رواية مغرم مجنون الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم خديجة أحمد

رواية مغرم مجنون الفصل الخامس5 والسادس6 بقلم خديجة أحمد 

راكان قال وهو بيحاول يخفف التوتر بنغمه فيها هزار:
– طب إيه؟ تعالي نروح نشرب حاجه كده، واروّحك ف طريقي.

هاجر رفعت عينيها ليه بنظره متحديه، وقالت ببرود يخفي وراه وجع وتعب:
– مش محتاجه منك مساعده.

ابتسم راكان بنص سخريه ونص هدوء وقال:
– هو إنتي لازم تعترضي؟ مفيش عندك تفاهم خالص.

فضلت ساكته لحظه، بتبص بعيد كأنها بتحاول توازن بين عقلها اللي بيقولها “ابعدي”، وقلبها اللي لأول مره من زمان حاسس إن في حد بيحاول يقرب منها.

قاطع تفكيرها صوته الهادئ وهو بيحاول يلين الكلام:
– هعزمك، ومش هخليكي تدفعي ولا مليم.

بصتله بخفه، وابتسامه صغيره غلبت على ملامحها وهي بتقول:
– ماشي… أهو حاجه تكفرلك عن استفزازك ليا ورخامتك.

ضحك راكان بخفه وهو بيبص لها:
– اتفقنا يا ستي، بس خدي بالك أنا رخم بطبعي.

هاجر رمقته بنظره جانبيه وهي بتتسحب تمشي جنبه:
– ما كنتش محتاجه أكتشف لوحدي، كنت عارفه من أول دقيقه.

ابتسم بخبث وهو بيفتح لها باب العربيه:
– يبقى انتي من أول دقيقه كنتي مركزه … مركزه فيَّ أنا.

هاجر رفعت حاجبها باستغراب وقالت وهي بتركب:
– دا خيالك الواسع اللي بيخليك تقول كده، أنا كنت مركزه ف مصيبتي اللي نزلتلي لما قابلتك.

ضحك بصوت خافت، صوت الضحكه كان فيه حاجه دافيه غصب عنها خلتها تبصله لحظه صغيره، وبعدها حولت وشها للناحية التانيه عشان تخبي ارتباكها.
وهو، كعادته، لمح التوتر الخفيف اللي في ملامحها، بس اكتفى بنظره جانبيه مليانه غموض وقال بنبره شبه هامسه:
– شكلك هتبقي مشواري المفضل من النهارده.

راحوا على كافيه هادي على ناصية شارع مزدحم بالحياة.
قعدوا على ترابيزة صغيرة جنب الإزاز، . النادل جاب الطلبات، وساد بينهم سكون مريح كأنهم بيستمتعوا بصوت الكوبايات وهي بتترص على الطاولة.

راكان، بعينه اللي فيها فضول طفولي، قال وهو بيقلب المعلقة ف الكوباية:
– مش ناوية تقوليلي اتخرجتي من كلية إيه؟

هاجر رفعت عينيها ناحيته وقالت:
– كلية ألسن.

ابتسم راكان بإعجاب واضح:
– حلو، ليكي مستقبل كويس أوي.

اتنهدت هاجر وهي بتقلب الكوباية بين إيديها وقالت:
– كنت في الأول حاسة إني مش هتقبل في أي شركة… بس النهارده عملت إنترفيو في شركة كبيرة، وشكلي كده هتقبل.

ضحكته كانت بسيطة لكنها طمنت قلبها:
– إن شاء الله هتتقبلي،.... هم هيلاقوا واحدة شاطرة زيك فين؟

ابتسمت بخجل على كلامه، بس ملامحها ما قدرتش تكمّل الابتسامة.
افتكرت لما قالت لمامتها بحماس، ومامتها اكتفت بهزة ب كلمه "كويس" وهي مش مهتمه. نفس الوجع القديم رجع، بسيط بس مؤلم، زي شوكة صغيرة ف القلب.

راكان لاحظ التغير، بصّ ليها وقال بنبرة فيها قلق خفيف:
– مالِك؟ حسيتك اتضايقتي فجأة.

هاجر اختفت ابتسامتها وقالت بصوت واطي فيه وجع:
– افتكرت حاجة كده… ضايقتني.

