
راكان قال بصوت متحشرج من الغضب، وملامحه اتبدلت تمامًا، وإيده ماسكة التليفون بقوة كأنه بيكتم انفجاره.
ـ "طب اقفل… أنا جايلك حالًا."
، عيونه اتعلقت بهاجر، كانت باصة له بخوف وارتباك وقالت:
ـ "في إيه؟"
قرب منها بخطوات تقيلة، كل خطوة بتخلي قلبها يدق أسرع، رفع صباعه في وشها وإيده بترتعش غضبًا:
ـ "ما تتحركيش من مكانك لحد ما أرجع، كده كده مش هتعرفي تهربي يا هاجر… فبلاش وجع قلب وفرهده."
نبرته كانت حادة، باردة، فيها تهديد مكتوم .
هاجر وقفت مكانها، وشها اتسحب منه الدم، وبصّت له بخوف ممزوج بوجع، مش مصدقة إن الشخص اللي كانت بتحس ناحيته بالراحة بقى مصدر رعبها.
أما هو… فلف ورا، خبط الباب برجله وهو خارج، وسابها غارقة في صمت تقيل، صمت بيقرّص القلب قبل الودن.
خرج راكان من الأوضة، والباب اتقفل
هاجر وقفت مكانها، مبهوتة، كل حاجة جواها بتتلخبط…
قلبها بدأ يوجعها وجع غريب، مش بس من الخوف، لأ… من الصدمة.
دموعها كانت بتتزاحم في عينيها، بس المرة دي كانت مختلفة،
كانت سخنة، تقيلة، مليانة وجع مش مفهوم،
وفجأة، أول دمعة نزلت… كانت دم!
حست بيها وهي بتجري على خدّها، لمستها بإيديها المرتجفة،سرحت فيها
اتنفست بصعوبة، وصوتها اتكسر وهي بتهمس:
"ماما… إزاي؟ إزاي تكون ليها إيد في موت مامت راكان؟ إزاي؟"
الأسئلة كانت بتخبط في دماغها زي سكاكين،
مابين تصديق وإنكار، مابين خوف وحبّ قديم بيتكسر جواها.
ولأول مرة… حسّت إن حياتها كلها بقت لغز مظلم،
وكل الطرق فيه رايحة لنقطة واحدة… نيهال.
راكان دخل المكتب بخطوات واثقة،
قفل الباب وراه بهدوء وبصّ حواليه، لقى نيهال قاعدة على الكرسي، ملامحها شاحبة وقلقها باين في كل حركة منها، وعبدالرحمن واقف جمبها متحفظ.
أول ما عينيها وقعت عليه، قامت من مكانها بسرعة وقالت بصوت عالي مرتجف:
ـ "فين هاجر يا راكان؟!"
مدّت إيدها بسرعة وورّت له الباسبور:
ـ "باسبور هاجر أهو! يعني ما سافرتش زي ما قلتلي!"
راكان فضل ثابت مكانه، ملامحه متماسكة قال بهدوء متعمد، :
ـ "اقعدي يا طنط… استريحي، واشربي القهوة."
صرخت نيهال بغضب مكتوم:
ـ "قهوة إيه وشاي إيه وأنا بنتي مش عارفة مكانها؟!"
ابتسم راكان ابتسامة صغيرة مافيهاش روح وقال:
ـ "والله يا طنط، هي بنفسها قالت إنها هتسافر. لو رجعتي شوفتِ كاميرات الفيلا، هتلاقيها خارجة بشنطتها."
نيهال رفعت صوتها وهي بتحاول تمسك أعصابها:
ـ "بس باسبورها لسه موجود! ولو حتى نسيته، كانت مفروض ترجع تاخده!"
راكان مال شوية لقدّام وقال بنبرة باردة فيها خبث بسيط:
ـ "أنا بصراحة… ماعنديش أي فكرة."
سكتت نيهال للحظة، بتبص له نظرة فيها شك وقلق،
وبعدها قالت وهي بتحاول تسيطر على رعشة صوتها:
ـ "أمال كنت فين؟"
بلع ريقه، وبص لعبدالرحمن اللي كان بيراقب الموقف بعينين متحفزة،
رجع نظره ليها وقال بهدوء مصطنع:
ـ "كنت في مشوار تبع الشغل،
وسيبت كل اللي ورايا وجيت أول ما عبدالرحمن كلّمني."
سكتت نيهال لحظة، تنهيدة تقيلة خرجت منها، ، وقالت بصوت واطي لكنه مليان وجع:
ـ "لو عرفت حاجة… ابقى قولي."
ولفت تمشي، خطواتها كانت تقيلة كأنها شايلة الدنيا على كتفها،
والباب اتقفل وراها،
عبدالرحمن كان واقف متوتر، عينه على الباب اللي نيهال خرجت منه، وبعدين بص لراكان وقال بقلق واضح:
ـ "تفتكر شكت فيك؟"
راكان اتنهد، وفك الزراير اللي فوق في قميصه كأنه بيحاول يهرب من الضيق اللي خنقه،
وبص له بنظرة فيها ثقة باردة وقال:
ـ "مظنش… نيهال أضعف من إنها تشك فيا،
هي دلوقتي مشغولة بخوفها أكتر من عقلها
انا بس محتاج وقت وكل حاجه هتبقى على المكشوف."
