
رواية لطيفها عاشق بقلم سميه رشاد
رواية لطيفها عاشق الفصل الخامس عشر15والسادس عشر16 بقلم سميه رشاد
حينما نصل إلى الشربة الأخيرة من آخر قطرات الأمل بقعر الكأس فنظن بأنها النهاية ولا محال من الموت عطشًا ثم نجد الكوب يمتليء شيئًا فشيء من حيث لا ندري إلى أن يفيض الأمل وتعود الأحلام إلى الحياة."
صفعها اعترافه، بل جمدتها كلماته فباتت تقف أمامه كلوح الثلج بلا حراك، ماذا قال لتوه؟ أهذا أول اعتراف منه بعد نكبتهم بحبه لها، لطالما عاركت أفكارها قلبها وأوهمته أن حبه الذي كان يتغنى به بعد عقد قرانهما قد سلبته فعلتها حتى أفقدته إياه وأسقته كرهًا لا طاقة لها على تحمله منه.
ولكن ما جاد به انفعاله وأقره أمامها الآن أعاد كل الحقائق إلى عقلها! أعاد شعور بالطفو فوق غيوم من سعادة شكلتها كلماته! ولكن لما لا تراه سعيدًا بهذا الاعتراف؟! لما ترَ الصدمة تحتل ملامحه أثر كلماته وكأنه لم يكن ينوي منحها إياها أبدًا؟!
ظلت عيناها تأكل وجهه أكلًا بينما لم يصدر عنه سوى أن زفر بضيق وانتقل يدخل إلى غرفته وكأنه لم يلقِ على مسامعها أنشودته التي كان يتدلل عليها ويتمنع عن إسماعها لها حتى قارب سمعها على الجفاف مما يعانيه منه.
أجفلت على صوت الباب الذي أغلقه خلفه بقوة ليصدر قلبها آه اعتراض فينعكس على ضغط دمائها الذي ارتفع على الفور لتظهر نتيجته أمام مرأى عينيها في صورة دماء سالت بها أنفها.
تحسست أنفها أثر شعورها بتلك السخونة العجيبة التي راودتها للمرة الأولى لتشهق فور رؤية الدماء تلوث يديها فانفلتت منها صرخة فزع وهي تهرول تجاه المرآة تتأكد مما تقصه لها الدماء على يدها.
انفتح باب غرفته بفزع فور وصول صرختها إليه ليسرع تجاهها يتفحصها بقلق شديد سرعان من تفاقم فور رؤية الدماء تسيل من وجهها.
- إيه الدم دا اتعورتي ازاي إيه اللي حصل
أجابته بصوت يرتجف خوفًا من دماء ترتعب من رؤيتها أكثر من أي شيء آخر
-مش عارفة مناخيري بتنزل دم ليه مش عارفة اتعورت إزاي.. مفيش حاجة حصلت.
انتقل التوتر من صوتها إليه.. لطالما قرأ عن الدماء التي تسيل من الأنف بل وحدثت لصديقه في الصغر ذات مرة أمامه، قرأ عن كيفية التعامل مع الأمر، ولكن لما الآن يشعر بالارتعاب؟! لما يشعر برؤية دماءها تغشي عقله فلا يتذكر ولا يدري ماذا يفعل بهذا الموقف لتترأف الدماء بحالهما وتتوقف دون تدخل منهما فأسرع على عبوة المناديل الورقية وظل يمررها على أسفل أنفها إلى أن اختفى أثرها عن وجهها تمامًا بينما ظل في عيون قلوبهما، فبدنه مازال يرتجف وعيونها مازالت تدمع أثر يده التي تربت على ظهرها بحنو حرمت منه دائمًا وتتلمسه منه الآن.
_تعالي.
قالها وهو يبعد يده عن ظهرها لتشعر بالإحباط إلا أنه أعاد ذاك الشعور إليها مرة أخرى وهو يستبدل كفها بظهرها ليحلق قلبها في السماء أثر ضغطة يده الحانية على باطن كفها.
قادها برفق إلى أن وصل إلى غرفتها وأجلسها على الفراش بهدوء ثم تركها وغاب عنها قليلًا حتى عاد محملًا بكوب من العصير الطبيعي الذي أعدته والدته لهما سابقًا.
وزعت نظراتها بينه وبين الكوب ليجلس بجوارها ويرفع الكوب إلى شفتيها يساعدها بمبالغة لتستجيب له هي الأخرى بمبالغة أكبر وكأنهما جائعان لمشهد هاديء يضمهما دون شجار.
ارتشفت بعض من العصير ثم ابتعدت بوجهها في تمنع ودلال ليهز رأسه بعدم رضا قائلا بنبرة كللها القلق
- اشربي عشان تعوضي الدم اللي فقدتيه قبل ما نروح للدكتور.
