
مر شهر كامل على حادثة الحريق.
شهر من الحزن الثقيل الذي خيم على منزل الرفاعي فصمتت فيه الضحكات، وبهتت الألوان، وأصبحت الأيام مجرد تكرار ليالي طويلة من الوجع.
وبينما كان الجميع غارقاً في أحزانه، كان مالك هو الوحيد الذي يعمل في الظل، يجمع خيوط المعلومات بهدوء وصبر، كعادته.
وبعد ليالي من المراجعة والتدقيق، توصل إلى الحقيقة المرة التي كان يخشاها: لقد أظهرت تسجيلات الكاميرات البعيدة بوضوح أن عدي هو من بدأ كل شيء.
هو من تسلل إلى السرايا، وهو من أشعل النار.
كانت حقيقة موجعة لكنها كانت الحقيقة.
لذا، كان عليه أن يلتزم الصمت أن يدفن هذا الأمر في صدره، كي لا يتخذه صخر حجة ويشعل معركة جديدة، معركة سيدخلونها هذه المرة وهم مهزومون مسبقاً.
في ليلة باردة، جلس مالك مع والده سالم وجده وهدان في بهو المنزل كان الصمت سيد الموقف لا يقطعه سوى صوت احتراق الحطب في المدفأة.
بدأ سالم الحديث بصوتٍ قلق ومبحوح
_ عدي الله يرحمه... ضيع حاله وكسرنا.
بس أني مش مطمن لصخر، خسايرهم بالملايين، ده غير الأرواح اللي اتصابت سكوتهم ده وراه حاچة كبيرة.
تحدث مالك بهدوء حاد، كالجراح الذي يمسك بمشرطه، قاطعاً قلقهم بحقيقة موجعة
_ للأسف يا جدي.... لما راچعت الكاميرات، لجيت إن عدي هو فعلاً اللي اتعدى عليهم.
وده هيخلينا غصب عننا نسكت ومنتكلمش.
نظر مالك إلى جده مباشرة، بنظرة تحمل ثقلاً يفوق عمره.
_ بس يا جدي، أنا رايد أعرف الحجيجة حاچة من الأول.
كيف التار ده بدأ، وإيه اللي وصلنا لهنا؟
تنهد وهدان تنهيدة طويلة، خرجت من أعماق صدره المثقل بهموم السنين.
فتح عينيه، وكانتا تحملان حزناً عتيقاً وحكمة قاسية.
صوته خرج ثابتاً، لكنه مبطن بوجع لا يمحوه الزمن.
_ من يوم ما وعيت على الدنيا وعرفت الحجيجة، وأني باعد حالي عن التار.
لأني خابره زين، التار ده زي الحية مبيرحمش حد واصل، وبيلدغ اللي رباه جبل عدوه.
صمت للحظة، وعيناه تاهت في الماضي.
_ وبعدت عنيه أكتر لما عمي وأخوي ماتوا جدامي.
وجتها أبويا الله يرحمه، مرحمش حد منيهم، وجتل عم صخر جصاد عمي
الناس وجتها ادخلت بمجلس عرفي وجالوا إنه لازمن التار ينفض، والأرض تتجسم ما بينكم.
لم يتحدث وهدان عن حقيقة الأرض، عن كونها ملكهم بالأساس ام لا، تابع بصوتٍ يملؤه الأسى
_ اصروا على رفضهم وجالوا وجت ما ياچي الوجت المناسب، هياخدوا تارهم.
لما أمك حبت أبوك، جولت يمكن النسب ده يجربنا من بعض، وطلبتها منيهم، بس هما رفضوا وقرروا يچوزوها لواحد منيهم، بس هي جالت الموت أهون عليها من إنها تتچوزه وجتها أبوك لحجها ووداها لخالها وطلبها منه، والراچل متأخرش وچوزها لأبوك.
وده بدل ما يجرب العلاقة، شعلل نارها أكتر.
ثم تغيرت نبرة وهدان، وظهر فيها انكسار الأب الذي رأى ابنه يُسلب منه.
_ ولما چاه الوجت اللي جالو عليه، أخدوه من ولدي.
طاطيت وجلت أسلم الأمر للحكومة، وفي الآخر أخد إعدام وبرضك مسلمتش من التار وبعدها اترد في نغم سلمت وجلت راضي، طالما اتچوزها على سنة الله ورسوله والموضوع هيفضل سر بيناتنا، بس ينفض العداء.
وهنا، اهتز صوته قليلاً، وظهر حزنه العميق على حفيده الذي ضل الطريق.
_ بس في الآخر... اللي عمله عدي...
أخذ نفساً عميقاً، محاولاً أن يبدو صارماً ليهدئ من نيران قلوبهم.
_ اللي عمله عدي دمر كل شيء تهوره وغيرته عموه.
خلاه هو اللي بادي بالغلط، هو اللي راح برجله للموت ودلوجت، إحنا اللي في موجف ضعف ومش بعيد يجددوا التار من تاني.
رد مالك بثقة، وعقله يعمل كالمحقق الذي يحلل كل الأدلة.
_ مفيش تار هيتجدد جاسر نفسه هو اللي رفض يجدم بلاغ، وهو اللي سابنا ناخد عدي من غير شوشرة.
سأل سالم بحيرة
_ يمكن عشان كبر الموضوع ومش عايز مشاكل مع البوليس.
رد مالك بنظرة فاحصة، كأنه يرى ما لا يراه الآخرون.
_ لأه، جاسر مش إكده جاسر لو عايز يكسرنا، كان حبس عدي لو عاش، وكان بهدل جثته وهو ميت عشان يثبت جريمته ويفضحنا في البلد كلها.
