
رواية رحلة الاثام
الفصل الاربعون40
بقلم منال محمد سالم
(الطامة الكُبرى)في لحظة تجلي عابرة، لا تذكر تحديدًا متى حدثت؛ لكن حامت خلالها المشاعر والرغبات الإنسانية، فأطفأت ظمأ الجسد لما يرويه، أتت النتيجة غير متوقعة بالمرة، بل صادمة على كافة الأصعدة! ضربت "فردوس" على رأسها عدة مرات، وهي تكاد لا تصدق ما سمعته من جارتها كتفسيرٍ منطقي لما تمر به، أعادت عليه سؤالها لتقطع الشك باليقين:
-إنتي متأكدة ياختي من كلامك ده؟
هزت "إجلال" رأسها بالإيجاب وهي توضح لها:
-أيوه، إنتي شكلك حبلى، ولو تفتكري ده كان نفس حالك أيام "تقى".
خفضت من يدها لتلطم على صدغها وهي شبه تنوح في تذمرٍ كبير:
-يادي المصيبة اللي مكانتش على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها باستغرابٍ، و"فردوس" لا تزال على ندبها المستنفر:
-هو أنا هلاحق على إيه ولا إيه؟
ردت عليها قائلة بعتابٍ خفيف:
-ده رزق من ربنا، ماتقوليش كده.
زمت شفتيها في اعتراضٍ ساخط، فتساءلت جارتها في فضولٍ:
-المهم هتعرفي سي "عوض"؟
أخبرتها بنفس التجهم العابس:
-مش لما نشوف الدكتورة الأول، بعد كده أبقى أقوله.
ظلت على تبرمها وهي تنظر إلى رضيعتها بنظرات غير راضية، فاستمرت تهمهم في لهجة شاكية:
-أل كانت ناقصة حَبَل من تاني!
في طرفة عين، سلبته الحياة جوهرتيه، وتركته يعاني ويلات الفراق، وألم الخسارة الموجع. ظن "ممدوح" أن ما حدث مجرد كابوس لحظي، سينتهي فور أن يستفيق من غفوته الفجائية؛ لكن الحقيقة المريرة جعلته يدرك أن ما فُقد لن يعود مهما فعل. حاول "مهاب" مواساته في فجيعته، وقال وهو يربت على كتفه بتعاطفٍ واضح، أثناء جلوسهما في الردهة المجاورة لحجرة المشرحة:
-مش عارف أقولك إيه، بس ده قضاء ربنا.
نظر إليه كالمذهول، تتحجر في عينيه العبرات، لا يجرؤ على البكاء، وكأنه يخشى إن ذرف الدموع فإنه يقر بذلك بوفاة غاليتيه، سأله في تعابير ذاهلة، وصوت أجوف:
-إزاي ده حصل؟
وكأن في سؤاله اتهامًا خفيًا له، حاول رفيقه مواراة ذلك التوتر الذي اعتراه، ففرك طرف ذقنه بحركة سريعة، وأجابه متجنبًا التحديق في عينيه، لئلا يكتشف تورطه المتعمد في هذه الجريمة النكراء:
-محدش لسه عارف...
ثم حمحم مضيفًا في نبرة جادة:
-بس أكيد التحقيقات هتبين المسئول، وهيتحاسب.
كان عقل "ممدوح" متأرجحًا بين التصديق والإنكار، في لحظة معينة تدارك ما جرى وحل برضيعتيه، آنئذ عرف معنى أن تسحق الرجاوات على صخرة الواقع المؤلمة، تعلقت نظرته بلافتة الحجرة المقبضة للصدر، وصوت رفيقه يردد على مسامعه بأسلوب المواساة المليء بالرثاء:
-أنا عاوزك تجمد وتشد حيلك.
انحبست أنفاسه، واتسعت عيناه، وارتفع حاجباه للأعلى، مستشعرًا مدى الألم الذي يعتصر قلبه لاستيعابه رحيلهما القاسي، تأهب كل ما فيه في استنفارٍ غير مبشر ورفيقه لا يزال يكلمه في هدوءٍ متوهمًا أنه تقبل ما حدث:
-وأنا جمبك مش هسيبك.
استنكر تمامًا فقدانهما، وانتفض قائمًا من على المقعد ليصرخ في وجهه:
-إنت بتتكلم كده ليه؟
طالعه بغرابة وهو ينهض بدوره ليواجهه بصوت العقل، ومع ذلك رفض "ممدوح" الإنصات إليه، وواصل الصراخ المنفعل:
-بناتي لسه عايشين، ودلوقتي هاخش أخدهم في حضني.
دفعه ليتجاوزه، فمنعه من الدخول محاولًا احتضانه وهو يواسيه:
-قلبي عندك يا صاحبي.
نجح في إيقافه، فتخشب "ممدوح" في موضعه، ليحدق فيه بجمودٍ، ووجهه يبدو كالموتى في شحوبه، أمسك به "مهاب" من منبتي ذراعه، وهزه برفق وهو يخاطبه:
-أنا عارف الصدمة صعبة، وخسارتك ما تتعوضش.
رفض الإصغاء لما اعتبره لغوًا فارغًا، وهدر في غضبٍ شبه مستعر:
-ولا كلمة زيادة، بناتي مماتوش.
ثم راح يدفعه بخشونةٍ قاصدًا تجاوزه والمرور لداخل الحجرة المشبعة برائحة المــــوت، منعه "مهاب" من بلوغها، وصاح مناديًا في أحد الممرضين:
-شوفلي حد يجيبلي حقنة مهدئة بسرعة.
في التو استجاب لأمره:
-حاضر يا دكتور.
فرقع "مهاب" بإصبعيه ليستدعي آخرين ليساعدوه في إيقاف رفيقه، والسيطرة عليه قبل أن تتأجج نوبة هياجه المنفعلة، تعاونوا معًا ليسقطوه أرضًا، وحاولوا تثبيته رغم مقاومته الشديدة، ظل "مهاب" يكلمه في صوتٍ هادئ، ساعيًا لكبح هياجه المبرر؛ لكن الأخير واصل صراخه الثائر:
-أنا مش مجنون، هما لسه عايشين، وأنا هاخدهم من جوا!
انتفض بقوةٍ ليتخلص ممن يقيدون حركته، ومع ذلك عجز عن الخلاص منهم، بسبب كثرة عددهم، فارتفعت نبرته الغاضبة لتجلجل بين الجدران:
-سامع يا "مهاب"؟ بناتي لسه عايشين.
عاد الممرض حاملًا إحدى الإبر الطبية المملوءة بهذه المادة المهدئة، فأعطى "مهاب" أمره للبقية بإزاحة كم قميصه وتثبيت ذراعه بإحكامٍ، ليتمكن من غرز طرفها المدبب في جلده، وحقن دمائه بما فيها، ليستكين بعد عدة ثواني ويستسلم قسرًا لما ثبط كامل مقاومته.
مشاحنته معه –بعيدًا عن المتلصصين والأعين الفضولية- كانت لها أسبابها القوية، فبعد تأكيدات مزعومة بقدرته على إزاحة من يشكلون أكبر التهديد له، وجد "مهاب" نفسه موضوعًا في موضع الاتهام والشك، لهذا لم تأخذه رأفة بمن ورطه في هذا الحريق، وراح يتوعده بكل ما مُهلك له لإهماله الجسيم، كاد يقذفه بمنفضة السجائر الكريستالية وهو يعنفه بحنقٍ متزايد:
-إنت بغباوتك كنت هتضيع ابني كمان!
نكس الرجل رأسه في خزي، وحاول التبرير:
-يا باشا آ...
قاطعه قبل أن يسمع ترهاته غير المجدية صائحًا بحزمٍ وهو يترك المنفضة من يده:
-اخرس، ولا كلمة زيادة!
التزم الصمت، فتابع "مهاب" هديره مشيرًا له بإصبعه:
-إنت تختفي خالص، مش عايز ألمح أي أثر، ولا كأن ليك وجود.
بالطبع لم يكن أمامه أي سبيل سوى إطاعته، خاصة بعد فشل الخطة، وتعقد الأمور، لهذا قال في خنوعٍ:
-أوامر سعادتك.
أخرج "مهاب" من درج مكتبه العلوي رزمة من النقود، ألقاها على سطح المكتب معيدًا عليه أوامره المشددة:
-خد دول، وما تظهرش تاني إلا لما أقولك.
فور أن رأى الأوراق النقدية ذات الفئة العالية، سال لعابه، وبرقت عيناه في شره طامع، في التو مد يده، وانحنى ليلتقط المال قبل أن يدسها في جيبه هاتفًا بابتسامة خفيفة:
-حاضر يا دكتور.
اغتاظ من ذلك التعبير الذي أبداه على وجهه، فنعته بلفظٍ نابٍ، ثم أمره:
-يالا غور من وشي.
انصرف في الحال، ليجلس "مهاب" على مقعده وهو يحتقن غيظًا من تبعات رعونته، أطلق زفيرًا طويلًا، ثم دمدم في هسيس لا يزال محتدًا:
-غبي!
شبك كفيه المتشنجين معًا، وأسندهما على سطح المكتب مُحادثا نفسه بعزمٍ شديد:
-من هنا ورايح لازمًا أتصرف بنفسي، واتأكد إن كل حاجة هتمشي زي ما أنا عاوز، ساعتها بس هبقى نجحت أعمل اللي أنا عايزه!
توالت عليها الصدمات المفاجئة كطوفان يجرف في طريقه كل ما يعترضه، ارتعش ذراعاها وهما يحملان هذه الرضيعة الصغيرة التي ألقيت في حجرها، أحست "ناريمان" بموجات من التوتر المشوب بالخوف يغمرها، حملقت بفمٍ مفتوح إلى زوجها وهو يسرد عليها بإيجاز، كيف تمكن من خداع رفيقه، ليوهمه بأنه فقد كلتا ابنتيه في حادث الحريق المأساوي الذي وقع بالمشفى جراء استنشاق جرعات مكثفة من الدخان الخانق؛ لكن في الحقيقة نجت إحداهما من الموت المحتوم، ليأتي بها خلسة إلى بيته، مع ورقة ميلاد زائفة استخرجها بطريقة غير شرعية، تثبت بشكلٍ قانوني أنها ابنتهما.
زادت رجفة زوجته وهي تعيد إليه الورقة معترفة له في صوت لا يخلو من الارتعاب كذلك:
-أنا خايفة لنتكشف يا "مهاب".
على عكسها تمامًا كان هادئًا، مسترخي الأعصاب، اختطف نظرة سريعة على الرضيعة المستكينة في حقيبة الأطفال، ثم عاود النظر ناحيتها ليقول مؤكدًا لها بثقة:
-مش هيحصل لو التزمتي باللي قولتلك عليه.
صمتت للحظاتٍ، وغاصت في أفكارها المضطربة، لتستفيق من شرودها المتخبط بسؤالٍ متعجب:
-بس اشمعنى عاوز تسميها "ليان"؟ ليه مش حاجة تانية؟
بشيءٍ من الجدية أجابها:
-باعتبار إني صاحبه القريب، فده زي تكريم لبنته، وطبعًا مش هيخليه يشك فينا نهائي!!
اندهشت من دهائه وفي نفس الآن ارتابت منه، شعر بما يعتريها من توتر وارتباك، فزاد في الإيضــاح:
-"ممدوح" دماغه سم، وسهل يكشف أي ملعوب.
اقتنعت برأيه حينما أمعنت التفكير فيما نطق به، نظرت إليه وهو يدس بعض الأوراق الرسمية في حقيبتها، أصغت إليه بانتباه حين شدد عليها بلهجةٍ حازمة:
-إنتي تطلعي من هنا بالبنت على المطار فورًا، أنا مرتب كل حاجة هناك.
هزت رأسها في طاعة، فاستمر يملي عليها توصياته الصارمة:
-هتفضلي في البلد دي، وأنا شوية وهحصلك.
على ما يبدو قرأ ذلك السؤال الحائر في عينيها عن سبب اختياره لإحدى البلدان الأوربية النائية، فتولى الإجابة دون أن تسأل:
-أنا قاصد يكون المكان بعيد، محدش يعرفك فيه، علشان نضمن إنه خططتنا تنجح، والكل يصدق إنك كنتي حامل وولدتي.
انزعجت من احتمالية كشف ذلك التزوير الجسيم، فأخبرته بما يقلقها:
-بس شهادة الميلاد بتقول غير كده.
