رواية هيبة الفصل الثاني والخمسون52 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة الفصل الثاني والخمسون52 بقلم مريم محمد غريب
لا أنسى _ :

جلست بينهم في حديقة القصر الخلفية ..

جدّها الكهل المتسلّط، وأبيها المزعوم.. صارت ابنته بالتبّني منذ بضع ساعاتٍ فقط ..

توافد طاقم الخدم عليهم، تراصت أمامها فوق طاولة الفطور أشهى وألذ المأكولات والمشروبات، بشكلٍ مبالغٍ لوجبة إفطار بسيطة ..

فهنا أصناف من الجبن والزبدة، وهنا خبز محمص وكعك "الدوناتس" المُحلّى، وفي متناولها أيضًا العصير أو القهوة أو حتى الشاي ..

علاوةً على كل هذا كانا الرجلين أمامها مجرّدين تمامًا من هيبتهما، كلٌ أراد رؤيتها مرتاحة وسعيدة، رغم إنها لا تزال واجمة، ولم تمد يجه بعد إلى الطعام ..

بادر "رياض نصر الدين" وناولها كأس العصير قائلًا ببشاشة:

-خدي يا حبيبة جدك. يلا أشربي العصير ده
خلّي وشك يوّرد وتبقى رايقة وزي القمر إن شاء الله.

لم ييأس وبقى مادًا يده لها بالكأس، إلى أن رأفت به وأخذته منه، لولا أن شعرت حقًا بالهزل والضعف لما طاوعتهما في هذا ..

لكنها تجرّعت العصير على دفعاتٍ فقط لتحافظ على قوتها وتماسكها هنا في عشّ الأفاعي هذا ..

رأت جدها يبتسم برضا، بينما يدفع أبيها نحوها بطبقٍ صنعه لها وهو يقول بلطفٍ:

-كلي يا ليلى. الخدم قالولي إنك مالمستيش العشا ليلة إمبارح
لازم تاكلي كويس. لسا قدامنا حاجات كتير هانعملها وعايزك تكوني جاهزة وصحتك عال.

لم يكن لكلماته وزنًا لديها، فقط اهتمت بتغذية جسدها، فعكفت على تناول طعامها كله ..

وقبل أن تفرغ تمامًا، انتبهت لظهور الضلع الثالث لآل "نصر الدين".. "زين نصر الدين" قد أتى الآن معلنًا بصوته العميق:

-صباح الخير يا جدي.. صباح الخير يا دياب.

ردّا عليه كلاهما ..

أما هي فتطلّعت إليه في صمتٍ وهي تلوّك بقايا الطعام بفمها ببطءٍ، بادلها النظرات في فتورٍ ولم يحاول حتى الاحتكاك بها لفظيًا ...

-كويس إني شفتك يا زين. عايزك.

نظر "زين" إلى "دياب" قائلًا باهتمام:

-خير!

-خير ماتقلقش.. لو فاضي نص ساعة دلوقتي قبل ما تخرج هاسبقك على المكتب جوا.

-فاضي. تعالى دلوقتي ..

وإلتفت نحو جده سائلًا:

-عايز مني حاجة يا جدي؟

-تسلم يا ولدي بالسلامة.

وقام "دياب" وسارا معًا داخل المنزل من جديد ..

إنفرد "رياض" بحفيدته أخيرًا، حاول فتح حوارًا لطيفًا معها:

-تعرفي يا ليلى أنا فايت البلد بقالي أكتر من 10 سنين. والجنينة إللي قاعدين فيها دي أنا إللي زارعها أول عن آخر
بس دي أول مرة أشوف جمالها وأحسّه.. عشان انتي هنا جنبي.

نظرت له "ليلى" مطوّلًا، ثم قالت بصوتٍ نزق مكتوم:

-كفاية لو سمحت.. كفاية تلبس وش الحنيّة ده
مش لايق عليك لا انت ولا عيلتك. أنا عارفة إنك كنت عايز تقـ تل أمي.. وتقتـ لني.