راكان فضل ساكت ثواني، وبعدين قال بهدوء:
– نصيحة مني، لما تكوني مبسوطة، متفكريش في أي حاجة تعكنن عليكي فرحتك. استمتعي بيها، وبعد كده كل حاجة تهون.

اتسعت ابتسامتها المرّة دي شوية أكتر، وقالت بخفة دم بسيطة وهي بتحاول ترجّع الجو الحلو:
– عندك حق… تنفع ثيرابيست والله.

ضحك وقال بثقة فيها غرور بسيط:
– مش من اهتماماتي بصراحة.

ضحكت هي كمان، والضحكة كسرت كل ثِقل اللحظة.
اتبدّل الجو، وبقى خفيف زي الهوا اللي عدى بينهم في ساعتها.

لكن اللحظة الساكنة دي اتقطعت فجأة بصوت شخص بيقرب من الترابيزة:

– هاجر؟

رفعت هاجر راسها بسرعة، قلبها دقّ بسرعة:
– مصطفى؟ ا اي الصدفه دي؟

ابتسم هو بعفوية، لكن عيونه كانت فيها فضول:
– أنا مع خطيبتي هنا… إنتِ بتعملي إيه؟

بص مصطفى ناحية راكان اللي كان واقف جمبها، حاول يستوعب المشهد:
– دا خطيبك ولا إيه؟

راكان حاوط خصرها بإيده بثقة وابتسامة خفيفة:
– قريب إن شاء الله.

هاجر بصت له بصدمة، مش عارفة ترد، وكل كلمة منه كانت تقطع قلبها.
مصطفى صدمته كانت واضحة، وحاول يتحكم في صوته وهو بيوجلها الكلام:
– إمتى…؟

قبل ما هاجر ترد، راكان تدخل بهدوء لكنه بحزم:
– بقالنا سنة مثلاً، صح يا حبيبتي؟

هاجر كانت لسه صدمتها واضحة على وشها، مش عارفة تتحرك أو تكمل الكلام.

وفجأة، ظهرت من وراهم بنت وشها هادي، نسمه. مسكت إيده برفق وقالت بصوت رقيق:
– أنا نسمه، خطيبة مصطفى.

مدت إيديها تسلم على هاجر. هاجر حست بشعور غريب، امتزج بين الحيرة والفضول، سلمت عليها وقالت ببطء:
– اتشرفت بيكي.

نسمه ابتسمت وقالت برقة:
– طيب نسيبكم بقى.

ومشيت من قدامهم، تاركة جو مشحون بالتوتر.

راكان، اللي كان لسه بيحاول يسيطر على غضبه، بصّ لها بنظرة حادة وصوته طالع متحشرج من العصبية:
– مين دا؟

هاجر اتفاجئت بنبرته، قلبها دقّ أسرع وقالت بعصبية وهي بتكتم ارتباكها:
– إنت إيه اللي قولته دا يا راكان؟!

هو شدّ نفسه وقال بنبرة أعلى، الغيرة باينة في عينه:
– هاجر، مين دا بقولك؟

هاجر انفجرت فيه:
– ملكش دعوة! إنت مالك أصلاً؟! ويلا بقى عشان أنا عايزة أروح!

وقفت بسرعة، سابت الترابيزة ومشيت بخطوات سريعة. كانت بتحاول تستخبى من ملامح وشها اللي مليانة قهر وارتباك وغضب في نفس الوقت.

وصلت للعربية، فتحت الباب الخلفي وركبت جمب روي، الكلب اللي كان قاعد ساكت، بيبصلها بعينيه البريئة كأنه حاسس باللي جواها. مدت إيدها على راسه، تمسح عليه وهي بتحاول تهدي نفسها

راكان جه بعدها بثواني، ركب العربية في صمت. على غير عادته، مافيش ولا كلمة.
وشه كان جامد، عينه على الطريق، بس أفكاره كلها عندها.

الجو بينهم كان تقيل، كأن الهوا نفسه واقف.
كل واحد فيهم غرقان في صمته… 

رجعوا البيت في صمت تقيل، كل واحد فيهم دخل أوضته من غير ولا كلمة.
البيت نفسه كان كأنه شايف اللي بينهم، ساكت ومخنوق.