كان متفهمًا لأبعد الحدود لكل ما يساورها، لم تلن ملامحه، وأكد لها وهو يضع يديه على ذراعيها:
-محدش هيدور ورانا، المهم تفضلي مختفية عن الأنظار الكام شهر دول، وبعدها هنرجع لحياتنا الطبيعية.
لأول مرة تتطلع إليه "ناريمان" بشكلٍ مختلف، هكذا كان ولم تدرك، شخص داهية وغامض، لا يعرف أحد ما يدور في رأسه، وإن عاشره لسنواتٍ طوال. تركت مخاوفها جانبًا، هزت رأسها مرددة:
-طيب.
مرر "مهاب" قبضتيه صعودًا وهبوطًا على طول ذراعيها مستأنفًا توصياته الجادة:
-"ناريمان"، أنا عملت كده علشانك، لو حد عرف بالسر ده إنتي أول واحدة هتتأذي.
أكدت له تلك المرة بعدم خوف:
-لأ مش هنطق بحرف.
ابتسم قليلًا وهو يكمل:
-إنتي هتكوني من النهاردة أمها، وأنا أبوها.
بدت لحظتها وكأن عقلها قد ومض بشيء ربما غفل عنه، فتساءلت في ارتباكٍ:
-وابنك؟
بنفس النبرة الثابتة في انفعالاتها أجاب:
-زيه زي الباقي، مش هيعرف حاجة.
ارتفع حاجبها للأعلى، وقالت:
-بس دي أخته، أكيد هيكتشف إنها لسه عايشة، وساعتها "ممدوح" هيعرف وآ...
قاطعها بعدما اشتدت قبضتيه إلى حدٍ ما على عضديها:
-أنا عامل حسابي ومرتب إني أدخله مدرسة داخلية برا، هسيبه فيها فترة، تكون البنت كبرت واتغيرت ملامحها.
استرخت نوعًا ما، وهمهمت:
-أوكي.
تحولت نظراته إلى الرضيعة النائمة بداخل حقيبة الأطفال، وأمرها:
-يالا أوام، مافيش وقت، الطيارة ميعادها قرب.
تحركت صوبها لتحملها بها وهي ترد:
-حاضر.
استوقفها قبل أن تغادر معيدًا عليها إحدى توصياته الهامة:
-خدي بالك من نفسك، وطمنيني أول ما توصلي.
كعادتها المطيعة ردت وهي تومئ برأسها:
-ماشي.
أوصلها "مهاب" للخارج، واطمئن لركوبها السيارة وانطلاقها نحو المطار، كذلك ترك بصحبتها المربية الأجنبية لتتولى رعاية الرضيعة في الفترة الأولى من سفرها البعيد ريثما تعتاد على العناية بها بنفسها.
بين حمدٍ وامتنان، ردد "عوض" عبارات التضرع والشكر للمولى عز وجل، لأنه –جل وعلا- منحه عطية أخرى بغير حساب، كان مسرورًا بشكلٍ أغاظ زوجته، مما جعلها على غير وفاق معه، بل أقرب للجدال لقبوله بما وصفته كارثة جسيمة. قطب جبينه معاتبًا إياها بلطفٍ:
-وده يخليكي قالبة وشك بالشكل ده؟
تحولت الأجواء اللطيفة المبتهجة التي حاول إضفائها عليها إلى نوعٍ من الاستنكار والتعنيف عندما كلمته "فردوس" بعبوسٍ ملتصق دومًا بقسماتها:
-عايزني أفرح على إيه يا "عوض"؟
أطبق على شفتيه مصغيًا إليها وهي تقذف بوابل كلماتها السخيفة في وجهه:
-على الهم الجديد اللي بقى فوق كتافي؟
طوحت بيدها في الهواء متابعة وصلة ندبها المتحسر:
-مين هيرضى يشغلني وأنا بطني قدامي؟
لم يلق وزنًا لتذمرها المستمر، وقال في يقين لا يمكن التشكيك فيه مطلقًا:
-الرزق بتاع ربنا، هيجيلنا حتى لو كنا في كهف تحت الأرض.
نظرت إليه شزرًا، قبل أن تلوي ثغرها مدمدمة في اعتراضٍ:
-وإنت هيهمك إيه؟ ما أنا شقيانة ليل نهار علشان أجيب الكوتة.
تنهد قائلًا بعزمٍ:
-يا ستي أنا من بكرة هدور على شغل، وواثق إن ربنا هيكرمني.
وكأنه ألقى بنكتةٍ سخيفة على مسامعها، مصمصت شفتيها هاتفة بغير تصديقٍ:
-أما أشوف ..
ثم خفضت من نبرتها مخاطبة نفسها بسخطٍ:
-ولو إني مش مستبشرة بيك خير!
مجددًا نظرت إليه باستخفافٍ عندما عاد إلى تهليله المبتهج وهو يداعب طفلتهما في محبة أبوية عظيمة:
-والله والبيت هيتملى علينا بالعيال، ويبقالنا عزوة وسند في الدنيا.
خبا اهتمامها بما يفعل من سخافات غير مستلذة لها، وراحت تشرد بتفكيرها فيما ينتظرها بعد أشهر، حتمًا لن تكون الراحة الأبدية، ولا السعادة الأزلية!
في غرفة غريبة، جدرانها مطلية بالطلاء الرمادي الكئيب، استفاقت "تهاني" من إغماءها، وبدأت في استعادة وعيها بالتدريج، كان كل شيء باهتًا، غير واضح المعالم، استغرقها الأمر عدة لحظات حتى تتيقظ كامل حواسها. أحست بمرارةٍ قاسية في حلقها، فبحثت عما يروي جوفها، أدارت رأسها الثقيل إلى الجانب، فوجدت كوبًا من الماء إلى جوارها، مدت يده إليه لتلتقطه؛ لكن قبل أن يصل إلى شفتيها، اختطفه أحدهم منها، نظرت إلى من فعل ذلك، فرأت زوجها يقف بتجهمٍ مظلم على الجانب الآخر من سريرها الطبي. ابتسمت ابتسامة باهتة لرؤيته التي ظنت أنها ستبعث الطمأنينة على نفسها، استطردت تكلمه في صوت متحشرج:
-"ممدوح"، حبيبي..
بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وسألته:
-هو إيه اللي حصل؟
رمقها بنظرةٍ لا يمكن أن تنساها مطلقًا مهما حييت، ليقول بعدها في كراهيةٍ متعاظمة ظاهرة في نبرته:
-أخيرًا فوقتي.
من طريقته المريبة معها أخذت ذاكرها تتنشط بما كان محجوبًا عنها، سرعان ما امتلأ عقلها بلمحاتٍ متداخلة للأحداث المأساوية التي جرت مؤخرًا، وراحت المشاهد تتدافع في قوة جعلت نبضها يتسارع وأنفاسها تتقطع. انهالت عليها اتهاماته القاســـية كالصفعات وهو يلومها مباشرة ودونًا عن غيرها:
-إنتي أم إنتي؟!!
وَشَت تعبيرات وجهها بعمق الألم الذي أخذ يمزق في ثنايا قلبها بلا هوادة أو رحمة، صرخت بحرقةٍ وهي تمسك بذراعه:
-عيالي فين؟
انتشل ذراعه من بين أصابعها في قسوة متجافية ليصيح بها في نفس اللهجة المليئة بالاتهام المجحف:
-بناتي ماتوا، وإنتي زي ما إنتي .. لسه عايشة!
انحبست أنفاسها في صدرها، فعجزت عن التنفس، شعرت لحظتها وكأن أحدهم قد سحق كيانها بقوةٍ مفرطة، انفلتت منها بعدها صرخة محملة بكل ما طواه فؤادها:
-آه يا وجع قلبي.
ظل يسدد لها هذه النظرات النارية المميتة، وواصل اتهامها بما ترفض تصديقه:
-هما خسروا حياتهم بسببك، وأنا مش هخليكي تتهني في يوم بحياتك.
هزت رأسها في استنكارٍ، وقد فاضت الدموع من طرفيها بغزارةٍ، ارتفعت نهنهات بكائها بشدة، وامتزجت بشهقاتها المتقطعة، حاولت الاعتدال من رقدتها لتمسك بزوجها مجددًا من ذراعه، شحذت كامل قواها لتقربه منها وهي تتوسله من بين بكائها الحـــارق:
-"ممدوح"، ماتقولش كده، بناتي عايشين...
في غمرة صدمتها توهمت أنها مجرد خدعة بلهاء منه لتكديرها، فسألته بصوتها المرتعش وغير الواضح:
-إنت بتعمل معايا كده ليه؟
مجددًا انتزع يدها من عليه ليلقي بها كما لو كان يقذف قطعة من القاذورات، امتد كفه الآخر ليقبض على فكها، اعتصرها منه قائلًا بفحيح من بين أسنانه المضمومة:
-كانت أكبر غلطة في حياتي إني وافقت أكمل في الجوازة دي!
تصرفاته معها كانت متطرفة، غير مراعية تمامًا، تفور غضبًا وحقدًا، وتحوي على كل المشاعر الناقمة تجاهها، وكأنها اجتمعت في نفسه لإثبات مدى عدائيته لها. انقطع الهواء عن مجرى تنفسها، وعجزت عن مقاومة عنفه معها، فكانت تناضل للبقاء على قيد الحياة، لحسن حظها جاءت الممرضة المشرفة على حالتها في الوقت المناسب، رأت ما يفعله، فتدخلت على الفور وقامت بإبعاده عنها وهي تنهره:
-يا فندم ما ينفعش اللي حضرتك بتعمله ده!
تراجع "ممدوح" للخلف مشيرًا بإصبعه لزوجته ومهددًا إياها علنًا:
-روح بناتي قصاد روحك وروح أغلى ما في حياتك، سمعاني؟!
بالكاد التقطت أنفاسها، وسعلت بألمٍ وهي تحاول استعادة انضباط تنفسها، نظرت إليه من وسط سحابة دموعها الكثيفة تتسول عواطفه؛ لكن مات قلبه، وماتت معه ما امتلك من مشاعرٍ إنسانية. حدجها بنظرة شديدة القاتمة ليتبع ذلك تهديده الأخير:
-هخليكي تتمني الموت وما تقدريش تطوليه!
لم يكن بممازح! طريقته، ومن قبلها نظرته مع نبرته الجوفاء أكدوا لها أن خسارتها ثمينة للغاية، بل إنها تفوق أي شيء في حياتها، صرخت رغم البحة التي نالت من أحبال صوتها، لعل وعسى يكون في قلبه قدرًا من الرأفة فيكذب ما يلقيه على مسامعها:
-"ممدوح"، ما تقولش كده عن بناتي.
حاولت النهوض وتركت فراشها؛ لكن الممرضة حالت دون قيامها بذلك ومنعتها من التحرك، فأكملت صراخها المستجدي:
-استنى يا "ممدوح"!
غادر غرفتها تاركًا إياها وسط أهوال فجيعتها، فتطلعت إلى الممرضة تبحث في نظرتها المشفقة عليها عما يثبت عكس ادعاءاته، ارتجف كامل بدنها، وارتعشت نبرتها الباكية وهي تكلمها:
-هو بيضحك عليا، بناتي عايشين، مش كده؟
رفضت الممرضة التعليق بشيء، كل ما سعت لفعله هو إبقائها على الفراش، بينما صوتها المصدوم يردد ببكاءٍ:
-ده ملعوب عاملة عليا علشان أصدق إن بناتي راحوا.
رجتها الأخيرة في شيءٍ من التوسل:
-من فضلك إهدي، الدكتور هيجي يشوفك دلوقتي.
رفضت محاولات إسكاتها، وصرخت بأعلى نبرة تملكها، بعدما هاجت انفعالاتها:
-"ممـــــــــــــدوح"! رجعلي بناتي!
أتى الطبيب ومعه حقنته المهدئة، غرزها في وريدها لتستكين بالإجبار، بقيت عيناها معلقتان بالباب، إلى أن غشت العتمة بصرها، وسقطت في بئر الظلمات.
حاصر الضيق ملامحه وهو لا يزال يجلس بثياب المشفى الطبية، معزولًا بمفرده، في هذه الغرفة البيضاء الواسعة، تلك التي خصصت له، منذ إنقاذه من الحريق المشؤوم، لم يفعل الصغير "أوس" أي شيء سوى مشاهدة المزيد من أفلام الرسوم المتحركة السخيفة، وكأنها وسيلته المتاحة لإلهاء عقله عن التفكير في تبعات حدث. كل برهة تأتي إليه إحدى الممرضات لتتفقده، أو لتقدم له الطعام، وحتى لتساعده في الذهاب إلى المرحاض.