كونه يلم الموضوع بالسرعة دي، فده معناه حاجة من اتنين.
يا إما إنه مش عايز يفتح على نفسه أبواب جهنم جدام القانون والنيابة، وده احتمال ضعيف لواحد زيه.
يا إما... إن فيه حاچة في السرايا نفسها هو بيحاول يخبيها، وحريق عدي كان هيكشفها لو التحقيقات وسعت.
صمت مالك للحظة، وعيناه تلمعان بذكاء حاد.
_ أما الاحتمال التالت، فمجدرش أحكم عليه دلوجت بس سكوت جاسر ده مش لله وراه سر كبير وأنا هعرفه.
❈-❈-❈
كانت الشمس قد بدأت بالغروب، تلقي بضوء ذهبي دافئ على قمم الجبال كانت نغم تقف في الشرفة، تراقب المشهد بصمت.
لقد أصبح هذا طقسها اليومي، لحظة هدوء تحاول فيها جمع شتات نفسها.
خرج جاسر إلى الشرفة، ووقف على بعد خطوات منها، محترمًا مساحتها الشخصية التي فرضتها.
لم يعد يقتحمها كما كان يفعل.
تحدث جاسر بنبرته الهادئة والحازمة كأنه يبحث عن أي موضوع يشاركه معها
_الدكتور اتصل بيجول إن حالتك مستقرة، وإنك تجدري توجفي العلاج
لم تلتفت إليه.
ظلت عيناها معلقتين بالأفق.
ثم قالت ببرود
_ولعبتك خلصت ولا لسة فيها بجية؟
سألها جاسر بفتوره المعتاد
_لعبة ايه عاد؟
هنا استدارت وواجهته، وفي عينيها بريق من السخرية المرة.
_مش خابر لعبة ايه؟
أبعد عينيه عنها وقال بنبرة جليدية
_لو بتعملي إكدة عشان ترجعي لأهلك.....
قاطعته نغم بسخرية وقد تجمعت مرارة الدنيا في قلبها
_أرجع؟
أرجع فين؟
لبيت اتخلى عني؟ ولا لسمعة لطخها چوازي منيك؟
لاح الحزن بعينيها وهي تتابع بوجع
_معدش ليا مكان أرجع ليه
أنت حرجت كل سفني يا جاسر بيه.
معدش ليا غير المكان ده، هو بيتي الوحيد..
تقدم نحوها خطوة، ووجهه لا يزال يحمل قناعه الجليدي، لكن صوته حمل شيئًا مختلفًا، شيئًا يشبه الأسف.
_أنا خابر أني غلوط، بس في نفس الوجت انا صاحب حج.
ضحكت نغم ضحكة خافتة لا تحمل أي بهجة.
_غلوطت؟ الكلمة دي بسيطة جوي جنب اللي عملته فيا
انت مغلوطتش انت بس دمرت حياتي
ودمرت حياة عدي وحياة أهلي.
عشان ايه؟
عشان أرض وتار وكبرياء فارغ.
انفعل جاسر من اتهامها وقال بحدة خفيفة
_انتي متعرفيش حاچة، انتم اللي بدأتوا كل حاچة.
انتو اللي بدأتو بالغدر في الأرض
وانتو اللي بدأتوا بالتار، وديما البادي اظلم، متتكلميش عن حاجة متعرفيهاش.
نظرت اليه نغم تتحدى نظرته بنظرة أشد قوة
_ايه اللي انا معرفوش؟
تجصد يعني ان أبوك اللي جتل ابويا
ولا إنك أخدتني من بيتي بالتهديد عشان تكسر أهلي اللي هما اعداءك
وزي ما بتجول كسروا عيلتك.
كل شيء واضح يا جاسر بيه
انتو الاتنين متختلفوش عن بعض
كلايتكم غرجانين في الدم والكره والحقد
وبتسحبوا اللي حواليكم عشان يغرقوا معاكم.
صمت جاسر، وكلماتها تخترقه.
لقد كانت على حق لم يجد ما يدافع به عن نفسه.
بعد لحظة صمت، تحدث هو وبصوت أعمق
_صحيح أنا مختلفش عنيهم.
بس انا اتربيت اخد حجي بيدي
وأن الجوة هي اللغة الوحيدة المفهومة
متعلمتش اعتذر ابدا.
ضيق عينيه وقد لاحظت فيها لمسة أسف وهو يتابع
_ولا اعرف أصلح اللي كسرته.
اقترب منها خطوة أخرى، حتى أصبح أمامها مباشرة.
كانت المسافة بينهما قصيرة، لكن الهوة كانت شاسعة.
_بس انا شايف دلوجت، شايف الدمار...
وشايف جد ايه انا خسرت كتير، خسرت اكتر ما كسبت.
كانت هذه أقرب صيغة للاعتذار يمكن أن ينطق بها رجل مثله.
لم يقل "أنا آسف"، بل اعترف بهزيمته في حربه.
بحثت نغم في عينيه عن أي أثر للضعف، لكنها لم تجد سوى نفس القوة، نفس الحزم.
لكن خلفهما، رأت شيئًا آخر لم تره من قبل...
حزن..
حزن عميق ورجولي.
فقالت بصوت يرتجف قليلاً رغم محاولتها تماسكه
_واعترافك ده... هيغير ايه؟
هيرچع عدي للحياة؟
هتعيد روحي اللي سرجتها
هنا ظهرت نظرة مليئة بوعود وصوته لأول مرة يصبح هامسا أجش وهو يرفع أنامله ليعيد خصله متمردة إلى حجابها
_تؤ مش هيغير الماضي، بس جادر يغير المستقبل.
