
رواية هيبة الفصل السادس والاربعون بقلم مريم محمد غريب
_ أختارك _ :
-انطقي بقى يا بنتي.. بقالك ساعة متسمّرة زي الصنم. قوليلي مالك؟
نظرت "راندا" إلى عمتها في ذات الصمت، بداخلها ترددٍ كبير، رغم إنها تعتبرها بئر أسرارها، أمها إن جاز التعبير ..
فقد تركتها أمها ورحلت عن العالم في سنٍ مبكرة، ولطالما كانت العمّة "فاتن" الحضن والملاذ إلى الآمن إليها، حتى إنها الصديقة المقرّبة بالنسبة لها رغم وجود العشرات من الصديقات ..
ما حدث البارحة لم يكن سهلًا عليها، وكانت بحاجة ماسّة لإشراكها في الأمر لكي لا تفقد عقلها، أرادت أن تبوح لها، ولكن ما بالها منذ جلست أمامها تستنطقها فلا ترد ولا تنبس بكلمة واحدة!
ماذا حدث لها؟!
-عمتو! .. نطقت "راندا" بخفوتٍ وهي تضم وسادتها الصغيرة بقوة
حثتها "فاتن" بنفاذ صبرٍ:
-ها يا راندا.. اتكلمي يا حبيبتي!!
تتململ "راندا" فوق فراشها في اضطرابٍ، لا تعرف كيف تصوغ اعترافاتها، لكنها قررت ألا تفكر كثيرًا، ورددت دون ترتيبٍ:
-عمر باسني يا عمتو!
تجمّد عقل "فاتن" لبرهةٍ وهي تمعن النظر بابنة أخيها محاولة معالجة كلماتها، لكنها لم تستوعبها جيدًا، فاستوضحتها:
-نعم! عمر مين؟ ويعني إيه باسك؟!
تطلّعت "راندا" إليها بحرجٍ شديد، وقالت بينما وجهها كله محتقنٌ بحمرة الخجل:
-عمر البدري.. ابن خالة نديم
انتي عارفاه. قابلته امبارح و.. وباسني!!
ترفع "فاتن" حاجبها متمتمة وكأنها تحدث نفسها:
-عمر ابن خالة نديم.. آه.. طبعًا!
الآن حضرتها كل الظنون التي انتابتها خلال فترة زواج "راندا" كلها ..
كيف إنها قد لاحظت منذ أول وهلة هذا الشيء تحديدًا، كيف ضبطته مرارًا يرمق فتاتها خلسةً بنظراتٍ مريبة، في البادئ حاولت ألا تلقي بالًا لهذه الشكوك ..
إلا إنها لن تستطيع بعد الآن، بعد الذي سمعته من فم ابنتها الروحية، كان ينقصها دليل، والاعتراف سيد الأدلة!
-احكيلي إللي حصل! .. طالبتها "فاتن" بلهجةٍ هادئة مسالمة
فتشجّعت "راندا" وأطمأنت لها، وبدأت تسرد عليها أحداث لقائها بـ"بعمر" بالتفصيل ...
-بس يا عمتو. وفاجئني لما عمل كده.. أنا عمري ما تخيّلت إن ده يحصل من عمر. لحد اللحظة دي مش مصدقة!
فاتن بهدوء: وانتي كان إيه ردة فعلك لما عمر باسك يا راندا؟
بوغتت "راندا" بسؤالها ...
-مش فاهمة يا عمتو؟!
-يعني حسيتي بإيه؟ غير صدمتك فيه وفي تصرفه.. بالتحديد لما رجعتي البيت وفكرتي في إللي حصل. إيه احساسك دلوقتي وانتي قاعدة قدامي؟
جللت تعابير البلاهة وجه "راندا" وهي تصرف نظرها عن عمتها، لتشرد مفكرة ومفتشة بمشاعرها، ثم تقول بلا وعيٍ:
-لما عمل كده.. أنا حسيت إني اتجمدت بين إيديه
ده ماكنش طبيعي.. ولو كان أي حد تاني عملها ماكنتش سكت لحظة. بس
بس عمر قدر يخليني ارتبك. لدرجة إني مقدرتش أستوعب الموقف. كان عصبي. مندفع. ومتهور
ولما قدرت أبعد عنه وسألته إزاي يعمل كده.. ماقالهاش بصراحة. بس لمّح. إنه كان مهتم بيا
ومن زمان.. معقول ده يكون حقيقي؟ معقول أنا لا شفت ولا لمست الحتة دي فيه؟ إزاي؟!
تقرّبت "فاتن" منها قليلًا ممسكة بيدها، نظرت بعينيها وقالت بجدية:
-أنا ماتجوزتش.. مادخلتش في أي علاقة جديّة طول حياتي
بس انتي عارفة إني حبيت مرة واحدة بس. وإللي عمله عمر بيفكرني بالراجل إللي حبيته
سبحان الله. طريفتهم واحدة.. أغلبهم شبه بعض. وعلى فكرة يا راندا. عمر مايختلفش عن نديم. سلوكهم متشابه تقريبًا ..
