رواية ثنايا الروح الفصل الرابع والخمسون54بقلم رانيا الخولي

رواية ثنايا الروح الفصل الرابع والخمسون بقلم رانيا الخولي 

كان صباحاً مشمساً وهادئاً في بيت الجبل جلس جاسر ونغم وونس حول مائدة الإفطار في الشرفة يستمتعون بالهواء النقي وصوت العصافير 
كان جاسر يرتشف من قهوته وهو يراجع بعض الأوراق الخاصة بالقضية بينما كانت ونس تقطع بعض الفاكهة ونغم تحدق في طبقها بشرود واضح.

لاحظ جاسر صمتها غير المعتاد كانت تقلب قطعة الجبن في طبقها دون أن تأكل وشفتيها مطبقتان بقلق، رفع عينيه عن الأوراق ونظر إليها بتركيز
_نغم حبيبتي إنتي كويسة؟

انتبهت نغم لسؤاله فجأة وكأنها كانت في عالم آخر رفعت رأسها بسرعة وابتسمت ابتسامة مرتبكة
_ها؟ آه آه كويسة يا حبيبي الحمد لله.

لكن عينيها سرعان ما تحولتا نحو ونس في نظرة صامتة تحمل سؤالاً واضحاً: 
أقول له؟ كيف أبدأ؟
فهمت ونس نظرة الاستغاثة تلك، هزت رأسها بيأسٍ مصطنع وكأنها تقول منكِ لله هورطتيني 
ثم نهضت بهدوء وهي تمسح يديها بمنديل
_أنا هقوم أشوف سامية عملت الشاي ولا لسه.

اتسعت عينا نغم بصدمة وهي تتابع حماتها بنظراتها وكأنها طفل صغير تركته أمه وحيداً في موقف صعب، همست بصوتٍ خافت لم يسمعه سوى جاسر
_بتخلعي ماشي يا حماتي.

ازداد قلق جاسر وهو يرى هذا الحوار الصامت وضع الاوراق جانباً تماماً وترك فنجان قهوته مد يده وأمسك بيدها ونبرته أصبحت أكثر جدية
_نغم فيه إيه بجد؟ قلقتيني.

أخذت نغم نفساً عميقاً وجمعت شجاعتها نظرت في عينيه بتردد وقالت بصوتٍ منخفض
_أنا أنا كنت عايزة أروح لـ زينة

عقد جاسر حاجبيه باستغراب
_زينة؟ ليه؟ إنتي تعبانة؟

هزت رأسها نافية بسرعة
_لأ الحمد لله، بس يعني عشان أطمن إن موضوع السجط اللي فات ده مش هيأثر على على حمل تاني في المستجبل.

تنهد جاسر تنهيدة طويلة تحمل تعباً وقلقاً عليها لقد مر وقت قصير على تلك الحادثة الأليمة وهو لا يريدها أن تفتح جروحاً لم تلتئم بعد أو أن تضع نفسها تحت ضغط نفسي جديد
_وبعدين يا نغم؟ أنا مش فاهم ليه الاستعجال ده؟ إحنا لسه يا حبيبتي بنعدي من اللي فات.

لمعت الدموع في عينيها وهي ترد بحماس وشوق
_عشان نفسي في طفل منك يا جاسر، نفسي في حتة منك ومني تكبر جدام عينينا أنا بحب الأطفال جوي ونفسي أكون أم

رق قلبه لكلماتها ورغبتها الصادقة، كان هو أيضاً يريد ذلك أكثر من أي شيء في العالم، لكنه كان يخشى عليها
_يا حبيبتي وأنا كمان نفسي بس اصبري شوية، خلي الأمور تهدى خالص وأنا أوعدك هوديكي بنفسي ونطمن.

أومأت برأسها موافقة لكنه لاحظ كيف انطفأت لمعة عينيها وكيف سحبت يدها ببطء وارتسم على وجهها حزن خفيف حاولت إخفاءه، لم يحتمل رؤيتها بهذا الشكل كيف يرفض لها طلباً وهي التي أعادت له الحياة؟

أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما وقد اتخذ قراره
_خلاص خلاص متزعليش ...
قالها بابتسامة مستسلمة 
_ماشي يا ستي جومي البسي هدومك عشان ألحج أرچع أراچع الجضية دي

في لحظة تبدل حالها تماماً لمعت عيناها بفرحة طفولية واتسعت ابتسامتها حتى كادت تصل إلى أذنيها لم تصدق أنه وافق قفزت من مكانها بسرعة وانحنت لتقبّله قبلة خاطفة على خده وقالت بصوتٍ يغمره الامتنان والسعادة
_حبيبي! أنت أحسن زوج في الدنيا كلها!

وانطلقت تجري إلى داخل المنزل لتغير ملابسها تاركة إياه يبتسم وهو يهز رأسه، سعادتها كانت أولويته دائماً وحتى لو كان قلقاً فإن رؤية هذه الفرحة على وجهها تستحق كل شيء.

ــــــــــــ

كانت عيادة الدكتورة زينة هادئة ومريحة تفوح منها رائحة معقمة لطيفة، ما إن دخل جاسر ونغم حتى استقبلتهما زينة بابتسامتها المعهودة وترحيبها الصاخب الذي يبعث على الألفة
_أهلاً أهلاً العيادة نورت بوچودكم مش معجول جاسر باشا بنفسه عندنا.

صافحها جاسر بابتسامة بينما احتضنت زينة نغم بحرارة.
جلس جاسر على أحد المقاعد وبدا عليه الانشغال وهو يلقي نظرة سريعة على ساعته
_أهلاً بيكي يا زينة معلش چينا من غير معاد بس المدام عندك هي اللي صممت.

نظرت زينة إلى نغم التي كانت تجلس على طرف مقعدها بتوتر ثم عادت بنظرها إلى جاسر
_خير؟ في حاچة يا نغم؟

تكلم جاسر نيابة عنها محاولاً إنهاء الأمر بسرعة
_نغم عايزة تطمن إن الإجهاض اللي اتعرضت له جبل اكده مسببش أي ضرر أو مشاكل يعني للمستقبل.

