رواية مرايا الحب الفصل الثاني عشر12 بقلم نورا عبد العزيز
بعنــــوان " بحاجـــة للحُــب "
تحدثت "فلك" وهى تقف فى شرفة منزلها وتضع الهاتف على أذنها اليسري بنبرة حماسية وفرحة عارمة تغمرها قائلة:-
-أخيرًا ردتي، فينك يا هالة بقالك أكتر من شهر مُختفية ومش عارفة أوصلك؟
أتاها صوت "هالة" عبر الهاتف بنبرة واهنة مبحوحة قائلة:-
-أنا كويسة يا فلك، أنتِ عاملة أيه؟
أجابتها "فلك" وهى تجلس على المقعد البلاستيكي الموجودة بالشرفة قائلة:-
-أهو تمام حالي زى ما هو متغيرش كتير مع يونس
تنهدت "هالة تنهيدة مُحملة بالكثير من الإنكسارات والإحباط الذي أصابها ثم تمتمت ببرود شديد :-
-هتعدي يا فلك وربنا يهديلك الحال
شعرت "فلك" بضعفها وإنكسارها كأن روحها سُلبت منها، دائمًا ما كانت "هالة" كفراشة المحلقة فى سماء الشركة بعفويتها وحركتها المُفرطة، كانت جميلة بمرحها وعفويتها التلقائية وبسمتها التى تنشرها بكل مكان لكن الآن كان قد تبدل بها الحال تمامًا وأمست نبرتها كنبرة رفيق على وشك الأنتحار وحافة الموت، شخص أستسلم للحياة وقد أودت به وغدرت به، تملك "فلك" القلق الشديد على "هالة" وكأنها شخص ينتظر الموت فتساءلت كثيرًا ماذا حدث لها كي تتبدل هكذا، تحدثت بهدوء قائلة:-
-مُتأكدة أنك كويسة يا هالة
ضحكت "هالة" بسخرية من حالها وما حدث إليها وكيف لها أن تخبر أحد بما جرى وما ألت إليه الأمور معها لتقول:-
-كويسة أعتبرني كدة
تنهدت "فلك" بضيق شديد من حياتها المملة ثم قالت:-
-أنا هجيلك لازم أشوفك بس لما يجي يونس هو راح لأنس القسم يمكن يعرف يثبت برائته
أنتفض قلب "هالة" رعبًا وبذكر أسمه عادت للحظة الجحيم التى مرت بها بين ذراعيه وهو يمزق ملابسها بالقوة وهى تصرخ ربما يتقذها أحد من بين يديه وتحاول دفعه بعيدًا عنها بكل قوتها لكنها لم تقوى على زحزحة جسده بعيدًا عنها بجسدها الذي يزن أكثر منها بكثير وهى أمامه كطير صغير، دمعت عينيها وهى تبكى بأنين مكبوح وترتعش خوفًا مع ذكرياتها لهذه الليلة التى ذهبت فيها للجحيم، سمعت "فلك" صوت أنينها لتتعجب من هذه الفتاة ثم قالت:-
-أنا هعدي عليكي يا هالة
أومأت إليها بنعم ثم أغلقت الاتصال معها، خرجت "فلك" من الشرفة لترى "يونس" يفتح باب الشقة ويدخل مُنهكًا ومُحبطًا فقالت وهى تسير نحوه بقلق:-
-مالك؟ هو أنس كويس؟
جلس على الأريكة بتعب وأرهاق شديد وقال:-
-زى ما هو ساكت ومفيش أى رد فعل منه، كأنه راضي وقابل الوضع اللى هو فيه، أنا بدأت أشك أن فعلا أنس أرتكب الجريمة دى، بقاله شهر وأسبوع وحاله متغيريش دا حتى مقالش أنا معملتش كدة، مبيصرخش ويقول أنا بريء
جلست "فلك" بجواره بحزن على حالته وإشفاق على قلبه المُنهك وعقله الذي على وشك الأنفجار فى البحث عن البراءة وحده، ربتت على كتفه بلطف وحنان ثم قالت:-
-هتعدي يا يونس، يمكن يكون مصدوم من اللى حصله أو اللى بيشوفه جوا السجن وقعدته مع المجرمين، أنا متأكدة أنه هيفوق قريب
نظر "يونس" إليها بحزن شديد وقد وقف على حافة الاستسلام والتخلص من حماسه فى البحث، تبسمت "فلك" بوجهه بسمة هادئة مُشرقة تزيل عنه أعباء الحياة وتخلصه من هموم حياته الثقلية على عاتقه، شعر ببسمتها بأرتياح كأن الحياة تبتسم إليه وقد تبخر حزنه ووجعه مع الهواء وهرب من النافذة بعيدًا عنه ليقول "يونس" بهدوء:-
