رواية سفينة نوح الفصل العشرون 20 والاخير بقلم سلمي خالد إبراهيم
صلوا على الحبيب🤎🌻
خنتي العهد وخنتي قلبي.. لقد حاربت شيطاني و وسواسي لأجلك ولكنك حطمتني أمام نفسي، يا ليتني أعود كما كنت! ولا يعود ما يأتي بعد ليتَ!
وداعًا لكم جميعًا لقد كنت ضيفًا ثقيلًا على البعض ولكن الآن سأغادر بثُقلي هذا لتنعم بحياةٍ أفضل لعل هذه الخيانة تموت معيّ ويصبح العالم أفضل مما عيشت فيه.
.. نوح نصار..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مضت بين الشوارع بعدما تركها تغادر، يخبرها بأنه عندما يريدها سيدعوها إليه وكأنها عاهرة أو فتاة ليل تُطلب! أغمضت عينيها بضعفٍ لا تزال عينيها تقطر بالدموع، لم يجف دمعها بل إزداد حسرة وألم.
حركت قدميها بألمٍ تشعر به، ذلك الوغد لم يتركها بل حطم ما تبقى منها، تمنت لو قالت الحقيقة دون الإعتماد على نفسها ولكن مضى ما حدث.
مسحت دموعها بألمٍ، ثم مدت يدها تشير لإحدى سيارات الأجرة، تركب بها بضعفٍ واضح، ستعود للمنزل لتفكر بما يجب أن تفعله!
ماذا ستفعل مع سعدي الذي بات يغرقها بنظراتٍ شغوفة تقتلها؟
ماذا ستفعل بعد اغتصابها وهل سيحدث نتيجة لذلك الحادث أم لا؟
هل سيتوقف حالها هكذا؟
_ وصلنا يا آنسة!
تحجرت دموعها بقوةٍ وصدمة، آنسة! يالهذه السخرية العظيمة! فلم تتخيل أن تلك الكلمة العادية المتكررة ستصبح أكبر جرحًا لن يدوى.
أخرجت المال له، ثم غادرت السيارة تدلف للمنزل بحالةٍ من الضياع، كيف الحياة للمغتصبة! ماذا تفعل؟ كانت تظن أن فقدان أهلها هو الضياع الحقيقي ولكن الآن أدركت معنى الضياع.
طرقت الباب بضعفٍ تنتظر أن يفتح لها، وما أن فتح الباب حتى وجدت حميدة تشدها سريعًا تضمها لها بقلقٍ قائلة:
_ أنتِ مشيتي ليه؟ بيتي فين ليلة إمبارح؟ ومال وشك متعور كده ليه!
ارتجفت شفتيها بقوةٍ، يزداد شحوب وجهها أكثر لقد أصبحت ضمة حميدة لها شوكة تنغرس بقلبها، كانت تمدح بأخلاقها ولكن الآن ماذا ستقول عندما تعلم أنها..!
أجهشت في بكاءٍ تحاول الابتعاد عن حميدة بينما تعجبت من طريقتها وإزداد قلقها عليها بشدةٍ لتهتف بخوفٍ:
_ مالك يا بنتي؟ حصلك إيه بس!!
_ سبوني في حالي أبعدوا عني مش عايزة حد معايا تاني أبعـــــــدوا!!
صرخت فُلة بكل ما تمتلكه من قوةٍ لعلها تخمد تلك النيران الملتهبة داخلها، انتفضت حميدة تتراجع بصدمةٍ من طريقتها لأول مرة ترى فُلة بتلك الحالة، جسدها ينتفض بقوةٍ، خصلات شعرها التي باتت تظهر بوضوح من أسفل الحجاب، وجهها المليئ بالألم وعينيها الغارقتان بدموع لانهاية لها..!!!
_ في إيه يا حميدة! فُلة مالك يا حبيبتي!