لم يعرف تحديدًا المدة التي مكثها هنا؛ لكنها من منظور حساباته قد تخطت الأسبوع تقريبًا، رغم أن حالته الصحية لم تستدعِ مكوثه كل هذه الفترة. فقد شهيته، ولم يكن راغبًا في تناول الطعام، فترك الصينية كما هي على الطاولة الصغيرة الملاصقة لسريره. رعشة قوية انتشرت في كل أطرافه مصحوبة بانقباضة قوية في صدره عندما فُتح الباب فجــأة، وأطل منه آخر من ينتظر قدومه. تصلب "أوس" في مكانه، وتجمدت عيناه على "ممدوح" الذي راح يرمقه بنظرات تحمل بغضًا دفينًا وعداءً صريحًا.
من طريقة تحديقه المخيفة به، أدرك أنه قاب قوسين أو أدنى من خطر محدق، لا نجاة له منه! شعر ببرودة قارصة تضرب أطرافه، فقاوم هذا الإحساس المفزع، وتزحف بمرفقيه على الفراش ليرفع جسده المرتجف ويلصقه بعارضته المعدنية. نفضة أخرى مرعبة عصفت بكامل كيانه عندما رآه يقترب منه بعدما أوصد الباب بالمفتاح خلفه، وصوته البغيض إلى قلبه يخاطبه:
-يا ريتك مُت مع اللي ماتوا!
بدت نبرته أقرب إلى الفحيح الحـــــــارق المنبعث من قعر الجحيم وهو لا يزال يكلمه:
-بس إنت فضلت عايش، هما راحوا، وإنت لسه موجود!
حاول "أوس" التماسك وإظهار شجاعة زائفة لمواجهته؛ لكن كيف له أن يمتلك ما يجابهه به وهو ينتفض رعبًا من أعمق أعماقه؟ قيده الخوف، وأجبره على البقاء في موضعه، يحتمي بقطعة ملاءة خفيفة. استمر "ممدوح" في التقدم ناحيته، وعيناه الحمراوين لا ترمشان، فقط تبرقان بشكلٍ مفزع، فلم يعد يعنيه أي شيء في هذه الدنيا سوى إلحاق الأذى به. كم تمنى في هذه اللحظات العصبية لو يأتي إليه من ينجده!
كشر "ممدوح" عن أنيابه، وأخذ يتهمه بصوته الذي ما زال يفح نارًا مستعرة:
-كان نفسك تخلص منهم، عشان تفضل إنت اللي في الحجر، ابن "مهاب" باشا، صاحب السُلطة والقوة!
الهروب عن طريق القفز من النافذة، كان الخيار الوحيد المتاح لديه للنجاة من براثن هذا الوحش الغادر! قبل أن يفكر "أوس" في ترك سريره، والاتجاه إليها، سبقه عدوه اللدود، وأمسك به من معصمه ليحتجزه في مكانه، اعتصر يده بقوةٍ جعلت الألم يتفشى في كامل ذراعه، فصرخ متأوهًا من ضغطه العنيف، وانكماش وجهه عكس شعوره ذلك:
-سيب إيدي!
نظرة أخرى مميتة حدجه بها قبل أن يكز على أسنانه مخاطبًا إياه بهسيسٍ مخيف:
-مش هتعرف تهرب مني المرادي! هحاسبك على موتهم!
رغم ما يعتريه من خوفٍ، إلا أنه رد مدافعًا عن نفسه بشجاعةٍ لا يعرف من أين واتته:
-أنا مجتش جمبهم، النار ولعت في الأوضة لواحدها، معرفتش أتصرف إزاي.
رفض "ممدوح" تصديقه تمامًا، واتهمه في صراخٍ:
-إنت كداب.
تمسك بكلامه مؤكدًا له براءته وهو يحاول جاهدًا تخليص معصمه من قبضته المحكمة عليه:
-لأ، أنا مش كداب!
سدَّ أذنيه عن سماع أي شيء يفوه به، وقال في إصرارٍ:
-مش هرحمك يا ابن "مهاب"!
أبى "ممدوح" التخلي عن فكرة تدميره بشكلٍ لا آدمي، فأضاف وهو يُطالعه بهذه النظرة الشريرة:
-هخليك تعيش اللي جاي من حياتك ذليل.
بدا لحظتها وكأن أشد كوابيسه فزعًا يتجسد أمام عينيه، حاول "أوس" التحرر منه، فلكزه بقبضته الأخرى في صدره، وحاول خمش وجهه، كما قام بركله بساقه في فخذه وهو يهدر بصوته المرتجف:
-ابعد عني.
غضبه الأعمى مد قواه الجسمانية بطاقة مضاعفة، فصار عتيدًا، عتيًا، لا يمكن صده أو رده، أو حتى قهره. أمسك "ممدوح" بيد الصغير الأخرى الطليقة، وهمهم بما بث كل صنوف الرعب في نفسه:
-المرادي لأ!
جمع يديه معًا، وقيدهما بكفه، ثم انتزع من فوقه الملاءة البيضاء التي تغطي جسده، ليصبح في أكثر المواقف تهديدًا. أراد "ممدوح" اغتــــــيـــال براءته، سرقة طفولته، وتركه يعاني من ويلات الذل بإجباره على معايشة أشد التجارب انحطاطًا ودناسة.
حاول "أوس" الصراخ ليغيثه أحدهم، فأخرسه بحشو جوفه بقطعة القماش المتروكة بجانب صينية الطعام، تلك التي تُستخدم في تنظيف الفم واليدين، انتفاضة وراء الأخرى حلت بجسد الصغير محاولًا إبعاده عنه، لكنه افتقر إلى القوة اللازمة للنجــاة من شره، انحبست صرخاته المرعوبة والباكية في حلقه وهو يجرده من زيه الطبي، ذلك الذي يحجب سوءته عنه، ليصبح تحت وطأة بطشه الشيطاني. نظراته الخبيثة إليه، وملامحه الأكثر شيطانية أكدت له أنه هالكٌ لا محالة!
لم يحتج "ممدوح" للكثير من المجهود ليفرض سيطرته الكاملة عليه، في التو أدار جسده ليجبره على الاستلقاء على بطنه، ثم استخدم ثقل جسده ليثبته في موضعه بالسرير، وأخذ يستبيح لنفسه انتهـــاك وتدنيس براءته بأفعاله المحرمة قبل أن يرخي حزام بنطاله، ليتمكن من فتح السحاب.
أطبق "أوس" على جفنيه بقوةٍ وهو عاجز عن كتم أنات ألمه، والأخير يبذل ما في وسعه لإذلاله، ودَّ لو ينتهي ما يمر به بطلوع روحه؛ لكن ما رجاه لم يحدث، وظل يختبر ما لبشرٍ سوي يمكن تحمله.
استخدم "ممدوح" أحط الوسائل المنحرفة وغير السوية في سلب طفولته، وتلويثها كليًا بذكرى دنسة ليس من السهل نسيان تفاصيلها البشعة أو محو آثارها السيئة من نفسه. تركه بقايا طفل سلبت منه حياته، بل واغتيل عدة مرات ممن حوله بسلوكياتهم المتجاوزة، قبل أن يأتي هو ويُجهز عليه بهذه الطريقة الشنيعة.
تركه روحًا مهشمة بعدما فرغ منه، فاستقام واقفًا، وتلذذ برؤيته يبكي من ألم العجز والذل والانكسار والهوان، أعاد ضبط سرواله عليه، ولم يكترث بتغطية جسد الصغير، اكتفى بمخاطبته في صوتٍ يعبر عن زهوه بانتصاره النجس:
-بكده عمرك ما هتنساني يا ابن "مهاب"!
لم يجرؤ "أوس" على التحرك من موضعه، او حتى فتح عينيه، كان فاقدًا لكل شيء، حتى رغبته في الحياة، استغل الفرصة ليهدده "ممدوح" بعدما ضمن نجاحه في تهشيمه وتهميشه، وهو يهم بمغادرة الغرفة بعد أن انقضت مهمته:
-إياك تفكر تحكي لحد عن اللي حصل، صدقني محدش هينفعك!
وكأنه يظهر شماتته له بمواصلته سرد المزيد من الوقائع الملموسة:
-الكل رموك، ونسوك، أبوك مش هنا وسافر، وأنا بس اللي موجود علشان أذلك بطريقتي!
رغم تشفيه الصريح والمؤلم لروحه الضائعة إلا أنه كان محقًا، فقد تم إقصائه، وربما نسيانه، فأصبح وحيدًا كسير النفس، بلا حماية مجدية، قبل أن تتحول حياته إلى جحيم بعد هذه التجربة الفظيعة. ألقى "ممدوح" كلماته الأخيرة على مسامعه وهو يدير المفتاح في قفل الباب:
-أنا كابوسك الحي، النفس مش هتعرف تاخده إلا وإنت شايفني موجود جمبك، إنت بقيت تحت رحمتي!
ثم أطلق ضحكة هازئة به قبل أن يودعه بطريقة مهينة في طياتها، وإن لم ينطق بذلك علنًا:
-سلام يا ابن الـ ... "جندي"
(ما طمره التامور وطمره)
قبل أن يعاني ويلات هذه الكسرة المهينة، هزمه بقــــسوة تخلي الأقرب إليه عنه، فأدرك وتدارك معنى أن يكون وحيدًا، في ذيل قائمة الاهتمامات، ومنسيًا بين أسرته، لم يكن مُصانًا بالدرجة الكافية التي جعلت عائلته تضعه فوق أي اعتبار، لم يجد والدته بجواره، ولا والده في محيطه، ليذودا عنه، ويوقفا بطش هذا الحقير النجس، الكل اختفى فجأة من المشهد، وكأنه وُلد يتيم الأبوين، بلا سند أو معين. تركه "ممدوح" وسط محيط وجعه الراسخ، وعلى وجهه علامات الألم والرعب، فقد تأكد أن تكون عقوبته ذات أثر مخيف وغير قابل للنسيان. راح يئن أنينًا خافتًا، جاهد لوأده، وكأنه يخشى إن ارتفع صوت بكائه أن يكتشف أحدهم ما تعرض له، حينها لن ينجو من هذا الشعور المذل أبدًا، بل سيلازمه حتى مماته!
اعتدل "أوس" من نومته المهينة، وبحث عما يغطي به جسده، فالتقط الملاءة، ولفها بيدين مرتعشتين حوله، قبل أن يهرع نحو باب الغرفة ليوصده من الداخل. لن يسمح لأي فرد بأن يرى آثار وحل القذارة الذي وقع فيه بممارسات زوج أمه اللعين عليه، بكى مع كل محاولة منه للسير بتؤدةٍ تجاه الحمام للاغتســال، أراد بشدة تطهير جسده من موضع لمساته المحرمة، لم يكترث إن كان الماء المنساب على بدنه باردًا، أم دافئًا، أم حتى حارقًا، المهم ألا يبقى أي أثر ليده عليه.
جروحه النفسية قبل البدنية لم ولن تندمل بسهولة، بل إن ندوبها الموحشة ستظل معالمها موجودة لتذكره على الدوام بأنه كان الضحية، المجني عليه، بأنه اُغتيل، وأعيد اغتيــاله في كل مرة كان يرى فيها هذا البغيض قبل أن يجهز عليه تمامًا في مرته الأخيرة.
اختلطت دموعه الحارقة بقطرات المياه، تعهد لنفسه بأن تكون آخر مرة يظهر فيها ذلك الضعف، لن يسمح لأحدهم بالمساس به، بالسير على حطامه، ودعسه كحشرة لا قيمة لها، سيخفي ذلك الجانب المخزي منه للأبد، وكأنه لم يكن من الأساس. أغلق الصنبور، وخرج مبتلًا وهو يلف جسده بهذه المنشفة الصغيرة، كان لا يزال يرتعش، وارتجف أكثر مع رؤيته للفراش، ذاك الذي شهد على لحظات نحـــــره، أغمض عينيه بعدما التف بظهره ليقول بصوتٍ مهتز ومختنق:
-ده كابوس، كابوس...
حاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي تفشت فيه، وأكد لنفسه:
-مافيش حاجة حصلت! مافيش!
اتجه بعدها إلى الدولاب وفتح الضلفة ليجد حقيبته التي أحضرها والده قبل عدة أيامٍ، فتش بداخلها عن ثيابه، تأوه من الوجع، فتنفس بعمقٍ ليكبت هذا الشعور المؤلم، ثم بدأ في ارتداء ملابسه على مهلٍ، رافضًا أن يكون جسده مكشوفًا لكائنٍ من كان!