أدارت زينة عينيها نحو نغم ونظرت إليها بغيظٍ مصطنع
_ديما اكده؟ مش جادرة تصبري أبداً دايمًا مستعچلة على رزجك يا نغم.

ثم ابتسمت بحنان وأضافت
_ ولا يهمك يا حبيبتي نطمن ونعمل كل الفحوصات اللازمة.

بدأت زينة في إجراء الفحوصات الأولية وطلبت من الممرضة سحب عينة دم من نغم لعمل بعض التحاليل الهامة. 
مر الوقت وجاسر يزداد تململاً، رن هاتفه عدة مرات وفي كل مرة كان يجيب بصوتٍ منخفض وقلق في المكالمة الأخيرة بدا الأمر ملحاً.

أنهى المكالمة وتوجه إلى زينة
_زينة أنا آسف جداً بس چالي تليفون مهم ولازم أمشي فوراً الموضوع يخص القضية

نظرت إليه زينة بتفهم
_خلاص يا جاسر روح مشوارك ومتجلجش نغم هتفضل معايا لحد ما نتيچة التحاليل تطلع وأنا هوصلها بنفسي لحد البيت متشلش هم.

تردد جاسر فلم يكن يريد ترك نغم وحدها، نظر إليها وسألها بعينيه فأومأت له برأسها موافقة وهي تبتسم لتطمئنه.
_متأكدة يا زينة؟ مش عايز أتعبك.
_عيب عليك يا جاسر دي أختي الصغيرة، يلا روح والحق شغلك.

قبّل جاسر رأس نغم وهمس لها
_كلميني أول ما تخلصي.
ثم غادر العيادة على عجل

بمجرد أن غادر جاسر ساد جو من الألفة بين نغم وزينة، وبعد فترة من الانتظار دخلت الممرضة وهي تحمل نتيجة تحليل الدم، أخذتها زينة وبدأت تقرأها بتركيز وتغيرت ملامح وجهها تدريجياً من الجدية إلى الدهشة ثم إلى ابتسامة واسعة جداً.

رفعت عينيها لتنظر إلى نغم التي كانت تراقبه بقلق شديد وقلبها يكاد يقفز من صدرها
_نغم شكلك مش بس مستعجلة ده إنتي سبقتي الأحداث كلها.

لم تفهم نغم مقصدها
_يعني إيه يا زينة؟ فيه حاچة وحشة؟

ضحكت زينة بصوتٍ عالٍ ونهضت من مكانها واقتربت من نغم واحتضنتها بقوة
_حاچة وحشة؟ دي أحلى حاچة في الدنيا مبروك يا حبيبتي التحليل بيجول إنك حامل.

تجمدت نغم في مكانها للحظة وكأنها لم تستوعب الكلمة
_إيه؟ حامل؟ كيف؟
قالت زينة وهي تضحك بسعادة
_زي الناس يا هانم  مبروك يا ماما ألف ألف مبروك.

بدأت الدموع تتجمع في عيني نغم لكنها لم تكن دموع حزن هذه المرة بل دموع فرحة نقية، لم تشعر بها من قبل لم تكن الفرحة تسعها، لم تكن الأرض تسعها شعرت بأنها تطير وضعت يدها على بطنها بشكل لا إرادي وهمست
_حامل! أنا حامل؟!

هدأت زينة من حماسها قليلاً لتشرح لها الوضع
_بصي يا نغم الحمل لسه في أوله خالص عشان كده ظاهر في تحليل الدم بس، لسه مش ظاهر في السونار أنا عايزة منك راحة تامة الفترة دي وهتيجيلي كمان أسبوعين يكون الحمل كبر ووضح أكتر في الأشعة ونشوف النبض سوا.

أومأت نغم برأسها وهي لا تزال في حالة من الصدمة السعيدة ودموع الفرح تنهمر على خديها بلا توقف أخيراً حلمها الأكبر على وشك أن يتحقق

ـــــــ

توقفت سيارة زينة أمام بيت الجبل، ولم تكد السيارة تتوقف تماماً حتى فتحت نغم الباب وهي لا تزال تبتسم 
ابتسامة عريضة تضيء وجهها بالكامل كانت في قمة سعادتها، تشعر وكأنها تمتلك العالم بين يديها.

نزلت زينة من السيارة معها وأمسكت بذراعها بحنان وهي توصلها إلى الباب

_نغم اسمعيني كويس الفترة الأولى دي أهم فترة مفيش مجهود، مفيش حركة زيادة، والأهم... مفيش أي توتر أو زعل اتفقنا؟

أومأت نغم برأسها بحماس وعيناها تلمعان ببريق الأمومة المنتظرة
_اتفقنا يا أحلى دكتورة في الدنيا.

احتضنتها نغم بقوة مرة أخرى
_شكراً يا زينة شكراً على كل حاجة، مش عارفة أقولك إيه.
ثم تراجعت خطوة وقالت برجاء _طب اتغدي معانا، أرجوكي لازم تحتفلي معايا.

ابتسمت زينة واعتذرت بلطف
_يا حبيبتي ألف هنا على قلبكم بس والله عندي عيادة بعد ساعة ولازم ألحق أرجع المرة الجاية أوعدك.
غمزت لها وأضافت
_المرة الجاية في احتفال أكبر.

ودعتها نغم وهي تلوح لها حتى اختفت سيارتها عند المنعطف
أخذت نفساً عميقاً ووضعت يدها على بطنها بحب، ثم فتحت باب البيت ودخلت وهي تكاد تجري من فرط حماسها.

وجدت ونس تجلس في غرفة المعيشة تقرأ القرآن ما إن رأتها، حتى تركت نغم كل شيء وركضت نحوها وارتمت في حضنها بقوة وعيناها مغمورتان بدموع الفرح.
تفاجأت ونس من هذا الاندفاع، لكنها احتضنتها بقلق وحب
_بسم الله الرحمن الرحيم! مالك يا بنتي؟ فيه إيه؟ خوفتيني.

ابتعدت نغم قليلاً ومسحت دموعها السعيدة بكفها، ونظرت في عيني حماتها وقالت بصوتٍ يرتجف من الفرح
_هتبجي جدة يما... أنا حامل!