سحبت نغم رأسها للوراء، مبتعدة عن لمسته، وقلبها يخفق بعنف.
هذا القرب، هذه اللحظة من الضعف غير المعلن، كانت أخطر عليها من كل قسوته السابقة.
القسوة كانت تعرف كيف تقاومها، أما هذا المزيج من الندم والقوة والحنان الخفي... فلم تكن تعرف كيف تواجهه.
قالت بصوت حاسم، وهي تبني جدرانها مرة أخرى عندما قرأت ما بين السطور
_مفيش مستجبل عشان تغيره
انت عمرك ما هتنسى انا بنت مين
ولا أنا هنسى انت ابن مين
احنا اعداء وهنفضل اعداء.
استدارت لتعود إلى داخل البيت، لكنه قال جملة أخيرة أوقفتها في مكانها.
_فيه يا نغم، فيه.
انتفض قلبها عند سماعها لما نطق به
هو يخبرها بأن حياتهم مستمرة ولا أمل لها في الهرب.
أسرعت إلى غرفتها لتغلق الباب خلفها تحتمي به
لكن أين تحتمي وكل شيء ملكه..
❈-❈-❈
في منزل أكمل
أكمل بعقل
_المعلومة اللي جاتلي عن صخر وجاسر خطيرة، بس ممكن تكون فخ.
رد مالك بدهاء
_ممكن بس حتى لو فخ، إحنا ممكن نستخدمه ضدهم.
صخر معروف في البلد كلها بإيه؟ إنه كبير العيلة، كلمته سيف، والشرف عنده أهم من روحه.
سأل أكمل بحيرة
_قصدك إيه؟
_جصدي إننا مش هنواچهه بالمعلومة. إحنا هنسرّب إشاعة
إشاعة خفيفة، مچرد همس في مجالس الكبار في البلد.
همس عن إن فيه كلام بيتجال على بيت التهامي، وإن الشرف اللي بيكسّروا بيه الناس، ممكن يكون فيه خدش چوه بيتهم هما.
فهم أكمل ما يرمي إليه
_ بس ده لعب بالنار يا مالك
_بالظبط، بس النار دي مش هتحرجنا إحنا، هتحرجهم هما من چوه.
صخر هيضطر يواجه جاسر عشان يدافع عن شرف بيته وبنته.
وصخر هيتجنن لأن سمعته بجت على كل لسان.
هنخليهم ياكلوا في بعض من غير ما نطلق رصاصة واحدة.
هنحول سلاحهم اللي هو 'السمعة والشرف'، ضدهم هما.
صمت مالك عندما تقدمت صبر لتضع القهوة مما جعله يندهش
انتظر حتى مضت ثم سأل أكمل
_مين دي يا أكمل؟
_دي بنت حسان جايبها تشتغل.
عقد مالك حاجبيه بحيرة
_تشتغل كيف؟ وكيف يجبل ان بنته تشتغل عند واحد عازب ولوحده.
لم ينتبه أكمل حقاً لذلك الشيء وقال
_عادي يا مالك، هي بنت حلال وكويسة مفيش قلق منها.
_بس في جلج لو حد من البلد شم خبر، سمعت البنت هتضر، وانت زيها
نظر في ساعته وقال
_انت عارف الساعة كام دلوجت الساعة 12 بالليل هتروح ازاي دلوجت.
حمحم أكمل باحراج
_هي مش بتروح، بتبات هنا.
_كمان.
انهى أكمل النقاش كي لا يضطر لقول حقيقة والدها
_مالك خلاص البنت امان هنا عن بيت ابوها المهم كمل
وافق مالك على غلق الحديث وسأله
_ها قلت ايه؟
سأله أكمل بنبرة تحذيرية جادة
_مالك، أنت مدرك للي بتقوله ده؟ أنت مش بس بتلعب بالنار، أنت بتلعب بشرف بنت عمك الإشاعة دي لو انتشرت، أول واحدة هتتأذي منها هي نغم نفسها.
لأنهم مش هيسكتوا وهيردهالك
وسمعتها هتبقى على كل لسان، وكمان هتبقى فضيحة ليها قبل ما تكون فضيحة ليهم.
مالك ببرود محسوب
_ومين جال إن الإشاعة هتچيب سيرة نغم بالاسم؟
أكمل باستغراب
_أمال هتقول إيه؟
بدأ مالك يشرح خطته ببطء ودهاء
_الإشاعة هتكون همس، مش تصريح كلام من نوعية:
يا چماعة هو إيه اللي بيحصل في بيت التهامي؟
سامعين الكلام اللي بيتجال على كبيرهم؟
إن بنته مخطوبة لابن عمها جاسر والآخر سابها وراح اتچوز غيرها
بعد ما كان خاطبها كل السنين دي اتخلى عنيها وراح لغيرها وانت عارف الكلام اللي هيتجال وخابر كيف بلدنا تلت وتعجن فى الحكاوى ديتى
غصب عنيه هيجبر جاسر يتجوزها
وجاسر مبيحبش حد يمشي كلامه عليه حتى لو كان عمه وهنا هتدب أول مسمار في نعش ترابطهم.
اللي وصلني إن جاسر رافض جوازه منيها بطريجة غير صريحة
وصخر اداله مهلة
وجاسر بطبعه عنيد مستحيل يرضخ لعمه
بعد الاشاعة دي هيكون مجبر للچواز منيها وفي الوقت ده انا هكون في بيت الجبل بسحب منه نغم.
_بس هنا قادر انه يجيب الشرطة وياخد مراته.
نفى مالك
_ميجدرش، لإني في نفس اليوم هرفع عليه جضية خلع،
يعني لو عايز تشوشر وتاخدها
جابلنا في المحاكم
_ يبقى اللي بقوله صح و البلد كلها هتعرف.
