم لا تجد وقد تأكدت أنه منعهم من الاتصال بها، ظلت الذكريات تطاردها حتى رحلت للنوم 
بالصباح عرفت أن فوزية ستخرج من العناية وكانت سعيدة والمرأة أيضا كانت سعيدة برؤيتها لأسيل 
وصل ليث بمنتصف النهار وكانت عيونه تنطق بالسعادة عندما رآها وظل معهم وقت طويل محاولا التقرب منها وهي لم تكن تهتم لأن عقلها لم يمنحها أفكار بشأن رجل آخر بحياتها وقلبها لن يسمح بذلك
باليوم التالي عادت المرأة لبيتها ورافقتها حتى فراشها وكادت تذهب عندما قالت فوزية "لن تذهبي وتتركيني وحدي وأنا ما زلت متعبة"
نظرت لها وقالت "الممرضة ستصل بأي وقت ولن تحتاجيني بشيء"
ابتسمت المرأة وقالت "لا أسيل أنا أحتاجك بشدة، الوحدة قاتلة يا ابنتي ومنذ وفاة طارق والحياة انتهت من حولي ولأول مرة أجد من يهتم لأمري، صحيح ليث يفعل ولكنه مشغول طوال الوقت وبالنهاية هو رجل"
قالت براحة "نعم ولكن حضرتك بحاجة للراحة"
أجابت فوزية بصدق ورجاء "سأفعل ولكن وأنت هنا معي، هيا اجلسي وكلميني عنك وعن سبب حزنك هذا"
استسلمت لرجاء المرأة، ربما هي الأخرى بحاجة لها، لأم تسمعها وتربت عليها وربما تمنحها كلمات تهدأ من أحزانها وتعيد لها بعض الراحة
جلست وأخفضت عيونها لأصابعها التي أصبحت فارغة من خاتمه ودبلة زواجهم، الشيء الذي كان يربطهم فلا شيء آخر كان يربطهم كما توصلت بالنهاية
هو لم يجد شيء قوي يجعله يبقيها زوجة، تركها عند أول منعطف ولم ينظر حتى خلفه، نساها وعاد لحياته التي لم يعرف سواها، هي لن تكون مرة أخرى جزء من حياته فما تقطع لن يتم وصاله
تبدلت نبرة صوتها ليكسوها الألم وقالت بلا رغبة بأي كلمات تثقل بها هموم المرأة المريضة "أنا بخير حضرتك لا تقلقي"
ابتسمت المرأة وقالت "فتاة مثلك تعيش وحدها وكل هذا الحزن يملأها فقط لوفاة والدها"
ظلت عيونها منخفضة ولم ترد فقالت فوزية "التحدث بمكنون النفس يريح القلب يا ابنتي، ابني ظل يكتم أحزانه داخله حتى رحل وتركني"
رفعت وجهها للأم الحزينة وهي تشعر بنبرة الألم بصوتها فقالت "أحيانا الموت يكون راحة من الحياة بما تحمل من ألم وحزن"
قالت فوزية "معه كانت كذلك لذا رحل وتركني ولم أدرك الأمر إلا بعد خسارته وأنت يا ابنتي هل بحياتك رجل؟"
حدقت بفوزية التي كانت تصر على أن تسمع منها ما يؤلمها فقالت "كان، حصلت على الطلاق من شهر"
ابتسمت فوزية وقالت "تبدين صغيرة على تلك المعاناة"
مرارة شعرت بها بفمها وهي تقول "لست صغيرة بل أتممت أربعة وعشرين عاما من شهر أو أكثر"
تنهدت العجوز وقالت "وهل تظنين أنك كبيرة بما يكفي بهذا العمر؟ ماذا أكون أنا؟"
حاولت أن تبتسم وهي تقول "العمر الطويل لك"
ابتسمت المرأة بحنان وعادت تقول "أنت لا ترغبين بالتحدث عن حياتك أليس كذلك؟ سأحترم رغبتك وأنتظر حتى تختاري الوقت المناسب لك، هل تعملين؟"
تنهدت براحة لتجاوز المرأة وقالت "ليس بعد ولكني أرسلت لأكثر من مكان وأنتظر الرد"
وأخيرا نهضت وقالت "اسمحي لي، حضرتك بحاجة للراحة"
لم تمانع المرأة وتركتها لترحل وما أن عادت للبيت وفتحت اللاب حتى وصلتها رسالة من إحدى الشركات تحدد موعد بالغد للمقابلة الشخصية فانتابها أمل بأن الحياة ربما تعود لها لتنسى ما عاشته فالعمل هو الباب الوحيد الذي تخرج منه من حالة اليأس التي تحيياها