اتسعت عينا ونس بصدمة سعيدة للحظة لم تنطق ثم تهلل وجهها بفرحة صادقة ونقية نهضت وشدّت نغم إلى حضنها مرة أخرى، لكن هذه المرة بحرص أكبر.
_يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك! اللهم لك الحمد، والشكر يا حبيبتي يا بنتي، ألف مبروك.

ظلت تربت على ظهرها بحنان ثم ابتعدت لترى وجهها المشرق
_الحمد لله ربنا جبر بخاطركم أومال فين جاسر؟ لازم أبارك له بنفسي زمانه طاير من الفرحة.

هزت نغم رأسها وهي تضحك
_هو لسه ميعرفش جاله تليفون مهم في العيادة واضطر يمشي جبل ما النتيچة تطلع.

رفعت نغم حقيبة يدها الصغيرة التي كانت تحملها، وفتحتها بحماس
_بس أنا هعرفه بطريجتي الخاصة.

نظرت ونس إليها بفضول
_إيه اللي معاكي ده؟

أخرجت نغم من الحقيبة علبة صغيرة وفتحتها لتكشف عما بداخلها. 
كان زوجاً من الأحذية الصغيرة جداً من الصوف الأبيض الناعم بحجم يناسب طفلاً حديث الولادة.
_عديت أنا وزينة على محل أطفال واشتريته. 
قالتها بفخر وسعادة
أمسكت ونس بالحذاء الصغير بين يديها وابتسامة حنونة وواسعة ارتسمت على وجهها، كانت تنظر إليه وكأنها ترى حفيدها المستقبلي ماثلاً أمامها.
_يا حبيبي... يا جلبي... الله يتمم لك على خير يا بنتي.

رفعت رأسها ونظرت إلى نغم بعينين تلمعان بالفرح
_فكره حلوة جوي اعمليله مفاچأة ميحلمش بيها يستاهل يفرح، ربنا يعوض صبره خير.

أومأت نغم بحماس وعقلها بدأ بالفعل يرسم سيناريو اللحظة التي ستقدم فيها هذه الهدية الصغيرة لجاسر، الهدية التي تحمل بداخلها أكبر خبر في حياتهما.

عاد جاسر إلى البيت في وقت متأخر من الليل. 
كان يشعر بالإرهاق، ليس فقط من عناء العمل ومتابعة القضية المعقدة بل من ثقل القرارات التي اتخذها والتي ستغير حياة عائلته إلى الأبد كل ما كان يتمناه هو أن يجد السكينة في حضن نغم.

صعد درجات السلم بهدوء وفتح باب غرفة نومهما
تفاجئ حين وجد الغرفة غارقة في الظلام، على غير عادتها
عادة ما تتركه نغم مضاءً بضوء خافت حتى يعود، تسلل القلق إلى قلبه للحظة فنادى بصوتٍ خفيض
_نغم؟

لم يأتِ رد تحرك بخطوات حذرة نحو مفتاح النور بجانب الباب، وضغط عليه.

أضاءت الغرفة وفي اللحظة التي غمرها النور تجمد جاسر في مكانه عيناه تسمرتا على السرير في منتصف الوسادة الخاصة به، كانت تستقر علبة مخملية صغيرة زرقاء، مفتوحة بعناية.

عقد حاجبيه في حيرة وتقدم ببطء نحو السرير وكأنه يخشى أن يكون ما يراه مجرد سراب. 
انحنى فوق العلبة ليرى ما بداخلها بوضوح كان زوجاً من الأحذية الصوفية البيضاء الصغيرة... لطفل حديث الولادة.

ظل يحدق به لثواني طويلة وعقله يحاول أن يجمع قطع اللغز
لم يفهم هل هي هدية رمزية؟ أمنية للمستقبل؟ 
كان قلبه يخفق بشدة لكنه لم يجرؤ على القفز إلى الاستنتاج الذي بدأ يتشكل في أعمق ركن من روحه.

وفجأة شعر بأنفاس دافئة بالقرب من عنقه، وصوت همس ناعم كالحرير داعب أذنه حاملاً معه كلمتين هزتا كيانه:
_مبروك... يا بابا.

استدار جاسر بسرعة البرق كانت نغم تقف خلفه مباشرة ترتدي ثوباً أبيض بسيطاً وعلى وجهها ابتسامة هي الأجمل على الإطلاق، وعيناها تلمعان بدموع الفرح المكتومة.

نظر إليها وهو لا يصدق كان الخوف من أن يكون هذا حلماً أو وهماً يصارع الأمل الجارف الذي انفجر في صدره. 

أمسك بذراعيها، وعيناه تبحثان في عينيها عن الحقيقة عن تأكيد يريح قلبه المعلق.
_نغم...
قال بصوتٍ متحشرج
_أرجوكي... متلعبيش بيا ده... ده بجد؟

أومأت برأسها ببطء والدموع تنساب الآن على خديها وهي تبتسم.
_حجيجي يا جاسر... حجيجي أكتر من أي حاچة في الدنيا أنا حامل.

في تلك اللحظة تحرر كل التعب والإرهاق من جسد جاسر وحل محلهما شعور عارم بالفرح الخالص، فرح نقي وقوي كاد أن يطرحه أرضاً لم ينطق بكلمة، بل أطلق ضحكة عالية ومدهوشة ثم انحنى بسرعة وحملها بين ذراعيه ودار بها في منتصف الغرفة.

كانت ضحكاتهما تمتزج معاً ضحكات صافية وسعيدة تردد صداها في أرجاء البيت الهادئ. 
كانت نغم تتشبث به وتضحك من قلبها وتشعر بأنها أسعد امرأة في الكون.

بعد أن دار بها عدة مرات أنزلها برفق على الأرض لكنه لم يبتعد ظل يحيطها بذراعيه، ووضع جبهته على جبهتها وأغمض عينيه وهو يحاول استيعاب حجم سعادته.
سألها بعتاب محبب
_ليه؟... ليه متصلتيش بيا أول ما عرفتي؟ كنت محتاچ أسمع الخبر ده أكتر من أي حاچة في الدنيا.