ثم تنهدت وأردفت:
-إللي عايزة أقولهلك.. عمر فعلًا بيحبك
ومن زمان. من قبل ما تتجوزي نديم
إللي عمله ده كان نتيجة انفجار لمشاعره ناحيتك إللي فضل يضغطها طول الوقت إللي عدّى
نديم عمره ما حبك.. ولا يوم من أيامك معاه حبك.. لكن عمر هو إللي بيحبك
قبل ما تتجوزي. ولما اتجوزتي... ودلوقتي وانتي مطلقة!
تأكيد الأمر كان بمثابة صدمة أخرى أشدّ وطأة من سابقتها، بقيت "راندا" تحدق بعمتها ذاهلة، لتضيف "فاتن" رابتة على خدّها بلطفٍ:
-أنا مش عايزاكي تستعجلي المرة دي.. خدي وقتك وفكر على مهلك
قبل كده مشيتي ورا قلبك يا حبيبتي وطلع مايستهلش. دلوقتي لازم تحكّمي عقلك
في رأيي عمر راجل محترم. بعيدًا عن تصرفه الأخير معاكي.. لو هاقيّمه كشريك محتمل لبنتي حبيبتي
ف هقول إن هو ده الراجل إللي يستاهلك. أولًا لأنه بجد بيحبك. وثانيًا لأنه عنده من الصبر والمسؤولية إللي يخلي منه راجل مناسب لعلاقة تدوم العمر كله.. بس طبعًا أهم حاجة عندي تكوني راضية.. مرتاحة.. وعايزاه زي ما هو عايزك... فاهماني؟
حملقت فيها مشدوهة، تكاد لا تصدق ما تسمع، ما يجري كله ..
لكنها وجدت نفسها تومئ لها بالإيجاب أخيرًا ..
أيعقل أن يجمعها أيّ شيء بـ"عمر البدري"؟
هو دون الرجال جميعًا!!!
______________________________________________________
ناولها كأس الماء لتبتلع حبّة الدواء وهو يقول بصوته الخشن:
-خلاص يامّا.. عمي دياب وعدني إنه هايجنع جدي يطلّعك في أجرب وجت.
تجرّعت "غنيمة" الكأس كلها، ثم أعادتها إليه وقالت بغلٍ دفين:
-جدك. أبوي. العمدة رياض إللي كان مستعد يجتل بتّه ويغسل عاره.. دلوق رايح يجيب بتّها ويركبها علينا كلنا.. بس وعزة الله ما هاسكت. أمك ماهاتسكتش يا كرم!
كرم بعصبية: بزياداكي بجى يامّا. ماعدناش ناجصين.. بت دهب جاية
وعايزك لما تاجي ماتنطجيش بحرف. خليه يشبع بيها إياكش تنصفه. ولا هي أصلًا عيارها فالت كيف أمها. بس هو حر. مالناش صالح.
لم تهتم "غنيمة" كثيرًا بحديث ابنها، غيّرت مسار الحديث وسألته:
-كيفها مرتك؟
هدأ قليلًا وهو يجاوبها:
-بخير. فايتها في بيت أبوها اليومين دول.. انتي عارفة حبلها عزيز ما صدجنا عملية الحجن نجحت المرة دي وربنا عوض علينا.
ابتسمت له بحنانٍ وقالت:
-ان شالله ربنا يفرحك بعوضك يا ولدي.. بس أنا ماعايزهاش تجعد في بيت أبوها
مرته تشجّيها وتتعبها. هاتها لي هنا أجلّه تونسني وأنا أرعاها لحد ما تولد بإذن الله.
أومأ لها طائعًا:
-إللي تشوفيه يامّا. حاضر هانزل البلد أجيبها.. بكرة تكون عندك بالمشيئة.
-صح ماجولتليش.. سليمان لساه مختفي من ليلة جواز زين؟
-مش مختفي تمام. جاعد في دايرته اليومين دول. جال راجع لما جدي يخلص مشاكله ويحدد معاد كتب كتاب زين على شهد.
-مش جادرة ألومه. له حج يزعل.. مين يصدج. زين.. زينة رجال عيلة نصر الدين يتجوز جوازة زي دي
يهمّل شهد وتكون أول بخته بت مخبّلة. كله من جدك الله لا يسامحه.
-يامّا الجوازة تمت بالاسم بس.. اوعك تفكري إن بت كيف الهبلة دي تملا دماغ زين ..
وتابع شاردًا لبرهةٍ:
-رغم إنها كيف الجشطة. البت ناعمة وزبدة اكده.. جطّة سيامي. خسارة في العبط والله!
