
قبضت حكمت على يد ابنتها بعنف بينما ارتجفت دهب كغصن هش تلاعبت به رياح عاتية، وقد تلبستها رهبة نظرات والدتها الساخطة، تلك النظرات التي تحمل قسوة تكفي لتهدم قلبًا ضعيفًا، ارتفع صوت حكمت غليظًا كالسوط يخترق السكون:
-بقولك يا بت انطقي، شبكة خالتك بتعمل إيه عندك يا بت؟ سرقتيها؟!
شهقت دهب بخوفٍ بالغ وقد عجزت عن إيجاد مبررٍ يقنع والدتها تلك التي من الصعب إرضاؤها أو صرف غضبها، فتمتمت بنبرة باكية متقطعة كأنفاسها المرتعشة:
-أسرق إيه يا ماما؟ انتي تعرفي عني كده، ده...ده...
لكن حكمت لم تترك لها فرصة فقطعتها بحدةٍ كالسيف وهي تهزها بقوة تكاد تُفتت عظامها:
-ده إيه؟! انطقي بسرعة، عشان مقطعش خبرك دلوقتي.
ابتلعت دهب ريقها بصعوبة تبحث عن خلاصٍ من ورطتها، وعندما وقعت عيناها على حقيبة سيرا، تنفست الصعداء فأشارت إليها برجاءٍ مذعور:
-أنا ماعرفش حاجة عن الشبكة، بس الشنطة أنا كنت طلبتها من خالتو سيرا وهي ادتهالي...
ثم التفتت بسرعة نحو الشبكة فوجدت في إهمال سيرا الشهيرة به حبل نجاة، فاستطردت بنبرة مرتجفة ممزوجة بذكاء فطري:
-شـ...شوفتي إهمال خالتو سيرا، حاطة شبكتها في الشنطة وناسية وادتهالي، افرض بقى كانت وقعت ولا واحدة صاحبتي فتحتها من ورايا وسرقتها يالهوي يا ماما، الحمد لله يارب.....الحمد لله بجد.
رغم توتر الموقف بدت حجتها مقنعة بعض الشيء، خاصة حين عزفت على وتر إهمال سيرا المعروف، ولكن حكمت لم تهدأ بل جذبتها خلفها وهي تقول بأمرٍ صارم:
-انجري ورايا، خلينا نطلع لخالتك الاول نسألها.
ارتبكت دهب أكثر وتراجعت خطواتها المرتعشة تتوسل وهي تلحق بها:
-ليه يا ماما انتي مش مصدقاني؟!
أجابتها حكمت بعصبية وهي تشق طريقها:
-لا مصدقاكي بس سيرا لازم تتهزق وتعرف نتيجة إهمالها، دي كانت هتودينا في داهية، في حد يحط شبكة غالية زي دي في شنطة؟!
حاولت دهب أن تُلين قلبها قائلة بخوفٍ متوسل:
-طيب اهدي يا ماما بلاش تزعيلها، ابقي فهميها بعدين براحة، مش لازم وكله موجود فوق.
لكن حكمت لم تُعرها اهتمامًا فقط زجرتها بعنف:
-بس يا بت مالكيش دعوة انتي.
اندفعت إلى داخل شقة والدها دون استئذان، والخطى الغاضبة تُعلن قدومها قبل أن يظهر وجهها، بينما تتبعها دهب بخوفٍ كاد يُسقطها على الأرض من تعثرها، فتحت حكمت باب غرفة سيرا فجأة وهي تصيح بغضبٍ مكتوم بالكثير من الاتهامات:
-سيرا...انتي اديتي البت دهب شنطتك دي؟
ارتبكت سيرا التي كانت جالسة على فراشها تتحدث مع فاطمة في شأنٍ فايق، فأغلقت المكالمة سريعًا تتطلع بذهول إلى الحقيبة التي ترفعها حكمت عالياً، حاولت التذكر لكن ذهنها كان مضطربًا فقالت بارتباك:
-لا مديتهاش حاجة.
توسعت عينا دهب رعبًا ثم تقدمت بخطواتٍ مترددة نحو خالتها، وأشارت إلى الحقيبة بخوفٍ يتخلله الاستعطاف:
-لا إيه يا خالتو؟ صلي على النبي كده وافتكري، مش أنا كنت طلبت منك شنطة شكلها حلوة وانتي قولتيلي خدي دي.
هزت سيرا رأسها بعجزٍ وقالت بتيهٍ ظاهر:
-مش فاكرة خالص.
حينها انفجرت حكمت كبركانٍ ثائر تصرخ بنبرة عالية جذبت أهل البيت جميعًا:
-مش فاكرة يعني مهملة ومستهترة، اديتي البت الشنطة وانتي حاطة فيها شبكتك وأنا والبت اتفاجئنا بالشبكة فيها، افرض كانت وقعت من البت في الدروس ولا اتسرقت، ده كله عشان إهمالك يا هانم في حد بيحط شبكة غالية كده في شنطة؟!
هرعت والدة سيرا وقد علت وجهها ابتسامة ارتياح وهي تلتقط الشبكة بيديها تتحقق منها:
-مش مشكلة يا حكمت المهم إننا لقيناها، روحي يا فريال قولي لابوكي ده هيفرح اوي.
لكن كلماتها زادت من غضب حكمت التي صاحت بحنق:
-هو إيه اللي مش مشكلة يا ماما؟! دي مصيبة بنتك كده مش هينفع تفتح بيت ولا تتحمل مسؤولية.
اشتعلت سيرا غضبًا وقد ضاق صدرها بحدة أختها، فردت بنبرة عصبية:
-أبلة لو سمحتي ماتكلمنيش كده، أنا حقيقي مش فاكرة إن قولت لدهب خدي الشنطة دي، أنا أصلاً كنت قالبة الدنيا عليها، وبعدين أنا عمري ما حطيت دهبي في شنطة.
انتفضت حكمت وعينيها تقدحان شررًا:
-يعني إيه يا سير؟! بنتي حرامية ولا إيه؟ ما تاخدي بالك من كلامك.
تدخلت كريمة مسرعة محاولة تهدئة الوضع:
-اهدي يا أبلة، أكيد سيرا ماتقصدش...
ثم التفتت نحو سيرا توجه عتابها بنبرة هادئة:
-وبعدين يا سيرا انتي أصلاً مابتركزيش، وأنا سمعتك قبل كده بتقولي لدهب لو عايزة حاجة منك تاخدها من الاوضة، فتلاقي دهب اتصرفت بعفوية ودخلت أخدتها....بس بردو انتي مينفعش تحطي شبكة بالمبلغ ده في شنطتك.
صرخت سيرا بإصرارٍ ممتزج بالحيرة:
-والله كنت حاطها في الدرج بتاعي والله عمري ما حطيتها في أي شنطة.
فجاء صوت فريال هادئًا كالنسيم:
-معلش يا سيرا اهدي الحمد لله لاقينها، ووارد تكوني نسيتي وحطيتها بس بعد كده ابقي ركزي.
لم تستطع سيرا أن تتحكم بانفعالاتها فانهارت باكية بانفجارٍ موجع، وهي تكرر عباراتها بإصرارٍ كالغريق الذي يتمسك بآخر قشة:
-أنا مانستش ومش مهملة، محدش عايز يصدقني ليه يا ماما؟
كانت كلماتها تنبعث من بين شهقات متقطعة، محملة بثقلٍ يفوق طاقتها وهي تشعر أن الجميع يطوقها بالاتهامات، بينما قلبها يضج برعبٍ أعمق من ذلك، رعبٍ من فايق وما فعله معها ومن صورته التي تطاردها في كل زاوية، فلا تجد ملجأً لتستجير به، أحست أنها محاصرة من الخارج بعائلتها، ومن الداخل بأشباح الخوف والعار وكأنها في سجنٍ بلا جدران.
أما والدتها فقد وقفت عاجزة في المنتصف، عيناها تتحركان بين سيرا المنهارة وحكمت الثائرة، قلبها يتقطع حزنًا لرؤية ابنتها الصغرى غارقة في هذا البحر من الاتهامات واليأس، لكنها في الوقت نفسه ترتجف من مواجهة حكمت التي لا تعرف اللين في كلامها.
وفجأة انشق صراخ هادر كالرعد أطلقه عبود وهو يقتحم الدائرة ممسكًا بمرفق سيرا بعنف يهزها هزًا، ووجهه يقطر غضبًا وجنونا بينما يشير بالهاتف أمام الجميع:
-إيه الصور دي يا سيرا؟ إيه الصور دي؟
ظل يكرر الجملة بصوتٍ مبحوح كالمجنون، يضغط على الكلمات وكأنها طعنات متوالية، حتى بدا أنه فقد السيطرة على نفسه، دفع أخته الكبرى بعنفٍ لم يألفه أحد منه وكأن الدم قد فار منه عقلاً وقلبًا.