كانت الشركة معروفة جدا والحصول على وظيفة بها أمر صعب ولكنها لم تتراجع وتقدمت لإجراء المقابلة الشخصية وقد كانت صعبة حقا ولكنها كانت صامدة وهي تتحدث عن عملها السابق دون ذكر أنها شركات زوجها، السابق
بعد يومين وصلتها رسالة بالموافقة عليها وموعد باستلام العمل وقد كانت سعيدة لهذا الخبر ولم تتوقف عن زيارة فوزية ولكنها أيضا لم تتحدث عن أحزانها فهي لها وحدها والآن تبدأ حياة جديدة ربما تكون أفضل
ليث لم يتركها وإنما ظل يتصل بها حتى توطدت علاقتهم كأصدقاء ولكنه لم يتوقف عند الصداقة عندما قابلها بعد انتهاء عملها فركبت بجواره وقاد وهو يقول "أكاد أموت من الجوع"
ضحكت وقد اعتادت على كلماته ومرحه وكانت تجد بصحبته رفقة جيدة تخرجها من أحزانها وصداقة تعتز بها
قالت "أنت دائما ميت من الجوع ليث متى تشبع؟"
نظر لها وقال بصدق "عندما أنظر بعيونك أسيل"
أبعدت عيونها وهو هنا يجتاز خط الإنذار مما يجعلها تتراجع، كثيرا ما كانت بكلماته تلميحات وهي كانت تصدها كي لا تمنحه أي أمل بأي شيء لكنه لا يتراجع 
قالت بنبرة مختلفة "لا تبدأ ليث"
شعر بإصرار غريب على ألا يتركها تتراجع وقد تعلق بها بشكل لم يعد يمكنه أن يظل صامتا معه، كانت امرأة أحلامه والتي لم يظن أنه سيقابلها وربما اكتفى بزواجه الفاشل مرة ولكنه منذ رآها وقد عاد له الأمل بأنها قد تكون شريكة حياته 
حدق بعيونها وقال بنفس الإصرار "بل سأفعل أسيل ولن أتوقف، العمر يمضي بنا، أنا بالواحدة والثلاثين ولا أريد أن يسرقني العمر"
ضحكت وقالت وهي تتهرب من معاني كلماته "لم تفعل فأنت تستمتع بحياتك حقا"
اخترق الزحام بالسيارة ثم قال بلا استعداد على التراجع "اعترف أني أفعل منذ عرفتك"
لم ترد وهو لا يستسلم، جلسا بالمطعم البسيط وقد اعتادا على ذلك معا ولكن بكل مرة كانت تتذكر الأماكن الفاخرة التي كانت تدخلها مع بدر وكيف يقف الجميع له باحترام ويخدمونه كملك، كانت تراه جالسا أمامها يدخن سيجاره ويتأمل عيونها، لم تنساه بأي يوم ومع ذلك منعت نفسها حتى من البحث عن أخباره فلا رغبة لها بتعذيب نفسها بمعرفة خبر يعيد فتح جراحها
قال ليث "اسمعي أسيل، أنا تعبت من اللف والدوران، متى ستقبلين بالزواج مني؟"
صدمها كلامه وتراجعت بمقعدها وهي تدرك دقات قلبها وقفزت عيون بدر أمامها بتلك اللحظة تحمل كل الغضب ولم تجد أي كلمات بل تبعثرت أفكارها هنا وهناك وجف حلقها فلم يتحرك لسانها حتى عاد ليث يقول 
"ماذا أصابك أسيل؟ تبدين كالأموات؟ أنا طلبت الزواج وليس الاغتصاب"
أبعدت عيونها وقالت "كفى ليث، لا أحب هذا المزاح"
تبدلت ملامحه وقال "أنا لا أمزح أسيل، لكني لم أظن أن طلبي سيضايقك لهذا الحد"
شعرت بالغضب من نفسها من أجله لكنه فاجأها وهي لم تكن تفكر بتطور الأمور هكذا
عندما لم ترد عاد وقال "أسيل، أنت تدركين مشاعري تجاهك، ليس الآن ولكن من أول يوم رأيتك به، لقد لمحت لك كثيرا بمشاعري ولم تعد لي رغبة بالاستمرار هكذا لذا أطلبك للزواج"