لم يقوَ على الجلوس، ظل واقفًا أمام النافذة، يراقب بعينين خاليتين من الحياة، ومن خلف الستائر المنسدلة الفضاء الممتد على مرمى بصره، قست ملامحه، وأصبح أكثر جمودًا وصلابة، أخذ على نفسه ميثاقًا غليظًا، بألا يدع ما حدث يسيطر عليه، لن يجعل مشاعره تسوقه، وقلبه يقوده، بل لا مكان للعاطفة في حياته، آن الأوان ليطمر ما خاضه ذلك الطفل الضعيف المضطهد في التامور، ويحل كبديل عنه آخر مطابق في الصفات والسلوك لمن نجحوا في إفساده، المهم ألا يصبح كما كان سابقًا
لحظة لم يرغب في إضاعتها هباءً دون رؤية تأثيرها المحزن عليها، واظب "ممدوح" على زيارة زوجته في المشفى المحتجزة به، منتظرًا السماح له بزيارتها بعدما تم رفض طلبه لعدة مرات، خلال تلك الفترة تمكن كذلك من سحب ما احتفظت به من أموال في البنك ليصبح رصيدها صفرًا، كان لا يكف عن البحث عن أي وسائل يقهرها بها. حين جاء اليوم كان محظوظًا، فقد أخبره الطبيب أنها تقبلت خسارة الرضيعتين، وبدأت تتأقلم على الوضع الجديد، ومع ذلك هي بحاجة للمزيد من العون الأسري لتخطي هذه الفاجعة. أوهمه أنه قادرٌ على مساعدتها، فأعطاه الإذن للقاء بها.
تأملها "ممدوح" وهي ترقد على الفراش منكسة الرأس، ذابلة الوجه، تبدو نحيلة بشكلٍ ملحوظ، حتى شعرها بالكاد يكون مرتبًا بعد أن بذلت الممرضة مجهودًا لإجبارها على تمشيطه وتسويته؛ لكنه لم يكن معقودًا. ما إن رفعت نظرها للأعلى ووجدته قبالتها حتى خفق قلبها ونادته بلوعة المشتــاق:
-"ممدوح"!
رأى السواد الذي تشكل حول جفنيها، وكيف غارت عيناها لتبدو كواحدة أخرى غير تلك الندية البهية المفعمة بالأمل والحياة. فردت "تهاني" ذراعها أمامها آملة أن يمسك بيدها؛ لكنه ظل رابضًا في مكانه، ورافضًا الاقتراب منها، نادته مجددًا بنفس النبرة المليئة بالشوق والمغلفة بالحزن، ويدها لا تزال ممدودة إليه:
-"ممدوح"! تعالى جمبي، أنا محتاجاك!
ظل باقيًا في موضعه، يرمقها بنظرة خالية من الرأفة، ليسألها بعدها بصوت جاف:
-إحساسك إيه دلوقتي بعد ما ماتوا بناتي؟ مبسوطة؟
اتهاماته المجحفة في حقها كانت تزيد من لوعتها وإحساسها بالذنب، رغم أنها لم تتسبب في وفاتهما؛ لكن ظل هذا الشعور المرير يلازمها ليؤلمها طوال الوقت، رفعت يديها لتضعهما على أذنيها وهي تهز رأسها باستنكار، لتصرخ فيه بتوسلٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-حرام عليك كفاية، أنا قلبي موجوع على فراقهم، ملحقتش أشبع منهم، اتخدوا مني غدر.
لم تحبس دموعها، وأطلقت لها العنان لتسيل بغزارة وهي تكلمه:
-ولو أطول أرجع بالزمن عشان أخدهم في حضني تاني وآ...
قاطعها في صوتٍ جهوري أفزعها:
-كفاية أوهام، وكلام فارغ مالوش معنى!
تحجرت الدموع في عينيها خاصة وهو يتابع على نفس النهج القاسي، كأنما انتشل الحب من قلبه:
-بتقوليه بس علشان تصبري نفسك بيه...
هزت رأسها رافضة باستهجانٍ كبير ما يقوله، فزاد من وابل كلماته غير العطوفة بترديده غير الرحيم:
-إنتي ماتستاهليش تكوني أم!
شهقت في قهرٍ مصدوم، لم يأتِ ببالها أن يكون على هذه الدرجة من القسوة معها، أليست مثله تعاني من ألم الفقد والخسارة الغالية؟ تابع "ممدوح" بنظرة ازدراء مستحقرة:
-كانت غلطة لما وافقت أكمل معاكي.
أنهى جملته وقد تحرك صوبها ليمسك بها من ذراعها، ضغط بشراسة عليه، فتألمت من قوة ضغطته، استعطفته بنظراتها ليصدمها بقوله:
-إنتي تستحقي الموت بدل المرة ألف مرة.
لم تصدق أن مشاعرها المتيمة بها قد تبدلت فجـأة هكذا لتصبح كارهة لكل ما يخصها، وكأنه لم يعشقها يومًا! رجته بقلبٍ مفطور:
-"ممدوح"! ماتتكلمش كده.
لفظها بطريقة أوحت بأنه على وشك الاستغناء عنها، وأكد على ذلك حين خاطبها بوجهه الغائم:
-من اللحظة دي انسي إني أكون في حياتك...
انخلع قلبها وعصفت فيه عواصف الخوف، تلألأت الدموع في عينيها مجددًا وهو على وشك إخبارها:
-إنتي آ...
عادت الدنيا لتسود في عينيها، وتسارعت دقات قلبها، لم ترغب لذا قاطعته في رجاءٍ شديد:
-أوعى، ما تنطقهاش يا "ممدوح"، بلاش تظلمي، خليك سندي.
اعتبرها الملامة على ما حدث، المجرمة التي قضت عليه بسلبه أعز ما في الدنيا، لم يكن قد اكترث بأحدهم فيما مضى من حياته إلا عندما رزق بالتوأم، وجودهما أعاد إليه نبض الحياة وبهجتها، وها قد حُرم منهما. حدجها بنظرة أخرى أكثر كراهية ليردد بعدها بلا ندمٍ:
-إنتي طالق يا "تهاني"، طــــالق!
أذهلها بقراره، وجعلها تحدق فيه بعينين متسعتين، وكأن أحدهم قد سكب على رأسها وقودًا حارقًا، فجعل الموت يزورها بغتة، صرخت في غير تصديق:
-ليه يا "ممدوح"؟ ليه؟
لم يطق النظر في وجهها، ولم يبح لها بمسألة أخذ أموالها، تركها لها كمفاجأة أخرى قاسمة، أولاها ظهره ورحل، وصوت صراخها الهيستري والمفطور يهدر من ورائه؛ لكنه لم يكن كافيًا ليخمد النيران المشتعلة في قلبه، فهو خسر كل شيء دفعة واحدة، وغيره فاز بملذات الدنيا ومباهجها، لقد أقسم لنفسه ألا يتوانى أو يكف حتى يجعل رفيقه أيضًا يتذوق من نفس الكأس، فالرهان بينهما لا يزال قائمًا، وإن كان على حساب اللعب بأرواح الأبرياء!
بضعة أيام مرت بعد حادثته المشؤومة، كان يعامل فيها جميع من حوله بعجرفة وتسلط، وكأنه امتلك أمرهم، لجوئه لذلك كان بنية إخفاء هشاشته وكسره المخزي خلف حاجز وهمي صنعه لنفسه. عاد والده بعد غياب مريب، ليجد عشرات الشكاوي من الأطقم الطبية المكلفة برعاية صغيره تتمحور كلها في رفضه للتجاوب معهم. حينما ولج إليه في غرفته وجده واقفًا على قدميه، يقف عند نفس موضع النافذة والذي يتطلع منه للخارج، تنحنح "مهاب" بصوته الخشن ليلفت انتباهه لوجوده؛ لكنه لم يبرح مكانه، بدا وكأنه لم يسمعه مما أغاظه قليلًا، لهذا ناداه بنبرته الصارمة:
-"أوس"!
ببطءٍ وتكاسل أدار فقط رأسه لينظر إليه، فعاتبه "مهاب" بجديةٍ:
-إيه مافيش وحشتني يا بابا؟ وتيجي في حضني؟
وكأنه مجبر على السير إكرامًا لمنزلته، تحرك صوبه في خطواتٍ ثابتة، ونفذ ما طلبه دون أن يظهر في احتضانه إليه أي نوعٍ من المشاعر الدافئة، بل كان أقرب لأداء الواجب. تفقده والده بنظرة فاحصة قبل أن يعلق بروتينية:
-أنا شايف إنك بقيت أحسن.
رد عليه الصغير متسائلًا:
-هخرج من هنا إمتى؟
أتاه رده بنفس اللهجة الجادة:
-طالما أنا رجعت يبقى مالهاش لازمة الأعدة هنا...
هز رأسه في استحسان، فأكمل والده كلامه:
-على فكرة، الدكاترة بيشتكوا منك!
لم يعبأ بشكواهم، وظل على وضعه جامد التعبيرات، حاد النظرات، أضاف "مهاب" بعد زفرة سريعة:
-المفروض هما هنا علشان ياخدوا بالهم من صحتك، تقدر تقول هما موجودين مكاني.
عندئذ عقب "أوس" بعبارة قوية المعنى، وكأن فيها لومًا مستترًا على ما تعرض له في غيابه غير الطبيعي:
-محدش ينفع يبقى مكانك!
تفاجأ به يخاطبه بهذه الطريقة، وبلهجة تفوق عمره، فنظر له مدهوشًا للحظة، ابتسم وهو يداعب خصلات شعره قائلًا:
-معاك حق..
استحثه على السير معه تجاه باب الغرفة بعدما لف كتفيه، واستطرد متابعًا، ورنة من الفخر تسود كلماته:
-عارف، كلامك دلوقتي بيفكرني بجدك الله يرحمه، وأنا عايزك تبقى زيه...
انتصب "مهاب" بكتفيه للأعلى في زهوٍ، وأكمل بجديةٍ، كأنما يسدي له نصيحة ذهبية:
-راجل قوي، وليك هيبة، والكل بيخاف منك، وبيعملولك ألف حساب! ساعتها بس محدش هيقدر يقرب منك.
خُيل إليه أنه وجد فيما فاه به الحل المثالي لدرأ ما قد يناوشه من مشاعر الخوف إن التقى أو تصــادف مع من ألحق به الأذى. انتشله من لحظة شروده السريعة حديث أبيه القائل:
-احنا هنروح بيتنا الجديد، أنا أصلي نقلت في مكاني تاني أحسن.
لم يمانع ذلك، وارتضى بإحداث ذلك التغيير في حياته، فقد أراد الابتعاد عن كل ما حوله، ظل على صمته ووالده لا يزال يطلعه على المزيد من القرارات المُرتب لها مسبقًا:
-وبفكرك أوديك مدرسة برا تتعلم فيها.
توقع أن يثور عليه ويعترض مثلما عهد منه؛ لكنه للغرابة قابل رغبته بالإذعان:
-ماشي.
ضحك في فخرٍ، وبصوتٍ لافت، ليقول بعدها باعتزازٍ:
-إنت كده ابني "أوس الجندي"!
لأشهر متواصلة خاضت فيها حربًا ضروسًا لتتمكن من الحصول على أي معلومات مفيدة تمكنها من الوصول إلى ابنها بعدما أُخذ منها قسرًا، وحرمت من رؤياه. لم تهتم بوظيفتها التي خسرتها، ولا بالأموال التي سلبت من حسابها بغير معرفة منها، ولا باضطرارها للسكن في مكانٍ متواضع مع إحدى العاملات حتى تتدبر أمرها، كل ما أرادته هو استعادة ابنها الوحيد، معتقدة أن وجوده سيساعدها على إعادة لم شملها مع زوجها الذي طغى عليه حزنه، وغلبه فطلقها مرغمًا!
وصلت أخيرًا إلى مبتغاها، وعرفت أين يقيم صغيرها في الوقت الحالي؛ لكن تعذر عليها الدخول مباشرة دون مواجهة أفراد الأمن المتواجدين عند المدخل، لذا كان عليها التريث حتى تتمكن من الصعود. بعد مراقبة حثيثة لوقت طويل، استطاعت التسلل خلسة إلى البناية التي يقطن بها الجراح الشهير، وبحثت بعينين متلهفتين عن باب منزله، طرقته وقد تحفزت كليًا للقاء صغيرها، لسوء حظها كان "مهاب" متواجدًا ببيته، فتفاجأ برؤيتها، ومنعها من الدخول ليخبرها بصرامةٍ، وبلهجةٍ لا ترد:
-اعتبري ابنك مات!