_تعرف انها كانت متچوزاه عادي وبرضانا بدليل انها رفعت عليه قضية خلع واحنا واقفين معها.
هنخلي الشك ينهش فيهم زي السوس من غير ما نلوث سمعة نغم بكلمة واحدة مباشرة.
تنهد أكمل بقلة حيلة لقد كانت خطة محكمة بشكل مقلق.
دقيقة وخبيرة في استغلال العقلية الصعيدية.
_وحتى لو... ده مش أسلوبنا يا مالك
إحنا مش زيهم.
لو عندنا حق بناخده بالقانون، مش بالإشاعات والكلام الواطي.
أنا وكيل نيابة، مقدرش أوافق على حاجة زي دي.
رد مالك بصوت أكثر هدوءًا
_أنا بحترمك وبحترم شغلك يا أكمل خليك أنت في طريق النور بتاعك، طريق الأوراق والتحقيقات اللي ممكن ياخد سنين.
وسيبني أنا أمشي في طريق الضلمة اللي شبههم، الطريق الوحيد اللي بيفهموه.
لازم نضربهم بسلاحهم.
لازم نوجعهم في الحاجة الوحيدة اللي تهمهم بجد: كبريائهم واسمهم.
أكمل بيأس
_والنهاية إيه يا مالك؟ لو لعبتنا اتقفشت، هنبقى إحنا اللي بدأنا حرب جديدة، وهنخسر أي تعاطف أو حق ممكن يكون لينا.
رد مالك بثقة قاطعة
_مش هتتقفش لأن اللي هينشر الإشاعة دي مش إحنا أنا عندي طرقي
ناس مديونين لبيت الرفاعي بخدمات قديمة، ناس بيكرهوا التهامي في السر ومستنيين أي فرصة عشان يشوفوهم بيقعوا أنا مش هظهر في الصورة خالص.
ثم أضاف جملته الأخيرة التي حسمت النقاش
_اسمع يا أكمل، أنا مش باخد رأيك أنا بعرفك أنا هعمل إيه، عشان لو سمعت حاچة مـ تتفاجئش أنت خليك بعيد، خلي إيدك نضيفة عشان لو احتجناك في الآخر.
بس متطلبش مني أجعد أتفرچ وأنا شايفهم بيكسروا فينا واحد ورا التاني.
نهض بعد أن تابع بمغزى
_وخد بالك من اللي حواليك
خرج مالك، تاركًا أكمل في حيرة وصراع داخلي.
لقد أدرك أن مالك الذي كان يعرفه قد مات.
وأن الذي ولد مكانه هو شخص آخر، شخص ذكي وقاسي، تعلم أن العدالة أحيانًا لا تأتي من كتب القانون، بل يجب انتزاعها من فم الذئاب بأساليبهم الخاصة.
وأدرك بقلق أن الحرب بين العائلتين قد دخلت للتو مرحلة جديدة وأكثر خطورة، مرحلة الحروب النفسية القذرة
❈-❈-❈
بعد ليلة اعترافه، لم تنم نغم.
كانت تجلس في الظلام، وكلماته تتردد في أذنيها
لقد اعترف بطريقة غير مباشرة أنه وضع قدمه على أولى درجات العشق
لم يكن هذا اعتراف حب، بل كان إعلان حرب من نوع جديد.
لقد كشف لها عن نقطة ضعفه الوحيدة، وفي تلك اللحظة، ولدت في عقلها خطة شيطانية.
لقد حاول كسرها بالقوة، ففشل.
حاول كسرها بالانتقام، فدمر نفسه معها.
الآن، جاء دورها.
لن تستخدم القوة ولن تستخدم الصراخ ستستخدم السلاح الذي لا يتوقعه منها، السلاح الذي أعطاه لها هو بنفسه: حبه.
ستحوله إلى عشق
ستجعله يغرق في هذا الحب، ستعلقه بها إلى حد الجنون، وعندما يصبح عبدًا لها، عندما يضع كل أسلحته جانبًا ويسلمها قلبه بالكامل... ستسحقه. ستتركه كما تركها، محطمًا ووحيدًا.
في صباح اليوم التالي، بدأت الخطة.
كان جاسر يجلس في غرفة المعيشة في بيت الجبل، يراجع بعض الأوراق التي أرسلت له من البلد.
اعتادت نغم أن تتحرك في البيت وهي ترتدي حجابًا بسيطًا، كأنها تضع حاجزًا إضافيًا بينهما.
كان الصباح في بيت الجبل هادئًا كعادته، لا يكسر سكونه سوى حفيف أوراق الشجر في الخارج وصوت تقليب جاسر للأوراق التي بين يديه.
كان يجلس على أريكة ضخمة في بهو المنزل الكبير، غارقًا في حسابات وأرقام تخص أراضي العائلة، محاولًا إشغال عقله عن التفكير في المرأة التي تشاركه هذا البيت وهذا الصمت.
اعتاد على وجودها الهادئ والمنضبط اعتاد على رؤيتها تتحرك كظل رشيق، دائمًا بحجابها البسيط الذي يخفي شعرها، ويضع حاجزًا غير مرئي لكنه قوي بينهما.
كان هذا الحجاب بالنسبة له رمزًا لمقاومتها الصامتة، تأكيدًا يوميًا على أنها لا تزال غريبة عنه، وأنها لن تسمح له بعبور حدودها الأخيرة.
لكن في ذلك الصباح، تغير شيء ما.
انفتح باب غرفتها ببطء، وخرجت نغم لم يرفع جاسر عينيه في البداية، فقد توقع نفس المشهد المعتاد.