هاجر أول ما دخلت، رمت نفسها على السرير، ودماغها بدأت تلف في دوامة من الأفكار.
اللي حصل في الكافيه كان زي كابوس سريع…
كل حاجة جت فجأة، وردّ فعلها كان عنيف أكتر من اللازم.
هي عارفة إنها دايمًا بتصده، وبتتعامل معاه بحدّة، بس… تعمل إيه؟
كل ما يقرب منها، بتحس بخوف غريب، كأنها مش قادرة تسمح لحد يدخل جواها تاني.

قلبها كان بيوجعها من الكلام اللي قالته له، ومن نظرته اللي ما نسيتهاش وهي بتسيبه واقف.

وسط شرودها، موبايلها رنّ.
بصّت على الشاشة… رقم متسجل باسم Therapist.
كانت هتقفل في الأول، بس سكتت لحظة، وبعدين ردّت بهدوء.

– ألو؟
جالها صوت دكتورتها الهادي اللي دايمًا بيطمنها:
– إزيك يا هاجر؟

– الحمد لله يا دكتورة، أخبار حضرتك إيه؟

– كله تمام، بس أنا عرفت إنك رجعتي من السفر بقالك فترة.
لازم تيجيلي العيادة يا هاجر، أنا قلتلك كذا مرة إن وضعك بيسوء، وبقالك كذا جلسة مش بتحضريها أونلاين.
تعالي عشان أكتبلك على أدوية جديدة، ونتكلم شويه.

هاجر أغلقت عينيها وهي بتتنفس ببطء وقالت بصوت مبحوح:
– حاضر… أنا كمان محتاجة أتكلم مع حضرتك أوي.

سكتت لحظة طويلة، وبعدين همست، والدموع بدأت تملى عينيها:
– هو أنا… لو جرحت حد بكلام… أعمل إيه عشان أصالحه؟

ردت رُقيّة بصوتها الهادئ اللي فيه دفء الأم:
– الأول لازم تعترفي لنفسك إنك غلطانة.
تانيًا… تتأسفي للشخص ده بصدق، ثالثا تحاولي تعملي حاجات هو بيحبها.
بس لو هو ما قبلش أسفك… ف ده مش ذنبك يا هاجر.

كلمة "مش ذنبك" خبطت جواها بقوة.
حست إنها كانت بتحاسب نفسها على كل حاجة، حتى لما مش بتكون غلطانة.
غمضت عينيها وسابِت دمعة تنزل بهدوء…

قفلت معاها وهي لسه تايهة...
الهدوء في الأوضة كان خانق، وصوت دقات قلبها العالي هو اللي مالي المكان.
صورت مصطفى وهي معاه... هي وهو وضحكتهم ساعتها... كانت بتلف ف دماغها زي شريط بيوجع.
قلبها وجعها، حرفيًا حسّت بالوجع،
إزاي بعد كل الحب دا يسيبها؟
إزاي بعد الذكريات دي كلها يبقى عادي كده معاها؟ إزاي يخبط بعديها؟

كل حاجة جواها كانت بتتكسر بهدوء،
حزن تقيل بيملأ صدرها، بيخنقها.
وفجأة...
نزلت دمعة تاني.
بس أول ما وصلت لخدّها، حسّت بسخونة غريبة.
مدّت إيدها تمسحها...
ولقت لونها أحمر.

الفصل السادس 

قعدت تبص في إيدها، والدم لسه ناشف على أطراف صباعها، لكن قلبها كان مولع أكتر من أي وقت فات.
إحساس غريب... بين الصدمة والخوف والحزن.
ليه دلوقتي؟! بعد كل السنين اللي حاولت تنسى وتستحمل، ليه الدموع دي لازم ترجع دم؟
قلبها كان بينفطر، مش بس من وجع مصطفى والذكريات،
لكن كمان من إحساسها بالعجز، إنها مش قادرة تتحكم حتى في جسمها.
الدمعة التانية نزلت، ومعاها كأن كل وجعها القديم رجع ينبض في صدرها.
زعلت، زعلت من نفسها، من جسمها، من الحياة، من كل حاجة.
وكأنها اكتشفت إن بعض الحزن بيستمر حتى لو حاولت تهرب.

راحت هاجر لحمام غرفتها، غسلت وشها من آثار الدم، وحسّت كأنها بتمسح معاها كمان أثر كل التوتر والغضب اللي جوّاها.
قلبها كان مليان خوف وترقب، بس قررت تاخد بنصيحة الدكتورة، وتحاول تصالح راكان، حتى لو خطوة صغيرة.