وقف قاسم بجانب والده ساكتًا، لكنه يرمق سيرا بنظراتٍ مشبعة بالاتهام، نظراتٍ لا تقل قسوة عن ضربات عبود، وما لبثت أن امتدت يد حكمت لتخطف الهاتف من يد عبود، وحين وقعت عيناها على ما فيه خرجت منها صرخة مدوية مزقت صمت المكان:
-يا نهار أسود، يا نهار أسود ومنيل بستين نيلة، دي فضيحة أكيد الصور دي مش حقيقية ايوة أكيد مش حقيقية مش صح يا بت يا سيرا؟
ارتجف الحاضرون جميعًا بينما سيرا تتراجع إلى الخلف كمَن تلقى طعنة غادرة، وهنا تدخل صافي زوج حكمت بصوتٍ غاضب يحمل شيئًا من الدفاع، لكنه لا يخلو من المرارة:
-فايق اتجنن على الآخر وصل به الندالة أنه يفبرك صور ويبعتها للمنطقة كلها.
كانت الكلمات تسقط في قلب سيرا كالماء فوق جمر، لكنها لم تطفئ النار بل زادتها اشتعالًا، لم تستطع أن تصدق ما تراه عيناها صور محترفة التُقطت بخبثٍ يظهرها وكأنها تعيش قصة حب محرمة في الظل، الآن فقط انكشف أمامها سر تلك المقابلة المشؤومة وتهديداته الثقيلة التي كان يرميها في وجهها كقنابل ليشغلها عن نواياه المظلمة.
رفعت رأسها تنظر إلى من حولها؛ إلى أزواج أخواتها الذين يرمقونها بعيونٍ مليئة بالريبة والخذلان، وإلى عبود الذي جلس منهارًا إلى جوارها يلهث بأنفاس عالية، أما والدها فبقي واقفًا عيناه غامضتان كأبوابٍ مغلقة، لا يُدرى إن كان في داخله نار غضبٍ أم صخور خيبة، بينما والدتها لم تحتمل المشهد فانهارت على مقعدٍ قريب، واضعة كلتا يديها فوق رأسها تتأرجح يمينًا ويسارًا، تتحدث بعبارات لم يفهمها أحد سوى أنها تعكس حجم الكارثة.
عم الصمت المكان كأن الزمن توقف لكن قاسم فجر قنبلة جديدة بكلماته التي حملت اتهامًا صريحًا:
-بس الهدوم اللي موجودة في الصورة نفس الهدوم اللي انتي لابساها، انتي شوفتي فايق؟
ارتجفت سيرا وشحب وجهها كمَن سُحبت منه الدماء، صمتٌ طويل لفها، صراع داخلي يمزقها بين الاعتراف والكذب، فهي إن قالت "نعم" ربما يصدقون الصور، وإن أنكرت سيظل الشك قائمًا ويؤكد في أعينهم الجريمة، لم يعد ثمة مهرب الطريقان كلاهما يؤديان إلى الهاوية.
فانفجر صوت والدها صارمًا كالرعد القاصف يقتلعها من صمتها:
-ردي شوفتي فايق؟ والصور دي حقيقية؟!
انتفض جسدها كله وانحنت بخوف، ثم أومأت برأسها إيجابًا بعد ترددٍ طويل، وتلعثمت كلماتها كأنها تخرج من بين شظايا:
-اه شوفته وأنا جاية من عند فاطمة، لقيته في المدخل مستنيني وأنا ماعرفش...
لكنها لم تُكمل إذ جاء رد والدها أسرع من أنفاسها؛ صفعة قاسية اخترقت وجنتها وألقتها إلى هاوية الذل بينما صوته يهدر كالجلاد:
-يعني سمحتيله يقرب منك كده؟ يا خسارة تربيتي فيكي، يا خسارة تربيتي فيكي، فضحتينا.
شهق الجميع وقد جمدت الدماء في عروقهم من هول ما رأوا، فلم يكن أحد يظن أن حسني الذي كان يحمل سيرا في قلبه كأقرب بناته إليه وأكثرهن دلالًا قد يمد يده عليها يومًا.
خيم الصمت ثقيلاً كالكفن، لم يتنفس أحد وكأن الأنفاس تجمدت في الصدور، أما سيرا فقد بقيت ترتجف والدموع تسيل على وجهها تبحث بين العيون المحيطة بها عن حضنٍ يأويها فلم تجد، وحدها حكمت رغم قسوتها اقتربت لتضمها بين ذراعيها بينما انسلت الأجساد من حولها واحدًا تلو الآخر تاركين إياها وحيدة وسط الزلزلة.
في تلك اللحظة لم تستطع سيرا أن تردد سوى جملة واحدة خرجت منها بلا وعي كصرخة مكتومة في وجه الظلم:
-معملتش حاجة غلط.....والله معملتش حاجة غلط.
كانت كلمات سيرا تتساقط في الفراغ كحبات مطرٍ تضيع في صحراء قاحلة؛ فلا تجد أذنًا تصغي إليها، ولا قلبًا يصدقها إلا حكمت التي بقيت تضمها إلى صدرها تربت فوق ظهرها بيدٍ حانية، حتى كادت أن تبكي معها، فقد كان بكاء سيرا يشبه بكاء الأطفال المذعورين، عالياً متقطعًا، لا يخلو من عجز، فقالت حكمت بحزن حقيقي والدمع يترقرق في عينيها:
-بس يا بت بقى، قلبي واجعني والله.
رفعت سيرا وجهها المبلل بالدموع تحدق في أختها بحرقة بعينين تملؤهما رجاءات يائسة:
-أنا ماعملتش حاجة غلط والله يا أبلة، انتي مصدقاني ولا زيهم؟
لكن يدًا أخرى باغتتها وما كانت سوى يد والدتها التي اندفعت إلى الغرفة فجأة تجذبها من أحضان حكمت بعنفٍ وهي تهدر بصوتٍ غاضب:
-المنطقة كلها بتتكلم عليكوا وبيقولوا إنك مواعداه، وإنك بتجري وراه واحنا غصبناكي تتخطبي لواحد تاني.
التفتت حكمت إلى والدتها مبهوتة من كلامها وقالت باستنكارٍ عميق:
-إيه التخلف ده يا ماما؟ مين اللي بيقول كده وأنا اقطع لسانه.
ظهرت شاهندا على عتبة باب الغرفة تقبض بيدها على الإطار الخشبي وقالت بارتباك:
-أعمامك وقرايب بابا اتصلوا عليه ومستغربين اللي بيحصل!
ازدادت حدة الأم وصرخت بعنف وهي تهز سيرا من كتفيها:
-انطقي وقولي إيه اللي حصل ابوكي هيتجنن هيجراله حاجة.
عندها انفجرت سيرا في بكاءٍ مروع وحنجرتها تختنق بالكلمات وهي تسرد ما حدث، تحكي عن تهديدات فايق وعن السكين الذي صوبه نحوها كي يرغمها على الصمت والرضوخ إليه، كأنها تُخرج غصة مسمومة من صدرها، فارتجفت حكمت من وقع الكلمات ثم صاحت بغضبٍ:
-يا ابن الـ **** هو فاكر إيه؟ إننا مش هنعرف نوقف له وربي ما أنا ساكتة لنازلة وجايباه هو وعيلته الارض.
اندفع الجميع لإيقافها لكن الغضب كان يعمي بصرها، لم تنظر في وجوههم بل جذبت سكينًا من فوق المائدة وانطلقت تهبط السلم بخطوات صاخبة حتى وقفت أمام بيت عائلة فايق، والدم يغلي في عروقها، رفعت السكين عاليًا وصاحت بأعلى صوتها:
-اطلعلي يا فايق انت وامك، اطلعلي يا روح أمك، لو راجل اطلع، فاكر يالا الحركات الخايبة دي هتخوفنا يا رد السجون يا خمورجي يا بتاع الكاس والبيرة.
تجمع الجيران حولها في ذهول بينما صافي يحاول جذبها من ذراعها لتعود، لكن حكمت صاحت بصوتٍ أشد والسكين تلمع في يدها:
-يا صايع ياللي مش لاقي حد يريبك أنا أربيك وأربي عيلتك كلها، مش دي السكينة اللي انت مهدد بيها اختي لما استنيتها في المدخل لو راجل اطلع وأنا اشقها في بطنك ومفيش راجل في عيلتك هيتعرضلي.
صرخ صافي بحزن ينهرها:
-حكمت انتي اتجننتي اتدخلي جوه، مش ناقصين فضايح.
لكنها لم تُصغِ بل وجهت كلماتها إلى نافذة الشقة حيث يختبئ فايق:
-الفضايح دي هتحصل لما الشرطة هتقبض عليك تاني يا فايق يا رد السجون، وخلي أمك بكرة تتبسط بيك، أنا أختي أشرف منك ومن عيلتك كلها، محروق يا وله منها عشان رفضت خمورجي زيك، اه ما الحركات دي ماتطلعش إلا من واحد زبالة زيك.