أتت داليدا على ذلك الصوت العالي ولكن داهمها القلق عندما رأت ملامح فُلة وشكلها، عادت تصرخ مرة أخر بقوةٍ حتى كادت أحبالها الصوتية أن تنقطع:
_ قولتلكم أبــــــعدوا عني.. أنا مليش حد ولا عايزة حد يبقى معايا..
هدأ صوتها بعدما شعرت بالألم فيه، تسترسل بكسرةٍ واضحة:
_أنا عايزة بابا وماما.. عايزاهم عشان كسرة نفسي اللي أنا فيها وأنا لوحدي.. هما سبوني ومش عايزني بس مقدرش أسيبهم تاني وهروحلهم.
انحنت في لحظة تمسك قطعة زجاجية حادة، لتصرخ حميدة بفزعٍ تهتف بأعين تدمع بشدة:
_ لا يا بنتي متعمليش كده.. انا قصرت في إيه بس قوليلي وأنا هصلحه عشان خاطري.
حضر الجميع من بالمنزل، نوح.. ذكريات.. سعدي جميعهم حولها، شهقت ذكريات بصدمةٍ تحاول الاندفاع نحوها ولكن هدرت فُلة برجفةٍ رافضة:
_ أبعدي متقربيش.
تجمدت جسدها، تحدقها بصدمةٍ متمتمة برجفة:
_ ليه يا فُلة؟ أنا أختك يا حبيبتي سيبي اللي في إيدك دا عشان خاطري متوجعيش قلبي عليكِ!
نفت برأسها برفضٍ قاطع، تصدر منها شهقة متألمة، تشخص بصرها عليهم لترى سعدي الذي ينظر لها بقلقٍ، دموع عالقة.. نعم إنها تراها بالفعل، لأول مرة تدمع عينيه عليها، أيعقل أحبها! لماذا أحببتني بالوقت الخطأ!، ابتسمت بضعفٍ تغمغم بصوتٍ مضطرب:
_ ليه يا سعدي عايز تتجوزني! ليه دلوقتي بذات عايز تتجوزني!
أجفل من سؤالها يشعر بصدمةٍ ولكن لم يجول بخاطره سوى أنها تظن أنه يتسلى، ليسرع بالتبرير:
_ عشان حبيتك يا فُلة.. أنتِ اللي عايزة أكمل معاها!
_ دا أكبر سبب يخليني عايزة أموت يا سعدي.. إني مش عايزة أكمل معاك.
شعر بتوقف نبضاته عند إجابتها، بينما نظرت حميدة بألمٍ نحو فلذ كبدها ثم عادت تنظر نحو فُلة ولكنها صرخت ببكاءٍ حاد لقد ذبحت معصمها بقوةٍ وكأنها تنتقم من نفسها ومن كل الظروف ضدها، وقعت تلك الزجاجة من كفها، تبتسم بضعفٍ تزداد رجفة جسدها، اندفعت ذكريات نحوها قبل أن يمسكها نوح، تصرخ بقوةٍ، تضمها لها قبل أن تسقط على الأرض ثم أسرعت تهتف برجاءً:
_ لالالا متعمليش كده فيا عشان خاطري، أنا مش هستحمل فراقك.. دا أنتِ اللي مصبراني على فراق أمي وأختي.
غمامة سوداء بدأت تحيطها، تهمهم بهمسٍ متألم:
_سامحيني بس مش هقدر أكمـآآ.
اختفت الكلمات بعدما ثقل لسانها، بينما هدر نوح بصوتٍ عالي أفزعهم:
_ســــعدي فوق دلوقتي.. فُلة لزمًا تروح المستشفى.
كبح صرخة الألم التي أراد دفعها ليركض نحوها لحسن حظه كان يرتدي حذاؤه فلم يصاب بأذى، سحب نوح ذكريات بقوةٍ يهتف بنبرة آمرة قوية:
_ مدام حميدة أمسكيها.
_لالالا أبعد أنا عايزة أبقى معاها أبـــــعد عني!!
حاولت الفرار من يده ولكن فشلت أسفل يد حميدة التي تحيطها لتعيق حركتها، أسرع نوح يمسك بكف بفُلة يمنع تدفق الدماء بتلك الطريقة المخيفة، بينما نظر نوح لسعدي قائلًا:
_ حط إيدك هنا بسرعة على ما أجيب العربية.