عبست "غنيمة" معقّبة بحدة:
-انت اتخبلت انت كمان يا واد؟ إيه إللي بتجوله ده؟ عينك من مرت زيـن؟؟!!
غطى "كرم" على كلماته بضحكة متهكمة:
-عيني من مين يامّا؟ هي البت دي تنفع لأي راجل أصلًا؟
دي بلوة.. الله يعينه عليها مش هايجدر يخلع منها بسبب أبوها ما انتي عارفة
كان وزير. ودلوق سفير.. واصل يعني.
غنيمة بغلظة: مهما كان.. إياك عينك تطرف عليها. فاهم؟
الكل عارفك نجس وبتاع حريم. بس النوبة دي محدش هايسمي عليك.. ابن خالك اتجوزها. يعني بجت عرضه وشرفه كيف بنات العيلة.
زفر "كرم" بضيقٍ وقال:
خلاص بجى يامّا.. ماهتكلميش عيّل اصغير. وبعدين أنا صح بتاع حريم
بس دي مالهاش صالح بالحريم. هي شكل بس. لكن عمرها ما تبجى حرمة.
غنيمة بابتسامة تهكمية:
-الراجل يا كرم مايهموش إلا الشكل.. اسألني أنا
يعني حتى لو بت السفير دي عجلها عجل عصافير مسيرها تجيب زين تحت رجليها
بكرة تجول أمي جالت!
________________________________________________________________
استغل أولى ساعات النهار ليأخذها في جولة، حيث غالبية ساكني المنزل لا يغادروا غرفهم مبكرًا كالعادة ..
كما إنها من أكثر الأشخاص الذين قابلهم نشاطًا، والآن صار يحفظ أطوارها جيدًا، ماذا تفعل منذ صحوتها وحتى يغلبها النوم ليلًا ..
يعرف بأنها تستيقظ لدى بزوغ الصبح، تتناول فطورها، تمارس هواياتها العديدة وتلهو، تأخذ قيلولة قصيرة بمنتصف النهار، ثم تقوم مجددًا بنشاطٍ أكبر لتستأنف اللعب والمرح، روتين الطفلة المثالية ..
والتي لم تكن سوى "ريهام".. زوجته.. طفلته ...
-خلصي طبقك يا ريري! .. قالها "زين" آمرًا بصوتٍ يخلو من أيّ نبرة مزاح
لم يتبقَ إلا القليل، فنظرت إليه "ريهام" وهي تقول بتبرّم:
-ريري شبعت يا زين. خلاص مش في مكان تاني في بطني بص!
وقفزت عن الكرسي الملاصق لبنش المطبخ المفتوح، مدت خصرها للأمام ليرى حدبة بطنها المسطح أصلًا، فضحك رغمًا عنه قائلًا:
-يااااه. صحيح. انتي أصلك يا عيني خلصتي على الفطار كله ..
واقترب منها قارصًا أنفها بلطفٍ وهو يقول بغيظٍ:
-انتي ناوية تجنني زين. أو أنا اتجننت خلاص.. خدي طيب ..
وناولها كأس الحليب الدافئ بصرامة:
-هاتشربي كوباية اللبن بتاعتك كلها زي ما انتي متعودة.
تأففت "ريري" عابسة بتذمرٍ:
-يووووه بقى. لبن لأ. طعمه وحش. عمر كان بيخليني أشربه بالعافية.. ريري مش هاتشرب لبن بـس!!
زين بحزمٍ: لأ ريري هاتشرب. ولو عندتي مافيش فسح ولا لعب ولا أنا هاكلمك أصلًا.
ضربت الأرض بقدمها كالأطفال تمامًا وصاحت برفضٍ قاطع:
-لللللللللللللأ. لبن لأ. وحش وحش وحش مش بحبه!!!
وعقدت ذراعيها أمام صدرها وقد استبد بها العناد كليًا ..
أدرك "زين" ذلك وعرف بأن إجبارها لن يأتي بنتائج حميدة، بل ستعانده أكثر، وربما بتسبب لها بالمزيد من التقلبات العاطفية خاصةً التي تؤدي بها إلى حزنٍ يصعب مداواته ..
فكر للحظاتٍ، ثم تركها متجهًا إلى إحدى الخزائن، أضاف القليل من مسحوق الكاكو الخام إلى الكأس، قلّبه جيدًا، ثم عاد إليها وقدّمه من جديد قائلًا بلهجة أكثر لطفًا:
-اتفضلي يا حبيبتي. حطيت لك في اللين الكاكاو إللي بتحبيه. يلا بقى أشربي عشان خاطري. هاتلاقي طعمه بقى حلو والله!
وأخذ يلاطفها ويهدهد لها حتى تخلّت عن عنادها تدريجيًا وتقبّلت ما يعرضه عليها ..