مررت يدها على شعره بحنان
_كنت عايزة أشوف الفرحة دي في عينيك بنفسي حبيت أعملهالك مفاجأة... عشان تكون لحظة بتاعتنا إحنا وبس.

نظر في عينيها المليئتين بالحب ثم انحنى وقبّلها قبلة طويلة وعميقة قبلة لم تكن كأي قبلة من قبل. 
كانت تحمل شكراً وامتناناً ووعداً وفرحة لا يمكن للكلمات أن تصفها.

وضع يده برفق شديد على بطنها ونظر إليها بعينين مشبعة بالعشق
وهمس بصوتٍ يملؤه الرهبة والدهشة، 
_اهنه....حتة مني ومنك بتكبر اهنه.

رفعت نغم وجهها إليه وقالت بحب _ابننا يا جاسر... أو بنتنا.

حملها بين ذراعيه لكن هذه المرة بهدوء وحرص شديدين ووضعها على السرير كأنها أثمن جوهرة في العالم استلقى بجانبها وضمها إلى صدره ودفن وجهه في عنقها وهو يهمس بكلمة واحدة تُلخص كل شيء
"بحبك."

❈-❈-❈

لم تعد الصباحات في بيت الجبل تبدأ بشروق الشمس أو صوت العصافير، بل كانت تبدأ بحركة نغم المفاجئة وهي تنهض من السرير وتضع يدها على فمها راكضة نحو الحمام.

في أحد هذه الصباحات استيقظ جاسر على الفور كعادته منذ بدأت أعراض الحمل تظهر عليها، قفز من السرير ليتبعها لكنها استوقفته بيدها عند باب الحمام.
_لأ يا جاسر... خليك، أنا كويسة.
 قالتها بصوتٍ مكتوم ووجهها شاحب

كانت تكره أن يراها في هذه الحالة الضعيفة لكن جاسر لم يكن ليقبل هذا الرفض أبداً 
دفع الباب برفق ودخل وراءها متجاهلاً احتجاجها الخافت.
قال بنبرة حازمة لا تقبل النقاش، لكنها مليئة بالحنان
_مفيش حاجة اسمها خليك. 

انحنت نغم فوق حوض الحمام وبدأ الغثيان الصباحي المؤلم وعلى الفور، كان جاسر بجانبها لم يتردد لحظة بيدٍ جمع شعرها الطويل وأمسكه بعيداً عن وجهها وباليد الأخرى كان يسند جبهتها برفق ويفرك ظهرها بحركة دائرية هادئة.

همس بجانب أذنها
_طلّعي كل اللي تاعبك يا حبيبتي... أنا معاكي.

كان وجوده بحد ذاته مهدئاً صوته لمسته ودعمه الصامت جعلوا هذه اللحظات الصعبة أقل قسوة. 
بعد أن انتهت وهدأت قليلاً كانت تشعر بالإنهاك
لم تكن لديها القوة حتى لرفع رأسها.

بكل هدوء فتح جاسر صنبور المياه وبلل منشفة صغيرة ومسح وجهها وشفتيها برفق شديد مزيلاً أي أثر للتعب ثم دون أن ينطق بكلمة، انحنى وحملها بين ذراعيه كأنها ريشة خفيفة.

همست بتعب
_جاسر... أقدر أمشي.
أسكتها وهو يسير بها نحو السرير. 
_هششش مهمتك دلوقتي إنك ترتاحي وبس.

وضعها على السرير برفق وغطاها جيداً ثم جلس بجانبها يمرر يده على شعرها حتى غفت مرة أخرى وهي تشعر بأمان لا مثيل له.

مرت الشهور وبدأت بطن نغم تكبر وتستدير بشكل واضح خاصة بعد أن فاجأتهم الدكتورة زينة بخبر آخر:
 لم يكن هناك طفل واحد، بل اثنان كانت نغم حاملاً في توأم.

الفرحة كانت لا توصف لكن معها زاد الثقل وزادت المتاعب أصبحت حركتها أبطأ وأكثر حذراً أبسط المهام كالانحناء لالتقاط شيء من الأرض أو حتى ارتداء حذائها أصبحت تحدياً كبيراً.

وهنا كان جاسر هو ظلها الذي لا يفارقها.

في إحدى الأمسيات كانت نغم تحاول ارتداء حذائها المنزلي للذهاب إلى الشرفة انحنت بصعوبة، وتأوهت بألم خفيف وهي تحاول الوصول إلى قدميها.
فجأة شعرت بيدين قويتين تمنعانها من الانحناء. 
كان جاسر قد جلس على ركبتيه أمامها على الأرض
قال بابتسامة دافئة
_سيبي الموضوع ده عليا. 

أمسك بقدمها برقة وألبسها الحذاء ثم فعل الشيء نفسه مع القدم الأخرى
 رفعت نغم حاجبها بدهشة مصطنعة

_جاسر بيه بنفسه بيلبسني.

نظر إليها من مكانه وهو لا يزال جاثياً على ركبتيه، وابتسم
_جاسر بيه وكل ما يملك تحت أمرك إنتي واللي في بطنك.

لم يكن هذا الموقف الوحيد كان يصر على مساعدتها في النهوض من الأريكة واضعاً وسادة خلف ظهرها دائماً. 
كان يستيقظ في منتصف الليل ليحضر لها كوب الماء الذي تطلبه أو قطعة الفاكهة التي تشتهيها فجأة

كان اهتمامه يتجلى في كل تفصيلة صغيرة، في نظرات الحب والقلق في عينيه كلما رآها تتألم، في لمساته الحنونة على بطنها، وفي كلماته التي كانت دائماً ما تجعلها تشعر بأنها ملكة متوجة على عرش قلبه. لقد حوّل فترة الحمل المليئة بالتعب إلى أجمل رحلة، رحلة يخوضانها معاً، يداً بيد، وقلباً بقلب.

❈-❈-❈

بعد مرور ثلاثة أشهر كانت حديقة قصر عائلة الرفاعي تعج بالحياة والألوان. 
الشمس كانت دافئة وحنونة والضحكات كانت تتناثر في الهواء كأنها جزء من عبير الزهور. 
كان الحاج وهدان يجلس في صدر المجلس الخارجي يراقب أحفاده وأبناءهم بعينين تلمعان بالرضا والسعادة. 
بجانبه كان يجلس سالم ومالك بينما كانت روح ووعد ونغم يجلسن على مقربة يتبادلن أطراف الحديث وهن يراقبن أطفالهن.