عند نيهال
خرجت نيهال من الشركة وهي حاسة إن الأرض بتلف بيها،
الهوى كان خانق.
مسكت الموبايل بسرعة، ضغطت على اسم هاجر وهي بتتمنى إنها ترد وقالت في سرّها:
ـ ياريت تردي يا بنتي… ياريت بس تطمنيني وانا والله هعوضك عن كل اللي فات.
لكن نفس النغمة الباردة رجعت تضرب ف ودانها:
"الرقم الذي طلبته غير متاح حالياً."
وقفت مكانها ثواني، بتبص في الفراغ، عقلها بيجري بين ألف احتمال،
هل فعلاً سافرت؟ ولا حصلها مكروه؟ ولا… ولا راكان ليه يد ف اللي بيحصل؟
لكنها بسرعة هزت راسها، بتحاول تبعد الفكرة المرعبة دي.
فجأة خطر في بالها أحمد — جوزها القديم، يمكن يكون سمع حاجة، يمكن هاجر كلمته!
لكن وهي بتدوّر في الكونتاكتس، افتكرت إنها شالت رقمه من زمان…
تنهدت وهي تقول لنفسها:
ـ "مش فاضل غير دي بقى، هاروح له بنفسي."
شدّت شنطتها، وركبت العربية،
وهي سايقة، قلبها كان بيخبط في صدرها بخوف وقلق،
وكل تفصيلة في الطريق كانت بتفكرها ببنتها…
بنظرتها، بصوتها، وبالليلة الأخيرة اللي كأنها بداية كابوس مش ناوي يخلص.
في مكتب راكان
كان الجو مشحون، وعبد الرحمن واقف قدام مكتبه بنظرات فيها رجاء واضح.
مد إيده على الطربيزة وقال بصوت فيه رجاء:
_ بالله يا راكان، خلّيها تيجي معايا السفريّة دي، محتاج حد ينظّملي الأوراق ويتابع هناك.
رفع راكان عينه من على الأوراق وقال بهدوء مصطنع:
_اعقلها كده يا عبد الرحمن، مين هيظبطلي المواعيد وأنا مش موجود؟
سكت لحظة وهو بيبصله بنظرة فيها سخرية خفيفة وقال:
_وبعدين انت هتصيع عليا؟ أنا عارف انت عايز تاخدها ليه.
اتنهد عبد الرحمن واقترب خطوة، قال بنبرة استعطاف وهو بيحاول يخفي توتره:
_ طب مدام عارف بقى، يبقى أقف جمب صاحبك… أنا هخلّص الشغل هناك بسرعة وارجع، أسبوع بالكتير.
هزّ راكان راسه ببطء، وابتسامة خفيفة طلعت على وشه:
_ أهي عندك بقى… لو وافقت تروح معاك السفريّة، أنا هوافق.
في مكتب السكرتيرة – ياسمين
كانت قاعدة قدام اللابتوب، ولسه كلام عبد الرحمن بيرنّ في ودنها.
سكتت ثواني وبصّت له باستغراب، وبعدين قالت بجدية:
_لا طبعًا يا أستاذ عبد الرحمن، مش هينفع.
رفع حاجبه بدهشة مصطنعه:
_ ليه بس؟
ياسمين:
_ لأن دي مش شُغلتي، وأنا أصلاً ما بحبّش السفر ولا أجواءه.
قال بابتسامة خفيفة وهو بيحاول يخفف الموقف:
_يعني لو كنتي بتحبي السفر كنتي وافقتي؟
ياسمين بحدة بسيطة:
_الموضوع مش كده، أنا سكرتيرة هنا مش مندوبة سفر.
قرب منها شويه وقال بنبرة فيها رجاء بسيط:
_ عارف والله، بس السفريّة دي مهمة، ومفيش حد فاهم الملفات قدّك، ولو رحت لوحدي هتلخبط في نص الورق.
قالت ياسمين وهي بتتنهد:
_ فيه غيري يقدر يساعدك.
عبد الرحمن بأصرار:
_محدش زيّك، انتي اللي ظبّطتي المشروع من أوله.
بصّت له بثبات وقالت بحزم:
_برضه لأ.
سكت عبدالرحمن لحظة… بعدين ابتسم وقال بنبرة فيها خفّة دم مقصودة:
_ طب ماشي، أنا هاعتبر الرفض ده مؤقّت… هرجعلك كمان شويّة، يمكن تتراجعي.
لف وخرج من المكتب، وسابها متوترة ومش عارفة ليه ابتسامته معلقة في بالها.
بعد ساعات
رجع عبد الرحمن، وقف على باب المكتب وقال بابتسامة متعمدة:
_فكرنا؟ ولا لسه؟
ياسمين بضيق :
_يا أستاذ عبد الرحمن، قلتلك مش هينفع.
عبد الرحمن: طيب لو قلتلك إن وجودك ضروري جدًا؟ وإن من غيرك الشغل هناك مش هيكمل؟
تنهدت وقالت وهي بتحاول تبين إنها مش متأثرة:
_ مش هينفع.
قرب أكتر وقال بصوت واطي فيه صدق:
_ ياسمين… لو ما وافقتيش، هضطر أعتذر أنا كمان عن السفريّة.