عندها ظهرت والدة فايق من الشرفة بأمرٍ منه وهي تصرخ بأعلى صوتها مستنجدة بالجيران:
-يا عالم يا ناس شوفتوا اهو، حكمت بتهددنا علنًا بأخو خطيب أختها عشان ظابط وهيسجن ابني، ابني يا اختي اللي سجنتوه ظلم عشان بنتكوا تبعد عنه عشان مش قادرين عليها.
قهقهت حكمت بسخرية لاذعة ثم صاحت:
-يا ولية يا بجحة ده أنا مدياكي علقة انتي وبنتك قبل كده عشان قلة أدبكوا، باين محتاجة علقة تاني.
لكن والدة فايق زادت في صراخها:
-ابعدوا عننا يا حكمت وابعدوا اختك عن ابني، أنا ابني مش هيتجوزها وحلفت عليه ما هو متجوزها، أنا مايناسبنيش النسب ده ولا يناسبني بنات تمشي على حل شعرها.
في هذه اللحظة تدخل قاسم وعبود وقد اشتعلت رجولتهم بالانتقام، فهجموا على بوابة العمارة يحاولون اقتحامها بعنف، يوجهون السباب نحو فايق ويقذفون نافذته بالحجارة، تصاعدت الفوضى صراخ النساء مع لهاث الرجال، وحجارة تتناثر في الهواء كرصاصٍ مبعثر
-انزل يلا...انزل واحنا نعلمك الادب ولا خايف.
هرع الجيران لتفريقهم ونجح أزواج أخوات سيرا أخيرًا بعد جهدٍ كبير في السيطرة على عبود وقاسم، بينما أمسك صافي بكتف حكمت بقوة، يجرها عنوة إلى داخل البيت وهي لا تزال تصرخ وتلعن.
وعندما عادوا إلى شقة والد سيرا انطلق صوت حسني متعبًا محطمًا كأن كل ما فيه انهار:
-ربنا يسامحكم فضحتونا زيادة، ربنا يسامحكم، خلاص مابقاش ليا لازمة ولا اعتبار، ربنا يسامحكم، حطيتوا راسي في الارض.
دخل غرفته وأغلق الباب خلفه بعنف كأنما يغلق على نفسه تابوتًا، ساد صمت ثقيل لكن زوج كريمة كسره بصوتٍ غاضب:
-مكنش ينفع أبدًا اللي عملتوه ده، سيرا أصلاً هي اللي غلطانة لما سمحت له يمسكها بالشكل ده ومصوتتش.
انتفضت حكمت كالأسد الرابض وردت بغليظة:
-سكتي جوزك يا كريمة طالما مايعرفش حاجة، كان بيهددها يا حبيبي بالسكينة، يعني تصوت ويشق بطنها بعدها؟!
لكن زوج شاهندا أيضًا لم يسكت وقال بنبرة مستنكرة:
-طيب مقالتش ليه لما طلعت ما كلنا موجودين وبنتفرج على الماتش كنا عرفنا نتصرف وننزل نكلمه!
رفعت حكمت حاجبيها باستهزاء وقالت بلهجة ساخرة:
-يا اخويا وانت كنت هتعمل إيه معلش؟ ما انت قاعد حاطط رجل على رجل ومعملتش حاجة!
زفرت بعدها بقهر والدماء تكاد تنفجر في عروقها، ثم التفتت إلى صافي الذي ظل مطأطأ الرأس، صامتًا كتمثال مكسور:
-أنا نازلة شقتي أصل أنا مرارتي خلاص مبقتش قادرة تستحمل!!!
غادرت حكمت المكان وهي تجر خلفها ذيول غضبها العارم تاركة البيت يغلي كبركانٍ ثائر لم يخمد بعد، ظلت الجدران شاهدة على أصوات الصراخ والدماء المتأججة في القلوب، والعيون التي تتقاذف الاتهامات حتى بدا أن البيت كله يغوص في بحرٍ من الشكوك والفضائح.
أما سيرا فقد انسحبت إلى غرفتها بخطواتٍ متثاقلة كأن قدميها تجران أثقال الأرض، وألقت بنفسها على الفراش المنكمش، وراحت تبكي بحرقة وبكاء يشبه بكاء الأطفال المذعورين؛ شهقات متلاحقة ودموع تتساقط كجدولٍ لا ينضب، بينما قلبها يتقلب بين الخوف والخذلان، كانت كلمات أم فايق ما تزال تطن في أذنيها كإبرٍ مسمومة، وقد نجحت في دس سمومها في صدور أهلها لتزرع الشك فيهم حتى أصبحت سيرا وحيدة كمَن يقف في مواجهة العالم كله.
سألت نفسها بصوتٍ مبحوح، يتردد داخل صدرها، كيف ستتخلص من هذه المصيبة؟ كيف تستعيد ثقتهم من جديد؟ وكيف تمسح تلك الصور التي التصقت بها كعارٍ لا ينفك؟
لكن وسط هذا السواد انبثق بصيص أمل حين انفتح باب غرفتها فجأة وظهرت فاطمة بوجهها القلق، ثم تقدمت بخطواتٍ مسرعة نحوها واحتضنتها بقوة تضمها إلى صدرها كالأم الحنون، وهي تربت فوق كتفيها برفقٍ بالغ والدموع تنحدر من عينيها هي الأخرى، لم تحتمل فاطمة رؤية صديقتها بهذه الحال فشاركتها البكاء، فهمست سيرا بانكسارٍ موجع وصوتها يخرج متقطعًا بين شهقاتها:
-بابا ضربني يا فاطمة، ومحدش مصدقني...محدش مصدقني.
ارتجف قلب فاطمة وهي تسمع اعترافها المر، فشدت من عناقها أكثر تحاول أن تمنحها شيئًا من الأمان وسط طوفان الألم، بينما الغرفة تغرق بدموعهما، وكأنهما تشاركان المصيبة لعلها تخف ثقلها.
****
في اليوم التالي...
زفر يزن للمرة التي لا يعلم عددها يضغط بأصابعه على هاتفه بعصبية وهو يحاول الاتصال بسيرا، لكن لا رد أحيانًا كان الهاتف مغلقًا، وأحيانًا يرن دون إجابة، كل دقيقة تمر كانت تزيد من توتره، وكأن قلبه يُسحب من مكانه، في البداية شعر بالغضب منها لتجاهله منذ الصباح، لكن سرعان ما تغلب على غضبه ذلك الشعور الخانق بالخوف، خوف لا يعرف مصدره سوى أنها قد تكون بخطر ما، لم يهدأ وخاصةً عندما اتصل بيسر وسألها عنها لكن الصدمة كانت عندما أخبرته أنها لم تأتِ إليها كما وعدتها بالأمس، عندها شعر يزن بأن شيئًا غامضًا يحدث، شيء يتجاوز حدود الصدفة.
عاد ليتابع عمله في المعرض محاولًا أن يُغرق نفسه في تفاصيل السيارات عله ينسى قلقه فأشار إلى أحد العمال:
-هاتلي العربية دي هنا مكان دي وعايزين نعمل فيديو جديد ننزله على الصفحة عشان الريتش بدأ يقع ومش عايزين نخسر متابعين.
-يزن.
التفت بسرعة فإذا بالصوت الناعم يخص دهب ابنة حكمت، التي كانت تقف بزيها المدرسي وابتسامة خجولة مرسومة على وجهها، عقد حاجبيه في بادئ الأمر إذ لم يكن في مزاج يسمح بالمجاملات لكنه ما لبث أن ابتسم مجاملةً وقال:
-اهلاً ازيك يا دهب؟
مدت يدها الصغيرة تصافحه وعيناها تلمعان بانبهار ظاهر بوسامته ولباقته، التقطت أنفاسها بصعوبة وهي ترد بابتسامة متوهجة:
-الحمد لله وانت؟
لاحظ يزن ارتباكها ونظراتها التي تحمل إعجابًا طفوليًا فطغى على ملامحه صبر وهدوء محاولًا تجاهل ذلك الشعور الغريب الذي انتقل إليه، فأجاب بنبرة عادية:
-الحمد لله، كنتي فين كده؟
-كنت بزور واحدة صاحبتي قريبة منك هنا ولما لاقتني قريبة قولت آجي واسلم عليك.
هز رأسه بابتسامة مجاملة وكأنه يريد إنهاء الحديث سريعًا:
-شرفتي يا قمر، صحيح سيرا فين من الصبح بحاول اوصلها مش عارف، هي كويسة؟
قبضت دهب على حقيبتها المدرسية بقوة وكأنها تمسك نفسها من قول شيء خطير، ثم تظاهرت بالارتباك لتجذب اهتمامه أكثر:
-خالتو...اممم معرفش، مشوفتهاش!