لكن شيئًا ما في حركة الهواء، أو ربما هالة مختلفة أحاطت بها، جعلته يرفع بصره.
وتجمد.
لم تكن ترتدي حجابها.
لأول مرة رأى شعرها بالكامل، في ضوء النهار الساطع.
كان شلالًا من بذور القمح، طويلاً وكثيفًا ينسدل بحرية على كتفيها وظهرها، مع خصلات متمردة تحيط بوجهها.لم يكن مصففًا أو مرتبًا، بل كان يحمل فوضى النوم الطبيعية، مما جعله أكثر جاذبية وواقعية.
بدا وكأنه جزء حي منها، يتنفس معها.
مرت من أمامه في طريقها إلى المطبخ، بخطوات هادئة ومدروسة.
لم تلتفت نحوه، لم تعطه حتى نظرة خاطفة
كانت تتصرف وكأن هذا هو الأمر الأكثر طبيعية في العالم، وكأنها لم تكن تخفي هذا الجمال عنه طوال الأسابيع الماضية.
أما هو، فقد توقف العالم من حوله.
الأوراق التي في يده أصبحت مجرد خطوط باهتة بلا معنى.
صوت الريح اختفى.
كل حواسه تركزت عليها، على حركة شعرها مع كل خطوة، على التباين الصارخ بين لونه البني وبشرتها البيضاء، على الطريقة التي كشف بها عن عنقها الطويل الرقيق.
شعر بأن أنفاسه قد حبست في صدره، وشعر بضربة قوية ومفاجئة في قلبه، ليست ضربة حب رقيقة، بل ضربة عنيفة من الجمال الخام الذي حرم منه.
لقد كانت هذه الحركة البسيطة، هذا الكشف المتعمد، بمثابة إعلان.
كانت كإزالة أول حجر من الجدار الذي بنته بينهما، ليس كبادرة سلام، بل كدعوة لدخول حرب من نوع آخر، حرب هو غير مستعد لها على الإطلاق.
أدرك في تلك اللحظة أنها لم تعد الضحية الخائفة.
لقد بدأت تلعب.
في المطبخ، وقفت نغم وظهرها للباب، ويداها تستندان على حافة الطاولة كانت تتنفس بعمق، تحاول السيطرة على ارتجاف خفيف في يديها.
لقد شعرت بنظراته، شعرت بها كحرارة تخترق ظهرها، لقد نجحت الخطوة الأولى في خطتها نجحت نجاحًا باهرًا.
غمرها شعور بالنصر، لكنه كان نصرًا حزينًا، ممزوجًا بالمرارة.
لقد أسعدها أنها استطاعت أن تهزه، أن تجعله يفقد تركيزه أن تعذبه بصمت
لكن في أعماقها، شعرت بوخزة من الألم.
ألم لأنها اضطرت أن تستخدم جزءًا من نفسها، جزءًا حميميًا كسلاح في هذه المعركة القذرة.
شعرت وكأنها تبيع قطعة من روحها في سبيل الانتقام لقد كان انتصارًا بطعم الهزيمة.
عادت إلى غرفة المعيشة بعد دقائق، تحمل كوبًا من الماء.
تحركت بنفس الهدوء، ونفس التجاهل المتعمد.
مرّت من أمامه مرة أخرى، وشعرها يلامس الهواء القريب منه، حاملاً معه رائحة خفيفة جعلت عقله يسبح.
عندما دخلت غرفتها وأغلقت الباب، أطلق جاسر أخيرًا زفيرًا طويلًا لم يكن يعلم أنه يحبسه.
أغلق عينيه، لكن صورة شعرها ظلت محفورة خلف جفونه.
لقد أدرك الآن مدى خطورة اللعبة التي بدأتها.
إنها لا تحاربه بقوتها، بل بضعفه هو.
إنها تستخدم جمالها وأنوثتها ببرود قاطع، وهذا المزيج كان أكثر فتكًا من أي سلاح عرفه.
وهذه الحرب ليست عادلة.
ظهرت ابتسامة مرحة على جانب فمه
اذا كانت خطتها أن تهزمه بجمالها فسيكون هو المبادر كي يستمتع بذلك الجمال، وسيتركها تشعر بالنصر الزائف عليه
عاد إلى أوراقه، لكن الكلمات والأرقام لم تعد تعني شيئًا.
لقد خسر تركيزه بالكامل كل ما كان يفكر فيه هو تلك المرأة في الغرفة المجاورة التي أعلنت للتو، وبدون كلمة واحدة أنها قادرة على تدميره... ببطء، وبمتعة قاسية.
❈-❈-❈
بعد أن خرج أكمل من المنزل، شعرت صبر براحة أكبر في الحركة.
دخلت المطبخ، وبما أنها كانت وحيدة تمامًا في البيت، فعلت ما تفعله أي فتاة في بيتها خلعت حجابها، وتركت شعرها الأسود الكثيف ينسدل بحرية حول وجهها وكتفيها.
كان شعرها غجريًا بطبيعته، مليئًا بتموجات فوضوية وجميلة، لا يشبه الشعر المصفف بعناية، بل يحمل روحًا حرة مثلها.
انهمكت في عملها، تقطع الخضروات وتجهز الطعام، وتتحرك بخفة في المطبخ الصغير، وشعرها يتراقص مع كل حركة.
كانت تدندن لحنًا قديمًا بصوت خفيض، غارقة تمامًا في عالمها الصغير، عالم من النكهات والروائح المريحة.
مر الوقت، وعاد أكمل إلى المنزل وهو يحمل ظرفًا ورقيًا كبيرًا.
كان الهدوء يعم المكان، فعرف أنها لا بد أن تكون في المطبخ.