اتسعت عينيها بدهشة:
_ يجدعع ودا ليه ان شاء الله
عبد الرحمن:
_عشان من غيرك، الشغل مش هيتعمل صح.
سكتت ياسمين لحظة، وبعدين قالت وهي بتتنفس بعمق:
_أنت عنيد أوي.
عبد الرحمن بابتسامة:
_ وأنتِ أكتر… بس المرة دي سيبيني أكسب.
ابتسمت رغماً عنها وقالت وهي بتحاول تبان صارمة:
_ماشي يا سيدي، هسافر.
ابتسم بانتصار وقال بتهيده:
_ ياه أخيرًا
وبصراحة… كانت متفاجئة من نفسها إنها وافقت.
عند نيهال
وقفت نيهال قدام العمارة، عينيها مليانة قلق وخوف، بتنهد بتنهيدة تقيلة كأنها بتحاول تشيل هموم الدنيا كلها.
والقدمين بتتهادى خطوة خطوة ناحية باب الشقة. خبطت بإيدها المرتعشة.
فتح أحمد، بصّ لها باستغراب وقلق واضح:
_ نيهال؟ هاجر حصلها حاجة ولا إيه؟
قالت وهي بتحاول تسيطر على صوتها اللي بيرتجف:
_ هنتكلم على الباب كده…
ابتسم أحمد بابتسامة مش مطمئنة وقال:
_اتفضلي.
دخلت نيهال، وشويّة شويّة عيونها بتتفرج على الشقة… بسيطة جدًا، بس فيها دفىّ غريب يدوّي إحساس بالأمان.
قعدت على أقرب كرسي، وهي بتحاول تمسّك أعصابها، بس جواها قلبها بيصرخ من القلق والخوف.
أحمد:
_ لحظات بس.
نيهال بتفهم:
_ خد راحتك.
دخل أحمد لأوضة حنان وقال بصوت واطي:
_ نيهال برا… اعملي كوبايتين شاي.
حنان بتعجب:
_هنا… ليه؟
أحمد:
_ مش عارف والله…
رجع يقعد قصاد نيهال، وعيونه كلها قلق وتوتر.
نيهال بوجع: هاجر… مش لاقياها.
أحمد اتجمد لحظة، صوته خرج متقطع:
_مش لاقياها؟ إزاي يعني؟
بدأت نيهال تحكي له كل اللي حصل، وكل كلمة بتطلع من قلبها كأنها نار مولعة جواها.
أحمد حاطط إيده على دماغه، ساكت، بيحاول يفكر… كل ثانية تمرّ عليه كأنها دهر.
خرجت حنان بالشاي، صوت الصواني كان زي موسيقى رقيقة بتخفف شويّة من التوتر.
حنان:
_منوّرانا يا أم هاجر.
ابتسمت نيهال ابتسامة باهتة:
_ بنورك…
حنان بقلق:
_في حاجة ولا إيه؟
أحمد:
_هاجر مش لاقيينها.
حنان صدمت، وشويّة الدم سحب من وشها:
_هتكون راحت فين يعني؟
أحمد بقله حيله:
_ مش عارف يا حنان.
نيهال:
_أنا كنت جايه عشان أعرف لو تعرفوا حد من صحابها أو حد ممكن نسأله.
أحمد:
_ آه… أعرف… وكمان ممكن نسأل الدكتورة النفسية بتاعتها.
نيهال اتفاجئت، صوتها اتكسّر:
_دكتورة نفسية؟ هي هاجر كانت بتروح عند دكتوره نفسيه؟
أحمد بحزن، وهو بيبص للأرض:
_ آه… بقالها سنين.
نيهال حسّت بالصدمة، قلبها وجعها… وصوتها اتكسّر أكتر:
_وأنا… مكنتش أعرف حاجة عن بنتي؟
حنان حطت إيدها على كتفها بحنية، بتحاول تهديها:
حنان: اديكي عرفتي خلاص… دلوقتي لازم نكلم الدكتورة أو نروحلها.
أحمد:
_مواعيد العمل دلوقتي… أكيد مش هيردوا علينا.
نيهال:
_ يبقى نروحلها.
مسكت شنطتها، إيدها كانت مرتعشة بس عينيها مليانة عزيمة:
نيهال: عنون العيادة لو سمحت.
أحمد وقف، قال بجدية:
_لا… لازم أروح معاكي.
نيهال بصتله بعزيمة وحزم:
_ اتصلوا أنتم بأصحابها واسألوهم، وأنا هاروح.
حنان حطت إيدها على كتفها، بابتسامة حاولت تهدّيها:
_تمام… لو عرفنا حاجة هنتصل، وانتي لو عرفتي حاجة ابقي كلمينا فورًا.
تبادلوا الأرقام والعناوين… ونيهال خرجت مسرعة، لكن قلبها كان مليان قلق وخوف… وخوفها على بنتها كان ماسكها من جوّه كأنه مش هيسيبها.
أما عند هاجر…
كانت قاعدة لوحدها، بين أربع حيطان ضيقة، عيونها مليانة دموع، والوجع ماسك قلبها من جوّه. الخوف بدأ يسيطر عليها… كل ثانية كانت قاعده فيها بتحس إنها تتلاشى جوّا الصمت.