صمت "رياض" للحظاتٍ.. ثم قال بتجهمٍ:

-قبل قوالتك دي.. سمعتي أمك عملت إيه؟

ليلى بشراسةٍ مفاجئة:

-مافيش في الدنيا مُبرر يخلّيك تقتل بنتك. بأيّ حق تقتلها وتاخد القرار ده؟
إذا كان رب العالمين مأمرش بقتلها حتى في الغلط إللي وقعت فيه. إزاي هانت عليك؟ وإزاي جاي دلوقتي وطالب مني أنسى وأثق فيك؟؟

رمقها بنظرة جافّة تطوي بعمقها وجعًا سحيق لم يحسّه إلا هو.. وقال بصوته الخشن:

-مايجوزش تقارني رحمة العبد برجمة الرب.. ربك غفور وكريم
رحمته واسعة ويقبل التوبة مهما غلط عبده. لكن إحنا بنى آدم. مانقدرش نعفي بسهولة
انتي نفسك مش قادرة تعفي.. لا عني.. ولا حتى عن الراجل إللي حبتيه وسلمتيله حالك.. ولا غلطان أنا؟

احتقن وجهها بدماء الغضب:

-عايز توصل للنقطة دي من الأول صح؟ وأنا معاك.. آه
حبيت نديم الراعي وسلمتله نفسي. بس اختياري ليك ماكنش أكتر من عقاب له هو
أنا عارفة ومتأكدة إنه بيحبني. لكن عندك حق. مش قادرة أعفي عنه. لحاجة واحدة بس
وهي إنه خدعني.. وبخداعه ليا أضطر يجرحني كتير.. وأنا حلفت لادفعه تمن كل جرح سبّبه ليا.

كان ينظر لها متأملًا، على العكس لم يغضب من كلماتها، بل قال بعد ثوانٍ:

-أول ما بصيت في عنيكي ماشوفتش الخوف إللي بشوفه في عيون الكل مني
أمك كانت تهابني.. لكن انتي.. مش هايبة حد واصل!

صمتت ولم ترد.. بينما دمعت عيناه وهو يستطرد بصوتٍ أجش:

-من سنين وافقت على قتل بتّي عشان عارها ماكانِش عاري لوحدي. كانت على اسم عيلتي كلها.. ومقدرتش أقف لهم.

ردّت بصوتٍ مكتوم:

-يعني لو كنت أنا كمان على اسم عيلتك.. كنت وافقت على قتلي؟

جاوبها دون أن يرف له جفن:

-كنت وافقت.. أول ما اتولدتي كنت هاعملها بيدّي
لولا مهران الراعي دافع عنك كيف الديب المسعور. كتبك على أسمه
قولك على سر؟ أنا سجدت لربي وشكرته لما عمل كده.. لما رحمك مني ومن عيلتي ..

فرّت دمعة من عينه وهو يضيف بصدقٍ واضح:

-إوعك تكوني مفكرة إني قاطعتك طول السنين إللي فاتت دي.. أنا كنت متابعك
أخبارك كانت بتوصلني. ولما حسيت خلاص إني مش قادر على فراقك قررت
قررت أخدك ولو كنتي وسط مين.. 

ليلى بسخرية مريرة:

-وإيه إللي اتغيّر دلوقتي؟ إيه إللي مانعك تقتـ لني؟
ما أنا بقيت على اسم عيلتك رسمي!

استحالت تعابيره الهِرمة الحزينة إلى قناعٍ من الوحشية وهو ينطق بغلظةٍ:

-مافيش مخلوق يقدر يقرب لك طول ما أنا عايش.. انتي بقيتي في حمايا
ودياب من بعدي يفديكي بروحه. أنا موصيه. لو جه أجلي في أي لحظة يكون ضهر وسند ليكي.

عبست بشدة وهي تتساءل:

-عاوزني أقتنع بالسهولة دي!
فجأة كده بقيت مضحي وطيب؟ وبنتك إللي أجهضتني وقت ـلت ابنــي؟؟؟

مد يده نحوها ممسكًا يدها بين كفّيه وهو يقول واعدًا:

-حقك راجع.. من كل إللي آذاكي
وده وعد من رياض نصر الدين. من جدك.

سحبت يده من بين يديه رافعة ذقنها وهي تردد باقتضابٍ:

-لأ. وعدك مايلزمنيش
ومحدش هايرجع حقي غيري.. أنا مابنساش!

______________________________________________________

الريح تداعب الستائر الطويلة بغرفة "مهران الراعي" ..

هنا بشقته الخاصة، مساحته المستقلّة بعيدًا عن ملك ابن أخيه، أبدى رغبته في الانفراد بنفسه لبعض الوقت ..