كادت تمتنع وتتشدق بعدم حاجتها للذهاب إلى الطبيب إلا أن نظرته المحذرة أردعتها على الفور فأخرستها وأوقفت الكلام بحلقها.
رفع الكوب إلى شفتيها مرة أخرى لترتشف منه بضجر وهي تطالعه بضيق بينما كان هو ضائعًا في نظراته التي اتشحت بالهيام والاهتمام تارة، والقلق والعتاب تارة أخرى.
التقطت العتاب الذي نطقت به عيناه فأجابته بنظرة أخرى معتذرة ليشيح بوجهه وكأن عينه تأبى الحوار كما يرفض لسانه.
نهض واقفًا بعدما قاربت على الانتهاء من شرب العصير ناطقًا بصوت يتصنع اللامبالاة وهو يفتح الخزانة الخاصة بها ويخرج فستان من اللون النحاسي القاتم ثم جوارب وخمار باللون البيج، وضعهما جوارها بعناية قبل أن يخرج من الغرفة ناطقًا
-مستنيكِ برا على ما تخلصي لبس لو حسيتي إنك تعبانة أو محتاجة مساعدة نادي عليا.
أومأت إليه بهدوء ليخرج سريعًا بينما هي رددت باستعجاب وهي تنظر بأثره
-هتساعدني إزاي يعني بوشك اللي مبيعرفش يضحك دا
لتبتسم فور الانتهاء من جملتها على افترائها الذي افترته عليه للتو، فهو يمتلك أجمل ابتسامة إن أراد فقط لو أراد..
***********
تعثرت رقية في خطواتها أمام ذاك المحل الذي تأتي باحتياجات عملها منه، تحتاج الخامات سريعًا لتنفيذ الطلبات التي عليها فعلها بأقل من أسبوع ولا تجد ما تحتاج بنفس الجودة سوى هنا، حاولت التعامل مع محل آخر إلا أنها لم تجد كل ما تحتاج بل ولم تشعر بالراحة مثلما تشعر هنا.
ترددت قليلًا إلى أن حسمت أمرها بالنهاية ودلفت إلى المحل تدعو الله بألا يكون ذاك الشاب هو من ستبتاع منه هذه المرة بعد ذلك الموقف المحرج الذي مر بها في المرة السابقة، فهي لم تعتَد التعامل مع أحدهم بقلة الذوق هذه، ولكن أليس هو من تحدث معها بحدة؟! إذا فلا يستعجب من تركها الأشياء له بعدما بذل جهدًا في إحضارها لها.
عضت على شفتيها بضيق فور رؤيتها له جالسًا مع أحد المراهقين الذي يساعده في البيع لتشعر به يبتسم بمكر عقب دخولها، حاولت إقناع نفسها بأنه لم يعرف أنها هي، فلقد تعمدت تغيير طريقة النقاب هذه المرة كي يتلبسه التيه ولا يدرك كنهها إلا أنها تشعر بالتخبط لتفيق من شعورها بالخجل على جملته الجادة
- اتفضلي طلباتك!
غمرها الارتياح أثر كلمته، فعلى ما يبدو أنه لم يتذكرها فهمَّت بقول ما أرادت؛ ليستمع إليها بهدوء ثم يأمر الصبي الذي برفقته بجلب بعد المواد من المحل الكبير الملحق بهذا والذي يستخدمونه لتخزين المواد ليتركها هو ويحضر الباقي، فتنفست بهدوء مخالف لذاك الذي دلفت به، أوشك على جمع جميع ما طلبت ففتحت حقيبتها لتأخذ منها من الأموال ما ستدفع بعدما حرصت على مضاعفتها هذه المرة لتستمع إليه يقول بنبرة أثارت استفزازها وحرجها معًا
- بس مفيش ترجيع المرة دي
احمر وجهها بشدة بل وشعرت بكفيها يرتجفان خجلًا وصل إليه ليكسوه الشعور بالذنب، فحتمًا لم يقصد إخجالها، كل ما قصده فقط هو تخفيف حدة التوتر التي تسود المكان فلام نفسه وعزم على إنهاء البيع دون أن يلقي إحدى نكاته التي حتمًا تنفرها منه.
-الحساب
قالتها بخفوت فور جمعه جميع المشتريات بكيس أبيض كبير مطبوع عليه اسم المحل، فأمسك الآلة الحاسبة وانشغل بها قليلًا قبل أن يقول الرقم الذي خرج له فأخرجت النقود على الفور وناولتها له ثم انتظرت قليلًا ليأتي لها بباقي نقودها.