نزلت من السلم بخطوات هادية، لكن الدنيا كانت ساكتة جدًا حوالينها.
مامتها في الشغل، وجوز مامتها برضه مشغول، والبيت كله غارق في صمت.

اتجهت نحو أوضة راكان، كل خطوة فيها إحساس مختلط بين القلق والخوف والأمل.
فتحت الباب بهدوء… ولقته نايم على السرير، وشه مرتاح، وأنفاسه ثابتة.
هدوءه كان شبه سكينه تقطع خوفها، لكنها حسّت كده لأول مرة… يمكن دلوقتي يكون وقتها تواجه نفسها وتواجهه.

قربت هاجر منه على السرير، قلبها بيدق  بسُرعة.
ملست على شعره بهدوء،و بحذر شديد، عشان ما يصحّاش من النوم.
عيونها بدأت تدمع، والدموع سايبة أثرها على خدها، وهمست بصوت ضعيف مليان ندم:

– أنا… آسفة… آسفة على كلامي معاك اللي دايمًا دبش… آسفة على قلة ذوقي معاك… آسفة إني دايمًا بعاملك وحش…
(أخذت نفس عميق، ودموعها بتنزل أكتر)
– أنا بس… لما بتضغط  أو بخاف، بعمل حاجات مش عارفة عواقبها… عارف؟ انا جبانة أوي… كنت جاية أعتذرلك… بس قبل ما أدخل الأوضة بالضبط، قولت هاجي أنكشك وخلاص… أنا آسفة لو جرحتك بكلامي أول مره اتقابلنا فيها.

قامت بسرعة، وهي حاسة بارتباكها كلّه بيطلع في خطواتها، ناوية تمشي بعيد عن السرير… عن اللحظة… عن كل حاجة.

وفجأة، حسّت بإيد بتمسكها!
شدّت عليها برفق، بس في نفس الوقت بحزم، وبصّ لها بعينيه اللي فيها مزيج من الغضب والحيرة، وصوته واطي لكنه حقيقي:
– ما تمشيش… 
وكمل بضحكه: لسه معرفتش مين مصطفى.

قفّت، قلبها بقى متلخبط من التوتر والخوف والارتباك، مش قادرة تقول كلمة.
البسمة ارتسمت على وشها، كانت بسيطة بس طالعة من القلب، كأنها أول مرة تبتسم بارتياح من فترة طويلة.
بصّت له وقالت بصوت خفيف فيه شوية دعابة وشوية خجل:
– عندك وقت كفاية تسمع الحكاية؟

راكان، وهو لسه ماسك إيدها، ابتسم ابتسامة صغيرة فيها مزيج من الهدوء والحنين، وقال بنبرة هادية:
– معاكي للصبح.

ضحكت بخفة، دموعها لسه سايبة أثرها، وقالت:
– حيث كده بقى… كوبايتين شاي ونرغي للصبح.

ضحك هو التاني، والجو اللي كان متوتر من شوية بقى دافي ومليان راحة.

بعد شوية، كانوا قاعدين في المطبخ، على الكاونتر بتاع المطبخ الأمريكي.
الإضاءة كانت دافية، وكوبايتين الشاي قدامهم، البخار طالع منهم بهدوء كأنه بيحكي قصة هو كمان.

هاجر أخدت نفس طويل، وتنهيدة خرجت معاها كأنها بتطلع تعب سنين:
– بص يا سيدي… مصطفى دا كان خطيبي.
اتخطبت له قبل ما أسافر المنحة.
أنا… عصبية أوي.
بتعصب بسرعة وبتكلم بطريقة ممكن توجع اللي قدامي من غير ما أقصد.
هو الصراحة… كان بيستحملني.

سكتت لحظة، ومسحت دمعة خفيفة خانتها وهي نازلة على خدها:
– بس كل واحد ليه طاقته… وهو طاقته خلصت.
تعب، تعب مني ومن عصبيتي…
بدأ يقلّ اهتمامه، وبدأ يكلّمني قليل، ويبعد…
وأنا كنت… بشحت منه الاهتمام، بحاول أرجّعه بالكلمة، بالنظرة، بأي طريقة.