رفعت عيونها له بصعوبة من كلماته ورأت الصدق بهما ولكن كيف يمكنها الرفق به وهي لا مكان لديها له
صمتها كان يؤلمه لكن عليه أن يخرج كل ما لديه، عليه أن يحارب من أجلها فقلبه الذي تعلق بها يستحق أن يحارب من أجله فقال "أنا أعرفك منذ شهرين أو أكثر أسيل وأنت أيضا أصبحت تعرفيني جيدا، أصبحت كالكتاب المفتوح أمامك خلال تلك المدة وهي مدة كافية لأتأكد من مشاعري"
تنهدت بقوة وحاولت أن تغلق بابها بوجه الذكريات الحزينة والمؤلمة ليس محلها ولا مكانها الآن، هو ليس له ذنب بأنها مجروحة ومحطمة ولكن ليس بيدها
أجابت "لا ليث، ليس بكافي لعلاقة وزواج، قد يكون مجرد إعجاب فدعنا نقف هنا"
اقترب من حافة المائدة وقال بجدية واضحة وقد تبدلت نظراته "لا، لن نقف أسيل، لأنك تعلمين كما أعلم أنه ليس مجرد إعجاب، لابد أن تعترفي أن زواجك السابق انتهى حتى ولو كان قلبك يدق لذلك الرجل إلا أنه انتهى من حياتك ولابد أن تتوقفي هنا أسيل، نقطة واقلبي الصفحة لتبدئي من جديد، الحياة لا تقف عند شخص بعينه ولا أظن أنه ما زال يفكر بك وإلا لكان بحث عنك وأعادك لحياته، بالتأكيد هو يعيش حياته وأنت عليك بفعل المثل"
أغمضت عيونها بألم من الحقيقة التي قذفها بوجهها، رغم أنها كانت تعرفها وتدركها تماما إلا أن تسمعها وتلقى بوجهها فقد كان مؤلم ومؤلم جدا 
عاد يقول "اعطيني فرصة أسيل، فرصة كي أعوضك عن أحزانك فأنا أحبك"
فتحت عيونها الدامعة ورأت نظرة صادقة بعيونه وكلمة الحب لها مذاق آخر لكنها لم تستمتع به، كما لو أن أحمد هو من يتحدث ويخبرها بحبه فلم تشعر بشيء، هو فقط من تمنت أن تسمعها منه وكانت ستركع تحت أقدامه وتترجاه ألا يتركها لكنه لم يفعل بل لم يحبها بأي يوم وألقاها على حافة الهاوية لتسقط بلا رحمة متحطمة لبقايا امرأة وهذا الدكتور ما زال يراها امرأة تصلح له؟
هل تسخر منها الأقدار؟
عاد يكمل وقد يمد يده ليمسك بيدها "أحبك أسيل، منذ رأيتك وأنا لا أفكر بسواك"
سحبت يدها فلا أحد له الحق بلمسها سواه وهو ليس هنا فلن تكون لسواه، أغمضت عيونها من جنونها هو لم يعد زوجها ولا حق له بها وعليها العودة للواقع بلا جبن
فتحت عيونها وقالت "ولكني لم أفكر بعلاقتنا بذلك الشكل ليث"
تراجع بمقعده وقال "تقصدين أنك لا تحبيني؟ أعلم أسيل وأنا لا أطالبك بشيء الآن، فقط وافقي على الخطوبة ودعي الحب يأتي مع الوقت لن نتزوج غدا"
ظلت صامتة وكلماته تحاوطها بشكل غريب وهو لا يستسلم وقال "اليوم سأخبر والدي بالأمر وسأخبرك بموعد حضورنا للاتفاق ربما نشرك ماما فوزية بالأمر ما رأيك"
أبعدت عيونها عنه وهي لا توافق على كل ذلك، لن تتقبل رجل بسهولة فقالت "لا ليث من فضلك امنحني فرصة للتفكير"
نبرة الإصرار والجدية بصوتها جعلته يتراجع فهز رأسه وقد كانت نظراته جادة وتعني أيضا أنه لن يتركها ولن يتراجع عنها 
مرت الأيام وهي ما زالت لم ترد على ليث والأفكار لا تتركها ومخاوفها من القادم أيضا لا تتركها ولكنها ما زالت لا تتقبل فكرة رجل آخر بحياتها
عادت البيت بموعدها وبدلت ملابسها وتناولت طعامها وأخذت كوب الشاي وجلست وهي تفتح اللاب لإتمام عملها عندما تفاجأت برسالة من براء الصغير 