-خليكي معايا يا فلك
أومأت إليه بنعم لتشعر بيده تلمس يدها الصغيرة ويحتضنها بلطف شديد ثم تابع حديثه قائلًا:-
-متسبنيش حتى لو قسيت عليكي بكلمة أو ضايقتك بموقف مع قدر أشكي ليا اللى يضيقك منى وأنا هراضيكِ والله
رفعت "فلك" يدها الأخرى تربت على يديهما بلطف شديد وبسمتها لم تفارق شفتيها بل كبرت أكثر بأرتياح وسعادة تغمر قلبها ظهرت بوضوح فى عينيها وعلى شفتيها ثم قالت:-
-أنا معاك يا يونس وماليش غيرك، هسيبك وهروح فين يعنى
وضع رأسه على قدميها لتبتسم على فعلته رغم أرتجافها خجلًا من هذا التلامس فلم تقصر علاقتهم على الحديث والعيش معًا تحت سقف واحد بل لمساته القليلة لها تُربكها بشدة وتكاد تُغلبها وتجعلها تطمع بالمزيد بكل أنانية منها، أغمض عينيه بتعب رغم بسمته التى تنير وجهه فتمتم بضيق قائلًا:-
-مش عايز يقولي كان فين يومها، تفتكري أنس فعلًا قتل البنت دى؟
شردت "فلك" فى موقف "أنس" وأستسلمه للسجن فى جريمة قتل ليخبرها جزءًا بداخلها أنه لربما فعل هذا حقًا وندم مُستسلمًا للعقاب، ظلت صامتًا لا يتفوه بأى كلمة لكنه ألتف قليلًا ليضم ذراعيه إلى صدره يعقدهما بأحكام وما زالت رأسه على قدميها فقالت "فلك" بهدوء:-
-أنا هنزل أروح لهالة أزورها
لم يُجيبها فنظرت إلى رأسه أكثر بتركيز لتراه غارقًا فى سبات نومه العميق، تزحزحت برفق حتى لا تقظه ووضعت الوسادة أسفل رأسه ودلفت إلى غرفته لتجلب غطاء ووضعه فوق جسده بحنان حتى لا يُمرض بأصابة نزلة برد، بدلت ملابسها وأرتدت بنطلون جينز أزرق وبلطو أسود مغلق ولفت حجابها ثم خرجت من الشقة ذاهبة إلى "هالة".......
*******************
خرج المريض من العيادة لتخرج "قدر" خلفه تاركة العيادة ليستوقفها صوت امرأة مُسنة تقول:-
-أنا مكشفتش ليه يا بنتى
نظرت "قدر" إليها بأشمئزاز من حالتها الفوضوية التى تظهر وضعها المادية وكونها من طبقة الفقراء وقالت:-
-وأنا وقفتى خلص، روحي شوف ليكي مستشفي حكومة تكشفي فيها
مرت من أمامها بغرور شديد وهى تقول بسخرية من هذه المرأة:-
-مبقاش إلا دول كمان هو الواحد ناقص قرف
أقتربت الممرضة تأخذ بيد المرأة العجوزة بحزن شديد مُشمئزة من غرور هذه الطبيبة اللعينة، ساعدتها فى الجلوس وقالت بلطف:-
-أنا هشوفلك دكتور تاني يا أمى، أستنيني هنا
غادرت الممرضة إلى مكتب الاستقبال كى تبحث عن طبيب أخر متواجد الآن ليفحص هذه المرأة، كانت "صفاء" واقفة بقسم الأستقبال تراجع جدولها اليومي وعندما سمعت طلب الممرضة فقالت بجدية:-
-ما دكتورة قدر موجودة
ألتفت الممرضة إليها بغضب مكبوح بداخلها من هذه الطبيبة وقالت بجراءة دون أن تخشي "صفاء" صديقتها أن تذهب وتخبرها:-
-والله الدكتورة المغرورة اللى حضرتك بتتكلمى عندها اللى معندهش لا قلب ولا ضمير لمهنتها رفضت تكشف على ست عجوزة فى سن جدتها عشان بس فقيرة، بس اللى متعرفهوش أن الفقر مش عيب لكن فقر المشاعر عيب وعديم الرحمة عيب، أنا مش مستغربة أن جوزها أتجوز عليها اللى زى دى متتعاشرش أصلًا مغرورة وغرورها هيقتلها فى يومها
صمتت "صفاء" وهى تستمع لهذا الحديث فهى لديها كل الحق فى كل كلمة تتفوه بها، منذ متى والطبيب يختر من يُعالجه ويقدم له الداء...