إذ عكف على الجلوس فوق كرسي وثير قرب النافذة، كتفاه المنهكتان يشهدان على عمرٍ طويل قضاه في الحماية، والحماية فقط ..

في البادئ حمل على عاتقه حماية ابن أخيه وصون إرثه له حتى بلغ واشتد عوده، ومن قبله "ليلى".. "ليلى" التي ربّاها منذ أول بعمرها كأبنته ..

يمر طيفٌ حزين بعينيه وهو ينظر إلى صورتها في يده، كانت بعمر الخامسة، بجواره، تحتضنه ضاحكة ..

كم كانت آسرة، بريئة، لكنه الآن لا يسعه أن يراها كما كانت، لم يعد يرى الطفلة التي التقطها بين ذراعيه يوم أراد جدها التخلّص منها، بل يرى الآن الشابّة التي تنصّلت من أبوّته وعادت إلى عائلتها الحقيقية بحكم القانون، والأهم.. باختيارها ..

كان صدره يعلو ويهبط ببطءٍ، حنينه لها يزدحم داخله حتى كاد يسمع له خفقان ..

قطع سكون اللحظة دخول "مشيرة" المفاجئ، المرأة التي لم قلبها أيّ ودّ لابنته الروحية، ولم تتخذها يومًا ابنةً لها كما زُعم ...

-مش ناوي تعقل بقى يا مهران؟ يعني نحمد ربنا إنها جت من عنده والبت دي غارت من حياتنا عشان نفوق لنفسنا و ولادنا. ولا انت شايف إيه؟

تطلّع "مهران" إليها بنظراتٍ غائمة، رآها تقف أمامه، يداها متشابكتان، وجهها مشدود كوتر على وشك الانفجار ...

-البت دي بنتي يا مشيرة! .. قالها لحدة، وتابع:

-انتي سامعة؟ ليلى بنتي
كانت.. وهاتفضل.

مشيرة بغضب شديد:

-لسا بردو بتقول بنتك؟
انت إيـــه؟ عايز مني أنا إيـــه؟ مش مكفّيك إللي عملته فيا واستحملته بقالي سنين؟؟؟

هب واقفًا في مواجهتها وهو يهدر من بين أنفاسه الملتهبة:

-استحملتي إيــه يا مشيرة؟ ررررردددي؟
انتي طول عمرك كارهة البنت. طول عمرها حاسة منك بالقسوة والجفا
في كل مراحل عمرها حتى لو مرضت.. كنتي دايمًا واقفة ضدها.. عايز أعرف إيه إللي استحملتيه؟؟؟

ترمقه بعينين تتسعان بجنونٍ، تهرّبت من سؤاله لعجزها عن الجواب وصرخت فيه بقهرٍ:

-البت دي خدت منك إللي محدش خده!
حب ورعاية وفلوس.. واهتمام مريض
انت مهووس بيها يا مهران لدرجة إنها اتمرعت وهي على اسمك
ماحترمتش إنها بنتك على الأقل. وراحت اترمت في حضن نديم وخدته من مراته السافلة. ولسا بتختارها!!!

خفق قلب "مشيرة" بعنفٍ وهي تنظر إليه وقد شعرت بأن الجدار الذي ظلّ بينهما لسنواتٍ صار أعلى وأقوى ..

بقى "مهران" على هدوئه المخيف، اقترب منها خطوة، لفحت أنفاسه وجهها وهو يقول بخفوتٍ:

-أيوة لسا بختارها يا مشيرة.. عارفة ليه؟
لأني يوم خدتها رضيعة في حضني من أول يوم في عمرها كانت أنضف من الدنيا دي كلها
ولحد دلوقتي.. ومهما حصل هاتفضل في عيني أنضف من الكل.. ومنك انتي شخصيًا.

كتمت "مشيرة" شهقة كمن تلقّى صفعة موجعة، احمرّت عيناها غضبًا، بينما لم ينتظر "مهران" ردّها ..

أولاها ظهره وغادر المكان كله دون أن يضيف كلمة أخرى ...

___________________________________________________________

أنهى جلسته برفقة "دياب نصر الدين" وانطلق مسرعًا ليلحق بموعده ..

في عيادة طبيبة المخ والأعصاب الشهيرة.. "سهام صالح" ..