لكن عينيها خانتاها؛ فيزن لديه خبرة كافية ليلحظ ارتجاف نظراتها، فكان هناك شيء ما تخفيه وهذا ما جعله يضيق عينيه قليلًا ويسأل بهدوء متحكم رغم الصخب الذي بدأ يعصف بداخله:
-في إيه؟
ارتبكت أكثر ورمشت سريعًا بأهدابها ثم تمتمت بنبرة مثيرة للريبة:
-لا ما أنا ماينفعش اقولك طالما هي خبت عليك ومقالتش حاجة! وبعدين ممكن يحصل لي مشكلة.
حاول يزن أن يُظهر هدوءه رغم أن قلبه ينتفض بعنف، وكأن صدره يضيق على أنفاسه فابتسم إليها بلطف مُقنع:
-متخافيش قولي وأنا صدقيني عمري ما هخذلك.
رفعت رأسها نحوه وقد بدت وكأنها تبحث عن أمان في صوته:
-بجد؟
شعر بنفاد صبره بدأ ينتهي فقال بشيء من الضيق حاول تحجيمه:
-اه طبعًا قولي في إيه؟
رققت نبرتها ومالت بها نحو الحزن وهي تلاحظ ملامح يزن التي قد تغيرت وبدت مستنكرة وغاضبة:
-آآ...أصل جدو ضربها امبارح عشان في صور وصلت له وهي مع فايق جارنا في المدخل وكان...وكان تقريبًا حاضنها وحصلت خناقة كبيرة اوي اوي في المنطقة ما بينا وبينهم.
تجمدت ملامح يزن فكلمتها الأخيرة سقطت عليه كالصاعقة، وعيناه تشتعلان بذهول وغضب، وكأن صورًا وهمية بدأت تنغرس في ذهنه، صور سيرا بين ذراعي فايق... مهما حاول أن ينكر قلبه كان يغلي فهمس بصوت متقطع:
-صور؟ حاضنها؟
-اه...حتى بص اهي الصور.
مدت يدها بالهاتف وعيناه التقطتا المشهد القاتل، الصورة أمامه كفيلة بتهشيم كل ثقة بناها، ومع ذلك عقله يصرخ بأنه لا يمكن أن تكون سيرا هكذا، ارتعش جفناه وهو يرفع عينيه إلى دهب غير مصدق، فتداركت هي الموقف وأسرعت تبرر بلهجة ماكرة:
-اكيد يعني ماتعملش كده، بس المشكلة إن جدو سألها وهي قالتله اه كانت معاه فضربها ومستحملش وقعد يقولها يا خسارة تربيتي فيكي.
في تلك اللحظة كان يزن يعيش صراعًا مريرًا بين الغيرة التي تكاد تفتك به، والغضب الذي يهدد أن يُفقده السيطرة، وبين الحب العميق الذي يجعله متمسكًا بسيرا رغم كل ما يسمع ويرى، قلبه يصرخ بالشك لكن عقله يبحث عن أي خيط منطقي يبرر ويُنقذها، ومع كل ذلك كان يشعر أن نارًا لا تُطفأ تحترق داخله، نار الغيرة التي تُدميه أكثر من أي شيء آخر
***
بينما كانت سيرا تجلس في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة، يلفها الحزن كغطاء ثقيل ينهك صدرها، لم تستطع كبح دموعها التي انسابت بصمت على وجنتيها، وكأنها تنزف من قلبٍ مثقل بالوجع، كانت تنتظر بفارغ الصبر أن تصل إليه...إلى يزن، الملجأ الوحيد الذي شعرت أنه قادر على انتشالها من هذا الجحيم.
قضت ليلة طويلة وقاسية، لم تعرف فيها طعم النوم، كلما أغمضت عينيها عادت صور الأحداث تطاردها وصدى الكلمات يجلدها بلا رحمة، أحاديث أخواتها الفتيات في الغرفة المجاورة لم تكن سوى سهام تُغرس في صدرها، كل كلمة منهن تُعيد على مسامعها معنى "الخزي" و"العار"، حتى صمت والدتها التي جلست في الصالة شاحبة الوجه، تضع كفها على رأسها وكأنها تحمل الدنيا فوقها، كان أكثر إيلامًا من أي صراخ، أما والدها فقد انزوى في غرفته غارقًا في جرحه وغضبه لا يريد حتى أن يراها.
كانت تشعر أنها تُحاكم بلا دفاع، مُدانة في عيون الجميع ورغم أن قلبها يصرخ ببراءتها، وما زادها وجعًا أن تسمع إحدى أخواتها تُخبر الأخرى بأنها سمعت والدهم يقرر بمنعها من الخروج من البيت، وكأنها سجينة خلف قضبان العار، لحظتها شعرت الأرض تنسحب من تحت قدميها لكن ما أعطاها بصيص أمل أن والدتها توسلت إليه أن يهدأ وألا يتخذ قرارًا متسرعًا رغم أن توسلاتها لم تُبدد الخوف.
شعرت أن جدران البيت تضيق عليها حتى كادت تخنقها، لم تستطع أن تحتمل أكثر فانتظرت لحظة هدوء لتتسلل من المنزل خطواتها مترددة لكنها مصممة، لم يكن بداخلها سوى فكرة واحدة أن ترى يزن، أن تحكي له كل شيء بعينيها قبل لسانها، أن تضع بين يديه أوجاعها الثقيلة، فهو وحده الذي آمنت أنه سيصدقها حين كذبها الجميع، وسيحضنها بصدق حين لفظها أهلها.
جلست في سيارة الأجرة تنظر من النافذة إلى الشوارع التي تمر كخيالات باهتة أمامها، وكلما اقتربت المسافة زاد خفقان قلبها، كأنها تركض نحوه بروحها قبل جسدها، أمسكت بيديها المرتجفتين طرف حقيبتها، وكأنها تستمد منها قوة لتبقى صامدة حتى تصل، لم تكن قادرة على التحدث عبر الهاتف، فلم يكن صوتها قادرًا على نقل ما في داخلها، بل أرادت أن تواجهه وجهًا لوجه...أن تُخرج كل ما أثقلها وأوجعها وأن تجد في عينيه ما فقدته في عائلتها الطمأنينة واليقين!
وما إن وصلت إلى المعرض حتى جالت بعينيها القلقتين تبحث عنه بشغف ولهفة مغموسة بانكسار، حتى وقع بصرها عليه يقف... يقف مع دهب!
توقفت لبرهة وكأن الأرض سحبت أنفاسها، لكن سرعان ما تقدمت بخطوات مترددة وعينيها تضج بالدموع المكبوتة، لتُناديها بصوت مجروح يقطر عتابًا:
-دهب؟
التفتت دهب برعب نحو خالتها التي لم تكن تتوقع مجيئها أبدًا، فارتبكت كلماتها وارتجفت نبرتها وهي تتمتم:
-خالتو..انتي جيتي؟
-بتعملي إيه هنا؟
جاء السؤال من سيرا وجبينها معقود، تحمل ملامحها وجومًا كسيفٍ مسلول، لكن في عينيها سكنت هزيمة دامية لا تُخفى، دموعها المتحجرة على أطراف الأهداب أفصحت عن هشاشتها أكثر من أي كلام.
هنا تدخل يزن بخطوة سريعة وعيناه مثبتتان على ملامحها يقرأ ما تخفيه ثم قال بصوت قلقٍ يخفي تحت سطحه براكين الغضب والغيرة:
-مالك في أيه، انتي كويسة؟
تظاهر بعدم علمه بما جرى كي يحمي دهب من أي عتاب مباشر، وفي الوقت ذاته أراد أن يسمع الحقيقة من صاحبة الشأن نفسها، أما سيرا فاكتفت بهزة رأس صغيرة وهمست بصوت متهدج يكاد يختنق:
-ايوه.
تدخلت دهب محاولة الخروج من الموقف ببراءة مصطنعة وهي تعيد حقيبتها خلف ظهرها وتبتسم ابتسامة مرتعشة:
-أنا كنت عند واحدة صاحبتي بزورها فقولت اعدي اشوف واتفرج على الأجانص، يلا سلام يا خالتو عشان ورايا درس ولا تحبي بلاش اروح واستناكي؟
لكن يزن أنهى الأمر بهدوء محكم وهو ينظر إليها بنظرة تفهم:
-لا روحي انتي يا دهب، أنا هوصلها لما اخلص شغلي، روحي عشان متتأخريش.
أومأت دهب برأسها في استسلام، ورمقته بنظرة خفية تطلب منه أن يفي بوعد غير معلن بألا يُفشي ما دار بينهما، ففهم سريعًا وأجابها بإشارة صامتة، غادرت على عجل تاركة خلفها رائحة شك ثقيل.
أما يزن فأشار إلى سيرا لتتبعه نحو مكتبه، دخلت بصمت وما إن أغلق الباب وأسدل الستائر على الزجاج ليحجب أعين العاملين حتى انهارت خطواتها واستسلمت للأريكة وكأنها تنتظر حكمًا بالإعدام، جلس أمامها على الطاولة الخشبية وصوته جاء هادئًا يحمل نبرة حانية كالنسمة التي تداوي جراحها:
-مالك؟ في حد مزعلك؟ بتصل بيكي من الصبح مابترديش.