دلف أحد الشباب سريعًا يهتف باسمه
-علي هنا يا مهند؟
فأشار إليه بالنفي ثم تابع ما يفعل غافلًا عن تلك التي تكبح ضحكاتها بقوة فور استماعها لاسمه، ذاك الاسم الذي ينتمي لأحد أبطال المسلسلات التركية الذي كانت تستمع إليه في الصغر قبل أن يتوب الله عليها من سماعهم، حاولت التحكم في رغبة الضحك بصعوبة، لا تقصد تنمرًا ولكن هذا الشاب يختلف كثيرًا عمن سمي باسمه، فذاك أشقر بعيون زرقاء اللون بينما هذا قمحي اللون بشعر أسود فاحم وعينان بنيتنان تميلان للأسود.
أعطاها نقودها فور انتهائه لتأخذها وتخرج سريعًا قبل أن تنفلت ضحكاتها وتظهر بشكل أبله إلا أنها حين خروجها استمعت إليه يقول
- اضحكي اضحكي الله يسامحه الحاج.
برقت عينيها بشدة فور سماعها ما قال لتشير إلى أحد الوسائل الصغيرة ذات اللون الأسود "التوكتوك"سريعًا وتركب بالخلف وهي مازالت على حرجها، لقد شعر بها، شعر بضحكاتها التي كانت تمنعها وتعتقد أن نقابها لا يظهر من انفعالها شيء ولكن يبدو أن عيناها لم تقصر في فضحها.
شعرت بالضيق من ذاتها، ماذا تفعل ولماذا ضحكت؟ ومالها هي باسمه؟ بل كيف تجرأت على النظر إليه في غفوة منه وعقدت مقارنة بينه وبين ذاك الممثل؟ أين غض البصر وأين خوفها من الله الذي عاهدت ربها على رعايته، بحزم داخلي عزمت على عدم القدوم إلى على هنا مرة ثانية حتى ولو توقف الأمر على إيقاف عملها ستفعل، فما حدث ومزاحه الساخر منها لا يرتضيه الشرع وكذالك هي لن ترتضيه لنفسها أبدًا.
فهذه تصرفات فتاة طائشة وليست رقية العاقلة التي تضع مراقبة الله لها نصب عينيها في جل تصرفاتها، ولكن يبدو أن قرارها جاء متأخرًا وقد سبق السيف العذل ولن يتحمل نتيجة ما حدث سواها!!
**************
بإصرار دق هاتف رحمة برقم غير مدون تعلم صاحبه جيدًا، فأغلقته دون إجابة للمرة التي لا تعلم عددها، إلا أنه لم ييأس فقد أعاد الاتصال مرة ثانية فأجابته تقول باندفاع وغضب
- بترن تاني ليه؟ قفلت ألف مرة بردوا بتعيد الاتصال.. كفاية كدا بقا أنا تعبت... مش عايزة أرجع لك.. مش عايزاك مش عايزة وجع تاني كفاية بقا..
-تمام.
هذه فقط هي الإجابة على حديثها الغاضب منه، الإجابة على انهيارها الذي ظلت تؤجله لعدة شهور، انهيارها الذي سنحت له الفرصة ليطفو على السطح الآن فارتفع صوت بكائها حتى جعل من بالمنزل يهرول إليها فزعًا.
بينما هي تنهار بهذه الطريقة كان هناك من يجلس أمام والدته بحرج ولا يدري ماذا يفعل، فلقد خاب اعتقادها هذه المرة، لم يكن هو من هاتفها، بل والدته، تلك التي جائته تعتذر منه بعدما أنهكها ابتعاده عنها، بل وأخبرته بأنها ستعتذر من رحمة كي يسامحها هو، رددت بأنها تهاتفها منذ ساعات وليس هناك إجابة منها لتثبت له حديثها بمهاتفتها مرة أخرى إلا أنها هذه المرة أجابت لتفوح كلماتها بتلك الرائحة الكريهة التي نالت من قلبه فجعلت الوجع يستقر بمنتصفه بعدما كان الأمل زحزحه قليلًا وأوشك على تفتيته والقضاء عليه شيئًا فشيء.
*************
من يصدق أنهما الآن يجلسان معًا أمام البحر ويتناولان ال"آيس كريم" بهدوء بينما ترتسم على وجهها تلك الراحة التي لفظتهما من حياتها منذ أيام، فعلى ما يبدو أنه يلتزم بأوامر الطبيبة بأن يرفه عنها على أكمل وجه.
لن تنسى وجهه بذلك الحين حينما وبخته بتلك الطريقة وهي تتساءل عن السبب خلف إصابتها بضغط الدم المرتفع إلى هذه الدرجة وهي مازالت بهذا السن الصغير، تلك الطبيبة لم تتوانَ في ردعه لدرجة جعلتها تجيبها بحدة مدافعة عنه وتخبرها بأن لا دخل له بما أصابها، أخبرتها بأنه أبعد ما يكون عن سبب آلامها، فإن كان له دخل بمرضها فلن يكون سوى الدواء الذي تبرأ به، إن كان له علاقة بألم تعانيه فحتمًا ليس هو سوى ذاك المسكن الذي يسري بالأوردة فيخفف من حدة الألم ويمنح شعورًا باللذة لا يرجى سوى منه.