انتفضت منقضة عليه، وأمسكت به من ياقتي قميصه لتهزه في انفعال، وصراخها الغاضب يصدح في الأرجاء:
-إنت بتقول إيه؟ أنا ابني عايش، وهاخده في حضني.
غرز أظافره في كفيها ليخمشهما عن قصدٍ، فتألمت من الوجع المباغت ليقوم بعدها بإبعادها عنه ودفعها للخلف وهو ينهرها بغلظةٍ، وإصبعه موجه إليها:
-إنتي مالكيش ابن، ويالا امشي من هنا!
استعر داخلها كمدًا منه، فهاجت تهدده في عصبيةٍ مبررة:
-إنت مفكر نفسك مين؟ ابني هعرف أخده بالقانون، ومش هتقدر تحرمني منه.
ردد في استخفاف ساخر:
-قانون؟!
أكدت بقوةٍ وكأنها تثبت له أنها لم تعد ترتعد منه أو تخشاه:
-أيوه.
نظر لها بعينين تطقان شررًا، وسألها في استحقارٍ:
-إنتي مجنونة ولا حاجة؟
ثم لوح بإصبعه صعودًا وهبوطًا على طول جسدها وهو يستكمل في نبرة مهينة:
-مش شايفة منظرك عامل إزاي؟
هيئتها العامة كانت شبه مزرية، تؤكد على فقرها، على كونها معدمة، لا تملك شيئًا، ومع هذا ردت بعزة نفس كانت قد تناستها معه:
-مش فارق معايا، أنا هصرف كل ما أملك علشان أرجع ابني لحضني.
أطلق ضحكة قصيرة هازئة ومغيظة لها، ليعلق بعدها في تهكمٍ محقر من شأنها:
-معقولة لسه مصدقة إن معاكي فلوس؟ ده إنتي شحاتة!
قطبت جبينها، وعبست بكامل ملامحها، وقبل أن تنطق بشيءٍ أضاف على نفس ذات المنوال:
-شكلك لسه عايشة في جنانك، ده "ممدوح" خلاكي على البلاطة يا هانم!
صدمها كليًا، فآمالها كانت معقودة –وبقوةٍ- على استعادة زوجها بمجرد نجاحها في استرداد ابنها، آمنت أنها قادرة على تجميع أسرتها مرة ثانية، استفاقت من ذهولها اللحظي، وهتفت تستنكر ما اعتبرته اتهامًا باطلًا:
-"ممدوح"!! استحالة يعمل كده، ده بيحبني.
ضحك مرة ثانية في استهزاء أكثر استفزازًا، ليخبرها بعدها:
-خليكي عايشة في الأوهام دي، هو اتجوزك بأمر مني، وطلقك لأنه مابقاش طايق يبص في خلقتك.
لم يكن الأمر مجرد مزحة سخيفة منه قالها لإغاظتها، بل بدا جديًا للغاية وهو يؤكد لها بحقائق غير مشكوك فيه:
-جايز اللي كان مصبره عليكي حملك في البنات، بس خلاص هما ماتوا، وإنتي بقيتي مالكيش لازمة.
تحطمت أحلامها على صخرة الواقع القاسية، فصرخت في صوتٍ منفعل:
-اسكت، "ممدوح" مش كده!
رد عليها في نبرته المتهكمة:
-إنتي اللي غبية، وصدقتي إن في حد بيحبك، على إيه؟ إنتي كنتي مجرد صيدة سهلة، وتسلية.
جرحها بنصل كلماته القاسية، فاندفعت مرة أخرى تجاهه لتضربه في صدره وهي تنعته بغضبٍ متصاعد:
-إنت مش بني آدم!
لكزها في ذراعها محذرًا إياها بغير تساهلٍ، وبنظرة يسودها العداء:
-نزلي إيدك بدل ما أقطعهالك.
هتفت متحدية جبروته بإصرارٍ:
-معدتش يهمني، أنا مش همشي من هنا إلا وابني معايا!
في تلك الأثناء، خرج الصغير "أوس" من غرفته على إثر الأصوات المتشاحنة، تفاجأ بوجود أمه على عتبة باب المنزل، هتف في ذهولٍ، ووجهه يكسوه هذا التعبير المصدوم:
-ماما!
وكأن وهج الحياة النابض قد عاد إليها دفعة واحدة، فما إن سمعت صوته العذب والذي يتحرَّق إليه قلبها حتى صاحت بلوعةٍ أموميةٍ شديدة:
-"أوس"، حبيبي، أنا هنا يا ابني!
نظر إليها مليًا وهو لا يزال على صدمته، تقدم تجاه الباب متسائلًا:
-إنتي لسه عايشة؟
في التو اشتاطت غضبًا لكون أبيه قد احتال عليه وأخبره كذبًا أنها فارقت الحياة، استنكرت بشدته حيلته القذرة، وهدرت به:
-كمان مفهم ابني إني مُت؟
انزعج "مهاب" لقدوم ابنه في هذا التوقيت، لم يحبذ ظهوره بمظهر المخادع أمام ابنه، لذا استدار بجسده مشكلًا حاجزًا صلدًا أمامها، ومواجهًا صغيره ليخاطبه في لهجته الآمرة:
-خش أوضتك يا "أوس"!
رغم مشاعر التبلد والجمود التي صارت متغلغلة فيه مؤخرًا، إلا أن اللقاء بوالدته أعطاه دفقة من الشعور بالأمان، والرغبة في البوح بأبشع أسراره وأكثرها وحشية، لعل ذلك الغليان المستعر بداخله يخبت. في صوتٍ حانٍ ومملوء بالشجن هتف "أوس":
-ماما، إنتي عايشة بجد؟
تقافز الغضب في وجه "مهاب"، وأمسك بابنه من كتفه ليسحبه للداخل وهو يوبخه:
-إنت مابتسمعش الكلام ليه؟ مش قولتلك ادخل جوا!!
قاومه الصغير قائلًا بعنادٍ:
-أنا عايز ماما.
هلل "مهاب" مناديًا بأعلى نبرته:
-"ناريمـــان"، تعالي بسرعة، وخدي "أوس" من هنا.
جاءت على صوت ندائه ومعها الخادمة، لتحل عليها الدهشة المختلطة بقدرٍ من الفزع، خاصة عندما رأت "تهاني" أمامها، ارتجف بدنها، وتلبكت، فأمرها "مهاب" بلهجته الصارمة:
-دخلي "أوس" أوضته.
تغلبت على مخاوفها التي انعكست على ملامحها، وهتفت تعنف الصغير:
-إنت خرجت من أوضتك ليه؟
نظر لها "أوس" بعينين حانقتين، وهتف معاندًا:
-أنا عايز ماما.
تعاونت مع الخادمة لجره بعيدًا رغم كل ما أبداه من مقاومة واحتجاج؛ لكنهما في الأخير نجحتا في إعادته لغرفته واحتجازه بها. صراع القوة وفرض السلطة كان جليًا نصب عينيها أثناء إجبار وحيدها على الافتراق عنها، ارتمت "تهاني" عند قدمي "مهاب"، أمسكت ببنطاله، وتوسلته بقلبٍ محترق:
-رجعلي ابني، ماتحرمنيش منه، معدتش فاضلي في الدنيا إلا هو!
ركلها بساقه ليطرحها أرضًا وهو ينذرها بحدةٍ:
-قولتلك شيليه من حساباتك.
تألمت من السقطة العنيفة، ووضعت يدها على موضع الألم، لتنظر إليه بعجزٍ وهي تستجدي مشاعرًا إنسانية غير موجودة في شخصه المقيت:
-حرام عليك أنا أم.
رد عليها بصبرٍ نافد:
-كفاية بقى، إيه ما بتزهقيش؟
استندت على مرفقيها لتقوم وتواجهه مرة ثانية، فاض به الكيل من الجدال معها، لذا أنذرها للمرة الأخيرة:
-أحسنلك تمشي بدل ما أجيبلك الأمن وأبهدلك، أنا بكلمة مني أعلق رقبتك دي على حبل المشنقة، كفاية إني ساكت لحد دلوقتي على جرايمك!
نظرت إليه بعينين زائغتين، فعبارته الأخيرة تحمل تهديدًا خطيرًا، سألته لتستفهم منه عن مقصده:
-إنت بتقول إيه؟
ببساطة شديدة أخبرها:
-في ورق بتوقيعك يثبت إنك السبب في وفاة كام مريض أيام ما كنتي شغالة بالمستشفى.
أصاب عقلها الجمود للحظةٍ، لم تستوعب ما حدث لتتلقى اللوم عن شيء لم تقترفه من الأساس، فتساءلت في ذهولٍ مشوب بالخوف:
-ورق إيه؟ أنا معرفش حاجة عن الكلام ده!
حدجها بنظرة دونية وهو يقول بتشفٍ:
-اسألي "ممدوح"، ما هو اللي ورطك يا دكتورة.
مجددًا اندفعت تجاهه لتمسك بياقته وهي تصرخ فيه:
-إنت كداب!
استوقفها قبل أن تمسه بالإمساك بها من رسغيها، وصاح في ضيقٍ:
-مهما قولت مش هتصدقي، بس دي الحقيقة...
ثار عليها أكثر، ودفعها للخلف ليتخلص منها قائلًا:
-أنا أصلًا واقف بتكلم معاكي ليه؟
ارتمت تجاه الحائط، فارتطم ظهرها به بخشونةٍ، بالكاد حاولت الحفاظ على اتزانها لتلحق به قبل أن يغلق الباب وهي تهدر في التياعٍ::
-استنى يا "مهاب"، أنا عاوزة ابني!
صفقه بقوةٍ مانعًا إياها من الدخول، وصوته يلعنها:
-غوري في داهية.
ألصقت جسدها بالباب، وراحت تطرق عليه بقبضتها في غير يأس –وبكل ما أوتيت من قوةٍ- وهي تتوسله:
-افتح الباب يا "مهاب"، أرجوك ما تحرمنيش من ابني، أنا مستعدة أعمل أي حاجة علشان أكون جمبه.
حينما لم تجد أي تجاوبٍ منه، رفعت من نبرة صراخها الهيستري، مما سبب لـ "مهاب" المزيد من الفضائح، ناهيك عن الإزعاج المتواصل، فأصدر أوامره لأفرد الأمن للقدوم للتعامل معها بصرامة وقسوة، حيث قاموا بمحاصرتها، وجرها جرًا بعيدًا من محيط بيته، ليتم طردها خارج المبنى في شكلٍ مهين، ومع ذلك لم تكف عن القدوم يوميًا، وافتعال المشاحنات مع أفراد تأمين المكان، لتحظى بفرصة رؤية ابنها ولو للحظاتٍ، لينتهي بها المطاف محتجزة في المخفر، تعاني من الهذيان تمهيدًا لترحيلها نهائيًا إلى موطن رأسها.
.................................................
-يعني إيه الكلام ده يا دكتور؟ احنا مش فاهمين حاجة!
تساءل "عوض" بهذه الكلمات الجزلة وهو يتطلع إلى الطبيب المتخصص الذي تم إرســال ابنه الرضيع إليه ليقوم بالكشف الطبي عليه وإعلامه بعد تحاليل وفحوصات دقيقة عن طبيعة مرضه. بدا الطبيب جادًا رغم صوته الهادئ وهو ينظر إلى أهل الرضيع بشيءٍ من التعاطف عندما حادث الأب:
-للأسف ابنك مولود بعيب خلقي في القلب، ومحتاج تدخل جراحي علشان نقدر نعالج المشكلة دي، وإلا هتأثر عليه، ويمكن ...
تعذر عليه إكمال جملته، فقال بصوتٍ شبه خافت:
-يخسر حياته ويموت.
فزعت "فردوس" كليًا، وصارت ملامحها شاحبة، ألجمت الصدمة لسانها، فحملقت بعينين متسعتين إلى رضيعها، بينما انتفض "عوض" هاتفًا:
-ماتقولش كده يا دكتور، ده الأعمار بيد الله.
رد عليه بأسلوبه المهني:
-ونعم بالله، بس لازم ناخد بالأسباب!
حينما استفاقت من الصدمة هللت "فردوس" لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي، أل وأنا اللي فكرت إن الدنيا خلاص ضحكتلي، وهشوف الهنا!
نظر إليها زوجها للحظةٍ قبل أن يتوجه بسؤاله للطبيب:
-ودي تتكلف كتير يا دكتور؟
دون مراوغة أجابه بجوابٍ مقتضب وصريح:
-أيوه.