رفعت رأسها بصعوبة وعيناها غارقتان في الدموع:
-أنا...أنا واقعة في مصيبة، أنا ماعرفش ليه الدنيا معاندة معايا كده، إيه الغلط اللي غلطته عشان يحصل فيا كده؟
اقترب أكثر يحاول أن يمد لها حبل الأمان بصوته الحاني رغم الغليان الذي يشعر به:
-طيب اهدي؟ واحكيلي في إيه؟
انفجرت الكلمات من صدرها المتعب:
-أنا مخنوقة اوي يا يزن، وحرفيًا مبقاش قدامي غيرك عشان يصدقني، بعد ما كله واقف ضدي ونازلين سلخ فيا.
شد حاجبيه وهو يسألها بجدية مصطنعة:
-ليه؟
شهقت ثم أسرعت بالبوح بما يخنقها:
-فايق...فايق الكلب كان مستنيني امبارح في المدخل بعد ما قفلت معاك وهددني بسكينة عشان مصوتش وكان بيحاول يقرب مني وأنا كنت بحاول امنعه....هددني بيك، أنا بدأت اخاف منه، ده مجنون ومريض نفسي، انت لازم تاخد بالك على نفسك الأيام دي، ده هددني إنه....إنه هيعملك....
قاطعها يزن بنبرة حادة تخفي غضبًا محمومًا:
-سيبك من اللي هددك بيه، هو عملك حاجة تاني؟
أطرقت رأسها وكأنها تخجل من أن تنطق ثم هزت رأسها وأفصحت عن الجرح الأكبر:
-في حد صورني معاه والصور دي اتنشرت في المنطقة وابلة حكمت اتخانقت مع أمه وأمه قالت إن أنا اللي بجري وراه واهلي غصبوني اتخطبلك.
ثم وضعت كفها على رأسها وانفجرت ببكاء موجوع كأنها طفلة خذلها الجميع:
-وبابا ضربني، أول مرة بابا يضربني، أنا زعلانة ومقهورة على نفسي اوي، أنا مغلطتش، أنا خوفت منه كان بيهددني بسكينة...خوفت اصرخ، خوفت اتصل اقولك انت تعمل حاجة تأذيك.
ارتجف قلب يزن مع كل كلمة نطقت بها، كانت الغيرة تنهش روحه كوحشٍ جائع، والغضب يشتعل في عروقه كبركان ينتظر الانفجار، ومع ذلك حين نظر إليها ورأى دموعها المنسكبة وعينيها المرهقتين، أدرك أن ما تحتاجه في تلك اللحظة ليس محاكمةً ولا لومًا، بل حضنًا آمنًا يحتوي هشاشتها، لقد بدت أمامه كزهرة مكسورة ذبلت قبل أوانها، عندها تقدم منها وأمسك كفيها المرتجفتين، وربت فوقهما بحنانٍ يشبه اعترافًا غير منطوق بأنه لن يخذلها:
-طيب اهدي ومتعطيش كده، أنتي لو خايفة عليا يبقى متعيطيش كده، عشان لو فضلتي تعيطي أنا هروح واطلع روحه في ايدي.
كانت كلماته كنسمةٍ دافئة لامست قلبها، لكنها بقيت تحدق فيه بملامح الطفولة الحزينة، تمط شفتيها كطفلةٍ تفتش عن طمأنينة ضائعة، فاستكمل بصوته الحاني الذي يشبه البلسم على جراحها:
-كويس إنك جيتي، انتي لو مكنتيش جيتي كنت هجيلك عشان اتطمن عليكي.
-انت مصدقني يا يزن بجد؟
تردد صدى سؤالها في أعماقه، فكان صوتها المرتجف بمثابة استجداء للنجاة وصرخة مكتومة تبحث عن سندٍ تتشبّث به، طال صمته وهو يمرر بصره عليها بتمعن، كأنما يقرأ في وجهها صفحات الألم حتى شعرت أن أنفاسها متعلقة بأنفاسه، ثم فاجأها بكلمةٍ قلبت موازينها:
-تتجوزيني؟
ارتبكت أنفاسها ورمشت بأهدابها مرارًا محاولةً استيعاب ما سمعت ثم تمتمت بتلعثمٍ يشي بارتباكها:
-مش...مش فاهمة؟ يعني إيه؟
هبط بصرها نحو الخاتم الذي يزين إصبعها تتأمله فهي مخطوبة له بالفعل، قبل أن يقطع شرودها صوته الواضح:
-قصدي نكتب الكتاب اليومين دول ونتجوز في أسرع وقت.
-ليه؟
خرجت منها كهمسةٍ مبحوحة كأنها تخشى أن تجهر بارتجاف قلبها، عندها تنهد بعمق قبل أن يجيبها بحزمٍ لم يخلو من انفعالٍ مكبوت:
-عشان هو مش هيجيبها لبر يا سيرا، وهيفضل كده يعمل بلبلة والطلقة اللي ماتصبش تدوش، ودي سمعتك لو مكنش في حل جذري وسريع الموضوع للأسف هيبوخ.
ارتجف قلبها أكثر وأطرقت رأسها محاولةً استجماع شجاعتها ثم تمتمت بصوتٍ متهدّج:
-انت مش محتاج تلعب دور البطولة يا يزن...
قاطعها كمَن ضاق ذرعًا بمقاومتها وصوته يعلو بحدةٍ تحاكي اضطراب ما في داخله:
-انتي هتبطلي امتى تدبي كلام وانتي مش حاسة، دور بطولة إيه يا سيرا؟! انتي ملزمة مني وخطيبتي لو مخدناش خطوة صح في وقت زي ده ابقى مش راجل...
تورد وجهها خجلًا من حدته فاستجمعت شجاعتها وقالت بارتباك:
-ماتخدهاش على محمل الرجولة يا يزن؟
رمقها بنظرة ممتلئة انفعالًا ثم أجاب بحدة متعمدة:
-امال اخدها على محمل الهزار مثلاً؟! انتي عندك استعداد تسمعي لأي حل من أي حد بس ميبقاش مني!
أسرعت ترد وكأنها تخشى أن يخسرها سوء الفهم:
-لا طبعًا، أنا جيتلك لغاية عندك وحكيتلك، بس عمر الحل ما يكون بالجواز وإنك تتسرع وانت لسه محكمتش على مشاعرك من ناحيتي يا يزن.
كان صوته هذه المرة ثابتًا لكنه مكلوم بالغيرة:
-أنا لو مش حاسس بحاجة ناحيتك، عمري ما هقولك نتجوز، وبعدين ارجع واقولك الكلب ده حطنا في موقف لازم نتصرف فيه بسرعة، على الاقل نكتب الكتاب يا سيرا بس نخرس أي لسان ممكن يجيب سيرتك، عشان وقتها لما ******** أمه وأهله محدش يجي يقولي بتعمل إيه؟!
توسعت عيناها في صدمةٍ ممزوجة بالخجل، أسرعت تخفض بصرها وتوردت وجنتاها، ثم قالت بنبرة رقيقة تحاول أن تحفظ وقارهما:
-يزن أنا ماحبش أبدًا إنك تتعدى حدودك في الكلام معايا واسمع كلام زي ده.
أطبق شفتيه محاولًا ضبط نفسه ثم قال بصوتٍ متماسك يخفي الغليان:
-حاضر هتكلم على واحد بيسوء سمعتك وشرفك بالشوكة والسكينة، بصي أنا ماسك نفسي بالعافية، عشان مروحش حالاً واجيبه من وسط بيته وعيلته وأمرمطه وسط منطقتكم، بس مش هيكون ليا حق لان اهلك موجودين، لكن لما اكون جوزك يبقى حد يقدر يقف في وشي، وبعدين كل اللي بيعمله ده عشان يخليني ابعد عنك، أنا بقى هحرق قلبه واتجوزك.
ارتجفت شفتاها وكأنها على وشك قول شيءٍ ثقيل ثم تمتمت:
-أنا كنت...كنت بفكر في...
انعقد حاجبيه في بادي الأمر يحاول أن يستشف ما يدور في رأسها:
-في إيه؟
همست مجددًا بارتباك وهي تحرك الخاتم في إصبعها بتوتر:
-في...
ابتسم بتهكم عندما أدرك مقصدها فقال بنبرة شبه حانقة مستنكرة:
-في إننا نفصل عشان تهديداته صح؟ ليه شايفاني توتو؟؟ وبعدين هو المفروض يخاف على نفسه لو اخواتي شموا خبر إنه عايز يأذيني، أنا عيلتي تسد عين الشمس، متخافيش لا عليا ولا عليكي طالما هتسمعي كلامي وتوافقي على اللي بفكر فيه.
تساقطت دموعها من جديد وقالت بصوتٍ متهدج:
-خايفة يحصلك حاجة واعيش بذنبك العمر كله.