نزلت للدور اللي تحت، بتحاول تدور على أي حاجة تشغل نفسها بيها، أي حاجة تسرقها من القلق اللي جوّاها.
لكن كل حاجة حواليها كانت بتذكّرها… لقت صور كتير لبنت في التاليتينات، شبه راكان جدًا، ابتسمت بس ضحكتها جفّت بسرعة.
بدأت تبص على كل صورة، عينها بتفحص التفاصيل، بتحاول تفهم مين قدامها… ومين اللي كان ليه مكان في حياة راكان.
وفجأة… وقع برواز من الصور، اتكسر على الأرض. قلبها خبط جامد، وعيونها اتسعت من الصدمة..
ركضت بسرعة ناحية غرفتها، إيديها مرتجفة ، كل شعور بالخوف والذنب كان ماسكها جامد… كأنها عايزة تهرب من كل حاجة حوالينها.
راكان رجع للفيلا، ودخل الصالة… عيناه وقعت على البرواز واقع على الأرض ومتكسر.
قف فجأة، قلبه بقى يدق بسرعة، وإيده ارتجفت شوية من الصدمة. الشرار في عينه زاد، وكأن كل حاجة حوالينه بدأت تتلوّى بالغضب والقلق.
رفع نظره حواليه، كل حاجة ساكتة حوالينه،
مش قادر يسيب البرواز على الأرض، مسكه بسرعة، وحس كأن قلبه اتقصف… ذكريات، غضب، خوف… كلها اختلطت في لحظة واحدة.
بعدها، بدون تفكير، طلع بخطوات سريعة ناحية أوضة هاجر… لقى هاجر قاعدة في زاوية الأوضة، عيونها مليانة دموع، جسدها متوتر.
مشي عليها بسرعة، مسكها من شعرها بقوة:
_ انتي اللي كسرتي البرواز؟
هاجر، وهي ماسكة إيده وبتتألم:
_ سيب شعري… سيب شعري… بقولككك!
راكان ضغط أكتر:
_ انطقي! انتي اللي وقعتيه!
هاجر وعيونها بتدمع:
هاجر: من غير ما أقصد… ي حيوان!
راكان، وهو متوتر وغضب، قال:
_حيوان؟ طب أنا هوريك الحيوان!
وقبل ما يعمل أي حاجة، بص في وشها… ووقف كالصاعقة.
عيونها، دموعها… دم! الدم الأحمر ماسك عينيها ورموشها، قلبه توقف لثانية… كل الغضب اللي جوّه اتحوّل لرعب وذعر!
الفصل الثاني عشر
اتجمد راكان مكانه، إيده لسه معلقة في الهوا، وصوته اتحشر في حلقه.
الدموع اللي كانت نازلة من عيونها بقت دم، خيوط حمرا بتنزل على خدها، ووشها شاحب كأنها فقدت آخر ذرة لون فيه.
اتراجع خطوتين لورا، مش مصدّق اللي شايفه.
راكان (بصوت واطي ومبحوح)
_د*م؟!
قرب منها بسرعة، وهو بيحاول يمد إيده من غير ما يخوفها:
_ هاجر… إيه ده؟ إنتِ… إنتِ بتنزفي منين؟
هاجر مش قادرة ترد، بس بتبصله بنظرات كلها وجع وخوف.
جسمها بيرتعش، وصوت نفسها متقطع.
قالت بصوت واطي وهي بتحاول تبعد عنه:
_ سيبني… سيبني لو سمحت…
راكان حس قلبه بيتقل، الندم كأنه ضربه في صدره.
حاول يقرب منها بهدوء، صوته اتغير، بقى فيه حنية غريبة عليه:
_خلاص خلاص، أنا مش هقرب منك، بس قوليلي مالك… الدم ده منين؟
هاجر قعدت على الأرض، دموعها — أو يمكن دمها — بتسيب أثر على خدها الأبيض.
غطّت وشها بإيديها المرتعشة وقالت بصوت مبحوح بيكسر القلب:
_من العصبية والضغط… الأوعية الدموية اللي في عيني بتفرقع… وبتخلّيني أبكي دم.
كلماتها نزلت عليه زي مطر بارد بعد نار.
حس إن الأرض اتسحبت من تحت رجليه، والرعب لأول مرة بقى هو اللي مسيطر على صوته ونظراته.
الفيلا، اللي دايمًا كانت شاهدة على صوته العالي وأوامره، سكتت خالص… كأنها بتحاول تسمع اللي بين دقات قلوبهم.
نزل على ركبته قدامها، قرب منها بهدوء وهو بيحاول يمد إيده من غير ما يخوفها، وقال:
_ هاجر… احنا لازم نروح مستشفى حالًا.
هاجر هزت راسها ببطء، عينيها لسه بيلمع فيها الدم، وصوتها واطي بس ثابت:
_مش محتاجه… الدكتورة كانت كاتبالي على أدوية… بس مش عارفه مكان شنط السفر بتاعتي
راح راكان مسك وشها بلُطف، أول مرة لمسها كأنه بيخاف تكسر بين صوابعه.
صوته بقى فيه قلق صادق مش متعود عليه:
_ شنط السفر؟! طيب اي شنطه فيهم؟
هاجر:
_كانت ف شنطه لونها اسود
قام بسرعة وغاب دقائق بعد كدا،رجع جاب شنطه الادويه وقعد جنبها، وهو بيفتحها بإيده اللي لسه بترتعش:
_خديها دلوقتي… أنا مش هسيبك لوحدِك تاني كده.