اختنقت الكلمات في صدر "عوض"، فلم يعرف ما الذي يجب عليه فعله وهو لا حول له ولا قوة، عاجزٌ عن تقديم أدنى مساعدة لإنقاذ رضيعه البريء من خطر الموت. بدا الطبيب مشفقًا عليه، فقال كنوعٍ من المؤازرة:
-اللي عايز كمان أقوله إن صعب العملية تتعمل وهو في السِن ده، فاحنا هننتظر لما يكبر شوية ونعملهاله، إنتو حاولوا خلال الفترة دي تدبروا المبلغ المطلوب.
تساءلت "فردوس"، وعيناها تغرقان في الدموع:
-واللي مش معاه يا دكتور يعمل إيه؟ يشوف ضناه بيموت قصاد عينيه؟
صمت قليلًا ليفكر قبل أن يقترح عليهما:
-يبقى مافيش قدامكم غير تقدموا طلب للعلاج على نفقة الدولة، وأنا هساعدكم في الإجراءات، وهشوف حد أعرفه يوصي عليكم كمان.
وكأنه منحهما بارقة من الأمل، فتساءل "عوض" في لهفةٍ:
-بجد يا دكتور؟
أومأ برأسه قائلًا بهذه البسمة الخفيفة، لعل وعسى تحدث المعجزة ويتم المساهمة في علاجه:
-اطمنوا، أنا هعمل اللي في وسعي، بس ضروري تتابعوا صحة ابنكم.
أبدى "عوض" استعداده الكامل لفعل كل ما يمليه عليه الطبيب طالما أنه يخدم في النهاية صالح الرضيع.
...........................................
على عكسه لم تؤمن "فردوس" بزمن المعجزات، والأفئدة الرحيمة، نظرتها إلى الحياة كانت سوداوية، مليئة بالسخط والنقم، فالبشر المحبين للمساعدة تلاشوا، وحل محلهم غلاظ القلوب، ذوي السلطة والنفوذ. سارت بجوار زوجها تضم رضيعها إلى صدرها، وعقلها شارد في الكارثة الجديدة التي حلت بالعائلة، همٌ جديد أضيف إلى جبل همومها الثقيلة، فهي لا تزال تُلقي بحمل رعاية طفلتها إلى جارتها الطيبة، فماذا عن ذلك المريض العاجز؟ عليها أن تتكفل بالاهتمام به بنفسها وإلا لفقدته، وهذا ما لا تريد التفكير فيه! تنهدت في أسى قبل أن تتكلم وهي تصعد الدرجات إلى بيتها:
-يا حسرة قلبي عليك يا ضنايا!
توقفت عن اعتلاء الدرج، والتفتت ناظرة إلى زوجها في يأسٍ لتسأله بتخبطٍ وحيرة:
-هنعمل إيه يا "عوض"؟ هنجيب فلوس منين؟
أجابها وهو محدقٌ أمامه:
-ربنا خلق الداء والدواء، وهو سبحانه مش هينسانا!
ابتسمت في سخرية مريرة، هم على هامش الحياة من الأساس، فكيف يكون على هذا القدر الكبير من الثبات واليقين، اكتفت بإشاحة عينيها عنه، وأكملت طريقها للأعلى، لتجد كتلة بشرية تفترش الأرض أمام عتبة الباب، وجهها مختبئ بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وشعرها المهوش يغطي على أي ملمح لوجهها. جزعت منها، وهتفت في تحفزٍ:
-الحق يا "عوض"، في واحدة نايمة قصاد باب بيتنا؟
تنبه زوجها لكلامها، وأسرع في خطاه بعدما أرجع زوجته للخلف هاتفًا بتحفظٍ:
-خليكي مكانك، أنا هشوف مين.
مدفوعًا بقليلٍ من القلق تقدم ناحية المرأة محنية الرأس يخاطبها في صوتٍ خشن:
-إنتي يا ست، بتدوري على حد هنا؟
من ورائه وقفت "فردوس"، وحاولت تبين ماهية هذه المرأة الدخيلة، حينما رفعت وجهها الذابل للأعلى، استحوذ الذهول المشوب بالصدمة على قسماتها، في التو تحركت ناحيتها لتنظر إليها عن قربٍ وهي تنادي في غير تصديقٍ:
-"تهــــــــــاني"!
بثيابٍ قديمة مهترئة، وقلب ممزق، ووجه لا يغطيه إلا صنوف القهر والهوان، استطردت هذه المكلومة الذليلة تتكلم بغير عقلٍ، وكأنه هو الآخر سلب منها، لتصير فاقدة لكل شيء تمنت الظفر به ذات يومٍ:
-خدوا مني عيالي، وفلوسي، ورموني في الشارع
قبل أن يعاني ويلات هذه الكسرة المهينة، هزمه بقــــسوة تخلي الأقرب إليه عنه، فأدرك وتدارك معنى أن يكون وحيدًا، في ذيل قائمة الاهتمامات، ومنسيًا بين أسرته، لم يكن مُصانًا بالدرجة الكافية التي جعلت عائلته تضعه فوق أي اعتبار، لم يجد والدته بجواره، ولا والده في محيطه، ليذودا عنه، ويوقفا بطش هذا الحقير النجس، الكل اختفى فجأة من المشهد، وكأنه وُلد يتيم الأبوين، بلا سند أو معين. تركه "ممدوح" وسط محيط وجعه الراسخ، وعلى وجهه علامات الألم والرعب، فقد تأكد أن تكون عقوبته ذات أثر مخيف وغير قابل للنسيان. راح يئن أنينًا خافتًا، جاهد لوأده، وكأنه يخشى إن ارتفع صوت بكائه أن يكتشف أحدهم ما تعرض له، حينها لن ينجو من هذا الشعور المذل أبدًا، بل سيلازمه حتى مماته!
اعتدل "أوس" من نومته المهينة، وبحث عما يغطي به جسده، فالتقط الملاءة، ولفها بيدين مرتعشتين حوله، قبل أن يهرع نحو باب الغرفة ليوصده من الداخل. لن يسمح لأي فرد بأن يرى آثار وحل القذارة الذي وقع فيه بممارسات زوج أمه اللعين عليه، بكى مع كل محاولة منه للسير بتؤدةٍ تجاه الحمام للاغتســال، أراد بشدة تطهير جسده من موضع لمساته المحرمة، لم يكترث إن كان الماء المنساب على بدنه باردًا، أم دافئًا، أم حتى حارقًا، المهم ألا يبقى أي أثر ليده عليه.
جروحه النفسية قبل البدنية لم ولن تندمل بسهولة، بل إن ندوبها الموحشة ستظل معالمها موجودة لتذكره على الدوام بأنه كان الضحية، المجني عليه، بأنه اُغتيل، وأعيد اغتيــاله في كل مرة كان يرى فيها هذا البغيض قبل أن يجهز عليه تمامًا في مرته الأخيرة.
اختلطت دموعه الحارقة بقطرات المياه، تعهد لنفسه بأن تكون آخر مرة يظهر فيها ذلك الضعف، لن يسمح لأحدهم بالمساس به، بالسير على حطامه، ودعسه كحشرة لا قيمة لها، سيخفي ذلك الجانب المخزي منه للأبد، وكأنه لم يكن من الأساس. أغلق الصنبور، وخرج مبتلًا وهو يلف جسده بهذه المنشفة الصغيرة، كان لا يزال يرتعش، وارتجف أكثر مع رؤيته للفراش، ذاك الذي شهد على لحظات نحـــــره، أغمض عينيه بعدما التف بظهره ليقول بصوتٍ مهتز ومختنق:
-ده كابوس، كابوس...
حاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي تفشت فيه، وأكد لنفسه:
-مافيش حاجة حصلت! مافيش!
اتجه بعدها إلى الدولاب وفتح الضلفة ليجد حقيبته التي أحضرها والده قبل عدة أيامٍ، فتش بداخلها عن ثيابه، تأوه من الوجع، فتنفس بعمقٍ ليكبت هذا الشعور المؤلم، ثم بدأ في ارتداء ملابسه على مهلٍ، رافضًا أن يكون جسده مكشوفًا لكائنٍ من كان!
لم يقوَ على الجلوس، ظل واقفًا أمام النافذة، يراقب بعينين خاليتين من الحياة، ومن خلف الستائر المنسدلة الفضاء الممتد على مرمى بصره، قست ملامحه، وأصبح أكثر جمودًا وصلابة، أخذ على نفسه ميثاقًا غليظًا، بألا يدع ما حدث يسيطر عليه، لن يجعل مشاعره تسوقه، وقلبه يقوده، بل لا مكان للعاطفة في حياته، آن الأوان ليطمر ما خاضه ذلك الطفل الضعيف المضطهد في التامور، ويحل كبديل عنه آخر مطابق في الصفات والسلوك لمن نجحوا في إفساده، المهم ألا يصبح كما كان سابقًا
لحظة لم يرغب في إضاعتها هباءً دون رؤية تأثيرها المحزن عليها، واظب "ممدوح" على زيارة زوجته في المشفى المحتجزة به، منتظرًا السماح له بزيارتها بعدما تم رفض طلبه لعدة مرات، خلال تلك الفترة تمكن كذلك من سحب ما احتفظت به من أموال في البنك ليصبح رصيدها صفرًا، كان لا يكف عن البحث عن أي وسائل يقهرها بها. حين جاء اليوم كان محظوظًا، فقد أخبره الطبيب أنها تقبلت خسارة الرضيعتين، وبدأت تتأقلم على الوضع الجديد، ومع ذلك هي بحاجة للمزيد من العون الأسري لتخطي هذه الفاجعة. أوهمه أنه قادرٌ على مساعدتها، فأعطاه الإذن للقاء بها.
تأملها "ممدوح" وهي ترقد على الفراش منكسة الرأس، ذابلة الوجه، تبدو نحيلة بشكلٍ ملحوظ، حتى شعرها بالكاد يكون مرتبًا بعد أن بذلت الممرضة مجهودًا لإجبارها على تمشيطه وتسويته؛ لكنه لم يكن معقودًا. ما إن رفعت نظرها للأعلى ووجدته قبالتها حتى خفق قلبها ونادته بلوعة المشتــاق:
-"ممدوح"!
رأى السواد الذي تشكل حول جفنيها، وكيف غارت عيناها لتبدو كواحدة أخرى غير تلك الندية البهية المفعمة بالأمل والحياة. فردت "تهاني" ذراعها أمامها آملة أن يمسك بيدها؛ لكنه ظل رابضًا في مكانه، ورافضًا الاقتراب منها، نادته مجددًا بنفس النبرة المليئة بالشوق والمغلفة بالحزن، ويدها لا تزال ممدودة إليه:
-"ممدوح"! تعالى جمبي، أنا محتاجاك!
ظل باقيًا في موضعه، يرمقها بنظرة خالية من الرأفة، ليسألها بعدها بصوت جاف:
-إحساسك إيه دلوقتي بعد ما ماتوا بناتي؟ مبسوطة؟
اتهاماته المجحفة في حقها كانت تزيد من لوعتها وإحساسها بالذنب، رغم أنها لم تتسبب في وفاتهما؛ لكن ظل هذا الشعور المرير يلازمها ليؤلمها طوال الوقت، رفعت يديها لتضعهما على أذنيها وهي تهز رأسها باستنكار، لتصرخ فيه بتوسلٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-حرام عليك كفاية، أنا قلبي موجوع على فراقهم، ملحقتش أشبع منهم، اتخدوا مني غدر.
لم تحبس دموعها، وأطلقت لها العنان لتسيل بغزارة وهي تكلمه:
-ولو أطول أرجع بالزمن عشان أخدهم في حضني تاني وآ...
قاطعها في صوتٍ جهوري أفزعها:
-كفاية أوهام، وكلام فارغ مالوش معنى!
تحجرت الدموع في عينيها خاصة وهو يتابع على نفس النهج القاسي، كأنما انتشل الحب من قلبه:
-بتقوليه بس علشان تصبري نفسك بيه...
هزت رأسها رافضة باستهجانٍ كبير ما يقوله، فزاد من وابل كلماته غير العطوفة بترديده غير الرحيم:
-إنتي ماتستاهليش تكوني أم!
شهقت في قهرٍ مصدوم، لم يأتِ ببالها أن يكون على هذه الدرجة من القسوة معها، أليست مثله تعاني من ألم الفقد والخسارة الغالية؟ تابع "ممدوح" بنظرة ازدراء مستحقرة:
-كانت غلطة لما وافقت أكمل معاكي.
أنهى جملته وقد تحرك صوبها ليمسك بها من ذراعها، ضغط بشراسة عليه، فتألمت من قوة ضغطته، استعطفته بنظراتها ليصدمها بقوله:
-إنتي تستحقي الموت بدل المرة ألف مرة.