كانت الأجواء مثالاً للسكينة الأسرية مالك كان يروي موقفاً طريفاً حدث معه في العمل، والجميع يضحكون من قلوبهم. 
كانت روح تنظر إليه بحب عميق، ذلك الحب الذي نضج وتجذر، كانت طفلتهما تحبو بخطوات مترنحة على العشب الأخضر، تكتشف العالم بعينيها الواسعتين.

على بعد أمتار قليلة كان عدي الصغير ابن سند ووعد، طفل في مثل عمرها تقريباً فقط يكبرها بأربع شهور يراقبها بتركيز شديد، كأنه حارسها الشخصي الذي لا يغفل عنها لحظة.

فجأة، قطع هذا الهدوء صوت صراخ وبكاء حاد. 
صرخة طفل صغير لكنها مليئة بالهلع.
انتفض الجميع واقفين وتوجهت أنظارهم فوراً نحو مصدر الصوت. 
كان عدي الصغير، ابن سند، هو الذي يصرخ ويبكي بحرقة.
جرى سند ومالك والجميع خلفهما بقلق، ليجدوا مشهداً غريباً ومؤثراً. 
كانت نور الصغيرة قد ابتعدت عنهم وهي تحبو بحماس نحو بركة مياه صغيرة في نهاية الحديقة، لم تكن تدرك الخطر بل كانت منجذبة للون الماء وحركة الطيور التي تنزل من السماء لترتوي منها، وخلفها مباشرة كان عدي الصغير ممسكاً بطرف فستانها بكل ما أوتي من قوة، يشدها بعيداً عن الماء وهو يصرخ ويبكي

لم يكن بكاء غيرة أو غضب، بل كان بكاء خوف حقيقي، خوف طفل صغير يحاول حماية أغلى ما لديه من خطر لا يفهمه تماماً لكنه يشعر به.

عندما رأى الجميع هذا المشهد، تبدد القلق وحل محله مزيج من الدهشة والحنان. 
انفجروا جميعاً في ضحكات دافئة وصادقة.

تقدم مالك وحمل ابنته نور بين ذراعيه، وقبلها وهو يهدئها. 
وفي نفس اللحظة حمل سند ابنه عدي الذي تشبث به وما زالت شهقات البكاء تهز جسده الصغير.

نظر مالك إلى سند بابتسامة واسعة وعينين تملؤهما المودة، وقال بصوتٍ عالي ليسمعه الجميع
_ خلاص يا چماعة أنا كدة اطمنت على بتي ليها ضهر وسند من دلوجت

ضحك سند وهو يمسح دموع ابنه ويربت على ظهره.
_ ضهر إيه بس؟ ده من أولها وبنتك مجنناه ومطلعة عينه أومال لما تكبر شوية هتعمل في الواد إيه؟

علت ضحكات العائلة مرة أخرى، وهي ترى بداية قصة حب بريئة تتشكل أمام أعينهم.
كان مشهداً أسرياً جميلاً لوحة دافئة تملؤها السعادة وتؤكد أن جذور الحب في هذه العائلة قوية، تمتد لتورثها الأجيال الجديدة، وتزهر في قلوب الصغار قبل الكبار.
بينما كانت الضحكات تملأ المكان اقتربت وعد من سند وأخذت منه عدي الصغير الذي كان لا يزال يشهق شهقات متقطعة. 
ضمته إلى صدرها وقبلت رأسه الصغير.
_ خلاص يا جلبي خلاص يا بطل أنت أنقذت نور.
نظر الطفل إلى أمه بعينين دامعتين ثم نظر مرة أخرى نحو نور التي كانت بين ذراعي أبيها تنظر إليه بفضول ودهشة كأنها لا تفهم سبب كل هذه الجلبة.

اقتربت روح من مالك وهي تضحك بخفة ومررت يدها على شعر ابنتها.
_ شكلها هتتعبنا البنت دي من دلوجت.

أجابها مالك وهو يضمها إليه بذراع واحدة ويقبل رأس ابنته مرة أخرى
_ تتعبنا براحتها المهم إن ليها اللي يخاف عليها.

في تلك اللحظة تحدث الحاج وهدان بصوته العميق الذي يحمل حكمة السنين، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة صافية.
_ الحب يا ولادي رزج وزي ما الأرض بتطرح زرع، الجلوب بتطرح حب والعيال دي طرح جلوبكم
شايفين الحب اللي بينكم بيطلع فيهم إزاي من جبل حتى ما يعرفوا يتكلموا.

عم الصمت للحظات والجميع يتأملون كلمات الجد العميقة. 
كانت حقيقة واضحة كالشمس فالحب الذي جمع مالك وروح بعد كل الصعاب، والحب الذي انتصر لسند ووعد، والحب الذي شق طريقه بقوة بين جاسر ونغم، كل هذا الحب كان ينسج خيوطه الآن حول الجيل الجديد.

قالت وعد وهي تبتسم وتضع يدها على بطنها التي بدأت تظهر عليها علامات الحمل بوضوح
_ ربنا يخليهم لبعض ويحميهم شكل عدي هيتعب أوي مع بنات العيلة دي.

ضحك سند الذي كان يقف بجانبها ووضع يده فوق يدها.
_ خليه يتعب، الرجالة مبتتعلمش غير لما بتتعب.

عادت العائلة لتجلس مرة أخرى، لكن الأجواء كانت أكثر دفئاً وحباً. 
وضع مالك ابنته نور على العشب مرة أخرى، فما كان من عدي الصغير إلا أن نزل من حضن أمه فوراً وجلس بجانبها يراقبها عن كثب كأنه أخذ على عاتقه مهمة حمايتها بشكل رسمي.

نظر الحاج وهدان إلى هذا المشهد، إلى أحفاده وأزواجهم وأبنائهم وشعر بسلام عميق يغمر روحه. 
لقد كانت هذه هي الثروة الحقيقية وهذا هو الإرث الذي سيبقى. 
عائلة متماسكة يجمعها الحب، وتتوارثه الأجيال.