أومأ سعدي بقلبٍ مكلوم، بينما نهض نوح يحضر السيارة سريعًا يتمنون اللحاق بها قبل أن تفنى من هذا العالم، هدر نوح بصوتٍ عالي يخبره أن يحملها وبالفعل حملها سعدي يسرع نحو السيارة يجلس بالكنبة الخلفية ضاممًا كفها بقوةٍ، يهمس بصوتٍ مختنق ينخرط به برغبة بالبكاء:
_ لو كنتِ قُلتي لاء مكنتش هضغط عليكِ.. حسستني إني أوحش إنسان في الدنيا.. دا أنا كنت هعمل جهدي كله عشان أبقى كل اللي ليكِ بس..
خانته كلماته وشعر بذلك السائل الساخن الذي تقطر من عينيه، لقد أمطرت ولكن هل ستكون تلك أخر مرة تمطر أم ستفيض بإعصارٍ!
صف نوح السيارة أمام المشفى يشير للممرضين بأن يحضروا تروالي، بينما حملها سعدي سريعًا يضعها على الفراش المتحرك ثم تحركوا بها نحو الداخل، وكذلك أختفى نوح ليكمل باقي الإجراءات وبقى وحيدًا يلقى ذليل خيبته، لماذا كل هذا الألم أما كانت تلك التي ظن أنها تسلية؟ لِمَ كل هذا الألم الآن!
رفع رأسه قليلًا ينظر ليد نوح التي تربت عليه، يستمع لكلماته الهادئة:
_ أهدى يا سعدي ومتخدش على كلامها هي كانت منفعلة.
ألتمع الألم بعينيه يهمس بصوتٍ محشرج:
_ دي خسرت حياتها كلها عشان قُلت حبيتها!
_ وأنت محبتهاش؟؟
نظر لسؤال بغصةٍ، يجيبه بنبرة حزينة:
_ وهو لو محبتهاش هبقى بطلبها للجواز؟
ربت نوح على كتفه، يردد بنبرة ودودة:
_ صدقني اللي عملته دا لسبب كبير.. بس عكس إنها محبتكش لإن عينيها بتقول الوجع اللي فيه من حب.
عاد بصيص الأمل يتجدد داخله، ليهتف بأملٍ:
_ بجد يا نوح!
أومأ له بإيجاب ثم سحبه لداخل المشفى، كان يحدثه ليشغل عقله قليلًا، بينما عاد سعدي يشعر بالراحة قليلًا ولكن ينتظر خروج الطبيبة ليطمئن على حالتها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
أغلق الحاسوب ببسمة تعلو ثغره، يجلس واضعًا ساق فوق الأخرى، يتأمل الحائط الموجودة أمانه بشرودٍ، لقد انتصر أخيرًا ولن يحصل دانيال على المعلومات الخاصة بمنظمة الحوت العظمى، أغمض عينيه بتلذذ منتصر ثم فتحهما ليرى دانيال أمامه يطالعه بغموض، نهض فريد يقف أمامه يرفع رأسه دون إنحناء ناطقًا بنبرة خبيثة:
_ لتعلم أن المصري لا ينحني أبدًا.. إذا رأيته صامتًا فيجب أن تخاف لما يضمره.
ضيق دانيال عينيه بشكٍ منه، نظرات القوة تلتمع بحدقتيه، ماذا فعل ذلك الماكر المصري، غمغم يسأله قاطعًا حالة الفوضى الداخلية التي أحدثها فريد:
_ ماذا فعلت؟
ابتسم له بانتصارٍ، يمسك الحاسوب الخاص به يعطيه إيه قائلًا بنبرة باردة:
_ لقد ضاع كل المحتوى يا دانيال.. فشلت في تولي منصب رئيس منظمة الحوت.