لم تصدق أن مشاعرها المتيمة بها قد تبدلت فجـأة هكذا لتصبح كارهة لكل ما يخصها، وكأنه لم يعشقها يومًا! رجته بقلبٍ مفطور:
-"ممدوح"! ماتتكلمش كده.
لفظها بطريقة أوحت بأنه على وشك الاستغناء عنها، وأكد على ذلك حين خاطبها بوجهه الغائم:
-من اللحظة دي انسي إني أكون في حياتك...
انخلع قلبها وعصفت فيه عواصف الخوف، تلألأت الدموع في عينيها مجددًا وهو على وشك إخبارها:
-إنتي آ...
عادت الدنيا لتسود في عينيها، وتسارعت دقات قلبها، لم ترغب لذا قاطعته في رجاءٍ شديد:
-أوعى، ما تنطقهاش يا "ممدوح"، بلاش تظلمي، خليك سندي.
اعتبرها الملامة على ما حدث، المجرمة التي قضت عليه بسلبه أعز ما في الدنيا، لم يكن قد اكترث بأحدهم فيما مضى من حياته إلا عندما رزق بالتوأم، وجودهما أعاد إليه نبض الحياة وبهجتها، وها قد حُرم منهما. حدجها بنظرة أخرى أكثر كراهية ليردد بعدها بلا ندمٍ:
-إنتي طالق يا "تهاني"، طــــالق!
أذهلها بقراره، وجعلها تحدق فيه بعينين متسعتين، وكأن أحدهم قد سكب على رأسها وقودًا حارقًا، فجعل الموت يزورها بغتة، صرخت في غير تصديق:
-ليه يا "ممدوح"؟ ليه؟
لم يطق النظر في وجهها، ولم يبح لها بمسألة أخذ أموالها، تركها لها كمفاجأة أخرى قاسمة، أولاها ظهره ورحل، وصوت صراخها الهيستري والمفطور يهدر من ورائه؛ لكنه لم يكن كافيًا ليخمد النيران المشتعلة في قلبه، فهو خسر كل شيء دفعة واحدة، وغيره فاز بملذات الدنيا ومباهجها، لقد أقسم لنفسه ألا يتوانى أو يكف حتى يجعل رفيقه أيضًا يتذوق من نفس الكأس، فالرهان بينهما لا يزال قائمًا، وإن كان على حساب اللعب بأرواح الأبرياء!
بضعة أيام مرت بعد حادثته المشؤومة، كان يعامل فيها جميع من حوله بعجرفة وتسلط، وكأنه امتلك أمرهم، لجوئه لذلك كان بنية إخفاء هشاشته وكسره المخزي خلف حاجز وهمي صنعه لنفسه. عاد والده بعد غياب مريب، ليجد عشرات الشكاوي من الأطقم الطبية المكلفة برعاية صغيره تتمحور كلها في رفضه للتجاوب معهم. حينما ولج إليه في غرفته وجده واقفًا على قدميه، يقف عند نفس موضع النافذة والذي يتطلع منه للخارج، تنحنح "مهاب" بصوته الخشن ليلفت انتباهه لوجوده؛ لكنه لم يبرح مكانه، بدا وكأنه لم يسمعه مما أغاظه قليلًا، لهذا ناداه بنبرته الصارمة:
-"أوس"!
ببطءٍ وتكاسل أدار فقط رأسه لينظر إليه، فعاتبه "مهاب" بجديةٍ:
-إيه مافيش وحشتني يا بابا؟ وتيجي في حضني؟
وكأنه مجبر على السير إكرامًا لمنزلته، تحرك صوبه في خطواتٍ ثابتة، ونفذ ما طلبه دون أن يظهر في احتضانه إليه أي نوعٍ من المشاعر الدافئة، بل كان أقرب لأداء الواجب. تفقده والده بنظرة فاحصة قبل أن يعلق بروتينية:
-أنا شايف إنك بقيت أحسن.
رد عليه الصغير متسائلًا:
-هخرج من هنا إمتى؟
أتاه رده بنفس اللهجة الجادة:
-طالما أنا رجعت يبقى مالهاش لازمة الأعدة هنا...
هز رأسه في استحسان، فأكمل والده كلامه:
-على فكرة، الدكاترة بيشتكوا منك!
لم يعبأ بشكواهم، وظل على وضعه جامد التعبيرات، حاد النظرات، أضاف "مهاب" بعد زفرة سريعة:
-المفروض هما هنا علشان ياخدوا بالهم من صحتك، تقدر تقول هما موجودين مكاني.
عندئذ عقب "أوس" بعبارة قوية المعنى، وكأن فيها لومًا مستترًا على ما تعرض له في غيابه غير الطبيعي:
-محدش ينفع يبقى مكانك!
تفاجأ به يخاطبه بهذه الطريقة، وبلهجة تفوق عمره، فنظر له مدهوشًا للحظة، ابتسم وهو يداعب خصلات شعره قائلًا:
-معاك حق..
استحثه على السير معه تجاه باب الغرفة بعدما لف كتفيه، واستطرد متابعًا، ورنة من الفخر تسود كلماته:
-عارف، كلامك دلوقتي بيفكرني بجدك الله يرحمه، وأنا عايزك تبقى زيه...
انتصب "مهاب" بكتفيه للأعلى في زهوٍ، وأكمل بجديةٍ، كأنما يسدي له نصيحة ذهبية:
-راجل قوي، وليك هيبة، والكل بيخاف منك، وبيعملولك ألف حساب! ساعتها بس محدش هيقدر يقرب منك.
خُيل إليه أنه وجد فيما فاه به الحل المثالي لدرأ ما قد يناوشه من مشاعر الخوف إن التقى أو تصــادف مع من ألحق به الأذى. انتشله من لحظة شروده السريعة حديث أبيه القائل:
-احنا هنروح بيتنا الجديد، أنا أصلي نقلت في مكاني تاني أحسن.
لم يمانع ذلك، وارتضى بإحداث ذلك التغيير في حياته، فقد أراد الابتعاد عن كل ما حوله، ظل على صمته ووالده لا يزال يطلعه على المزيد من القرارات المُرتب لها مسبقًا:
-وبفكرك أوديك مدرسة برا تتعلم فيها.
توقع أن يثور عليه ويعترض مثلما عهد منه؛ لكنه للغرابة قابل رغبته بالإذعان:
-ماشي.
ضحك في فخرٍ، وبصوتٍ لافت، ليقول بعدها باعتزازٍ:
-إنت كده ابني "أوس الجندي"!
لأشهر متواصلة خاضت فيها حربًا ضروسًا لتتمكن من الحصول على أي معلومات مفيدة تمكنها من الوصول إلى ابنها بعدما أُخذ منها قسرًا، وحرمت من رؤياه. لم تهتم بوظيفتها التي خسرتها، ولا بالأموال التي سلبت من حسابها بغير معرفة منها، ولا باضطرارها للسكن في مكانٍ متواضع مع إحدى العاملات حتى تتدبر أمرها، كل ما أرادته هو استعادة ابنها الوحيد، معتقدة أن وجوده سيساعدها على إعادة لم شملها مع زوجها الذي طغى عليه حزنه، وغلبه فطلقها مرغمًا!
وصلت أخيرًا إلى مبتغاها، وعرفت أين يقيم صغيرها في الوقت الحالي؛ لكن تعذر عليها الدخول مباشرة دون مواجهة أفراد الأمن المتواجدين عند المدخل، لذا كان عليها التريث حتى تتمكن من الصعود. بعد مراقبة حثيثة لوقت طويل، استطاعت التسلل خلسة إلى البناية التي يقطن بها الجراح الشهير، وبحثت بعينين متلهفتين عن باب منزله، طرقته وقد تحفزت كليًا للقاء صغيرها، لسوء حظها كان "مهاب" متواجدًا ببيته، فتفاجأ برؤيتها، ومنعها من الدخول ليخبرها بصرامةٍ، وبلهجةٍ لا ترد:
-اعتبري ابنك مات!
انتفضت منقضة عليه، وأمسكت به من ياقتي قميصه لتهزه في انفعال، وصراخها الغاضب يصدح في الأرجاء:
-إنت بتقول إيه؟ أنا ابني عايش، وهاخده في حضني.
غرز أظافره في كفيها ليخمشهما عن قصدٍ، فتألمت من الوجع المباغت ليقوم بعدها بإبعادها عنه ودفعها للخلف وهو ينهرها بغلظةٍ، وإصبعه موجه إليها:
-إنتي مالكيش ابن، ويالا امشي من هنا!
استعر داخلها كمدًا منه، فهاجت تهدده في عصبيةٍ مبررة:
-إنت مفكر نفسك مين؟ ابني هعرف أخده بالقانون، ومش هتقدر تحرمني منه.
ردد في استخفاف ساخر:
-قانون؟!
أكدت بقوةٍ وكأنها تثبت له أنها لم تعد ترتعد منه أو تخشاه:
-أيوه.
نظر لها بعينين تطقان شررًا، وسألها في استحقارٍ:
-إنتي مجنونة ولا حاجة؟
ثم لوح بإصبعه صعودًا وهبوطًا على طول جسدها وهو يستكمل في نبرة مهينة:
-مش شايفة منظرك عامل إزاي؟
هيئتها العامة كانت شبه مزرية، تؤكد على فقرها، على كونها معدمة، لا تملك شيئًا، ومع هذا ردت بعزة نفس كانت قد تناستها معه:
-مش فارق معايا، أنا هصرف كل ما أملك علشان أرجع ابني لحضني.
أطلق ضحكة قصيرة هازئة ومغيظة لها، ليعلق بعدها في تهكمٍ محقر من شأنها:
-معقولة لسه مصدقة إن معاكي فلوس؟ ده إنتي شحاتة!
قطبت جبينها، وعبست بكامل ملامحها، وقبل أن تنطق بشيءٍ أضاف على نفس ذات المنوال:
-شكلك لسه عايشة في جنانك، ده "ممدوح" خلاكي على البلاطة يا هانم!
صدمها كليًا، فآمالها كانت معقودة –وبقوةٍ- على استعادة زوجها بمجرد نجاحها في استرداد ابنها، آمنت أنها قادرة على تجميع أسرتها مرة ثانية، استفاقت من ذهولها اللحظي، وهتفت تستنكر ما اعتبرته اتهامًا باطلًا:
-"ممدوح"!! استحالة يعمل كده، ده بيحبني.
ضحك مرة ثانية في استهزاء أكثر استفزازًا، ليخبرها بعدها:
-خليكي عايشة في الأوهام دي، هو اتجوزك بأمر مني، وطلقك لأنه مابقاش طايق يبص في خلقتك.
لم يكن الأمر مجرد مزحة سخيفة منه قالها لإغاظتها، بل بدا جديًا للغاية وهو يؤكد لها بحقائق غير مشكوك فيه:
-جايز اللي كان مصبره عليكي حملك في البنات، بس خلاص هما ماتوا، وإنتي بقيتي مالكيش لازمة.
تحطمت أحلامها على صخرة الواقع القاسية، فصرخت في صوتٍ منفعل:
-اسكت، "ممدوح" مش كده!
رد عليها في نبرته المتهكمة:
-إنتي اللي غبية، وصدقتي إن في حد بيحبك، على إيه؟ إنتي كنتي مجرد صيدة سهلة، وتسلية.
جرحها بنصل كلماته القاسية، فاندفعت مرة أخرى تجاهه لتضربه في صدره وهي تنعته بغضبٍ متصاعد:
-إنت مش بني آدم!
لكزها في ذراعها محذرًا إياها بغير تساهلٍ، وبنظرة يسودها العداء:
-نزلي إيدك بدل ما أقطعهالك.
هتفت متحدية جبروته بإصرارٍ:
-معدتش يهمني، أنا مش همشي من هنا إلا وابني معايا!
في تلك الأثناء، خرج الصغير "أوس" من غرفته على إثر الأصوات المتشاحنة، تفاجأ بوجود أمه على عتبة باب المنزل، هتف في ذهولٍ، ووجهه يكسوه هذا التعبير المصدوم:
-ماما!
وكأن وهج الحياة النابض قد عاد إليها دفعة واحدة، فما إن سمعت صوته العذب والذي يتحرَّق إليه قلبها حتى صاحت بلوعةٍ أموميةٍ شديدة:
-"أوس"، حبيبي، أنا هنا يا ابني!