❈-❈-❈

كانت شمس العصر الذهبية ترسم ظلالا طويلة على أرض الإسطبل الواسعة ووقفت نغم عند السياج الخشبي تضع يديها برفق على بطنها التي استدارت وكبرت في شهرها الأخير تحمل بثقل لذيذ وعدًا بحياة جديدة.
كانت عيناها معلقتين بالرجل الذي امتلك قلبها جاسر وهو يمتطي صهوة بركان.

كان الحصان الأسود كتلة من العضلات القوية اللامعة جوهرة سوداء تتحرك بقوة ورشاقة، وعلى جسده كانت الندوب القديمة لا تزال واضحة.
خطوط فضية تحكي قصة نجاة وألم تماما مثل راكبه، كان جاسر واحدًا مع حصانه، جسده يتحرك بتناغم تام مع كل حركة لبركان كأنهما مخلوق واحد بقلبين، كان يسيطر عليه ليس باللجام والقوة بل بلغة صامتة من الثقة والاحترام المتبادل.

بإشارة خفيفة من جاسر انطلق بركان في عدو سريع 
ولفت الريح شعر جاسر الأسود، وكانت الشمس تبرز قوة ملامحه الرجولية الحادة.
كانت نغم تراقبه بحب يملأ قلبها ويفيض من عينيها لم تعد ترى فيه الرجل القاسي الذي اختطفها، بل رأت الرجل الذي حارب العالم من أجلها
الرجل الذي يحمل ندوبه بفخر والذي أصبح أمانها وملاذها.

وفجأة بإشارة أخرى من جاسر توقف بركان بشكل مفاجئ، ثم انتصب على قائمتيه الخلفيتين في استعراض مهيب للقوة والسيطرة، ارتفع جسد الحصان الضخم في الهواء وجاسر عليه ثابت كجبل يمسك باللجام بيد واحدة ووجهه يحمل تعابير الثقة المطلقة، تجمدت أنفاس نغم للحظة وهي ترى هذا المشهد الذي يجسد القوة الجامحة والجمال الخطير.

بعدها هبط الحصان بهدوء على الأرض ورتب جاسر على عنقه بفخر.
قفز من على صهوته برشاقة وترك اللجام لأحد الرجال ثم توجه مباشرة نحو نغم بخطوات واثقة وعيناه لم تفارقاها للحظة.

عندما وصل إليها لم يتحدث انحنى وقبلها قبلة رقيقة على خدها ثم انزلقت يده الكبيرة الدافئة لتستقر بحنان على بطنها المنتفخة، وشعر بحركة خفيفة تحت كفه فابتسم.
_ لسه تعبانة
سألها بصوت عميق وحنون صوته الذي أصبح موسيقاها المفضلة.

هزت رأسها وابتسمت له بحب.
_ لأ الوجع بيروح وييجي أنا دلوقتي أحسن بكتير خصوصا لما بشوفك إنت وبركان.

نظر في عينيها مباشرة نظرة اخترقت روحها.
_ خايفة؟
سألها وهو يعرف الإجابة.

تنهدت بخفة.
_ شوية، فكرة إنهم اتنين وإن الولادة قربت بتخوفني.

ضمها إليه برفق محيطا إياها بذراعيه القويتين جاعلًا إياها تشعر بأنها في أكثر مكان آمن في العالم.
_ طول ما أنا بتنفس مفيش حاجة تخوفك أنا معاكي يا نغم، ومش هسيبك لحظة واحدة هندخل المستشفى مع بعض وهكون جنبك، وأول عين هيشوفوها لما ييجوا الدنيا هتكون عين أبوهم، إنتي شايلة حتتين من قلبي تفتكري ممكن أسيبك.

أغمضت عينيها واستندت برأسها على صدره العريض تستمع لنبضات قلبه القوية والمنتظمة، شعرت بالسلام يغمرها وبكل مخاوفها تتلاشى بين ذراعيه، كانت تعرف أنها ليست فقط زوجته وحبيبته، بل كانت ملكة متوجة على عرش قلبه 
قلب هذا الرجل القوي كان هو وطنها الأبدي.

كان الليل هادئًا وعميقًا وضوء القمر الفضي يتسلل من النافذة ليرسم ظلالا ناعمة داخل الغرفة.
كانت نغم نائمة في حضن جاسر رأسها على صدره ويده الكبيرة تحيط بها وببطنها بحماية تامة.
فجأة وبدون سابق إنذار انتفض جسدها كمن لدغته أفعى 
فتحت عينيها على ألم حاد ومفترس ألم لم تشعر بمثله من قبل، كان موجة عاتية من الوجع تجتاح جسدها وتسرق أنفاسها.

أطلقت صرخة مكتومة وحاولت أن تتحرك لكن الألم شل حركتها، أمسكت بيد جاسر التي على بطنها وضغطت عليها بكل قوتها.
_ جاسر.... جاسر.... اصحى.

قام جاسر من نومه على الفور كجندي في معركة، قفز من السرير مخضوضا ورأى وجه نغم يتلوى من الألم وعيناها مغرورقتان بالدموع.
_ نغم مالك في إيه حبيبتي؟
قالت بصوت متقطع يخنقه الوجع
_نادي على أمي بسرعة، بسرعة يا جاسر.
لم يسأل لم يجادل ركض خارج الغرفة كالإعصار وهو يصرخ باسم أمه.
عاد في ثواني ومعه ونس التي دخلت الغرفة وهي تفتح عينيها بصعوبة ووجهها يملؤه القلق.
_ خير يا بنتي مالك؟
نظرت إليها نغم بعينين متوسلتين.
_مش قادرة المرة دي صعب أوي... صعب أوي

وضعت ونس يدها الخبيرة على بطن نغم ثم نظرت إلى ابنها بحسم.
_ دي ولادة يا جاسر لازم نوديها المستشفى حالا.
قال جاسر بقلق وهو يحاول تهدئة نفسه
_ يمكن زي كل مرة ألم عادي ويروح.