ناولها منديلًا ورقيًا وهو يراها مشتتة بين ما بيدها وملابسها التي أوشكت على الخراب بسبب كبر حجم ما بيدها مما جعل الثلوج تسيل سريعًا فأعطاها المنديل كي تمحو ما تريد لتنظر إليه بامتنان والعجب بادلها إياه بابتسامة جميلة كانت تفتري عليه منذ قليل بأنها لا ترتسم على وجهه أبدًا
- أنا آسف
قالها بخفوت ولا تدري لما؟ لما يعتذر؟ أهو الذي أخطأ بحقها؟ أهو من عليه الاعتذار؟ تعلم أن شعوره الدائم بالذنب تجاه ما حوله هو ما حمله على الاعتذار، بل تكاد تجزم أنه يحمل نفسه سبب ارتفاع دمها بينما هي مريضة به منذ عامان تداوم على حبوب الضغط ولا يعلم بمرضها سواها ومذكراتها السوداء، فلم يكن هو سبب ما أحل بها أبدًا بل عدم تناولها للحبوب منذ يومين هو السبب ولكن امتنحت عن إخبار الطبيبة كي لا يظهر هو بمظهر الجاهل بمرضها، لتقول بخفوت
- على فكرة مش أنت السبب في ارتفاع الضغط عندي.
طالعها بعدم فهم لتتابع بتوتر وهي تتهرب من نظراته وكأنها مدانة
- أنا عندي ضغط مزمن من سنتين وباخد كل يوم حباية عشان يضبطه بس العلبة خلصت ومجاتش فرصة آخد من يومين عشان كدا ارتفع بالطريقة دي.
لطمه اعترافها، أقل ما يقال أنه لطمه، بل وكاد يصيبه بالجنون، مريضة ضغط منذ عامان! منذ عامان ولا يعلم هو؟ منذ عامان مريضة وهو يعاملها بهذه الطريقة التي كادت أن تؤدي بحياتها لولا ستر الله؟ ليردد لسانه بما يشعر به
- إزاي؟ إزاي محدش يعرف.. واللي أبوكي كان بيعمله دا كله وأنت عندك ضغط.. اللي أنا كنت بعمله دا كله وأنت عندك ضغط؟ وإزاي جالك إزاي.
ابتسامة سخرية ارتسمت على وجهها فور سؤاله الأخير، أيسأل عن سبب مرضها وهو من كان شاهدًا عليه كل خميس، أمازال يسأل؟
ليفهم ما تقصد من ابتسامتها فأرجع رأسه إلى الوراء وشد خصلات شعره بقوة ألمتها هي ثم نهض ليقف بعيدًا عنها بعض الشيء قبل أن يرمي الأيس كريم من يده بأحد الأركان غير قادرًا على متابعة التهامه ثم قال بنبرة هادئة
- خلصي اللي في إيدك عشان نمشي..
لطيفها عاشق
الطيف_السادس_عشر
"ربما الحب الأول يكون أكذوبة فيأتي الثاني ليمحوه ويؤكد سذاجة القلب في بداية طوفانه"
بلطف مبالغ فيه أجلسها على فراشها وكأنها امرأة تحمل عدة أجنة في شهرها الأخير من الحمل، أرادت إخباره بأنها بخير ولا داعٍ لكل هذا الحرص إلا أنها لم تقدر، لم تقدر على قول ما يمكن أن يقلل من اهتمامه الذي ظلت لسنوات تبتغيه منه،
فتح الكيس الأبيض الخاص بالدواء وتناول إحدى الحبوب بيده ثم قربها من فمها لتلتقطها شفتيها من راحته بتمهل وخجل بينما أبعد يده عنها بتوتر وقرب كوب الماء لترتشف القليل منه بقدر حاجتها ثم تحمد ربها بصوت مسموع كي يعلم أنها انتهت.
تأملها قليلًا قبل أن يعود خطوتان إلى الوراء ويجلس على المقعد المقابل لها واضعًا رأسه بين كفيه دلالة على التفكير فرمقته بشفقة، هي الآن لم تعد تعاني من أي ألم، حتى صداع الرأس الذي كان يفتك بها قبل قليل قد تحسن بفعل الدواء الذي تناولته عقب خروجها من عيادة الطبيبة، بينما هو يحمل كل الهم، وكأن مرضها انتقل إليه هو، تعلم أنه شديد الحساسية تجاه المرضى فلم يترك كبيرًا ولا صغيرًا بعائلته يمرض حتى كان يعتني بأمره ويقوم عليه إلى أن يتداركه الشفاء فكيف يكون إذا حاله أمام مرضها هي.