جحظت عيني دانيال بشدة، ينظر نحو الحاسوب المفتوح أمامه ليرى فراغه من كل شيء، أين الملفات؟ أين المعلومات التي حارب لأجلها!!
ضم قبضته ثم رفعها فجأة يلكم فريد بشدةٍ، تتوحش عينيه بنظراتٍ مخيفة قاتلة، يرفعه من لايقة قميصه ثم يعاود يلكمه بقوةٍ أكبر جعلته يبصق الدماء،
يصرخ به بعصبية:
_ أين أخفيتها! تحدث أين أخفيتها.. أعلم أنك لم تمسحها!!
علا ضحكت فريدة بسخرية يستمر بالحديث مستفز:
_أنت أخر شخص سأخبره بمكانها دانيال.
حدقه بنظرة نافرة مشتعلة من شدة الغيظ، ليهمهم فريد بتهكم:
_ ماذا! هل شعرت بالفشل! أيها الحقير أخبرتك أنني لن أدنث يدي بأفعالك الحقيرة.
صرخ دانيال به بشدةٍ، يلقي بكلماتٍ قاسية حادة:
_ كيف تتحدث أيها الـ****.. أنت خائن لوطنك مثل شقيقك المجنون..
رأى دانيال الألم في عيني فريد، ليسترسل بهمسٍ مخيف:
_ ألم يحضرك نادر شقيقك لهنا كي تساعدني في الكشف عن العمليات منظمة الحوت أم نسيت؟ أنت وشقيقك خائنين لوطنكم يا عزيزي ولكن أعدك سيعود كل شيء كما كان يا ابن الشرنوبي.
حاول فريد التماسك بعدما تذكر ما فعله شقيقه به، وكيف سلمه بتلك السهولة مع طفلته، رفع بصره لهذا الداخلين اللذان أمسكا بذراعه ليجره، يبدو أنه سيبدأ مرة التعذيب، نظر لدانيال الذي لا يزال يبتسم بشرٍ ليشعر بأن هناك سر خلفه، اقترب منه دانيال يهمس جوار أذنه:
_ ستموت بعد رحلة عذاب طويلة سيد شرنوبي.. ولكن لا تظن أنك هزمتني أنت لا تعلم من هو دانيال.. ألم تسمع عني؟
عاد للخلف قليلًا ثم لكمه بشراسةٍ منتقمة، ليتأوه فريد بشدةٍ، يخفض رأسه قليلًا بألمٍ، ثم عاد يرفعها نحو دانيال ثم قال بسخرية:
_ وكيف لا أعلم.. كنت شخص تافه خائن لا اسم له، يشغل منصب السكرتير في مكتب وليم رئيس منظمة الحوت السابق.. أتتذكره!!
اشتعلت عيني دانيال بغضبٍ جامح، يعود يلكم فريد مجددًا ويركله في بطنه وساقه بعنفٍ لاهثًا، يفرغ به طاقة الغضب الجهنمية التي اشتعلت داخله، يصرخ به بكراهية شديدة:
_ لم ولن أكون مساعد.. منصب وليم كنت أنا الأحق به والدليل الآن وقع ضحية لخيانتي وأصبحت أنا رئيس منظمة الحوت.
نظر لهذان الرجلان الممسكان به ثم قال بشراسة:
_ خذوه لغرفتي ولا تدع أحد يقترب منه ضعوه على سرير مكبل اليدين.
أومأ الرجلان بموافقة ثم تحركا من الغرفة يجران فريد الذي فرغت طاقته بعد ما تعرض من ضرب، مسح دانيال على وجهه بحدةٍ، ينظر لذلك الحاسوب ثم قال ببسمة خبيثة:
_ حسنًا يا فريد.. سأجعلك تخبرني أين تلك المعلومات.. لأنني أعلم أنك لن تفرط بها بسهولة وسوفه تسعى لتسليمها للمخابرات المصرية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
_ طمنّا يا دكتور المريضة اللي جوا كويسة؟
لهفة لامعة في ثنايا كلماته، ينظر نحو الطبيب بعدما نزع قناعه الطبي، نظر نحوه ببسمة مطمئنة يردف بطمأنينة:
_ متقلقوش هي بخير يمكن خسرت دم كتير بس حالتها أحسن دلوقتي وهتتنقل لأوضة عادية كمان شوية قدامها تقريبًا من ساعتين لتلت ساعات وتفوق بس..