صرخت فيه نغم بكل ما تبقى لها من قوة صرخة مزجت الألم بالغضب.
_ لأ مش زي كل مرة المرة دي حقيقي حقيقي يا جاسر.
كانت صرختها كافية لتخرس كل شكوكه
نظر إلى والدته بقلق وقال 
_أمي لبسيها لحد ما اجهز العربية وآجي أخدها
نظرت إليه وهو يرتدي بيچامة قطنية
_هتروح المستشفى كدة.
انتبه لملابسه
ثم اسرع إلى الخزانة ليخرج ملابس له ودلف بها المرحاض.

بعد دقيقة واحدة صعد جاسر مسرعاً وفي لحظة حملها بين ذراعيه بقوة وحنان ونزل بها الدرج كالمجنون، بينما كانت ونس تجمع بعض الأغراض وتلحق بهما.

في المستشفى كانت كل لحظة تمر كأنها دهر، كانت آلام نغم تتصاعد وتيرتها وقوتها، وجاسر بجانبها لم يترك يدها لحظة واحدة.
كان وجهه شاحبا وقلبه يعتصر مع كل صرخة تطلقها، لكنه ظل صامدا وقويا من أجلها.

كانت تتألم لألمها روحه كانت تتألم معها لكنه كان داعمها الأول.
كان صخرتها التي تستند إليها في هذه العاصفة الهوجاء.
_ مش جادرة يا جاسر هموت مش هجدر أكمل.
قالتها بيأس وهي تتصبب عرقا.
أمسك وجهها بين يديه وجعلها تنظر إليه مباشرة.
_ بصيلي يا نغم بصي في عيني إنتي أجوى من كده بكتير ، إنتي مراتي وأم ولادي إنتي اللي شايلة حتتين من روحي جواكي، حياة ولادنا دلوجت بين إيديكي إنتي، إنتي اللي هتجيبيهم للدنيا دي أنا جنبك أهو مش هسيبك.
كانت كلماته كالمياه الباردة على جمر ملتهب، كانت تمنحها القوة لتستمر. 

كلما شعرت بالاستسلام كان يشد على يدها ويقويها بكلامه.
_ يلا يا حبيبتي عشان خاطرهم، عشان خاطرنا إنتي جدها أنا خابر إنك جدها.

كان صوته قويا وحنونا في آن واحد، صوته الذي كان مرساة نجاتها. 
كان يمسح العرق عن جبينها يهمس في أذنها بكلمات الحب والتشجيع، يتنفس معها حين تطلب منها الممرضة ذلك.
وبعد ساعات طويلة بدت كأنها عمر كامل ومع صرخة أخيرة مدوية خرج أول التوأم إلى الحياة.
صرخة صغيرة لكنها كانت أقوى من كل ضجيج العالم.
رمش جاسر بعينيه وهو يرى ابنه لأول مرة لكنه لم يترك يد نغم.
شعر برهبة لم يشعر بمثلها من قلبه
رهبة اهتز لها قلبه نظر إلى نغم التي مازالت تتألم وقال بحنو
_اتحملي عشان خاطري.
استمدت نغم قوة جديدة من رؤية طفلها، ومن كلمات جاسر، وبعد دقائق قليلة لحق به أخوه معلنا وصوله بصيحة أخرى هزت أركان الغرفة.

انتهى كل شيء انتهى الألم وحل محله شعور عارم بالحب والإرهاق والسلام
نظر جاسر إلى نغم التي كانت بالكاد تفتح عينيها وقبل جبينها المبلل بالعرق قبلة طويلة تحمل كل الامتنان والحب في العالم.
_ بحبك يا نغم بحبك يا أم ولادي.
ابتسمت ابتسامة باهتة لكنها كانت أجمل ابتسامة رآها في حياته ثم أغمضت عينيها وغطت في نوم عميق
بينما هو ظل بجانبها يمسك يدها ويراقب طفليه اللذين غيرا عالمه إلى الأبد.

❈-❈-❈

كان أكمل مستلقياً على السرير يتصفح هاتفه بملل في هدوء الليل العميق
خرجت صبر من الحمام بخطوات بطيئة كأنها تسير على زجاج مهشم
كان الخوف والتردد واضحين في كل حركة من حركاتها وفي نظرات عينيها القلقة.

اقتربت وجلست على حافة السرير بعيداً عنه. 
ترك أكمل الهاتف من يده فوراً وشعر بتوترها. 
ابتسم ابتسامة خفيفة وشاور لها بيده أن تأتي لترتمي في حضنه كعادتها.
_ تعالي.
لكنها لم تتحرك ظلت مكانها وأنزلت رأسها وعيناها مثبتتان على يديها اللتين كانت تخفيهما. 
زاد خوفها بشكل واضح مما أثار استغرابه وقلقه.
_ صبر مالك في إيه؟
لم تجب فقط هزت رأسها بالنفي.
_ طب إيه اللي مخبياه في إيدك ده وريني.
ضغطت صبر على الشيء الذي في يدها أكثر وقالت بصوت مهزوز
_ مفيش حاجة.
لكن إصرارها هذا زاد من شكه اقترب منها ومد يده بهدوء.
_ صبر قولتلك وريني.

بعد لحظة من التردد فتحت يدها المرتعشة ببطء كان هناك جهاز بلاستيكي صغير أبيض وفي نافذته الصغيرة خطان أحمران واضحان.

أخذه أكمل من يدها وقلبه في كفه لم يفهم ما هذا 
نظر إليه ثم نظر إليها.
_ إيه ده؟
ازدردت صبر ريقها بصعوبة وقالت بخوف وتردد
_ ده اختبار.
عقد حاجبيه بعدم فهم.
_ اختبار إيه؟

أخذت نفساً عميقاً كأنها تستعد للقفز من مكان شاهق.
_ اختبار حمل أنا... أنا حامل.

سقطت الكلمة في الغرفة كحجر ثقيل في بئر صامت لم يصدق ما سمعه، اتسعت عيناه وتغيرت ملامحه لكن ليس للفرح بل للقلق والانزعاج.
_ حامل إزاي؟ إنتي مش عاملة حسابك لحاجة زي دي؟

قالت بسرعة وهي تدافع عن نفسها والدموع تتجمع في عينيها
_ معرفش والله معرفش حصل إزاي، أنا منتظمة على البرشام كل يوم ومبفوتش يوم واحد.