- أنا عايزة أنزل الدروس بتاعتي من بكرة
وكأن جملتها أخرجته مما كان فيه، كاد أن يعترض ولكن أيمكنه أن يقف بطريق دراستها الذي أقسم أن يجعلها تتخطاه بأفضل مما كانت؟! بل أفاقته جملتها على حقيقة لزوم عودته من الغد هو الآخر، فهو قد أعطى الطلاب أسبوعًا واحدًا كأجازة وأوشك الأسبوع على الانتهاء فيمكنه الآن العودة كي لا يضيع الطلاب ما أكسبه لهم خلال عدة أشهر ليكون أول ما نطق به
- طيب هتروحي إزاي وأنتِ تعبانة؟ استنى بكرة بس على ما نتطمن إنك بقيتي كويسة وروحي بعده براحتك وأنا هذاكر لك اللي فاتك متقلقيش.
وكيف لها أن ترفض عرضًا مغريًا كهذا؟ أن تجلس برفقته عدة ساعات يحاول إفهامها ما يتعثر عليها بينما هي لا تفعل شيء سوى تأمله والغوص في عالم بدايته عيناه ولا نهاية له، أومأت إليه بإيجاب ليبتسم إليها بهمٍّ أضافه إليه مرضها.
رنين هاتفه ارتفع بدقة مميزة كان وضعها لأصدقائه الثلاثة، فحتى ناصر لم يراوده عقله بإزالته من تلك القائمة المفضلة إليه، نظر إلى الشاشة فوجد المتصل ليس سوى مهدى، ذاك الذي يراسله كل ليلة يهنأه بمرح ويثير غيظه كثيرًا لسخريته منه ثم يغلق المحادثة بعدما يزجره عبدالرحمن لمحاولته حل المعضلة التي لا يفهمها بينه وبين ناصر، أراد أن يتجاهل محادثته، فهو ليس بوقت يسمح له بمجاراة مزاحه إلا أن قلبه لم يقدر على تجاهل اتصاله خشية من أن يكون هناك شيئًا هامًا ليصدق حدسه هذه المرة وهو يجد الآخر يقول بجدية بعدما بادله ببعض الكلمات المازحة
- استعد عشان أنا جاي أبارك لك أنا وزوجتي
لتبرق عينا عبدالرحمن فور سماعه لكلمته الأخيره قبل أن يسأله باستنكار
- زوجة مين يا ابني أنت بتهلوس
لترتفع ضحكاته قبل أن يتابع
-اوعى يكون قصدك على هلال وبتعصبه، ما هو مفيش تفسير غير كدا
- هلال مين يا عم اللي أقول عليه زوجتي.. ايه القرف دا.. بقولك زوجتي مراتي يعني أنثى يا ابني أنثى.
عقد عبدالرحمن حاجبيه بعدم فهم، فعن أي زوجة يتحدث هذا الرجل وهو الذي لم يعرف من النساء سوى والدته وأخرى كان يدعو دائمًا أن تكون من نصيبه ليفاجئهم بين ليلة وضحاها أنه متزوج! بل وسيصحب زوجته معه ليهنأه على زواجه!
ولكن بالنهاية ترك اندهاشه وأجابه بمجاراة
- طيب يا عم أنا بانتظارك إما نشوف أخرتها معاك.
ليبتسم مهدى ابتسامة شعر بها عبدالرحمن الذي نظر إلى دنيا التي تتابع حديثه قليلًا ثم خرج من الغرفة التي تقعد بها وابتعد إلى مطبخ البيت قائلًا بخفوت
- لو ناصر اللي قصدك عليه يا مهدي وعايز تعمل حركة سخيفة تصالحنا بيها هتزعل مني
ليمازحه مهدى كاذبًا غير مدركًا صعوبة الوضع بالنسبة للآخر
-ولو كان هو يعني.. خلينا نرجع المربع لما كان عليه.
ليباغته الآخر بحدة غير معهودة منه وقسوة يراها بنبرته للمرة الأولى
- لو جه معاك بيتي يا مهدى متزعلش لو طردتكوا انتو الاتنين
- الوضع صعب للدرجة دي وصل لكدا؟ لو أعرف زعلك في إيه بس
قالها مهدي بعتاب وحزن على ما ألم بصديقه ليصمت عبدالرحمن قليلًا قبل أن ينطق بقوة
- الموضوع دا بالنسبة لي انتهى يا مهدي..
لم يرد مهدي أن يضغط عليه بالوقت الحالي فتابع يتصنع المرح
- ماشي يا عم متتوهش أنا جاي آكل اللي عندك في الشقة كلها..