صعدت إلى الأعلى غاضبة من "قدر" لتفتح باب المكتب بانفعال شديد ورأت "قدر" بدلت ملابسها وعلى وشك المغادرة لتقول "صفاء" بأختناق شديد:-
-أيه اللى عملتي فى العيادات دا قدر
نظرت "قدر" إليها ببرود شديد ثم قالت:-
-وفيها أيه؟ هى المستشفي دى مفيهاش حاجة بتستخبي، لحقوا ينشروا الخبر، أنا حرة فى طريقتى وتعاملي، اللى مش عاجبه ميتعاملش معايا ونخلص
أقتربت "صفاء" منها بضيق شديد ثم قالت بحزم صارمًا:-
-بطريقتك دى فاكرة أنك صح والناس غلط، أقولك حاجة له حق يونس أنه يسيبك ويروح لغيرك، غرورك قاتلك وبيخسرك كل الناس يا قدر حتى اللى بتشتغلي معها محدش من الممرضين عايز يتعامل معاكي وحتى بتاع الكافتريا مبقاش بيحب خدمتك، أنتِ بتبعدي كل الناس عنك وترجعي تعيطى ، فوقي يا قدر غرورك بيقضي عليكي
لم تتحمل "قدر" حديثها الغليظة أكثر ولم تقبل بحرفًا واحدًا منه فغادرت المكتب دون أن تُجيب بكلمة واحدة عن هذا الحديث.....
**********************
كانت "فلك" جالسة على الفراش بغرفة "هالة" وتحدثها عن حياتها لتقول:-
-حتى يونس مبقاش مبسوط وقلق، أنا كمان بقيت حاسة أن أنس قتل البنت دى وإلا مكنتش قبل بكل دا يحصله ويترمي فى السجن وسط المساجين والمجرمين 5 أسابيع بحالهم
نظرت "هالة" إليها بصمت شديد ولم تجيب فوحدها من تعلم أنه لم يرتكب هذه الجريمة وتعلم جيدًا أن بكلمة واحدة منها ستعطيه حريته لكنه بنظرها لا يستحق هذه الحرية، سألتها بخفوت شديد:-
-الصراحة من كلامك أنا كمان مستغربة صمته دا
تأففت "فلك" بضيق وهى تشعر بالعجز والحيرة من هذا الأمر لتقول:-
-هو موقفه محيرنا كلنا، أزاى فعلًا يكون بريء وراضي وقابل بدا
لم تجيب "هالة" على كلماتها وظلت صامتة فهى تحمل ثقلًا على عاتقًا كافيًا لها، لا تملك الطاقة للحديث مع أحد أو التفكير فى هذا الذئب البشري الذي حول حياتها للجحيم فى لحظة سُكر دون أن يشعر سلبها كل وأعز ما تملك، فاقت من شرودها عندما شعرت بيد "فلك" الدافئة تلمس يدها بحنان ثم قالت:-
-أنا عارفة أن فيكي حاجة، وحاجة كبيرة كمان يا هالة ومقدرة ومحترمة رغبتك فى أنك مش قادرة ولا عايزة تحكي لحد، بس دموعك ونفضتك ورعشتك دول مش حلهم الصمت، بلاش تحكي ليا، قومي صلي وأشتكي همومك لربك هو قادر يحل مشكلتك ويخفف عنك أكتر من أى مخلوق وهو خالق، دموعك اللى بتخبيها رغم تجمعها فى عينيك عشان مكسوفة منى، متكسفيش وأنتِ بتشكي له أمرك يا هالة