هاجر أخدت الدوا وهي بتبصله بنظرة فيها تعب واستغراب، كأنها مش مصدقة اللي شايفاه…
هو نفسه اللي كان بيزعق ويشد شعرها من شوية، دلوقتي بيحاول يهدّيها ويمسح الدم من خدها بحنية مش شبهه.
هاجر بصتله وهي لسه عينيها فيها أثر الدموع والدم، صوتها كان واطي ومكسوف:
_ آسفه… مكنتش أقصد أكسر البرواز.
راكان سكت لحظة، وبص في الأرض قبل ما يهز راسه بخفة، كأنه بيقول خلاص… مش مهم.
هاجر، وهي بتتابعه بنظراتها، قالت بهدوء:
_ شكلها جميل أوي اللي كانت ف الصوره… مين دي؟
رفع عينه ليها، ابتسامة صغيرة طلعت على وشه من غير ما يقصد، ابتسامة دافية مش شبهه خالص:
_ دي أمي… أميرة.
وبعد لحظة سكت فيها كأنه بيسترجع صوتها وضحكتها، كمل بصوت حنين:
_ وهي فعلاً أميرة… في كل حاجة.
هاجر بصتله بانتباه، وكأنها لأول مرة تشوف راكان الإنسان، مش الغاضب اللي كان واقف قدامها من شوية.
وشه وهو بيتكلم عنها كان مختلف، فيه لمعة حنين ووجع قديم مخفي جواه.
قالت بخفوت، بابتسامة خفيفة رغم تعبها:
_ واضح إنك كنت بتحبها جدًا.
راكان مسك الصورة بإيده، وصوته بقى فيه رعشة خفيفة:
_كانت كل حياتي… بس راحت بدري أوي.
سكتوا هما الاتنين، والهدوء غطّى الأوضة.
بس المرة دي الهدوء ماكانش خوف… كان راحة بسيطة وسط وجعهم.
هاجر حطت راسها على الحيطة،
وراكان فضل يبص في الصورة كأنه بيكلم أمه جواه — يحكيلها إن في بنت غريبة كسرت بروازها، بس يمكن، لسبب ما، كسرت كمان حاجة في قلبه هو.
في العيادة، ريحة المعقم ماليه المكان، والهدوء اللي فيها بيزود توتر أي حد داخل.
نيهال كانت قاعدة في صالة الانتظار، رجليها بتتحرك بتوتر،
قلبها كان بيخبط من القلق، مش عارفة هتسمع إيه عن بنتها، ولا إزاي هتقدر تستوعب إن هاجر بتتعالج من حاجة ماكنتش تعرف عنها حاجة.
لحد ما السكرتيرة نادِت:
_ مدام نيهال… اتفضلي.
وقفت نيهال بخطوات مترددة، دخلت الأوضة وهي بتحاول تجهّز نفسها لأي كلام صعب، بس أول ما الباب اتقفل ورفعت عينها شافت وشّ الدكتورة...
وشّ مألوف جدًا.
عينيها اتسعت، وصوتها خرج تلقائي، مش مصدقة:
_ رقية؟!
الدكتورة اللي كانت قاعدة ورا المكتب، اتجمدت لثواني، وبعدين قامت واقفة، ملامحها قلبت للصدمة :
_ نيهال؟!
الدنيا في لحظة وقفت.
السكوت بينهم بقى تقيل كأن سنين اتفتحت فجأة.
نيهال بغضب مكتوم:
_انتي تعرفي بنتي من إمتى ها؟ انطقي يا رقيه.
رقيه بسخرية مرّة:
_خايفه على بنتك مني يا نيهال؟ مع إن المفروض تخافي عليها منك انتي… ولا نسيتي زمان؟
نيهال ارتبكت، صوتها بقى عالي:
_بلاش تقلبي في الماضي، اللي حصل كان غصب عني!
رقيه ضحكت بخفة فيها وجع:
_غصب عنك؟ انك تسرقي جوز صاحبتك؟ كنتي بتدخلي بيتها وتشربي قهوتك معانا، وبعدها… تاخديه منها.
نيهال:
_أنا محستش بنفسي، كنت محتاجه حد يحبني بعد كل اللي مريت بيه مع طليقي.
رقيه:
وهي مكنتش محتاجه؟ مكنتش إنسانه؟ كنتي عارفه إنها كانت بتشوف في جوزها وابنها الدنيا كلها.
سكتت لحظة، ونظرت ليها بحدة:
بس الظاهر الزمن مش بيسيب حد… بنتك دلوقتي بتدفع تمن اللي انتي عملتيه.
نيهال بحدّة وهي بتقوم من مكانها، عينيها كلها توتر:
_انتي ليكي علاقة باختفائها يا رقيه؟ قولي الحقيقة.
رقيه رفعت حاجبها بهدوء ، وقالت بنبرة فيها وجع وسخرية:
_قولتلك يا نيهال… أنا مش ندلة زيك.