انقبض قلبها بقوة وارتعشت يدها وهي تضغط زر فتح الرسالة لتسمع تسجيل صوتي بصوت براء الطفولي يقول "أفتقدك أسيل، داد أخذ منا وعد بألا نتصل بك ولكني شعرت بحاجة لأن أتحدث معك، باسل أجرى جراحة وهو سيعود مرة أخرى ليلعب معي ويجري خلفي، مام تأتي لنا وداد لم يعد يغضب منها وتركها ترانا وتقضي معنا وقت طويل لكني أريدك أنت سيل"
انهمرت الدموع على وجهها غزيرة، وبلحظة ذهبت الرسالة الصوتية وحذفت وأغلقت صفحة براء من الأساس، حاولت أن تفتحها مرة أخرى ولكنها فشلت فأدركت أنه لم يعد هناك مجال لذلك، تراجعت والدموع تنهار على وجهها
ليث على حق لقد عاد هو إلى حياته وزوجته وأولاده، لذلك أخرجها من حياته فلا مجال للمقارنة بينهما بالتأكيد سلمى تفوز
هل ترك سلمى هكذا بسهولة بعد أن كادت تقتلها لتعود له؟ من الواضح أنها تعني له الكثير وليس كما أخبرها بل هي من كانت نزوة بحياته وندم عليها، لم تعني له أي شيء لذا كان من السهل ألا يبكي عليها 
هو من وضع النقط وقطع ورقتها من كتاب حياته ليعود لم كان وعليها هي أيضا أن تمزق صفحته ولا تبقيها لحظة بعد الآن، ليس عليها أن تستمر بدفن رأسها بالرمال كي لا ترى الحقيقة وتعترف بها
هو عاد لحياته ولم يعد يفكر بها وعليها أن تفيق لنفسها وتعود للحياة، لن تدمر ما تبقى من حياتها من أجل رجل لم يستحق قلبها بأي يوم هذا هو القرار الذي عليها اتخاذه لتقطع على نفسها أي طريق للعودة
عليها أن تجيد التفكير وإلا ستظل تنهار ولن تنهض مرة أخرى ومن أجل رجل لا يستحقها لذا كان أول ما قرار اتخذته هو أنها وافقت على الخطوبة من ليث والتي تمت بحفل عائلي وكان والد ليث طبيب جراح يسافر كثيرا ولم يعترض على زواج ابنه بل انشرح قلبه لرؤية أسيل وهي أيضا 
تعلمت كيف توقف قلبها عن الأنين أو الشكوى وقتلت أي مشاعر داخلها كما حبست ذكرياتها بقاع عميق لا مجال للوصول له ووجهت حياتها لخطيبها
اعتادت على وجوده بحياتها وتقبلته رغما عنها، أرادت سلاح تحارب به يأسها وحزنها، أرادت أي قشة تتعلق بها قبل أن تغرق ببحر الألم الذي تسبب به رجل قتلها بلا رحمة بوقت كانت تعشقه ولا ترغب بسواه
عبأت ذكرياتها ومشاعرها وأحزانها بصندوق عتيق وأغلقته بقفل كبير وألقت به بمكان سحيق داخل محيط قلبها لإغراقه بلا رحمة ولم تحاول أن تنقذه
ومع تعجل ليث تحدد موعد الزفاف بسرعة لم تدركها وقد كانت شقته جاهزة ومع ضعفها ويأسها وضياع أمل رجوعها للرجل الذي ظنت أنها كانت هامة بحياته بيوم ما وافقت وأصبحت كالمغيبة بلا هدى تسير وراء كلمات ليث وهي لا ترى ماذا تفعل وكأنها فقدت وعيها أو انفصمت عن أسيل التي تعرفها ولم تملك أي قوة للعودة
وجدت نفسها وقد انتقت فستان الزفاف وهي تقريبا لا تره، أول فستان رأته أخذته دون حتى تجربته، وقتها حاولت منع الذكرى من أن تطاردها وبدر يخبرها أنها لم تحصل على زفاف أو فستان أبيض ولكن ها هو ليث يمنحها كل ما لم يفعله هو لها وها هي تستعد للزواج ولا تعرف هل كانت سعيدة بذلك أم فقط مجرد خدر منعها من الشعور بما يدور حولها
تعليقات



<>