راكان فضل ساكت، عينه عليها، بيشوف الوجع اللي بتحكيه،… ما حاولش يقاطع، ولا يواسي.
هو بس… كان بيسمع.

تنهدت تنهيدة وجع، فيها استسلام أكتر من حزن، وقالت:
– لغاية ما في يوم… واجهته.
قولتله لو مش قادر تكمل، قولي، بس متسيبنيش كده…
وفجأة لقيته بيقولي: "أنا آسف… أنا مش هقدر أكمل."

نظرت قدامها في صمت، والإيد اللي كانت ماسكة الكوباية بترتعش خفيف.

كملت هاجر بصوت واطي، فيه بقايا وجع مالوش ملامح:
– مكنتش متخيلة إنه ممكن يقولها…
بعد العِشرة اللي بينا، وكل حاجة حلوة عشتها معاه،
متخيلتش إننا نبعد كده، فجأة، من غير حتى ما نحاول.

عيونها لمعت وهي بتبص في الفراغ، كأنها شايفة الذكريات قدامها على شاشة المطبخ،

– كنت فاكرة إننا هنعدّي أي حاجة…
بس الظاهر إن الحب لوحده مش كفاية.

راكان حس بخنقة في صدره، مش عارف يقول إيه.
نظرة واحدة ليها كانت كفيلة توصله وجعها كله.
مد إيده ناحية كوباية الشاي، بس ما شربش.
كل اللي عمله إنه قال بهدوء:
– يمكن ربنا كان شايف إن وجع البُعد أهون من وجع الاستمرار.

هاجر وهي بتبص ف كوباية الشاي اللي قدامها، صوتها واطي جدًا:
– جايز.

سكتت ثواني، والهدوء بقى تقيل ف المطبخ لدرجة إن صوت المعلقة وهي بتخبط في الكوباية كان باين.
راكان بصّ لها بتردد، كأنه مش عايز يسأل بس السؤال خرج غصب عنه:
– لسه بتحبيه؟

هاجر خدت نفس طويل، وبصّت ف الأرض شوية قبل ما ترد:
– مش بحبه... ومش بكرهه.

كأنها كانت بتختار كل كلمة بعناية، كأنها بتحاول تفهم نفسها وهي بتتكلم.
– هو بقى بالنسبالي حاجة كانت... مش موجودة دلوقتي، بس سايبه أثر.
عارف لما وجع يخفّ بس يفضل مكانه ف القلب؟ هو كده بالظبط.

راكان بصّ لها، وهو حاسس إن الكلام ده مش عن "مصطفى" بس،
ده عن كل حاجة وجعتها وسكتت.
ابتسم بخفة وقال بهدوء:
– يمكن الأثر ده هو اللي بيعلمنا نحب صح بعد كده.

هاجر بسرحان: ممكن

بعد ما خلصت قعدتها مع راكان، اليوم عدى هادي… من غير أي أحداث جديدة، بس جواها كان في دوشة مش ساكتة، أفكار رايحة جاية ومش عايزة تهدى.
تاني يوم، صحيت على صوت المنبّه، جواها إحساس إنها محتاجة تبدأ من أول وجديد، يمكن الجلسة مع الدكتورة تساعدها تشوف نفسها بوضوح.
قامت، لبست لبس بسيط، شعرها سيبته على طبيعته، خدت شنطتها ونزلت، لكن قبل ما تطلع من باب الأوضة، موبايلها رن.
بصت ع الشاشة… “بابا”.

قلبها اتقبض لحظة، يمكن لأنها كانت محتاجة حضنه أكتر من أي وقت.
ردّت وهي بتحاول تخلي صوتها طبيعي:
– ألو يا بابا.

صوته جه دافي :
– إزيك يا هاجر، عامله إيه يا بنتي؟ طمنيني عليك.

ابتسمت بخفة، بس ابتسامتها ما وصلتوش، وقالت:
– الحمد لله يا بابا، أنا كويسه.