نيهال صرخت:
_يبقى فين بنتي؟ فينها؟
رقيه قامت من ورا المكتب بخطوات بطيئة، وقفت قصادها، قربت منها لدرجة إن أنفاسهم بقت متشابكة:
_بنتك يا نيهال ضايعة… مش علشاني، علشانك انتي. انتي السبب في كل حاجة.
نيهال صوتها اتكسر:
أنا كنت بحبه… هو اللي اختارني.
رقيه ابتسمت ابتسامة كلها مرارة:
_و هي اللي دفعت التمن، فاكرة إن الزمن هيسيبك؟ لا يا حبيبتي، الزمن دايمًا بيرجع الحساب متأخر… بس بيرجعه.
وبصت ناحيتها نظرة فيها وجع قديم ولسه مولّع، وقالت بهدوء قاتل:
_خليكي مستعدة يا نيهال… لأن اللي راح مش هيرجع وبنتك اللي بتقولي عنها بنتك متعرفيش عنها حاجه لا تعرفي هي بتحب اي ولا بتكره اي بتمر ب اي او بتحس ب اي انتي متعرفيش عنها غير انها بنتك وبس.
خرجت نيهال من عند رقيه وخطاويها تايهة، كل نفس بيطلع منها كان مخنوق بالحزن.
العياط نزل غصب عنها، على بنتها اللي اختفت…
وقفت عند أول الشارع، مسحت دموعها بإيدها المرتعشة، بس الدموع كانت أسرع من إنها تلحقها.
الناس حواليها ماشية، بس هي حست إنها في عالم تاني،
قالت لنفسها بصوت واطي:
_يا رب بنتي تكون بخير… حتى لو مش معايا.
ركبت عربيتها، قلبها واجعها، عقلها بيرجع لوش رقيه وكلامها اللي وجّعها أكتر من أي صفعة.
كانت حاسة إنها فعلاً فشلت كأم، كزوجه، وكإنسانة.
ساقت وهي مش شايفة الطريق كويس، وكل اللي في بالها صورة هاجر وهي طفلة بتضحك...
والصوت جواها بيهمس:
_أنا السبب.
تليفونها رن فجأة، قطَع عليها سيل الأفكار اللي كانت بتغرق فيها.
بصّت على الشاشة… «أحمد».
ردّت بسرعة، صوتها بيرتعش من التوتر:
_ألو يا أحمد، في جديد؟
صوته جالها مبحوح، مليان قلق:
_عرفتي حاجه يا نيهال؟
هزّت راسها رغم إنه مش شايفها، وقالت بصوت خافت:
_لا… وانتوا؟
سمعت تنهيدة تقيلة من الناحية التانية، فيها خيبة أمل وكأن الأمل نفسه اتكسر:
_اتصلنا بكل أصحابها، محدش يعرف عنها حاجه.
سكتوا لحظات، بس الصمت المره دي كان موجع أكتر من الكلام.
نيهال بصت قدامها بعينين تايهين، وقالت بصوت خافت قوي:
يا رب يا أحمد… يا رب تكون بخير.
عند.هاجر
كانت هاجر نايمة، ملامحها هادية كأنها أخيرًا لقت لحظة أمان وسط كل الخوف اللي عاشته.
راكان واقف عند باب الأوضة، بيبص عليها بعين فيها حيرة غريبة…
في حاجه جواه اتحركت، حاجة مش فاهمها ولا عايز يفهمها.
بس بسرعة شد نفسه وقال في سره وهو بيزيح نظره عنها:
_مستحيل… مستحيل أحب بنت الست اللي كانت السبب في موت أمي!
صوت الموبايل قطع سيل تفكيره، رد وهو لسه متجهّم:
_أيوه يا عبدالرحمن؟
جاله صوت عبدالرحمن متحمّس ومليان فرحة:
_ياسمين وافقت يا راكان!
راكان رفع حاجبه بدهشة:
_احلف!
ضحك عبدالرحمن بخفة:
_ والله عيب عليك يا بني، أنا مش أي حد!
راكان بابتسامة خفيفة:
_طيب يا عم، ابسط أهو، هتعرف تستفرد بيها شويه.
عبدالرحمن بصوت كله حماس:
_ عارف هي بس لو تدييني وش، اروح أخطبها من بكره!
وبعدين ضحك وقال:
_أخطبها إيه؟ أتجوزها على طول!
ضحك راكان بخفة رغم كل اللي في دماغه، لكنه لما قفل الموبايل، رجع يبص ناحية أوضة هاجر…
ساعتها بس حسّ إن في حاجة غريبة بتتكوّن جواه، حاجة مش عايز يعترف بيها.
في أوضته، كان عبدالرحمن بيحط آخر حاجة في شنطته، وهو بيكلم ياسمين في التليفون بنغمة فيها مزيج من الجدية والهزار.
عبدالرحمن:
_جهزتي شنطتك يا آنسة ياسمين؟
ياسمين بنبرة فيها استغراب واضح:
_أنا نفسي أفهم هنروح ليه قبل الاجتماع بيومين؟ ما كنا نروح ف يومها وخلاص.
عبدالرحمن، وهو بيحاول يخبّي ارتباكه بابتسامة:
_عشان نلحق نرتب حاجتنا وكده… المهم، خلصتي الشنطة ولا لأ؟
ياسمين بتنهيدة قصيرة:
_أه خلصتها.
عبدالرحمن بسرعة:
_تمام، خليكِ مكانك أنا جاي أخدك ونروح سوا.