أومأت "هالة" لها بنعم ودموعها قد ذرفت من عينيها أخيرًا ونالت حريتها بعد أن سجنتهم "هالة" قدر المُستطاع، ضمتها "فلك" إليها بحنان فرغم ما تحمله من ثُقل فى قلبها إلا أن هذا القلب المريض يملك من الدفء والحنان سحرًا وبئرًا كفيلة ليطمئن الجميع ويخفف عن أحبته همومه، جهشت "هالة" فى البكاء ولأول مرة تبكي بأرتياح دون خوف مُنذ ما حدث معها، كبحت كل ألمها فى صدرها وقلبها المُفطور من الوجع بداخلها خوفًا من أهلها وعائلتها، ظلت "فلك" تربت عليها حتى هدأت تمامًا فقالت بهدوء:-
-أنا همشي دلوقت وهسيبك ترتاحي وهكلمك أطمن عليكي ولو أحتجتينى فى أى وقت أنا موجودة معاكي وجنبكِ يا هالة
أومأت إليها بنعم لتغادر "فلك" بقلق شديد على هذه الفتاة وصديقتها الوحيدة، دلفت "هالة" إلى المرحاض وبدأ فى الوضوء ثم خرجت إلى غرفتها وأرتدت إسدال الصلاة الخاص بوالدتها وبدأت تصلي ركعتين راجية من الله أن يخفف من ثقل قلبها وينير طريقها للحل الأنسب لما حدث إليها، ظلت ساجدة لأكثر من نصف ساعة تبكي وتترجي الله أن يرحم روحها المُعذبة بالألم ونيران الجحيم التى تلبست بها وأستحوذت عليها...
*********************
أستيقظ "يونس" من نومه العميق ليجد الغطاء عليه فأستغرب بشدة من نومه على الأريكة لكن سرعان ما تبسم لفعلتها اللطيفة ووضع الغطاء عليه ثم رأى ورقة وردية اللون صغيرة على الطاولة أمامه ليلتقطها وهو يفرك عينيه بأصابعه وكانت رسالة من "فلك" محتواها
(أنا نازلة أشوف هالة وهجيب عشاء وأنا جاية متأكلش وأستناني ) أنهتى رسالتها ودونت اسمها فى النهاية وبجواره رسمت وجه مبتسم ليضحك على طفولتها وترك الرسالة ثم دلف إلى المرحاض أخذ حمام دافيء وأرتدي بنطلون قطني أسود وسويت شيرت أسود اللون ثم صفف شعره المبلل ودخل للمطبخ وكانت "غزل" جالسة على رُخام المطبخ وتهز قدميها بدلال ثم قالت:-
-حمام الهنا يا حبيبى
تبسم إليها وهو يضع الماء فى الغلاية ثم ضغط على الزر وجلب كوب أبيض اللون من البُرسلين فسمع صوت "غزل" تقول بعفوية:-
-مهموم ليه يا يونس؟
أتكأ بظهره على الرُخام التى تجلس عليها ووضع يديه فى جيوب بنطلونه بهدوء ثم قال:-
-مش هم يا غزل بس عاجز عن براءة أنس، أنا عمر ما في حاجة أستعصت عليا كدة، دايمًا كنت بلاقي حل لكل مُشكلة
وضعت يدها على كتفه بدلال وقالت بحب واثقة بقدرته :-
-هتلاقي حل يا يونس أنا واثقة فيك، أنت بس أهدي وفكر بهدوء من غير أنفعال وأنا معاك
ذهب نحو الغلاية هاربة من التقرب منها، لأول مرة يشعر بضيق من لمس "غزل" إليه، فور وضع يدها على كتف أنتفض قلبه ضيقًا وذهب بعيدًا ليسكب الماء المغلي فى الكوب وقال:-
-أكيد هلاقي حل للمشكلة دي