سكتت ثواني، وبعدين خرج السؤال اللي كان واقف في حلقها من يوم ما عرفت:
– حضرتك كنت تعرف إن ماما اتجوزت؟

الصمت اللي جه بعدها وجعها أكتر من أي إجابة.
عرفت من سكوته… عرفت إنه كان عارف.
حست بسكين بيدخل في قلبها ببطء، وقالت بصوت مهزوز:
– ليه؟ ليه يا بابا؟ ليه تخبي عني حاجه زي دي؟

صوته جه مكسور، فيه ندم وحنين وكسرة راجل اتعب من الدنيا:
– يعلم ربنا يا حبيبتي إني مكنش  هدفي اني اخبي عليكي… أنا قولت ما ادخلش بينك وبينها. هي لو كانت عايزه تقولك، كانت قالت.

هاجر قعدت على أول كرسي قابلها، الموبايل في إيدها بس إيديها بتترعش.
الدموع كانت بتتجمع ف عينيها بس بتحاول تمسك نفسها، وقالت وهي بتهمس:
– بس أنا كنت محتاجه أعرف منك يا بابا… منك إنت. مش اكتشف لوحدي .

صوته جه حنين أوي، بس فيه تعب واضح:
– عارف يا هاجر، وعندك حق... يمكن كنت فاكر إني بحميكي، بس طلع إني وجعتك أكتر.

هاجر بابتسامه باهتة وهي بتمسح دمعة نزلت رغم عنها:
– أنا بس كنت محتاجه أحس إن في حد بيقولي الحقيقه، حتى لو هتوجعني.

باباها اتنهد وقال بحنيه:
– يمكن غلطت، بس عمري ما كنت عايزك تحسي إني بعيد أو بخبي عنك.
وبعدين بصوت واطي:
– وحشتيني يا هاجر مش هتيجي تزوريني تاني.

هاجر بصت ف المراية وهي بتحاول تمسك نفسها من العياط:
– وإنت كمان يا بابا، وحشتني أوي 
هجيلك قريب حاضر.

قفلوا المكالمة، بس في قلبها حاجات كتير ما خلصتش...
كل اللي جواها كان خليط من وجع وحنين وخوف....

هاجر فضلت ساكته بعد المكالمة، ماسكه الموبايل في إيدها ومش قادرة تستوعب اللي حصل.
حست إن قلبها بيتكسر للمرة المليون، المرة دي لما عرفت إن حتى أبوها خبّى عنها.
وقفت قدام المراية، وشها باين عليه الإرهاق، عنيها فيها لمعة حزن مش بتروح، مسحت دموعها بسرعة وقالت لنفسها:
– كفاية ضعف يا هاجر… قومي.

نزلت من البيت بخطوات بطيئة، 
ركبت العربية، وشغلت الراديو، بس أول أغنية طلعت كانت عن الفُقد… فقفلته فورًا.
طول الطريق كانت ساكته، بتفكر ف كل حاجه ومفيش حاجة مفهومة.

وصلت عند عيادة الدكتورة رقيّة، دخلت وهي بتحاول تبين إنها هادية، بس عينيها كانت بتحكي غير كده.
السكرتيرة أول ما شافتها قالت بابتسامة:
– اتفضلي يا أستاذة هاجر، الدكتورة مستنياكي.

فتحت باب الأوضة، لقت رقيّة قاعدة ووشها فيه طيبه واهتمام، رفعت راسها من الورق وقالت بهدوء:
– أخيرًا جيتي يا هاجر… كنت مستنياكي.

هاجر ابتسمت ابتسامة ضعيفة، وقعدت قدامها وقالت بصوت خافت:
– يمكن اتأخرت… بس كنت محتاجة أتكلم النهارده.

رقيّة مالِت لقدّام وقالت بلُطف:
– تمام يا حبيبتي، احكيلي… إيه اللي وجعك المرة دي؟

– حاجات كتير أوي يا دكتوره، تخيلي… رجعت من السفر ألاقي ماما اتجوزت، من غير ما تقولي!
أعرف كده بالصدفة! كأنّي غريبة عنها، كأنّي مش بنتها…
ولما سألتها عن الكلب بتاعي، “روي”، قالتلي مات… وأنا صدقت!
وهو طلع عايش!
كدبت عليا في حاجات كنت شايفاها بسيطة بس هي بالنسبالي وجع.