ابتسم بخفة رغم ثورة قلبه ثم قال بنبرةٍ أقرب إلى العتاب اللطيف:
-ده حب ده ولا إيه؟ ولا إعجاب؟ قولي ماتتكسفيش.
-أنا مابهزرش يا يزن.... انت ماشوفتش هو كان مجنون ازاي وكان بيكلمني وكأنه...كأنه يا قاتل يا مقتول، أنا خايفة عليك، هو نجح في إنه يدمر سمعتي...
زم شفتيه بصلابة وقال بثقةٍ تهبها القوة:
-لا عاش ولا كان اللي يدمر سمعتك، اوعي تخافي ولا تطاطي راسك ولا تعيطي تاني، كل ده كلام فشنك وحله سهل وبسيط بس انتي اللي معقداها.
وفجأة دوى رنين الهاتف بعدها صمتها، فقفز قلبها رعبًا حين رأت اسم والدها على الشاشة، ارتجفت أصابعها وهي ترفع الهاتف وأجابت بصوتٍ مرتجف يكاد ينقطع:
-ايوه يا بابا؟
-أنتي بتعملي إيه عند يزن؟
التفتت نحو يزن ونظراتها تستنجد به ثم قالت بارتباكٍ واضح:
-بعمل أيه....كنت جاية عشان..
لكن يزن لم يمهلها الفرصة، وخطف الهاتف من يدها ثم تحدث بنبرته اللبقة الواثقة:
-ازيك يا حج؟ أنا اللي طلبت منها تيجي، كنت عايز اسالها عن موضوع فايق ده ايه اللي حصل؟
ساد الصمت فكان يزن يصغي بإمعان ثم أجاب بثباتٍ مطمئن:
-لا فايق بعتلي من رقم غريب اللي حصل والصور، فطلبت منها تيجي وتحكيلي عشان نشوف حل، لو فاضي اجيب سيرا واجيلك اقعد معاك شوية.
مرت لحظاتٍ متوترة ثم تنفس يزن بارتياح وهو يغلق الهاتف بابتسامة خفيفة، نهض من مكانه ومد يده إليها بلمسةٍ مشبعة بالحنان والعزم معًا:
-جاهزة تمشي ورايا؟ ولا بردو عايزة تمشي بدماغك.
شعرت سيرا أن قلبها عالق في صدرها، نظرت إلى كفه الممدودة أمامها تتردد بين خوفٍ يكبلها وأملٍ يحررها، إن مدت يدها فهي تسلم أمرها لقدرٍ جديد، وإن رفضت فالعار سيلتف حول عنقها كحبل خانق، أغمضت عينيها لثانية ثم فتحتها وقد اتخذت قرارها، مدت كفها الرقيق المرتجف وأمسكت بكفه القوي، في تلك اللحظة شعرت أنها أسلمت نفسها لأول مرة لرجلٍ قدر ضعفها ولم يحتقره بل جعله سببًا ليحملها معه نحو حياةٍ جديدة ربما تكون هي الخلاص.
***
وصلت سيرا مع يزن إلى البناية وما إن توقفت السيارة حتى هبطت منها وهي تتلفت حولها بقلقٍ وحذر، تحدق في وجوه المارة والجيران الذين بدا وكأن سهام نظراتهم تُصوب نحوها بلا رحمة، فتصيب كبرياءها في مقتل، انخفض رأسها خجلاً؛ خجلًا لم يكن سببه خطيئة ارتكبتها ولا ذنبًا اقترفته، ولكن وجدت يد يزن امتدت إليها، فكانت حانية ودافئة، أنقذتها من اوجاعها حين احتضن كفها بقوة وطمأنينة، مبتسمًا ابتسامة حنون تنبض بالثقة والسكينة، وهمس إليها بصوت منخفض ملؤه العزم:
-متوطيش راسك ابدًا ارفعيها واللي مايعجبكيش حطي صوابعك العشرة في عنيه.
رفعت بصرها إليه تبتسم ابتسامة وادعة مملوءة بالمحبة والامتنان، ثم سارت نحو الداخل وقد انزاح عن صدرها حمل ثقيل، تشعر أنه ملاذها وسندها الذي لم يخذلها قط، أما هو فقد توقف لحظة عند المدخل وعيناه تحدقان بعمقٍ نحو البناية المقابلة حيث يسكن فايق، كانت نظراته متوعدة، مشحونة بغضب مكتوم وكأنه يراه أمامه ويقسم في صمته أن ساعة الحساب قادمة لا محالة.
صعدا الدرج معًا وكل خطوة تفضح ارتجاف جسدها الصغير المرتعش من الخوف، فأدرك يزن تمام الإدراك حجم انعدام الأمان الذي يحيط بها، كانت تعيش بين عائلة كبيرة مترابطة في الظاهر، ولكنهم فشلوا في احتوائها وبث الطمأنينة في روحها، فلم تجد بينهم أبسط صور الحماية.
توقف فجأة وربت فوق كفها بحنو بالغ ثم همس إليها بلهجة رقيقة:
-متخافيش من حاجة ادخلي على اوضتك وسيبي الباقي عليا.
أجابته بابتسامة صافية واثقة:
-أنا واثقة فيك.
اقترب منها أكثر يحدق في عينيها بنظرات شغوفة تكاد تلتهمها التهامًا وهمس بإعجاب:
-دي عندي أحسن من كلمة بحبك.
كانت كلماته كإعلان صريح أن دعمه وثقته اللامحدودة بها وعدم ارتيابه فيها مهما اشتدت المؤامرات، ما هو إلا ذروة من ذُرى العشق والهوى. ارتبكت خجلًا وطرقت باب الشقة ففتحت لهم "دهب" التي بدا أنها غيرت ثيابها بعناية، وزينت شفتيها بالقليل من اللمعان وأسقطت خصلة شعر متعمدة على جبينها، فاستقبلتهم بحماس مصطنع:
-اهلا يا يزن اتفضل جدو مستنيك.
دخل يزن بخطوات ثابتة وهز رأسه ببرود ممزوج باللامبالاة، متوجهًا حيث أشارت فيما التفتت سيرا إلى دهب تعاتبها بحدة:
-هتفضلي فتانة لغاية امتى؟
ردت دهب ببرود وقد زمت شفتيها:
-والله يا خالتو ماما لما عرفت مني راحت قالت لجدو.
نظرت إليها سيرا بضيقٍ ظاهر ثم أضافت بحزم:
-قوليله أبيه يزن عيب لما تناديه باسمه هو كبير مش صغير على فكرة!
أجابتها دهب ببرود أكثر ونبرة متحدية:
-أنا سألته وهو قالي قوليلي يا يزن، وانتي عارفة يا خالتو موتي وسمي الالقاب طول عمري مبحبهاش.
ثم تركتها وانسحبت إلى المطبخ فيما تبعت سيرا خطواتها نحو المجلس حيث كان يزن يجلس في حضرة والدها، وقد وقفت على مسافة تستمع إلى الحوار، لكن سرعان ما فوجئت أن جميع إخوتها متخفين حول المكان يتجسسون السمع، تجاهلتهم ووقفت إلى جانب حكمت التي رغم تناقض شخصيتها في أحيان كثيرة إلا أنها كانت الأقرب إلى قلبها تعاملها بحنان الأم رغم حدتها.
رفع حسني صوته وهو يوجه السؤال إلى يزن بضيق ظاهر:
-يعني مش سيرا اللي جت وحكتلك؟
أجاب يزن بثبات:
-لا لا خالص أنا قولتلك فايق بعتلي صور وكلام مش مظبوط وفاكر إني كده هشك فيها، فبعت وسألتها إيه اللي حصل وخصوصًا أنها مكنتش بترد عليا.
زم حسني شفتيه وهو يتمتم بغضب:
-الكلب مش عارف عايز إيه؟
أجاب يزن ببرود يحمل بين طياته إصرارًا:
-هو عايز يدمر سمعتها عشان رفضته، كرامته تمنعه إنها ممكن تفضل واحد عليه، بس عادي ولا يهمني كل اللي بعته، أنا عارفها على إيه كويس وواثق فيها.
كانت الكلمات كالرصاص تخترق صمت الغرفة، وأحدثت رجة في قلب حسني الذي شعر للحظة أنه تسرع في غضبه وخانته حكمته التي طالما تباهى بها، فتمتم بضيق وحرج:
-أنا كل اللي زعلني منها إنها طلعت ومحكتش، يمكن كنت اقدر انزله...
قاطعه يزن بحدة وقد تذكر دموع سيرا المقهورة:
-تنزل لمين يا عم حسني، ده واحد هو عارف بيعمل إيه حتى لو كنت نزلتله بردو كان عمل اللي عمله، مكنش هيستناها ويهددها بالسكينة معلش الراجل فكر وتعب ونفذ...تعبه مش هيروح بكلمتين منك ومتزعلش مني ولا بخناقة مع قاسم وعبود وده اللي خلاها تخاف تحكيلكم، هي كانت خايفة عليك لإنك بتتعامل مع واحد مش مظبوط اساسًا، وخايفة على اخواتها هيضيعوا مستقبلهم في لحظة تهور.