أخذ الكوب وخرج من المطبخ، جلس على الأريكة وهو يأخذ ورقة "فلك" بين أصابعه بعفوية وظل شاردًا فى كلماتها وكأنه يُحفر خطها الجميل فى عقله، رفع نظره لكي يرى "غزل" لكنها لم تأتى ولم يرى لها أثر، ترك الكوب وذهب للمطبخ وكان فارغًا وقد توارت "غزل" عن نظره ولم يجد لها مكانًا فى شقته ومازالت يده تحتضن ورقة "فلك"، كان مُستغربًا الأمر تمامًا ليلتف على صوت الباب وكانت "فلك" قد وصلت للمنزل وتحمل فى يدها علبتين من الكرتون الخاصة بالبيتزا، تبسمت بعفوية فور رؤيته واقفًا بمنتصف البهو وقالت:-
-كويس أنك صحيت أنا جبت بيتزا سخنة وجميل
وضعت الطعام على الطاولة الخاصة بالصالون وجلست وهى تشير إليه بحماس شديد وتناديه قائلة:-
-تعالي يا يونس، أنا مش قادرة أستني أكثر من كدة
خلعت حجابها ونزعت البلطو عن أكتافها لتجلس بتي شيرت أبيض اللون بنصف كم وبدأت تأكل بشرارة، جلس "يونس" جوارها يراقبها عن كثب وهى تأكل بعفويتها وتلقائيتها الساحرة، رفعت نظرها وفمها ممتليء بالطعام وتحمل قطعة البيتزا فى يدها، خجلت من نظراته المُسلطة عليه بيقول بدلال:-
-كُل متتكسفيش
تبسمت وهى تبتلع لقمتها وتمد يدها إلى فمه تُطعمه قطعتها الخاصة من البيتزا، تناول من يدها برحب شديد لتبتسم بلطف خجلًا منه لكن قلبها يرفرف فرحًا رغم أحمرار وجنتها خجلًا ولم يكتفي "يونس" بهذا القدر ليزيد من خجلها أكثر عندما وقف على ركبته ليجذب الغطاء الموجود خلف ظهرها ووضعه على أكتافها مرة أخرى، أرتفعت حرارتها وهى تقن أن هذا الرجل لن يتركها سالمة هادئة قبل أن يفعل كارثة بقلبها حتمًا، رفعت نظرها إلى الأعلى وهو وقفًا أمامها على ركبتيه ترمقه بعينيها العسليتين اللتان يفيض منهم الدفء والحب الذي يُقلبها الآن ببطيء شديد قبل أن يُسقطها فى الهوي، تبادل النظرات فى هدوء وصمت سيد المكان فقط صوت أنفاسهما المختلطة بسبب قُربهما ليترك الورقة الوردية من يديه تسقط أرضًا وهو يدرك أن أختفاء "غزل" عن حياته شيئًا فشيء له علاقة بهذه الزوجة الدافئة، أبتلعت "فلك" ريقها بصعوبة من خجلها وعينيه الرمادتين يأسروها فلم تستطيع إبعاد عينيها عنهما وسحرهما يغلبها أمامه ويجعله كقطعة من العجين اللين ليُشكلها "يونس" كما يُريد دون أن تناقشه أو تعارضه، تمتم "يونس" بنبرة خافتة مسحورًا بعينيها ونظراتها التى تحتويه كأنها تعانقه بحُب شديد:-
-هتبردي وأنتِ لابسة خفيفة
أومأت إليه بنعم دون أن تتفوه بكلمة ليعتدل فى جلسته أمامها ويتناول الطعام معها وهى تتحاشي النظر إليه بخجل وبعد أن أنهت طعامها فرت من أمامه راكضة للداخل قبل أن يُغلبها قلبها المُتراقص أمامه، تنهد "يونس" تنهيدة قوية بعد رحيلها وكأن وجودها كأن يُقيده أو يُربكه، دومًا ما يشعر بشيء من الحيرة أمام عينيها وحديثها، كل شيء بهذه الفتاة يأخذه إلى عالم جديد لا يعلم عنه شيء ولم يفهمه...