رأى أكمل دموعها ورعبها فتغيرت ملامحه. 
في الحقيقة كان فرحاً، فرحاً جداً لكن الخوف كان أكبر. 
الخوف عليها مما حدث لها في الحمل الأول. 
ذكرى مرضها وخطر الموت الذي كانت فيه لا تزال كالجرح المفتوح في ذاكرته.
تنهد بعمق وسحبها برفق إلى حضنه هذه المرة.
_ أنا مش زعلان عشان الحمل، أنا فرحان بس... خايف
خايف عليكي يا صبر.
شعرت بالأمان في حضنه وتشبثت به.
_ المرة دي مختلفة يا أكمل صدقني
أنا هحافظ على نفسي كويس ومش هعمل أي مجهود وإنت هتكون معايا وجنبي صح؟
قال وهو يشدد من احتضانها ويمسح على شعرها
_ طبعاً هكون جنبك بس أنا خايف عليكي.
رفعت رأسها ونظرت في عينيه مباشرة بابتسامة صغيرة متفائلة.
_ خليها على ربنا، وبكرة الصبح نروح للدكتور يطمنا ونمشي على كلامه بالحرف وادينا كلنا بقينا في بيت واحد وقاسم اغلب الوقت مع ماما يعني مفيش حمل عليا.

أومأ برأسه وقبل جبينها قبلة طويلة كان الخوف لا يزال موجوداً لكن الأمل بدأ يتسلل إلى قلبه ببطء.

❈-❈-❈

فتحت نغم عينيها ببطء شديد شعرت بثقل في جفونها وكأنها كانت نائمة لدهر كامل.
كان أول ما استقبلها هو رائحة المستشفى المميزة 
حركت رأسها بصعوبة لتستكشف المكان، فوجدت نفسها في غرفة خاصة هادئة والضوء الخافت يتسلل من بين ستائر النافذة.

نظرت حولها بتعب، فوقع نظرها على الأريكة المجاورة لسريرها. 
كان هناك جاسر نائما بملابسه لم يغيرها. 
كان جسده منحنيا بزاوية غير مريحة على الكنبة الصغيرة، وكان شعره مبعثر في تعبير عن إرهاق عميق. 
كانت يده ممسكة بطرف الغطاء الذي يغطيها كأنه حتى في نومه يرفض أن يتركها.

شعرت بفيض من الحنان يغمر قلبها وهي تراه بهذه الحالة. 
مدت يدها المرتعشة ولمست ذراعه برفق.
_ جاسر

انتفض جسده وفتح عينيه على الفور
للحظة بدا تائها ثم رآها مستيقظة تنظر إليه. 
في تلك الثانية تغيرت ملامحه بالكامل تبدد الإرهاق وحل محله مزيج من الفرحة واللهفة والراحة التي لا توصف.

نهض بسرعة وجلس على حافة السرير بجانبها وأمسك يدها بكلتا يديه يحاول نفض النعاس من عينيه
_ نغم حمدلله على السلامة يا روح قلبي حمدلله على السلامة.

كان صوته متقطعا ومبحوحا من قلة النوم والقلق تنهد بتعب
_ خوفتيني عليكي أوي يا نغم كنت هموت من الخوف.
ابتسمت له ابتسامة باهتة.
_ أنا كويسة الحمد لله، كانت لحظة صعبة بس .
حاولت التحرك لكنها تأوهت بألم
منعها جاسر
_خليكي مرتاحة متتحركيش.
_ الولاد فين؟
_ كويسين وزي الفل حطوهم
في الحضانة تحت الملاحظة بس صحتهم زي الحديد متخافيش.
قالها بسرعة ليطمئنها ثم عاد ليمسك وجهها بين يديه ويتأملها كأنه يراها لأول مرة.
_ المهم إنتي إنتي كويسة حاسة بحاجة وجعاكي أنادي الدكتور

هزت رأسها بالنفي وهمست
_ أنا كويسة طول ما أنت جنبي.
انحنى وقبل جبينها قبلة طويلة وعميقة تحمل كل ما في قلبه من حب وخوف وشكر.
_ أنا جنبك ومش هسيبك أبدا، إنتي أحلى وأغلى هدية ربنا بعتهالي
إنتي وولادنا غيرتوا دنيتي كلها.

ظل بجانبها يهتم بها بأدق التفاصيل
عدل لها الوسادة وغطاها جيداً ثم أحضر لها كوبا من الماء وساعدها على الشرب برفق شديد. 
كان اهتمامه يفوق الوصف كأنه يتعامل مع أثمن جوهرة في الكون.

بعد فترة من الصمت المريح قالت بصوت ضعيف
_ شوفتهم
ابتسم جاسر بحب.
_ شوفتهم ومليت عيني منهم واحد نسخة منك والتاني واخد مني شوية.
_ طب هنسميهم إيه
سألت وهي تنظر إليه بترقب
أمسك يدها مرة أخرى.
_ أنا كنت بفكر في أسماء بس قولت لازم نختارها سوا، دي أول حاجة نعملها.
_ قول اللي في بالك.
_ الولد اللي شبهك كنت عايز أسميه "يامن" اليمن والبركة
و"تميم" كامل الخلق
عشان يبقى حظهم في الدنيا زي اسمهم

لمعت عينا نغم بالدموع وهي تسمع اختياراته المليئة بالحب والوفاء.
_ خلاص نسميهم يامن وتميم
ابتسم جاسر براحة وسعادة.
_ يبقى اتفقنا تميم ويامن التهامي.

ضم يدها إلى صدره وشعر بأن قلبه سيتوقف من فرط السعادة. 
لقد أعطاه الله كل شيء، أعطاه حبيبته التي أصبحت زوجته، وأعطاه طفلين سيحملان اسمه ويملآن حياته. 
نظر إليها مرة أخرى وهي تغمض عينيها بتعب وسلام، وأقسم في قلبه أنه سيفني عمره كله ليحافظ على هذه السعادة وعلى هذه الملكة التي توجت حياته.
تعليقات



<>