تنهد حسني بعمق وسأله بقلق:
-امال ايه الحل يا بني في المصيبة دي؟
ابتسم يزن بثقة:
-ولا مصيبة ولا حاجة، أنا اصلاً كنت قولت لسليم من فترة يكلمك نكتب الكتاب ونستعجل في ميعاد الفرح بس كان في شوية مشاغل منعته، بس جه الوقت المناسب ويا ريت نكتب الكتاب بكرة.
اعترض حسني بانفعال:
-لا لا أنا كده هيبقى بأكد على كلامه وبداري على بنتي وكلام الناس هيزيد.
ابتسم يزن ابتسامة واثقة وقال بلهجة قاطعة:
-كلام الناس مابيقدمش ولا بيأخر يا عم حسني، وبعدين احنا ميهمناش الناس قد ما يهمنا نحط على فايق ومنخلهوش يحقق اللي هو عايزه، هو هيتقهر لما يشوفنا بنكتب الكتاب وبنفرح ومبسوطين وكل اللي عمله راح في الهوى ولما سيرا تبقى على ذمتي أنا عايز اشوفه وهو بيفكر بس يقرب منها، قرصتي له المرة اللي فاتت عدت بس المرة دي مش هيقوم منها.
أطرق حسني رأسه حائرًا وتتنازعه مشاعر متناقضة، إلى جانب إعجابه بعزم يزن وصرامته في الدفاع عن ابنته، فأدرك أن الحل الوحيد هو المضي قدمًا وأن تجاهل فايق والرد عليه بالفرح أقوى انتقام، فتمتم أخيرًا باستسلام:
-مش عارف يا بني، بس مقدمناش حل غير كده.
ربت يزن على كتف الرجل قائلاً بحزم:
-ومالك بتقولها ياعم حسني وانت مكسور ليه، هي مغلطتش في حاجة عشان تحس بكده، بالعكس افرح وهنعمل حفلة صغيرة اعزم فيها حبايبك واعملوا نور كمان على العمارة من برة، احنا مابنعملش حاجة غلط ولا حرام ولو على التجهيزات متقلقش كل حاجة هتحصل وعلى اكمل وجه متقلقش من حاجة.
ابتسم حسني أخيرًا وقال:
-ماشي يا ابني على خيرة الله.
أضاف يزن بلهجة وصية أخيرة:
-رجائي منك محدش يضايقها ولا يزعلها بحاجة هي مغلطتش محدش يلوم عليها طالما هي كانت خايفة، الخوف أحيانًا بيخلينا مابنعرفش نتصرف، أنا معجبنيش منظرها وهي جاية ليا المعرض.
ثم ساد صمت مهيب في المجلس كأنما كانت كلماته وصية مقدسة، قطع بها آخر خيط يربط سيرا بشك عائلتها بها، وأرسى مكانها في قلبه سندًا لا يتزعزع.
أما سيرا فقد شعرت وكأن العالم كله تراجع إلى الخلف ولم يبقَ أمامها سوى صوته، ينساب داخلها بثقل ودفء معًا، لم يكن رجاؤه مجرد وصية؛ كان اعترافًا بإنسانيتها وإقرارًا ببراءتها، وإعلانًا صريحًا أمام الجميع أنها ليست مخطئة وأن دموعها التي أهرقتها بالأمس لم تذهب هدرًا.
لزمت الصمت وهي تنظر لاخواتها، تكتفي بدمعة ساخنة انسلت من عينيها، دمعة لم تكن ضعفًا بل كانت شكرًا وامتنانًا، دمعة شعرت معها أن القدر أنصفها أخيرًا.
ولكن حكمت لم تستطع الصبر فأطلقت الزغاريد المصرية عاليًا واحدة تلو الأخرى بلا انقطاع وكأنها في مسابقة، ثم قالت بسعادة وهي تنظر لوالدتها:
-وربنا...بكرة المنطقة كلها لتشرب حاجة على حسابي وفايق لوحده هو وأمه الحرباية هجيب له كراتين حاجة ساقعة عشان يشربها بالسم الهاري.
****
في اليوم التالي ارتدت بناية الحاج حسني ثوبًا جديدًا من البهجة؛ فقد غمرتها الأضواء الملونة التي تزينت بها الجدران والشرفات، وترددت بين أرجائها أصوات الزغاريد التي لم تهدأ منذ ليلة الأمس، وكأنها تريد أن تعلن للعالم بأسره أن الفرح قد حل بهذا المكان، لم يترك يزن تفصيلاً صغيرًا إلا اهتم به بعناية فأمر بتزيين صالة المنزل بالزهور والأنوار، ثم لم يكتفِ بذلك بل أوصى بتزيين الشارع المقابل للبناية بزهور وردية وبيضاء امتزجت مع أضواء لامعة تنسج خيوطًا من الجمال والبهجة.
جاءت عائلة يزن بأكملها بسياراتهم الفارهة، تحمل كل سيارة منها الهدايا للعروس كأنها مواكب مهيبة تُعلن قدوم حدث عظيم، وقفت سيرا خلف زجاج شرفتها، تترقب بلهفة وابتسامة لم تفارق شفتيها، وبجانبها فاطمة ويسر، لقد كانت نظراتها مليئة بالامتنان والسعادة وكأنها للمرة الأولى تتذوق طعم الفرح الخالص بلا شوائب من خوف أو شك.
أرسل إليها يزن في الصباح فستانًا ورديًا رقيقًا يناسبها تمامًا ومعه باقة زهور صغيرة تمسكها في يديها، ترك لها زمام السعادة مطلقًا ولم يثقل عليها بشيء، فاستسلمت للبهجة ووقفت تنتظر لحظة نزوله من السيارة.
وها هو يطل من سيارة فارهة بيضاء، لم ترَها من قبل إلا في أفلام أو صور، يرتدي بذلة كحلية اللون مصفوف الشعر بعناية، فزادته وسامة وهيبة حتى شعرت سيرا أن قلبها يكاد يخفق من صدرها لفرط سعادتها، وبجانبه كان نوح يرتدي قميصًا أبيض وبنطالًا أسود، يرافقه بخطوات واثقة مع باقي أفراد العائلة الذين بدا أن عددهم قد ازداد بوجوه لم تألفها من قبل.
بدأت العائلة تصعد الدرج بخطوات متسارعة، ولكن خطوات "نهى" كانت مثقلة ببطء واضح؛ فقد كانت في شهرها الأخير من الحمل، وبطنها المتفخة تصعب عليها الحركة، ورغم تحذيرات الطبيب المتكررة بعدم السفر أو بذل مجهود، فإنها أصرت على الحضور، لا لشيء إلا لتشارك يزن لحظته التي اعتبرتها لحظة عائلية لا يمكن تفويتها، كان زوجها خالد يرافقها بقلقٍ بالغ، يعينها على صعود الدرج درجة بعد أخرى، ولم يخفِ ضيقه وهو يقول لها بعتاب ممزوج بالخوف:
-انتي مش قادرة تطلعي يا نهى، اشيلك طيب؟
ضحكت رغم التعب وقالت بصوت متهدج:
-عايز تفضحني قدام ولاد خالي؟
زفر بقلق وهو يتمتم:
-يعني عاجبك منظرك ده؟
ثم اقترب منها أكثر وهمس بجدية:
افرض ولدتي في أي لحظة، أحنا متابعين مع دكتورنا في مرسى مطروح ومانعرفش حد هنا.
ابتسمت له وهي تحاول التخفيف من قلقه:
-خالد أنا لسه قدامي خمس أيام ماتقلقش، وبعدين سيبني افرح الأجواء دي حلوة اوي.
هزت رأسه بيأس وهو يرمقها بعين نصف غاضبة نصف عاشقة:
-طيب اطلعي على مهلك ، عشان ولاد خالك عندك استعداد تبيعيني أنا شخصيًا.
ضحكت بخفة ثم قالت بدفء:
-أنا يا خالد معقولة تقول كده؟ كل الحكاية إن أنا بفرح بتقديرهم ليا، وأنهم مافكروش يفرحوا إلا وأنا موجودة وأصروا عليا أحضر، وبعدين يا خلودي ماتحطش نفسك في مقارنة مع حد.
ابتسم رغم ضيقه الداخلي ثم أمسك بيدها بحنان وصعدا معًا حتى وصلا حيث كان في استقبالهم أفراد عائلة سيرا، تقدم سليم وبدأ يعرفهم على عائلة العروس التي بدت ودودة ولطيفة.