نظر إليها مليًا وهو لا يزال على صدمته، تقدم تجاه الباب متسائلًا:
-إنتي لسه عايشة؟
في التو اشتاطت غضبًا لكون أبيه قد احتال عليه وأخبره كذبًا أنها فارقت الحياة، استنكرت بشدته حيلته القذرة، وهدرت به:
-كمان مفهم ابني إني مُت؟
انزعج "مهاب" لقدوم ابنه في هذا التوقيت، لم يحبذ ظهوره بمظهر المخادع أمام ابنه، لذا استدار بجسده مشكلًا حاجزًا صلدًا أمامها، ومواجهًا صغيره ليخاطبه في لهجته الآمرة:
-خش أوضتك يا "أوس"!
رغم مشاعر التبلد والجمود التي صارت متغلغلة فيه مؤخرًا، إلا أن اللقاء بوالدته أعطاه دفقة من الشعور بالأمان، والرغبة في البوح بأبشع أسراره وأكثرها وحشية، لعل ذلك الغليان المستعر بداخله يخبت. في صوتٍ حانٍ ومملوء بالشجن هتف "أوس":
-ماما، إنتي عايشة بجد؟
تقافز الغضب في وجه "مهاب"، وأمسك بابنه من كتفه ليسحبه للداخل وهو يوبخه:
-إنت مابتسمعش الكلام ليه؟ مش قولتلك ادخل جوا!!
قاومه الصغير قائلًا بعنادٍ:
-أنا عايز ماما.
هلل "مهاب" مناديًا بأعلى نبرته:
-"ناريمـــان"، تعالي بسرعة، وخدي "أوس" من هنا.
جاءت على صوت ندائه ومعها الخادمة، لتحل عليها الدهشة المختلطة بقدرٍ من الفزع، خاصة عندما رأت "تهاني" أمامها، ارتجف بدنها، وتلبكت، فأمرها "مهاب" بلهجته الصارمة:
-دخلي "أوس" أوضته.
تغلبت على مخاوفها التي انعكست على ملامحها، وهتفت تعنف الصغير:
-إنت خرجت من أوضتك ليه؟
نظر لها "أوس" بعينين حانقتين، وهتف معاندًا:
-أنا عايز ماما.
تعاونت مع الخادمة لجره بعيدًا رغم كل ما أبداه من مقاومة واحتجاج؛ لكنهما في الأخير نجحتا في إعادته لغرفته واحتجازه بها. صراع القوة وفرض السلطة كان جليًا نصب عينيها أثناء إجبار وحيدها على الافتراق عنها، ارتمت "تهاني" عند قدمي "مهاب"، أمسكت ببنطاله، وتوسلته بقلبٍ محترق:
-رجعلي ابني، ماتحرمنيش منه، معدتش فاضلي في الدنيا إلا هو!
ركلها بساقه ليطرحها أرضًا وهو ينذرها بحدةٍ:
-قولتلك شيليه من حساباتك.
تألمت من السقطة العنيفة، ووضعت يدها على موضع الألم، لتنظر إليه بعجزٍ وهي تستجدي مشاعرًا إنسانية غير موجودة في شخصه المقيت:
-حرام عليك أنا أم.
رد عليها بصبرٍ نافد:
-كفاية بقى، إيه ما بتزهقيش؟
استندت على مرفقيها لتقوم وتواجهه مرة ثانية، فاض به الكيل من الجدال معها، لذا أنذرها للمرة الأخيرة:
-أحسنلك تمشي بدل ما أجيبلك الأمن وأبهدلك، أنا بكلمة مني أعلق رقبتك دي على حبل المشنقة، كفاية إني ساكت لحد دلوقتي على جرايمك!
نظرت إليه بعينين زائغتين، فعبارته الأخيرة تحمل تهديدًا خطيرًا، سألته لتستفهم منه عن مقصده:
-إنت بتقول إيه؟
ببساطة شديدة أخبرها:
-في ورق بتوقيعك يثبت إنك السبب في وفاة كام مريض أيام ما كنتي شغالة بالمستشفى.
أصاب عقلها الجمود للحظةٍ، لم تستوعب ما حدث لتتلقى اللوم عن شيء لم تقترفه من الأساس، فتساءلت في ذهولٍ مشوب بالخوف:
-ورق إيه؟ أنا معرفش حاجة عن الكلام ده!
حدجها بنظرة دونية وهو يقول بتشفٍ:
-اسألي "ممدوح"، ما هو اللي ورطك يا دكتورة.
مجددًا اندفعت تجاهه لتمسك بياقته وهي تصرخ فيه:
-إنت كداب!
استوقفها قبل أن تمسه بالإمساك بها من رسغيها، وصاح في ضيقٍ:
-مهما قولت مش هتصدقي، بس دي الحقيقة...
ثار عليها أكثر، ودفعها للخلف ليتخلص منها قائلًا:
-أنا أصلًا واقف بتكلم معاكي ليه؟
ارتمت تجاه الحائط، فارتطم ظهرها به بخشونةٍ، بالكاد حاولت الحفاظ على اتزانها لتلحق به قبل أن يغلق الباب وهي تهدر في التياعٍ::
-استنى يا "مهاب"، أنا عاوزة ابني!
صفقه بقوةٍ مانعًا إياها من الدخول، وصوته يلعنها:
-غوري في داهية.
ألصقت جسدها بالباب، وراحت تطرق عليه بقبضتها في غير يأس –وبكل ما أوتيت من قوةٍ- وهي تتوسله:
-افتح الباب يا "مهاب"، أرجوك ما تحرمنيش من ابني، أنا مستعدة أعمل أي حاجة علشان أكون جمبه.
حينما لم تجد أي تجاوبٍ منه، رفعت من نبرة صراخها الهيستري، مما سبب لـ "مهاب" المزيد من الفضائح، ناهيك عن الإزعاج المتواصل، فأصدر أوامره لأفرد الأمن للقدوم للتعامل معها بصرامة وقسوة، حيث قاموا بمحاصرتها، وجرها جرًا بعيدًا من محيط بيته، ليتم طردها خارج المبنى في شكلٍ مهين، ومع ذلك لم تكف عن القدوم يوميًا، وافتعال المشاحنات مع أفراد تأمين المكان، لتحظى بفرصة رؤية ابنها ولو للحظاتٍ، لينتهي بها المطاف محتجزة في المخفر، تعاني من الهذيان تمهيدًا لترحيلها نهائيًا إلى موطن رأسها.
.................................................
-يعني إيه الكلام ده يا دكتور؟ احنا مش فاهمين حاجة!
تساءل "عوض" بهذه الكلمات الجزلة وهو يتطلع إلى الطبيب المتخصص الذي تم إرســال ابنه الرضيع إليه ليقوم بالكشف الطبي عليه وإعلامه بعد تحاليل وفحوصات دقيقة عن طبيعة مرضه. بدا الطبيب جادًا رغم صوته الهادئ وهو ينظر إلى أهل الرضيع بشيءٍ من التعاطف عندما حادث الأب:
-للأسف ابنك مولود بعيب خلقي في القلب، ومحتاج تدخل جراحي علشان نقدر نعالج المشكلة دي، وإلا هتأثر عليه، ويمكن ...
تعذر عليه إكمال جملته، فقال بصوتٍ شبه خافت:
-يخسر حياته ويموت.
فزعت "فردوس" كليًا، وصارت ملامحها شاحبة، ألجمت الصدمة لسانها، فحملقت بعينين متسعتين إلى رضيعها، بينما انتفض "عوض" هاتفًا:
-ماتقولش كده يا دكتور، ده الأعمار بيد الله.
رد عليه بأسلوبه المهني:
-ونعم بالله، بس لازم ناخد بالأسباب!
حينما استفاقت من الصدمة هللت "فردوس" لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي، أل وأنا اللي فكرت إن الدنيا خلاص ضحكتلي، وهشوف الهنا!
نظر إليها زوجها للحظةٍ قبل أن يتوجه بسؤاله للطبيب:
-ودي تتكلف كتير يا دكتور؟
دون مراوغة أجابه بجوابٍ مقتضب وصريح:
-أيوه.
اختنقت الكلمات في صدر "عوض"، فلم يعرف ما الذي يجب عليه فعله وهو لا حول له ولا قوة، عاجزٌ عن تقديم أدنى مساعدة لإنقاذ رضيعه البريء من خطر الموت. بدا الطبيب مشفقًا عليه، فقال كنوعٍ من المؤازرة:
-اللي عايز كمان أقوله إن صعب العملية تتعمل وهو في السِن ده، فاحنا هننتظر لما يكبر شوية ونعملهاله، إنتو حاولوا خلال الفترة دي تدبروا المبلغ المطلوب.
تساءلت "فردوس"، وعيناها تغرقان في الدموع:
-واللي مش معاه يا دكتور يعمل إيه؟ يشوف ضناه بيموت قصاد عينيه؟
صمت قليلًا ليفكر قبل أن يقترح عليهما:
-يبقى مافيش قدامكم غير تقدموا طلب للعلاج على نفقة الدولة، وأنا هساعدكم في الإجراءات، وهشوف حد أعرفه يوصي عليكم كمان.
وكأنه منحهما بارقة من الأمل، فتساءل "عوض" في لهفةٍ:
-بجد يا دكتور؟
أومأ برأسه قائلًا بهذه البسمة الخفيفة، لعل وعسى تحدث المعجزة ويتم المساهمة في علاجه:
-اطمنوا، أنا هعمل اللي في وسعي، بس ضروري تتابعوا صحة ابنكم.
أبدى "عوض" استعداده الكامل لفعل كل ما يمليه عليه الطبيب طالما أنه يخدم في النهاية صالح الرضيع.
...........................................
على عكسه لم تؤمن "فردوس" بزمن المعجزات، والأفئدة الرحيمة، نظرتها إلى الحياة كانت سوداوية، مليئة بالسخط والنقم، فالبشر المحبين للمساعدة تلاشوا، وحل محلهم غلاظ القلوب، ذوي السلطة والنفوذ. سارت بجوار زوجها تضم رضيعها إلى صدرها، وعقلها شارد في الكارثة الجديدة التي حلت بالعائلة، همٌ جديد أضيف إلى جبل همومها الثقيلة، فهي لا تزال تُلقي بحمل رعاية طفلتها إلى جارتها الطيبة، فماذا عن ذلك المريض العاجز؟ عليها أن تتكفل بالاهتمام به بنفسها وإلا لفقدته، وهذا ما لا تريد التفكير فيه! تنهدت في أسى قبل أن تتكلم وهي تصعد الدرجات إلى بيتها:
-يا حسرة قلبي عليك يا ضنايا!
توقفت عن اعتلاء الدرج، والتفتت ناظرة إلى زوجها في يأسٍ لتسأله بتخبطٍ وحيرة:
-هنعمل إيه يا "عوض"؟ هنجيب فلوس منين؟
أجابها وهو محدقٌ أمامه:
-ربنا خلق الداء والدواء، وهو سبحانه مش هينسانا!
ابتسمت في سخرية مريرة، هم على هامش الحياة من الأساس، فكيف يكون على هذا القدر الكبير من الثبات واليقين، اكتفت بإشاحة عينيها عنه، وأكملت طريقها للأعلى، لتجد كتلة بشرية تفترش الأرض أمام عتبة الباب، وجهها مختبئ بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وشعرها المهوش يغطي على أي ملمح لوجهها. جزعت منها، وهتفت في تحفزٍ:
-الحق يا "عوض"، في واحدة نايمة قصاد باب بيتنا؟
تنبه زوجها لكلامها، وأسرع في خطاه بعدما أرجع زوجته للخلف هاتفًا بتحفظٍ:
-خليكي مكانك، أنا هشوف مين.
مدفوعًا بقليلٍ من القلق تقدم ناحية المرأة محنية الرأس يخاطبها في صوتٍ خشن:
-إنتي يا ست، بتدوري على حد هنا؟
من ورائه وقفت "فردوس"، وحاولت تبين ماهية هذه المرأة الدخيلة، حينما رفعت وجهها الذابل للأعلى، استحوذ الذهول المشوب بالصدمة على قسماتها، في التو تحركت ناحيتها لتنظر إليها عن قربٍ وهي تنادي في غير تصديقٍ:
-"تهــــــــــاني"!
بثيابٍ قديمة مهترئة، وقلب ممزق، ووجه لا يغطيه إلا صنوف القهر والهوان، استطردت هذه المكلومة الذليلة تتكلم بغير عقلٍ، وكأنه هو الآخر سلب منها، لتصير فاقدة لكل شيء تمنت الظفر به ذات يومٍ:
-خدوا مني عيالي، وفلوسي، ورموني في الشارع
تمت بحمد الله