ليبتسم عبدالرحمن ابتسامة لم تصل إلي عينيه قبل أن يغلق المحادثة ويعود إلى حيث كان ولكن بملامح حادة ذكرتها بوضع سابق ستبذل دمها كي لا يعودا عليه مرة ثانية.
بعد ساعة
كانا يقفان بانتظار صديقه وزوجته، ليهلل مهدي فرحًا فور رؤيته له بطريقة أخجلت دنيا وتلك الواقفة بجواره تنقل أنظارها المغتاظة بين أناملها التي تتعارك تارة وبين مهدي الذي يضحك دون أن يبالي بأنه أجبرها على القدوم بطريقته تارة أخرى.
أخذ عبدالرحمن صديقه ودلفا إلى غرفة الجلوس بينما أخذت دنيا تلك الفتاة التي أشفقت عليها من خجلها المبالغ فيه ذاك وجلستا بأحد الأركان ببهو المنزل.
تناولت دنيا الحديث مع من كانت تظنها فتاة صغيرة لم تكمل العشرون بعد كما حسبت من ملامحها لتكتشف أن من عاملتها بأول حديثها كفتاة صغيرة تكبرها بسبعة أعوام. وأنهت دراستها قبل سنوات بينما هي مازالت في الثانوية الأزهرية بسبب تأجيلها الدراسة لثلاثة أعوام، فهي كان من المفترض أن تكون بسنتها الثالثة من الدراسة الجامعية إلا أنها أجلت الدراسة بأعوام متفرقة لسوء حالتها النفسية.
-الفرح بتاعكوا امتى إن شاء الله.
سألتها دنيا في محاولة منها لفتح حديث آخر بعدما اكتشفت انطوائيتها لتتوتر ملامحها قليلًا قبل أن تجيبها في خجل بنبرة صادقة
- مش عارفة.
عقدت دنيا حاجبيها باندهاش لتتابع الفتاة "شمس" حديثها بصوت لم يخلُ من التوتر
- احنا لسة كاتبين كتاب من يومين ملحقناش نحدد يعني.
أومأت دنيا إليها وصمتت مسيطرة على فضولها الذي أيقظه توتر الفتاة المبالغ فيه، فهذه ليست فتاة خجولة للتعامل مع أخرى، بل هناك ما هو أقوى من ذلك، هناك سبب خفي خلف تلعثمها بالكلام وحياؤها الزائد عن حده هذا ولكن حتمًا لن تجرؤ على السؤال وبالطبع شمس ستضنّ عليها بقص حكايتها.
قدمت لها دنيا من الشيكولاتة التي كانت بالفعل موضوعة أمامها بطبق مزخرف لديها مثيله بغرفة الجلوس ثم استأذنت منها لصنع أكواب الشاي للرجلان.
ترددت شمس كثيرًا وحينما لم تجد بدلًا نهضت خلفها بخجل تعرض عليها المساعدة كما المعتاد، فبالطبع لن تترك العروس تصنع الشاي وحدها، هذه قلة ذوق بعرفهم وستغامر بما تخشاه الآن وتساعد العروس كي لا يقال عليها قليلة ذوق.
انتهت دنيا من صنع الشاي فتمتمت شمس ببعض الكلمات التي عبرت بها عن راحتها لتطالعها دنيا باندهاش مما تفعل وكادتا أن تخرجان إلا أن سقوط ذاك الكوب الزجاجي الذي لم تنتبه إليه دنيا أحدث صوتًا مرتفعًا قبل أن يتهشم ليتوقف صوت الكوب فور وقوعه إلا أن صوتًا آخر قد ارتفع ولم يتوقف، صوت لصرخات أنثى التهمها الذعر من صوت تهشم الكوب ولم تكن تلك الأنثى سوى شمس!
هرول عبدالرحمن ومهدي إلى الداخل ووقفا أمام المطبخ بارتعاب وكل منهما يأبى الدخول كي لا يتعدى على حرمة صديقه ليتعالى صوتهما يسألان معًا
- في إيه
فأراحتهما دنيا من وحش الفضول الذي يلتهمهما وصرخت
-تعالوا بسرعة
ليسبق مهدي عبدالرحمن من فرط خوفه على تلك التي تحولت صرخاتها إلى صوت بكاء مرتفع وفور رؤيته الزجاج المهشم فهم ما حدث فاقترب منها وضمها إليه محاولًا تهدئتها..
فتنحنح عبدالرحمن بخجل وخرج واقفًا أمام مطبخ البيت فتبعته دنيا بحياء ووقفا ينظران لبعضهما بتساؤل وجهل..