ياسمين بنغمة حادة:
لأ، أنا عندي عربيتي، شكراً.
ابتسم بخبث وقال وهو بيعدل الكرافتة اللي لسه مجربها:
_بقولك إيه، متفرهدنيش، هاجي أخدك، واعتبريه ثواب… أو على الأقل توفير بنزين!
ياسمين بسرعة وبعند واضح:
_بقى كده؟ طب تصدق بقى، أنا هروح بعربيتي ومش عايزة أشوف وشك هناك!
قبل ما يلحق يرد، كانت قافلة السكة.
وقف يبص في الموبايل لحظة، وبعدين انفجر ضاحك وهو بيضرب كف على كف:
_مجنونة… والله مجنونة!
كانت ياسمين واقفة تحت العمارة، لابسة طقم بسيط بس شيك، وشعرها مربوط على شكل كعكة مرتبة، ماسكة شنطتها ومستعدة تركب عربيتها.
لسه هتفتح باب العربيه…
سمعت صوت الكلاكس وراها.
لفّت، ولقت عبدالرحمن نازل من عربيته بابتسامة واثقة، لابس قميص أبيض مفتوح أول زرارين، ونظراته فيها شقاوة متعمدة.
عبدالرحمن وهو بيقرب منها:
_هوا انتي كنتي ناوية تهربي من غير ما تسلمي حتى؟
ياسمين رفعت حاجبها بخفة:
_ما قلتلك إني هروح بعربيتي وكدا كدا احنا هنشوف بعض هناك.
قرب أكتر وقال بنبرة فيها نص هزار ونص جد:
_ما ينفعش يا آنسة، أنا مسؤول عن البعثة دي، ومش هسيب السكرتيرة تطير لوحدها في السكة.
مد إيده ياخد منها الشنطة، بس هي سحبتها بسرعة وقالت وهي بتحاول تبين القوة:
_سيبها، أنا تمام.
وفي اللحظة دي اتكعبلت رجليها بخطوة بسيطة للخلف، الشنطة وقعت، وهو بسرعة مد إيده مسك وسطها
اللحظة وقفت كده…
قريبين جدًا من بعض، عيونها وسعت شوية، والخجل طلع في وشها بلون وردي خفيف.
هو لسه محاوط خصرها بهدوء وقال وهو بيحاول يخفي ابتسامته:
_شوفتِ بقى؟ حتى الطريق مش آمن من غيري.
هي بعد بسرعه وخدت شنطتها بتوتر وقالت بنبرة مرتبكة:
_تمام ب بس اخر مره!
ضحك بخفة وقال وهو بيفتحلها باب عربيته:
_حاضر يا ست ياسمين، اركبي بس قبل ما تغيري رأيك.
ركبت وهي مكسوفة، وبصت قدامها من غير ما ترد،
وهو وهو بيقفل الباب، بص ليها لحظة طويلة وقال لنفسه بهدوء:
_مجنونة… بس جميلة.
الطريق كان فاضي تقريبًا، والعربية ماشية بهدوء على صوت أغنية قديمة شغالة في الخلفية.
ياسمين قاعدة جنب عبدالرحمن، حاطة إيديها ف حضنها، وكل شوية تبص من الشباك كأنها بتحاول تهرب من الصمت.
هي
فيها حاجة مريحة، رغم عنادها، رغم طريقتها اللي بتجنّنه.
قطع الصمت وقال بخفة:
_هو انتي كده على طول دمّك حر، ولا دي معاملة خاصة عشان أنا؟
بصت له بسرعة وقالت وهي بتحاول تمسك ضحكتها:
_لا، دي النسخة الرسمية اللي بتتعامل مع الناس اللي بيتدخلوا في قراراتها.
ابتسم وقال:
_يعني ممكن أقدّم طلب نسختي الخاصة؟
بصت قدامها وقالت بخجل وهي بتحاول تغيّر الموضوع:
_ركز في السواقة يا أستاذ عبدالرحمن.
ضحك بخفة وهو بيرجع نظره للطريق، وقال وهو بيهز راسه:
_حاضر يا آنسه ياسمين، بس خدي بالك… الطريق طويل، ومين عارف، يمكن آخره نكون صحاب او يمكن احباب.
بصت له من طرف عينها وسكتت، بس الابتسامة اللي حاولت تخبيها كانت كفاية تفضح إن الكلام لمسها.
العربية كملت طريقها، والشمس بتغيب على المدى،
وصوت الأغنية كمل الجملة اللي هي سكتت عنها:
"يمكن يوم تفهم غلاوتي..."
وصِلوا الفندق مع المغرب، والجو كان دافي والإضاءة صفراء هادية كأنها بتغني للغروب.
عبدالرحمن نزل الأول، وفتح باب العربية لياسمين بإشارة صغيرة كأنه بيقولها "اتفضّلي يا آنسة".
هي نزلت بخطوات واثقة، بس قلبها كان لسه بيدق بسرعة من الرحلة الطويلة.
دخلوا سوا عند الاستقبال.
عبدالرحمن بيتكلم مع موظفة الريسبشن — بنت شابة، شعرها منسدل وضحكتها مش سايبة حاجة في حالها.