جلس "زين" أمام الطبيبة الأربعينية هازًا قدمه بشيء من العصبية، رفعت الطبيبة نظارتها قليلًا، ونظرت له باهتمامٍ مهني قائلة:

-كمل يا زين بيه.. حضرتك كنت بتقول إن زوجتك وارثة علّتها عن والدتها. ممكن أعرف إيه المشاكل إللي بتواجهك معاها؟

تخطّى "زين" مشاعر التوتر ومضى يخبرها بثباتٍ:

-أنا متجوزها من فترة قصيرة زي ما قلت لحضرتك.. بس لحد دلوقتي. مقدرتش أقرب لها
كل مرة أكون جنبها أحس إني مشدود لها. لأنها دايمًا قصادي بنت ناضجة على الأقل جسديًا
بس لما بفتكر إن عقلها عقل طفلة مش بقدر أخد أي خطوة.. وبخاف.. بخاف عليها من نفسي يا دكتورة. بخاف أنسى نفسي في مرة وأصدمها أو حتى آذيها وأنا مش حاسس!

كتبت الطبيبة ملاحظة صغيرة بالدفتر أمامها، ثم نظرت إليه وقالت:

-تمام أنا زي ما فهمت منك إللي جابك هنا إنهاردة خوفك عليها. وإنك عايز تعرف هل هي ممكن تحس؟ تفهم؟ أو حتى تخاف؟ صح!

أومأ لها: أيوة مظبوط.. و الأهم هو أصلًا ينفع يحصل بينّا علاقة؟
أنا مش عايز أظلمها. ولا عايز أتسبب لها في أزمة نفسية أشدّ من أزمتها الأساسية..

وتنهد بحرارة مسندًا ظهره إلى الكرسي، وأطرق رأسه مرددًا بخفوتٍ:

-هي.. بريئة أوي. وفي نفس الوقت ساعات بتبص لي بطريقة بتخوّفني
بتحسسني إني مسؤول عن حماية عقلها. ومجبر أنتبه لحقيقة إنها.. مراتي!

أغلقت الطبيبة دفترها بهدوءٍ، ثم مالت للأمام قائلة:

-زين بيه. مبدئيًا عايزة أقول لحضرتك معلومة مهمة جدًا.. أنا دكتورة مخ وأعصاب
مش متخصصة في الطب النفسي. واستشارتك جزء كبير منها يتطلّب طبيب نفسي
لكن خلّيني أشرح الجزء المتعلّق بتخصصي..

واستطردت بوضوحٍ مهني:

-زوجتك في حالتها ممكن تحس وتشعر بالعلاقة؟ أيوة. الجسم بيستجيب بشكل طبيعي جدًا
لكن الإدراك. والقدرة على فهم معنى العلاقة الزوجية والهدف منها ده أمر مختلف تمامًا
والمشكلة مش في الإحساس. المشكلة في الوعي.. هي ممكن تتلخبط. ممكن تخاف
ولو حصلت العلاقة منغير تهيئة نفسية ده ممكن يسبب لها صدمة عصبية.

رفع "زين" عينيه بسرعة وكأن كلمة "صدمة" وخزته.. وسألها:

-يعني حضرتك تنصحيني بـ إيه؟ هي للأسف اتعلّقت بيا جدًا
وأنا.. أنا حاسس إني ممكن أضيّعها وأنا مش واعي. مش هقدر أسيبها وفي نفس الوقت مش ضامن نفسي.. أعمل إيه؟!

-طبعًا هي لازم تكون فاهمة على أد إدراكها إنك جوزها.. وإن إللي بيحصل مش خطر عليها. انت بتقول انها متعلقة بيك صح؟ يعني بتحبك؟

-أيوة.. تقدري تقولي كده.

هزت رأسه وأردفت بهدوء:

-تمام. الموضوع مش مستحيل في الحالة دي.. لكن لازم التأهيل النفسي قبل الجسدي ده ضروري.

زين بإصغاء: إيه إللي ممكن أعمله؟

بدأت الطبيبة تشرح له خطة علاج محكمة، ودوّنت له رقم هاتف طبيب زميلًا لها في قسم النفسية والعصبية، بالكاد شكرها "زين" على وقتها ونصائحها ..

ليدق هاتفه فجأة ويرى أسم "عاصم البدري" يضيئ شاشته ..

تنفس بعمقٍ وهو يقرّ بداخله.. هذا الرجل حمّله مسؤولية هو بنفسه لم يقوَ عليها... ويتوقع منه أن ينجح
تعليقات



<>