بينما مهدي في الداخل يحاول تهدئة شمس إلى أن سكنت تمامًا فخرج برفقتها مستأذنًا عبدالرحمن للمغادرة فرمقه عبدالرحمن بتساؤل بينما الآخر بادله النظرات بضياع هو الأخر ولكن ليس لجهله سبب ما حدث كما يحدث مع عبدالرحمن وزوجته..
فهو يعلم أن مرضها ب"الفوبيا"من صوت الزجاج هو سبب صراخها ولكن بادله النظرات الخائفة لجهله رد فعلها على ما حدث أمام صديقه، فردود أفعالها ليست بهينة وعليه أن يستعد لما هو آت.
***********
تعاركت ظلمات الليل مع نور الصباح تتهمه بالتعدي على أوقات راحتها، فهي تحل بالعالم منذ ساعات وحان وقت النور لينتشر شيئًا فشيء في السماء وتنسحب الظلمات لتلوذ بالراحة، صدح صوت المؤذن ليقضى على ذاك الشجار بينهما لتبتسم الظلمات بشماتة ويبتسم معها عبدالرحمن على تلك الكسولة التي أبت الاستيقاظ لصلاة الفجر هذة الليلة، فقد كان يطرق على بابها فتجيبه بالإيجاب ليذهب براحة بعدما يتيقن من قيامها أما هذه الليلة؛ فها هو يقف أمام فراشها يردد اسمها بخفوت وهي تتدلل وتجيبه بنعاس
- خمس دقايق بس خمس دقائق.
إلا أنه أبى أن يتركها كي لا تضيع عليها وقتًا كهذا فردد بمرح
- خلاص خليكي نائمة وأنا هروح أصلي في الجامع آخد ثواب على كل خطوة وأسبقك درجة في الجنة بقا ومتكونيش معايا.
لتنهض جالسة على الفراش بقوة أقلقته ثم تمتمت بغيظ
-خلاص صحيت
فابتسم على فعلتها ثم تقدم منحنيًا برفق مبالغ فيه مقبلًا جبينها بتمهل لتبرق عينيها بقوة من تقدمه الغير ممهد له هذا فابتسم على فمها المفتوح على وسعه بل وغمز لها بإحدى عينيه ثم تركها وخرج بهدوء متجهًا إلى المسجد وكأن لم يفعل شيء لتنظر إلى أثره متمتمة بخفوت
- الشيخ عبود انحرف!
بعد ساعة كانت تفر من رؤياه أينما وجدته، فقد جافى النوم جفونها من قبلته التي أهدى بها جبينها قبل الصلاة لتظل مستيقظة تذاكر بعض دروسها إلى أن عاد من الصلاة فوجدها تستقل إحدى المقاعد ببهو المنزل فجلس مقابلًا لها بعدما أهداها ابتسامة لا تعلم عددها، فلا تعلم ما له يوزع الابتسامات اليوم وكأنه اليوم العالمي للابتسامات.
نهضت واقفة تجلس بغرفتها خجلًا منه فوجدته بعد عدة دقائق يتبعها بكوب من الحليب الممزوج بالشاي وكيس من البسكويت فابتسمت إليه بلطف وامتنان لتجده يجاورها في الجلوس ويسألها بهدوء
- لو عايزة حاجة أفهمها لك أنا شاطر في العربي بردوا على فكرة
ابتسمت مصدقة لحديثه، فهي تعلم أنه تخرج من كلية الدراسات الإسلامية واللغة العربية وبالطبع يفقه بالنحو الكثير بل إن كثيرًا من دروس التفسير والحديث تحتوي على مقاطع إعرابية، ليتابع بجدية
- بتكلم جد لو محتاجة حاجة عرفيني.
فأجابته بمرح
- إن كان على اللي محتاجاه فكتير دا النحو دا العفريت بتاعي فمتدبسش نفسك أحسن.
-إن كان على التدبيسة فدي تدبيسة بعينين بندقيتين يتيه بين جمالهما كل من يتأملهما وإن كان عالمًا بخرائط طرق العالم، تدبيسة ذات وجنتان آخاذتان شهيتان تدعو للتقبيل، وخلصات تموج كالبحار يغرق بينهم أعرف الغواصين، تدبيسة ذات شفتان تغريان كقطعة حلوى يقع عليها نظر المرء بعد سنوات طوال أفناهم في البحث عنها.
كان كلما ذكر شيء تجولت نظراته عليه ليتنفجر وجنتيها خجلًا وتفلق الكتاب سريعًا قائلة بارتباك وهي تنهض واقفة
- أنا هقوم أعملك فطار أكيد جوعت.
ولكن هيهات أن يتركها تهنأ بوحدتها وابتعادها عنه، فقد جائته الفرصة ليمارس طقوس حبه الذي يكتبه منذ سنوات وسيغتنمها بكل تمهل وترحاب.