ظل فى حيرته طول الليل حتى أشرقت الشمس فبدل ملابسه وغادر للعمل لكن "فلك" ظلت بمنزلها هذا اليوم ولم تذهب للعمل، أنهى "يونس" عمله فى تمام الساعة الخامسة عصرًا وذهب إلى عيادة طبيب نفسي مختص، أستقبله الطبيب برحب شديد وبدأت يقصي له "يونس" ما يحدث معه وكيف تتلاشي "غزل" من حياته دومًا بعد أن كانت تلازمه بساعات طويلة، نظر الطبيب إليه لثواني صامتة ثم قال بنبرة جادة:-
-أسمح ليا اسألك سؤال يا يونس
أومأ "يونس" إليه بنعم فسأل الطبيب بفضول شديد:-
-أنت مضايقك أختفاء غزل أو تلاشي وجودي فى حياتك بعد ما كانت ساعات بقيت بتشوفها مرة كل يومين ؟
تنهد "يونس" بحيرة من الجواب الذي لا يملكه ثم قال بتلعثم:-
-مش عارف، ممكن أكون مستغرب دا، مستغرب أن بعد السنين دى كلها معايا فجأة وبدون مقدمات بدأت تختفي، على الرغم من أنها وهم ومش حقيقية إلا أن حتى لمستها الوهمية ليه بقيت بهرب منها بس فى نفس الوقت مقدرش أعيش من غيرها لو أختفت لأكثر من ثلاثة أيام ببقي هتجنن عليها
عاد الطبيب بظهره للخلف أكثر ثم قال بثقة جادة ونبرة ثابتة:-
-أنت مش هتجنن عليها يا يونس أنت مش هتموت من غير غزل، أنت هتعيش حياتك طبيعي زى أى إنسان، اللى قدر أقولهولك أنك بدأت بالفعل تخف من مرضها، غزل بتتلاشي لأنك فى طريق للعلاج
نظر "يونس" إليه بخوف شديد من إختفاء "غزل" من حياته وهي صديقته الوحيدة ليتابع الطبيب بعد أن قرأ الخوف والحيرة على وجه "يونس" مُحدثه:-
-وخلينى أقولك أن فلك هى السبب
أتسعت عيني "يونس" على مصراعيها بذهول تام من كلمته وقال بتلعثم شديد مُستغربًا:-
-فلك!!
أومأ الطبيب بنعم مع بسمة خافتة على شفتيه ليقول:-
-فلك يا يونس، غزل بدأت تظهر لما أنت فقدت الشخص الوحيد اللى بيقدم لك الحُب، لما خسرت حبيبتك اللى بتحتويك وبتحبك .. غزل ظهرت تقدملك الحب فى مكانة حبيبة ليك تحبك وتحبها وتحتويك وتسمعك، شخص يحبك من غير ما يكون له أى مصلحة من وراء الحب دا، شخص صنعه عقلك الباطن عشان يحمي قلبك من الغدر والخسارة
سأل "يونس" بفضول شديد وهو لا يفهم شيء قائلًا:-
-وفلك علاقتها بكل دا أيه؟
تبسم الطبيب وهو يقف من مكانه ويلتف حول المكتب حتى جلس على المقعد المجاور لـ "يونس" ثم قال بحماس شديد سعيدًا لهذا الرجل الذي نال حريته أخيرًا:-
-علاقتها أنك حبت يا يونس، أنت بدأت تحب فلك وفى وقت محدد ولحظة معينة من غير اى ترتيب هتلاقي غزل أختفت تمامًا حتى من غير وداع بينكم، ويمكن اللحة دى اللى هتعترف أنت فيها لنفسك انك حبيت فلك، الموضوع ببساطة أن عقلك بدأ يتنازل عن حمايته لقلبك لأن قلبك خلاص أختار حبيبة له ، أنت علاجك كان الحب يا يونس وأديك لاقيت اللى يحبك، لاقيت الحُب....
خرج "يونس" من مبنى العيادة وبدأ يسير فى الطرقات شاردًا بهذا الحديث، كيف له أن يكن الحب بداخله إليها وهى له مجرد صديقة وشريكة فى السكن، لم يتخلي يومًا أن علاجه كان الحب ليجلس أرضًا فى الشارع بصدمة ألجمته وتساءل كثيرًا هل كل هذه اللحظات التى اوهم نفسه بها بحبه لـ "قدر" كانت كذابة، إذا لم يكن يحب "قدر" فلم تحمل كل هذه الإهانة والذل منها، تساقطت الدموع من عينيه على وجنتيه بضعف شديد وأنهيار تام ورفع يديه يضعها على رأسه نادمًا على كل هذه السنوات التى قاضها مريض وعلاجه كان الحب والآن عثر عليه لكن أهم سؤال ضرب عقله الآن كان هل تحبه "فلك" وسترضي بالبقاء معه للأبد أما ستهجره كما حدث فى الماضي ويعود للمرض من جديد مع شخصية جديدة غير "غزل" ويبدأ من الصفر ......
********************
كانت هالة تقف بداخل مرحاض فى أحد المولات تبكي بهلع شديد وهى تغلق قبضتها بقوة على أختبار حمل بعد أن رأت النتيجة ولم يكتفي "أنس" بجريمته وما سلبه منها ليضع بداخله قطعةً منه، الآن تحمل بأحشائها جنينًا منه فماذا ستفعل بهذا الكارثة التى حلت بها؟.....