سرعان ما وجدت نهى نفسها تنخرط في حديث جانبي مع مليكة، التي كانت تتحدث بحذر وتفحص المواقف بعين متوجسة، حيث بدا لها أن نهى واضحًا حبها الكبير لزوجها وتقربها منه، وانعكس ذلك في سعادتها بحملها، وفي لحظة صامتة وقعت عين مليكة على بطن نهى المنتفخة، ثم التفتت إلى زوجها "زيدان" فوجدته لا يعير شيئًا من الاهتمام إلا لأخيه يزن، يقف خلفه ويسانده في كل خطوة، تلك اللمحة بثت في نفسها راحة غير متوقعة، فأحست أن وجود زيدان إلى جوار يزن يعني أنها في مأمن من أي تصرف قد يجرحها أو يثير غيرتها.
كانت اللحظة مفعمة بالمشاعر المختلطة، فرح يملأ الأجواء وقلق يلوح في العيون، حب يتوهج في القلوب، وأمل يولد مع كل زغاريد تتعالى من النوافذ والشرفات، بدا المكان وكأنه قطعة صغيرة من عالم آخر، عالم أصر يزن أن يصنعه لسيرا، التي خرجت بفستانها المناسب لجسدها تحمل ابتسامة رقيقة جدًا تناسب رقة ملامحها التي لم تضع بها مساحيق تجميل فجة بل كانت هادئة تناسب الوان فستانها، جلست بجانب والدها وبدأ المأذون في إجراءات عقد القران التي انتهت بعد دقائق بسيطة بـ...
"بارك لهما لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير"
تعالت الزغاريد في أرجاء المكان فرحًا بسيرا، فاندفع أخواتها نحوها ينهالون عليها بالقبلات والعناق، تغمرهم السعادة الغامرة، أما يزن فكان يتلقى التهاني والمباركات وقد ارتسمت على محياه ابتسامة صافية تُشع بفرح حقيقي، ابتسامة لم يرها أحد عليه من قبل بهذا الصفاء، وفي زاوية الصالة جلست منال تبكي في صمت، ودموعها تنساب كجدول رقراق، لا دموع حزن بل دموع أم أرهقها الزمن ثم أعاد لها القدر معنى الفرح، لمحها سليم، فأسرع إليها واحتواها بذراعيه هامسًا بحنان:
-بتعيطي ليه؟
رفعت أنظارها إليه وعيناها متلألئتان بالدمع ثم تمتمت بابتسامة مرتجفة:
-أنا كده لو موت هبقى مرتاحة الحمد لله يا ابني.
قطب سليم حاجبيه ضيقًا وقال بعتاب يختلط بالرجاء:
-بعد الشر عنك، هو ده وقته كلامك، افرحي واتبسطي بيه.
مدت يدها المرتعشة تربت فوق كفه وهي تنظر إليه بعينين غارقتين في الامتنان:
-ربنا يسعدك يا سليم ويراضيك دايمًا في مراتك وعيالك وتشوف عيالك أحسن الناس، زي ما وقفت وراه اخواتك وكنت ليهم السند والعوض.
ارتجف قلبه لصدق دعائها وشعر أن كلماتها خرجت من أعماق روحها، لأول مرة لم يتمالك نفسه فطبع قبلة وقورة على رأسها هامسًا بحنو عميق:
-ربنا يخليك لينا يا ست الكل، كفاية عياط بقى عشان محدش ياخد باله.
أومأت برأسها استسلامًا وجلست تمسح دموعها بابتسامة هادئة، فيما أحاطها بذراعه وظل يربت على كتفها برفق، لكن ما هي إلا لحظات حتى اقتربت حكمت تحمل صينية عصائر مثلجة وأطباق حلوى قائلة بصوتها المرتفع الحاد:
-عارف لو قولتلي مش عايز وشكرًا، هأكلهالك بنفسي.
اتسعت عينا سليم ذعرًا وتراجع خطوة إلى الخلف، فيما كانت شمس تقف إلى جانب مليكة تتبادلان الضحكات المستمتعة بمشهد جداله مع حكمت.
أما يزن فكان لا يزال يتلقى التهاني من الجميع، وكان آخر المهنئين زيدان، وما إن اقترب منه حتى أمسك يزن بذراعه وهمس متسائلاً بلهفة ظاهرة:
-الله يبارك فيك يا زيزو يا حبيبي، بس قولي بسرعة لما اسلم عليها، اسلم عليها ازاي؟
أطرق زيدان برهة ثم قال في حيرة:
-يعني تسلم عليها ازاي؟ ما تسلم عادي.
قطب يزن حاجبيه وقال بسخرية:
-اقسم بالله انت اخرك مخبر ما ظابط وبتفهمها وهي طايرة، قصدي احضنها عادي قدامكم.
اتسعت عينا زيدان بدهشة وهو يرد بصدمة:
-يخربيتك، انت يابني خف شوية، انت عايز تفضحنا، سلم عليها عادي خالص.
زفر يزن بغيظ وقال بعناد:
-ليه هي مش كده مراتي ومن حقي احضنها! نوح...زيدان بيقولي لا.
ضحك نوح بخفة ثم قال ساخرًا وهو يشير نحو نفسه بفخر:
-مستعجل ليه ما انت بكرة تفرح يومين وتبقى مطلق زيي كده.
رمقه يزن بازدراء وقال:
-إيه القرف ده؟ تصدقوا أنا غلطان أني باخد رأيكم، أنا هروح واسلم عليها واحضنها عادي.
تقدم بخطوات متلهفة وعيناه متوهجتان بالشوق، وما إن لمحته سيرا حتى أدركت قصده، فأشارت إليه بخفة رافضة ثم انسحبت إلى الشرفة بخطوات مترددة، توقف يزن مذهولًا من تصرفها، وراح يتبعها ببطء فيما وجدها هناك مع يسر، التي كانت تتظاهر بالانشغال بهاتفها لكنها في الحقيقة كانت تراقب نوح بعينين خجولتين، فهمست سيرا إليها بخوف:
-يسر الحقيني.
نظرت إليها يسر بقلق وقالت:
-في إيه؟
لكن يزن دخل مبتسمًا ابتسامة بريئة متصنعة وقال:
-يسر ازيك محضرتيش كتب الكتاب ولا ايه؟
أجابت بتوتر:
-لا كنت واقفة هنا في البلكونة عشان الزحمة بس.
ابتسم ماكرًا وقال:
-طيب أبلة حكمت بتنادي عليكي عايزاكي تاكلي جاتو.
ضحكت يسر بإحراج وغادرت رغم همس سيرا المتوسل:
-لا لا لا...
خرجت في الصالة تتخطى المدعوين وهي تحاول الوصول إلى غرفة سيرا تختبيء بها ولكن وجدت فاطمة تصيح بأعلى نبرة لديها لتجذب انتباه الجميع إليها:
-يسر تعالي اعرفك على ماما.
توقفت بغضب وهي تنظر إليها، والزمت عيناها ألا تركض وتبحث عن نوح وسط المدعوين، ثم تحركت نحو فاطمة ووالدتها وهي تبتسم باقتضاب.
وعندما خرجت تركت سيرا في مواجهة مباشرة مع يزن، فاقترب منها وأمسك يدها هامسًا بعتاب لطيف:
-بتهربي مني ليه؟
ارتبكت وهي ترد:
-آآ..أصل مكسوفة وكلهم هيبصوا علينا وكده.
ابتسم بإصرار وقال:
-طيب إيه مش هنبارك ونهني؟
أخفضت بصرها وتمتمت بارتباك:
-الله يبارك فيك يا يزن عقبالك.
نظر إليها باستغراب وقال:
-انتي بتقولي إيه؟
حاولت أن تتملص بخجل:
-مش عارفة....مش عارفة بص أنا مكسوفة، متحرجنيش.
لكنه تشبث بعزمه وقال مبتسمًا:
-لا بس أنا هسلم أنا قتيل اللحظة دي.
الله يبارك فيك يا يزن كده حلو؟
مدت يدها تصافحه محاولة إنهاء الموقف، غير أنه جذبها بقوة إلى صدره يضمها بلهفة، ثم طبع على جبينها قبلات متتابعة، جفت الكلمات على شفتيها، وتصلبت في مكانها تتشبث بثوبها خوفًا من أن يراهما أحد، أحاطها بكيانه كله، وهم أن يبوح بما أراد قلبه ولكن فجأة دوى صراخ مرتفع من الداخل.
تباعدت عنه مذعورة واندفعت إلى الداخل بخطوات متسارعة، كادت تتعثر لولا يده التي امتدت تدعم خصرها وهو يهمس بضيق:
-حاسبي يا سيرا..
توقفا عند عتبة الشرفة فإذا بالجميع ملتفون حول نهى التي جلست تبكي بحرقة، وخالد واقف إلى جوارها مذهولًا ينظر إلى الماء المتساقط أسفلها، اقترب زيدان وهو يحاول كتم ضحكته وقال بصوت منخفض موجهًا حديثه ليزن:
-نهى بتولد، اقسم بالله ما شفت أنحس منكم انتوا الاتنين.