**************
مر يومان ذهب فيهما عبدالرحمن إلى عمله الذي لم يتركه سوى ساعات قليلة بنهاية اليوم كان يمارس فيهم مشاعره الفياضة على تلك المسكينة التي تكاد تذوب مما تعانيه على يديه لما يفعله بها، ماذا يفعل هذا الرجل؟! أينتقم منها بإشعال خجلها؟ إن كانت هذه طريقة انتقامه إذا فستفعل العديد من الأخطاء بل وسترتكب أكبرها كي تضيع معه ويضيع معها فلا يذكران أحدًا سواهما.
جلست دنيا بجوار شقيقها الذي يمشط خصلات ابنته القصيرة ويداها تضغط على أناملها بتوتر حكى له ارتباكها مما جعله يبتسم قبل أن ينطق
- أنا عارف يا دنيا متوتريش نفسك.
لتتصنع الجهل قبل أن تسأله بابتسامة لم تصل إلى عينيها
-عارف إن في عريس جاي لرقية النهاردة.. وصدقيني مش زعلان.. بالعكس فرحان ليها وبتمنى لها ربنا يسعدها ويعوضها خير.
طالعته بشك ليتابع بنبرة صادقة
- والله بتكلم بجد.. طول عمري بعتبر رقية أختي.. حتى وقت ما اتقدمت لها كان للأسف عشان أنا شخص أناني وفكرت إن بنتي بتحبها وهي حنينة عليها لكن عمري ما شوفتها غير زيك.. مش عشان هي شخص وحش لأ طبعًا أنا اللي مستهلهاش هي أنقى مني بكتير بس الحب مش بإيدينا وأنا حبي ليها كأخت بس ومنتقلش لمرحلة تانية.
تنفست دنيا براحة فور استماعها لكلمات شقيقه، فهي قد شعرت من كلمات رقية بعد رفضها له أن طريقهما معًا قد أغلق أمامه حائط منيع ولن يقدران على هدمه وإن أفنيا فيه سنوات عمرهما، لا تنكر أنها تشعر بالشفقة على رقية لضياع عمرها على حب شقيقها الذي لا يشعر بها ولكن أن يتفرقان الآن خير من أن يتفرقان بعدما تكتشف الآخرى خواء في قلبه تجاهها.
بعد قليل كانت رقية تجلس بغرفتها بتوتر كبير وأذناها تستمع إلى أصوات الضيوف في الخارج.. إذا فقد أتى العريس ولا مفر من خروجها بعد قليل.. تشعر بمشاعر مختلفة هذه المرة.. فقد عاهدت نفسها بعد رفضها لأحمد عن اقتناع أنها ستعطي قلبها فرصة يستحقها لتخبرها والدتها بالأمس أن هناك شاب سيأتي لرؤيتها اليوم وعليها أن تستعد.. تشعر هذه المرة بمشاعر مغايرة.. للمرة الأولى تشعر بأنها عروس تنتظر روية عريسها رغم تكرار المشهد العديد من المرات، ولكن هذه المرة تبدأ صفحة جديدة وليجعله الله خيرًا لها.
هللت البنات الجالسات معها بالغرفة كما فعلت مريم شقيقتها والتي تحسنت حالتها النفسية هذه الأيام على عكس حالتها المعقدة دائمًا، ارتفع تهليلهن بعدما أخبرها عمها بأن العريس ووالدته وشقيقته بانتظار رؤيتها فارتجف بدنها خجلًا وتبعت عمها دون اعتراض.
جلست تستمع إلى أحاديثهم دون أن تجرؤ على النظر لأحدهم، فأن تشعر بأنك محط الأنظار شعور غاية الإحراج إضافة إلى نقابها الذي تخلت عنه كي يتمكن العريس من رؤيتها، طلبت والدة العريس أن ينفرد ابنها بعروسه كي لا يخجلان من التحدث أمام الجميع فأومأ عمها موافقًا وخرج الجميع بسعادة بينما نطق ذاك الذي شعرت بصوته مألوفًا
- وبعدين بقا يا بنتي بصي لي عشان مفيش ترجيع.
وجملته هذه ذكرتها بموقف آخر مشابه، بآخر ألقى عليها هذه الجملة قبل أيام لتشهق بصدمة وهي تردد قبل أن تنظر إليه.
- مهند!
لترتفع ضحكاته فرفعت نظرها لتتيقن من حدسها مما جعل ضحكاته تعلو أكثر فرمقته بغيظ جعله يردد
- سيد.
رمقته بعدم فهم فتابع بابتسامة واسعة
- مهند سيد.. اسمي مهند سيد
لترتفع الضحكات مرة أخرى ولكن هذه المرة لم تكن له فقط بل اختلطت ضحكاته بأخرى رقيقة وهادئة يكسوها الخجل ويغمرها الأمل!