أخذت الكأس من يده، رفعته لفمها وتجرّعته دفعةً واحدة، أنزلته عن فمها فارغًا وقد صنعت لنفسها شاربًا من الشوكولاه ..
ابتسم "زين" معجبًا أكثر ببراءتها النقيّة، سحب منديلًا ورقيًا ومسح لها فمها قائلًا:
-شطورة يا ريري.. بحبك أوي لما بتسمعي الكلام. ياريتك تكوني كده علطول!
وأطلق نهدة قصيرة، ثم أمسك بيدها وشدّها برفقٍ للخارج وهو يقول:
-تعالي يلا.. هافرجك على البيت قبل ما دياب يوصل.
وأخذها وجاب بها أرجاء القصر كاملًا ..
أراها المنزل من الداخل، والحديقتين الرئيسية والخلفية، أغرمت كثيرًا بحوض السباحة الكبير، وأعجبها اسطبل الخيول، لدهشته لم ترهب الخيل، بل أرادت مداعبته ..
فسمح لها، إذ فتح مقصورة معيّنة بها فرسٌ لونه كالعسل، تركها تداعبه وحتى إنها قبّلته ...
-عجبك بحر يا ريري؟
نظرت له وأومأت بقوة:
-حلو أوووي يا زين.
-خلاص طالما عجبك أوي كده هايبقى بتاعك من إنهاردة.
-يعني إيه هايبقى بتاعي؟
-يعني زي ميمي كده. الفرق بس إنه مش هايقدر يطلع معاكي الأوضة طبعًا. انتي إللي هاتنزليله. تلعبي معاه وتركبيه شوية وقت ما تحبي.
أشرق وجهها بابتسامتها الحلوة وهي تهتف بحماسةٍ:
-الله. يعني أنا دلوقتي عندي حصان بتاعي ليا أنا وبس؟؟
أوما لها: أيوة يا حبيبتي.. بحر بقى بتاعك وليكي انتي وبس. وعارفة؟ عندي ليكي مفاجأة تانية.
سألته بفضولٍ متلهف:
-مفاجأة إيه. إيه يا زين المفاجأة؟؟؟
-ليلى صاحبتك.. إنهاردة هاتكون عندنا هنا.
شهقت بفرحٍ: ليلى. قصدك ليلى؟
طيب نديم هايجي معاها؟؟
تجهم وجهه وهو يرد عليها:
-لأ. نديم مش جاي معاها.. ومش عايزك تجيبي سيرته تاني
لو بتحبيني مش عايز أسمعك بتقولي أسمه حتى. وإلا هازعل منك بجد.
تلاشى مرحها مرةً واحدة ..
لا تفهم لماذا يقول ذلك، لا تفهم شيئًا على الإطلاق، فقالت بصوتٍ مكتوم:
-نديم أخويا.. نديم زي عمر.. ريري بتحب نديم.
عبس "زين" بشدة واقترب منها كثيرًا، تعلّقت عيناها بعينيه بينما يقول بهدوءٍ ضاغطًا على الأحرف:
-نديم مش أخوكي. مش زي عمر.. وأنا بقولك أنا مش بحبه ومش عايزك تحبيه من دلوقتي
لو مش هاتسمعي كلامي ده بالذات أنا هازعل زي ما قلت لك. ولو زعلت المرة دي مش هاخليكي تقعدي هنا معايا
هاكلم عمر يجي ياخدك. أو نديم لو عايزة.. يعني يا ريري أنا بخيّرك. أنا.. أو نديم. هاتختاري مين؟
ارتجفت شفتاها، كأنها تحاول أن تفهم معنى كلماته الكبيرة على وعيها القاصر، نظرت له طويلًا بعينين تلمعان بحيرةٍ صافية، ثم قالت وقد خرج صوتها مرتعشًا:
-يعني.. لو قلت اسم نديم تاني.. زين مش هايحبني؟
ابتسم بخفةٍ مصطنعة، وربّت على شعرها بلطفٍ قائلًا:
-مش كده بالظبط يا حبيبتي.. بس أنا بحبك أوي.. ومش عايز حد تاني ياخدك مني. عايزك تكوني معايا وليا أنا بس. فاهمة؟
نوعًا ما فهمته هذه المرة، وقالت دون تفكيرٍ:
-ريري بتحب زين.
توقف الزمن في عينيه لحظة، ثم ابتسم ابتسامة هادئة وهو يجذبها إليه في حضنٍ دافئ، قوي وهو يقول بخفوتٍ عاجزًا عن مقاومة استنشاق عبيرها المُسكِر:
-وأنا كمان بحبك يا ريري.. بحبك أكتر من أي حد.
أغمضت عينيها في صدره، وهمست كأنها تصدّق على قرارها باقتناعٍ تام الآن:
-ريري اختارت زين!.........