دموعها نزلت غصب عنها، مسحتها بإيدها بسرعة وقالت وهي بتكمل:

– حتى بابا… بابا اللي كنت فاكره مبيخبيش عني حاجة، كنت بفتكر إنه الوحيد اللي صادق معايا…
طلع هو كمان عارف إنها اتجوزت، وساكت!
خبا عني زيها بالظبط…
أنا مش عارفه هو أنا اللي غريبة؟ ولا هما اللي بعدوا؟

رقيّة قالت بهدوء وهي بتميل ناحيتها:
– اللي حصل معاكي مش بسيط يا هاجر، وإحساسك بالغدر طبيعي جدًا…
بس عايزاكي تفهمي حاجة، الناس ساعات بتخبّي مش عشان تأذي، بتخبّي عشان خايفة تكسرك، بس للأسف بيكسرونا أكتر لما يسكتوا.

هاجر رفعت عينيها ليها، وقالت بصوت مخنوق:
– يعني أعمل إيه؟ أكرههم؟ ولا أكمّل كأني مش شايفة؟

رقيّة ابتسمت ابتسامة هادية وقالت:
– لا تكرهي، ولا تتجاهلي… واجهي، بس المرة دي مش بالكلام، واجهي بإحساسك.
لما تشوفيهم، ما تلبسيش وش البنت القوية، خليكِ طبيعية، يمكن ساعتها يحسّوا قد اي إنتي كنتِ محتاجة حب مش أسرار.

هاجر سكتت، وبصت ف الفراغ.

عيونها نزلت دموع، دموع خفيفة في الأول، بس فجأة اتبدلت بحرارة غريبة،
والدم بدأ يختلط بيها، ينزل بهدوء على خدها زي وجع ساكت مش لاقي طريق غير كده.

هاجر بصوت مبحوح من الألم:
– بدأت أعيّط دم من تاني… كان بقالي كتير معيطش كده، كنت فاكراه راح خلاص.

رقيّة بصت لها بهدوء، ملامحها مفيهاش خوف، فيها فهم عميق للحالة دي، وقالت بنبرة حازمة بس حنينة:
– دا معناه إنك مضغوطة جدًا يا هاجر… الـ Haemolacria رجعت لأنك مش بتطلّعي اللي جواكي.
لازم تهدي، تبعدي عن أي توتر أو زعل.
اعملي حاجات جديدة، شوفي شغلك، حياتك، نفسك… بس أهم حاجة تبعدي عن أي ضغط ممكن يكسرِك أكتر.

هاجر مسحت الدم من على خدها بإيديها المرتجفة، وقالت بنبرة فيها وجع واستسلام:
– بحاول يا دكتوره… بس حتى وأنا بهرب من الضغط، بيجيلي لحد عندي.

رقيّه قربت منها وقالت بهدوء:
– ما تهربيش، واجهيه بس بهدوء.
لما تبطّلي تقاومي كل حاجة لوحدك، جسمك هيرتاح… وعينك كمان.

هاجر سكتت، عنيها لسه فيها لمعة الدم والدموع، بس جواها حسّت إن فيه حاجة صغيرة بدأت تتنفس.

رقيّة مدت إيدها بهدوء ناحية المكتب، جابت نضارتها ولبستها، وبدأت تكتب في الملف قدامها.
هاجر كانت لسه قاعدة، ممسكة منديل بتضغط بيه على خدها، بتحاول تمسح أثر الدم اللي كان بينزل من شويه.

الدكتورة بصت لها وقالت بصوت هادي وواضح:
– بصي يا هاجر، أنا هكتبلك على شوية أدوية تساعدك ترجّعي توازنك النفسي.
مش علاج سحري، بس هيساعدك تهدي وتقدري تتعاملي مع الضغط.

هاجر كانت بتسمعها باهتمام،  وهي تهزّ راسها ببطء.
رقيّة كملت:
– العلاج دا لازم تمشي عليه لمدة شهر على الأقل، ومعاه جلسات منتظمة.
بس أهم من الدوا يا هاجر… إنك تدي لنفسك فرصة ترتاح، تبطّلي تحاربي كل حاجة لوحدك.

هاجر خدت الورقة منها، بصّت فيها شويه وقالت بنبرة فيها امتنان صغير:
– حاضر يا دكتوره… هحاول.

رقيّة ابتسمت وقالت:
– وأنا هنا دايمًا يا هاجر، مش بس كدكتوره، كحد شايفك بجد.

هاجر ابتسمت ابتسامة ضعيفة، فيها شكر أكتر من ألف كلمة، وقامت بهدوء تمشي، والورقة في إيدها  
تعليقات



<>