قعدت تهزر معاه بخفة، وهو بيرد بلُطف زي طبيعته، من غير ما ياخد باله إن ياسمين واقفة وراه عيونها بتتحوّل من البني الدافي للغامق الحاد.
الموظفة:
_أول مرة تزورونا يا أستاذ عبدالرحمن؟
هو بابتسامة:
_أيوه، أول مرة، وإن شاء الله مش آخرها.
قبل ما يكمل كلامه، ياسمين قطعت الحديث بصوت فيه نغمة واضحة من الغيرة المكبوتة:
_معلش يا أستاذ عبدالرحمن، بعد إذنك، نخلص الأوراق بسرعة عشان نلحق نراجع الملفات قبل الاجتماع.
بص لها باستغراب بسيط، وبعدين لمح شرارة في عينيها… الشرارة اللي خلت قلبه يضحك من جواه.
وقّع بسرعة وقال بهدوء:
_تمام يا آنسة ياسمين، زي ما تقولي.
وهو بيستلم المفاتيح، الموظفة قالت له وهي بتبتسم:
أوضتك رقم 307، والأوضة التانية جنبها على طول.
مد يده ياخد الكارت وقال:
_تمام، شكراً.
وبعدين التفت لياسمين بابتسامة فيها لمحة خفيفة من التحدي:
_مبسوطه كده يا آنسة؟ جنب بعض… بس كل واحد في أوضته طبعًا.
هي رفعت حاجبها وقالت وهي ماسكة كارت غرفتها:
_أكيد، عشان محدش يفهم غلط.
ضحك وقال في سره وهو بيبص وراها وهي ماشية ناحية الأسانسير:
_بتغير… والله العظيم بتغير.
صحى راكان الصبح على ضوء الشمس اللي كان داخل من شباك الأوضة،
رمش بعينه كأنه مش فاهم هو فين…
وبمجرد ما شاف الحيطان المألوفة، اتجمد مكانه.
هو أنا… لسه في الفيلا؟
قعد بسرعة ومسَح وشه بإيده، قلبه بدأ يدق بسرعة.
افتكر إن والده أكيد لاحظ غيابه، وإن اللي حصل امبارح مش سهل يتفسّر.
قبل حتى ما يفكر يعمل إيه، موبايله بدأ يرن.
اسم "بابا" منوّر على الشاشة.
بلع ريقه وضغط على الرد، صوته خرج ثابت على قد ما قدر:
_ألو يا بابا؟
سمير بصوت حازم فيه قلق خفي:
_انت فين يا راكان؟ مرجعتش البيت من امبارح ليه؟
وقف راكان عند الشباك، بيبص على الجنينة وهو بيحاول يرتب كدبة مقنعة:
_دا أنا في سفريّة شغل يا بابا، كان لازم أخلص كام حاجة ضروري، وهرجع أول ما أخلص.
سمير بعد لحظة صمت:
_طيب تمام… المهم ترجَع بالسلامة.
_إن شاء الله يا بابا.
قفل راكان التليفون وسحب نفس طويل،
وبص ناحية أوضة هاجر اللي الباب بتاعها كان مقفول..
وراح دخل الاوضه بهدوء وقعد ع أقرب كرسي
هاجر فتحت عينيها بهدوء،
كانت الدنيا لسه ضهر بدري، والضوء داخل من الشباك على ملامحها الهادية.
مدّت إيدها تمسح على خدها كأنها بتتأكد إن الدم اللي كان بينزل امبارح خلاص راح.
لما قامت تبص حواليها، شافته.
راكان قاعد ع الكرسي قدام السرير، ساكت، بس عيونه مش بتسيبها لحظة.
هاجر باستغراب خافت:
انت… هنا بتعمل اي؟
اتنحنح بسرعة وقال وهو بيحاول يخفي توتره:
_كنت مطمن إنك بخير… بعد اللي حصل امبارح.
بصت له وهي ماسكة بطانية خفيفه حواليها، وقالت:
_أنا كويسة، ومكنش لازم تقعد هنا
ابتسم ابتسامة شبه باهتة وقال:
_مش دايمًا بنعمل اللي "لازم"، ساعات بنقعد علشان مش عايزين نمشي.
كلمته خبطت جواها، بس سكتت.
نزلت من السرير بهدوء، رايحه ناحية الشباك.
هو فضل يتابعها بعينه، كل حركة منها كانت بتخبط حاجة في قلبه مش فاهمها.
قال فجأة كأنه بيحاول يهرب من إحساسه:
_أنا لازم أرجع الشغل دلوقتي… لو احتجتي أي حاجه، المطبخ فيه أكل،
هاجر وهي بتبصله بنبرة فيها حيرة:
_انت غريب فعلًا يا راكان.
راكان وهو رافع حاجبه:
_غريب؟ ليه بقى؟
هاجر بتنهيدة:
_علشان مش عارفه لك طبع، ساعات بتعاملني كويس كأنك حد طيب جدًا، وساعات بتقلب كأنك شخص تاني خالص.
راكان بعد لحظة صمت وبنبرة هادية:
_انا نفسي مش فاهمني
هاجر باستغراب:
_يعني إيه؟
راكان وهو يبعد نظره عنها:
_في حاجات جوايا مش قادر أتحكم فيها... كرهي للناس وحبي ليهم مش عارف اسيطر ع مشاعري ....