اتجه نحوه بخطوات هادئة، وكان على وشك أن يناديها ليخبرها بعودته، لكنه توقف فجأة عند المدخل.
تجمد في مكانه، وعيناه متسعتان.
لم تكن هذه هي صبر التي يعرفها.
لم تكن الفتاة المحتشمة ذات الحجاب الدائم والملابس الواسعة بل الفضفاضة التي أمامه كانت امرأة أخرى، امرأة بشعر كثيف وحيوي يحيط بوجهها كإطار داكن، وبعض الخصلات المتمردة تلتصق بجبينها بسبب حرارة المطبخ
كانت تبدو أصغر سنًا، وأكثر حيوية، و... وجميلة بشكل مدهش ومربك.
شعر بمشاعر غريبة وعجيبة تتحرك بداخله، مشاعر لم يشعر بها من قبل تجاهها.
لم تكن مجرد إعجاب بذكائها أو شفقة على ظروفها.
كانت هذه المرة شيئًا أعمق، شيئًا جسديًا، انجذابًا خامًا لم يكن مستعدًا له.
رأى الطريقة التي يتحرك بها شعرها مع كل حركة، ورأى عنقها الذي لم يره من قبل، وشعر بارتباك شديد.
انسحب بهدوء، وتراجع خطوة للخلف قبل أن تلاحظ وجوده.
استند بظهره على الحائط في الرواق، وأغلق عينيه وهو يحاول تنظيم أنفاسه.
في تلك اللحظة، قفزت إلى ذهنه كلمات مالك التحذيرية التي قالها له مازحًا في إحدى المرات:
"خلي بالك من نفسك يا أكمل... ومتأمّنش جوي".
وقتها، ظن أكمل أن مالك يقصد ألا يثق في أهل البلد أو في والد صبر لكن الآن، بعد أن رأى ما رأى فهم المعنى الحقيقي الخفي وراء كلمات مالك
لم يكن يحذره من خطر خارجي، بل كان يحذره من نفسه هو، من مشاعره التي قد تتطور في اتجاه لم يكن في الحسبان.
لقد كانت صبر دائمًا أمامه، لكنها كانت "محجوبة".
حجابها وملابسها المحتشمة جعلاه يركز فقط على عقلها وروحها، ولم يتركا له أي مجال للتفكير فيها كامرأة
لكن الآن، بعد أن رُفع هذا الحجاب لثوانٍ معدودة، رأى الصورة كاملة، وأدرك أنه في خطر.
خطر الوقوع في حب فتاة لا يعرف إن كان ذلك مناسبًا
فتاة تعيش تحت سقفه وفي رعايته.
بعد دقائق، انتهت صبر من إعداد الطعام أعادت ربط شعرها وارتدت حجابها بعناية، وعادت إلى هيئتها المعتادة.
خرجت من المطبخ لتخبره أن الغداء جاهز، فوجدته ينزل من على الدرج وكأنه دخل للتو.
كان وجهه هادئًا، لكنه كان يتجنب النظر في عينيها مباشرة.
_الأكل جاهز يا أكمل بيه.
قالت بابتسامتها المعتادة.
_تحب أحضره لحضرتك؟
هز رأسه، وهو لا يزال يتجنب النظر إليها.
_لأ، مش جعان دلوقتي. كلي أنتِ.
ثم مد يده بالظرف الورقي الكبير نحوها.
_ده عشانك.
أخذت الظرف باستغراب، وشعرت بثقله.
_إيه ده؟
قال، وابتسامة خفيفة بدأت تظهر على وجهه، تخفف من توتره.
_افتحيه.
فتحت صبر الظرف بأصابع مرتعشة، وأخرجت منه مجموعة من الأوراق الرسمية.
قرأت الكلمات المطبوعة في الأعلى، ولم تصدق عينيها.
"جامعة... القاهرة... التعليم المدمج... إشعار قبول الطالبة: صبر حسان محمد".
رفعت رأسها ونظرت إليه، وعيناها تلمعان بدموع الفرح وعدم التصديق.
_أنا... أنا اتجبلت؟ بچد؟
أومأ أكمل برأسه، وشعر بسعادة حقيقية وهو يرى سعادتها.
_مبقاش اسمك صبر حاف بقى اسمك الطالبة صبر، مبروك.
لم تتمالك نفسها قفزت في مكانها بفرحة طفولية نقية، وضحكت ضحكة عالية ورنانة لأول مرة منذ أن عرفها. _أنا مش مصدجة حالي أنا مش مصدجة! هبجى طالبة في الچامعة!
كانت سعادتها معدية، وجعلته ينسى ارتباكه للحظات.
لكنه وهو يراقبها تحتفل بحلمها الذي تحقق، كان يدرك في أعماق نفسه أن الأمور قد تغيرت إلى الأبد.
لقد فتح لها بابًا لمستقبل جديد، لكنه في نفس الوقت، فتح على نفسه بابًا لمشاعر معقدة وخطيرة، لم يكن يعرف كيف سيغلقه.
❈-❈-❈
انتهت جلسة العلاج الطبيعي.
خرجت روح وهي تستند قليلاً على ذراع مالك الذي كان ينتظرها كعادته عند الباب.
كانت خطواتها لا تزال تحمل بعض الثقل، ليس فقط من أثر الإصابة، بل من ثقل الأيام التي مضت.
اعتادت على وجوده بجانبها في هذه الرحلة العلاجية، أصبح جزءاً من روتينها، ثابتاً كشروق الشمس.
في السيارة ساد صمت مريح، لم يكن صمتاً محرجاً أو فارغاً، بل كان مليئاً بالكلمات التي لم تُنطق
كانت روح تنظر من النافذة، تتابع المباني والطرقات التي تمر بها دون أن تراها حقاً.
كان عقلها في مكان آخر، يحلل ويفكك شيئاً جديداً بدأ يتشكل في وعيها.
لفت انتباهها يده الممسكة بالمقود بقوة وثبات، الطريقة التي يختلس بها نظرة سريعة نحوها كل بضع دقائق ليطمئن أنها بخير، سؤاله الهادئ "هل تشعرين بأي ألم؟" الذي لم يخلُ منه يوم.
طوال عمره يهتم بها.
الجملة لم تكن جديدة، لكنها اليوم سقطت في قلبها بمعنى مختلف تماماً.
نعم، كان دائماً هناك.
في طفولتهما، كان هو من يدافع عنها
في مراهقتهما، كان هو من يستمع لشكواها حين لا يكترث أحد.
وحتى بعد زواجها من عدي لم يختفي اهتمامه، بل تحول إلى دعم صامت ومحترم من بعيد.
لكنها لم تكن ترى كانت عيناها معلقتين بـ عدي ببريق شخصيته الذي خطفها، فلم تلتفت لترى النور الهادئ والدائم الذي كان يشع من مالك
كانت تعتقد أن اهتمامه من باب القرابة والأخوة، واجباً لا أكثر.
لكن هل هذا حقاً واجب؟
سألت نفسها وهي تراقبه الآن بعين مختلفة.
هل من الواجب أن يترك كل شيء ثلاث مرات أسبوعياً ليصطحبها إلى جلسة علاج مملة ومؤلمة؟ هل من الواجب أن يتذكر نوع العصير الذي تفضله بعد الجلسة ويشتريه لها دون أن تطلب؟ هل من الواجب أن تكون نبرة صوته دافئة وحنونة بهذا الشكل عندما يتحدث إليها؟
شعرت بوخزة خفيفة في قلبها، ليست وخزة ألم بل وخزة... صحوة.
كأن غشاوة سميكة كانت على عينيها وبدأت تنقشع ببطء كل التفاصيل الصغيرة التي كانت تمر عليها مرور الكرام، أصبحت الآن كبيرة وواضحة وتحمل معنى أعمق.
تذكرت كيف دمرها عدي بكلماته الأخيرة قبل موته، كيف حطم الصورة المثالية التي رسمتها له في خيالها، وكيف أفرغ قلبها منه في لحظة واحدة قاسية.
ربما كان ذلك الألم ضرورياً، ربما كان هو ما كسر القفص الذي حبست نفسها فيه، لتتمكن أخيراً من رؤية ما كان أمامها طوال الوقت.
تذكرت تلك المكالمة بينه وبين أكمل حينما سمعته يقول
"أكيد سعادتها تفرق معايا ولو كانت سعادتها معاه اكيد هجف جارها واعمل المستحيل عشان تكون سعيدة"
مالك يحبها
كانت هي المقصودة في تلك المكالمة
تطلعت إليه بذهول وعينيه تنظر إلى الطريق أمامه
كل شيء يفعله كان يخبرها بأنه عاشق حتى النخاع ولم يكن دور الأخ الذي كانت تخبر نفسها به.
كيف لم تلاحظ ذلك، هل كانت معمية بحب عدي الذي لم ترى منه سوى التجاهل.
وفي النهاية اكتشفت انه لم يكن عشقاً بل وهم عاشت به كي تبرر لنفسها أن مالك بالنسبة لها ليس سوى أخ
لم تعد مجرد فكرة أو شك، بل أصبحت حقيقة ساطعة كالشمس وهي... هي كانت عمياء.
عندما توقفت السيارة أمام بوابة القصر، التفت إليها مالك بابتسامته الهادئة التي اعتادته
_انتي زينة؟
انادي وعد تطلعك اوضتك؟
لأول مرة، شعرت بالخجل من نظراته لأول مرة، ارتبك قلبها من سؤاله البسيط هزت وجهت إليه نظرة عتاب لم يفهمها
هزت رأسها قائلة بصوت خافت
_لا، أنا زينة.
نزل من السيارة، ومد يده ليساعدها على الخروج لكنها رفضت
لن تقبل مساعدته بعد اليوم
ولن تغفر له
اندهش مالك من نظراتها ولمحة العتاب التي ظهرت واضحة فسألها بحيرة
_روح... في حاچة ؟
كانت تود أن تخبره بأنها لا ليست بخير وأن تحمله ذنب ما حدث لها
لكنها أحجمت تلك الرغبة وتركت يده الممدودة ودلفت للداخل وهي تسرع الخطى رغم صعوبتها.
وقف حائرًا بينما كانت تصعد درجات السلم بصعوبة، كان هو يتابعها بعينيه حتى اختفت عن نظره.
فقد وقف في مكانه للحظات، يأخذ نفساً عميقاً.
ماذا بها؟
أما هي فلم تبالي بكل من يصادفها ويسألها عن حالتها
بل صعدت غرفتها وأغلقت الباب خلفها لتستند بظهرها عليه وتطلق لدموعها العنان.
هي من عاشت ذلك الوهم وأخمدت الحب الحقيقي بداخلها
لكنه بدوره أخفاه ولم يصارحها به
تذكرت كل شيء كان يفعله ومازال يفعله
كل شيء يؤكد حبه لها
يخبرها بطريقته لكنها لم تتخيل أن يكون عشقاً
....
أما هو
لقد اتخذ قراره
اليوم، سيفاتح جده في الأمر
لن ينتظر أكثر، روح تستحق بداية جديدة، وهو يريد أن يكون هو تلك البداية.
عدتها تبقى فيها شهر ونصف، وهذا وقت كافٍ ليمهد الطريق نحو مستقبل طالما حلم به، حان الوقت ليتحدث العقل والقلب معاً.
❈-❈-❈
كان هدوء ما بعد الظهيرة يلف بيت الجبل، هدوء ثقيل لا يقطعه سوى صوت خطوات جاسر وهو يصعد الدرج الرخامي ببطء، متجهًا إلى غرفته كان عقله منشغلًا، يصارع بين صور الماضي وواقع الحاضر، بين رغبته في الانتقام ورغبته الجديدة في إصلاح ما تم كسره.
في اللحظة التي وصلت فيها قدمه إلى الطابق العلوي، فتح باب الغرفة بعد ان طرقه كما تعود ليأخذ ملابسه دالفًا المرحاض ثم يعود إلى غرفته التي اتخذها فقط للنوم
وفور دخوله انفتح باب الحمام فجأة، وخرجت منه نغم.
تجمد جاسر في مكانه، ليس فقط بسبب المفاجأة، بل بسبب المشهد الذي أمامه.
لم تكن ترتدي ملابسها، ولم تكن ملفوفة بفوطة.
كانت ترتدي روب الاستحمام الخاص به
مئزاره هو
كان ثقيلاً وداكن اللون، وطويلاً جدًا عليها، تصل أكمامه إلى ما بعد أصابعها، وحافته تكاد تلامس كاحليها.
هذا الحجم المبالغ فيه جعلها تبدو أصغر وأكثر هشاشة، لكنه في نفس الوقت كان إعلانًا صريحًا بالملكية، كأنها تستعير جلده.
كان الروب مفتوحًا قليلاً عند الرقبة، كاشفًا عن بشرتها الندية التي تلمع تحت الضوء الخافت للغرفة.
شعرها الأسود كان مبللاً بالكامل، ملفوفًا بعشوائية فوق رأسها، لكن بعض الخصلات الداكنة هربت منه لتلتصق برقبتها وكتفها، وتتساقط منها قطرات ماء بطيئة، تسير في رحلة قصيرة على جلدها قبل أن تختفي داخل قماش الروب الثقيل.
رفعت نغم عينيها، وتلاقت نظراتهما. اتسعت عيناها بتصنع للصدمة والارتباك، صدمة متقنة للغاية لدرجة أنها كادت أن تكون حقيقية.
_ أنا... أنا افتكرتك تحت في الجنينة.
تمتمت بالكلمات بصوت خفيض، صوت بدا وكأنه يرتجف قليلاً.
رفعت يدها التي كانت شبه مختفية داخل الكم الواسع، وضمت ياقة الروب إلى صدرها في حركة حماية مصطنعة، وكأنها فوجئت به حقًا.
لم يرد جاسر.
ظل واقفًا كتمثال، وعقله يعمل بأقصى سرعة.
جزء منه الجزء البدائي الغريزي، كان مأخوذًا بالكامل بالمشهد.
برائحة عطر الاستحمام والهواء الرطب التي انبعثت منها، بقطرات الماء التي تلمع على بشرتها، بمنظرها وهي غارقة في ملابسه، وهو مشهد حميمي بشكل مؤلم.
لكن الجزء الآخر من عقله، الجزء الذكي والحذر الذي يعرفها، كان يصرخ فيه: "إنها لعبة!".
أدرك في تلك اللحظة أنها لم تخطئ. لقد حسبت خطواته، وعرفت توقيت صعوده.
هذا اللقاء لم يكن صدفة، بل كان كمينًا مدبرًا بعناية فائقة.
ورغم إدراكه هذا، لم يستطع أن يزيح نظره.
لم تكن نظرة شهوة فجة، بل كانت نظرة رجل محارب يرى خصمه قد غير تكتيكه فجأة، واستخدم سلاحًا لم يكن يتوقعه
سلاح الجمال الهادئ، والإغواء الصامت.
_ معلش... عن إذنك.
قالتها بسرعة مصطنعة، واستدارت لتعود إلى الحمام مرة أخرى، وأغلقت الباب خلفها بنعومة.
لم تغلقه بعنف، بل أغلقته بهدوء، تاركة إياه في الغرفة وحيدًا مع الصورة التي انطبعت في ذهنه.
ظل واقفًا في مكانه لدقيقة كاملة، يستمع إلى صوت الصمت.
صورة بشرتها الندية، وقطرات الماء، والطريقة التي بدا بها ضائعة داخل ملابسه، كل هذه التفاصيل ظلت محفورة في عقله، تشعل فيه نارًا هادئة وعنيدة.
ثم، ولأول مرة منذ وقت طويل، ارتسمت على شفتيه شبه ابتسامة، ابتسامة باردة وماكرة لا تخلو من الإعجاب.
_بتلعبي بالنار يا بنت الرفاعي.
همس لنفسه بصوت خفيض.
_فاكرة إنك كده بتكسريني...
صمت للحظة، ثم أكمل وهو يخرج إلى غرفته بخطوات أصبحت أكثر ثقة.
_ بس لو اللعبة دي مكسبها هو أنتِ... يبجى خليكي، لاعبي براحتك... لحد ما الدور ييچي عليا.
لقد فهم لعبتها، وقرر أن يشارك فيها لقد أدرك أنها تحاول استدراجه، إغواءه، لتنتقم منه في النهاية.
لكنه قبل التحدي
سيتركها تظن أنها تسيطر على الموقف، سيتركها تنسج شباكها حوله، وهو في المقابل، سيستمتع بكل لحظة من هذه الحرب الجديدة
لأنه كان يعلم أن في نهاية هذه اللعبة، لا يمكن أن يكون هناك سوى فائز واحد.
وكان مصممًا على أن يكون هو