صمت قليلًا يريد التحدث عن أمر المحضر بالانتحار ليقطع نوح حديثه مغمغمًا:
_ تعالي يا دكتور محتاجك في كلمة.. معاك المقدم نوح نصار.
اومأ الطبيب يتحرك مع نوح، بينما بقى سعدي ينتظر ليرى فُلة وبالفعل غادرت غرفة العمليات على فراشها المتحرك يتأمل وجهها المتعب وعيينيها المنتفختان، شحوب وجهها كانت تصارع الموت وعادت.
تحرك معاهم لم تفارق عينيه الفراش، حتى وصولوا للغرفة التي ستبقى بها، وضعوها على الفراش الأخر ثم قامت إحدى الممرضات بتأكد من المحلول وغادرت ليبقى سعدي أمامها يتأمل فقط ملامحها بقلبٍ مكلوم، يهمس بضعفٍ:
_ فوقي يا فُلة وكل اللي هتطلبيه هيكون تحت أمرك بس متعمليش كده.. مش بعد ما بقيت بحبك بجد تمشي!!
ظل حاله يهزي بكلماتٍ تارة ويصمت تارة، حتى مر ساعتين، ليجد نوح يشير له بأن يأتي لخارج الغرفة، نظر له على مضض ثم نهض يلقي نظرة سريعة على فُلة وغادر للخارج ينظر لنوح باستفهام ليعلق عليه يمد كفه ببعض الملابس:
_ ألبس دول بدل هدومك اللي كلها دم دي.. أنا كلمت الدكتور ميعملش محضر وهروح أجيب ذكريات عشان هتتجنن على فُلة وكمان أمك وأمي.
أومأ سعدي ينظر لنوح بامتنان، ليبتسم نوح بحبورٍ يغمغم بنبرة ودودة:
_ أنت غالي يا سعدي.. يارتني قابلتك في ظروف أحسن من كده... يلا عشان متأخرش سلام.
ابتسم سعدي بإرهاقٍ ثم غادر نحو الحمام ليبدل ملابسه ويغسل ذراعيه ووجهه ليفيق جيدًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
كشف عن أنيابه ينظر نحوها بشراسة، ينتظر اللحظة المناسبة ليهاجمها، ارتجف جسدها بخوفٍ، تتراجع بخطواتٍ بطيئة لتبتعد عن ذلك الذئب ثم بلحظة هجم عليها..!
انتفضت من الفراش بفزعٍ، تطلق شهقة مختنقة مريبة، تلهث بخوفٍ واضح تتأكد من المكان حولها ليس هناك ذئب أو أي شخص، سالت دموعها دون شعور منها تنظر ليدها الملفوف لتبدأ تشعر بالألم بها، حركت رأسها برفضٍ لن تبقى مجددًا لا تريد أن ترى بعينيه نظرة خذلان والرفض، لن يساعدها فيما وقعت به.
نزعت الكانولا من يدها بعنفٍ تنهض من الفراش بضعفٍ يداهمها دوار حاد ولكن تمالكت بشدة حتى تستطيع المغادرة، فإن عاد أحدهم لن تأتيها الفرصة مجددًا.
فتحت الباب بقوةٍ ضائعة، تنظر بالطرقة لتجدها فارغة، وكأن القدر أعد فرصتها للهروب، تحركت بخطواتٍ سريعة تسير عبر الدرج الخلفي حتى وصلت لنهاية الدور، تتحرك باتجاه البوابة الخارجية، تتأكد من أفراد الأمن جيدًا، ارتجفت شفتيها برغبة في البكاء بعدما رأت واحد يقف لا يتزحزح من أمام البوابة.
هبطت دموعها بضعفٍ، تنظر لكفها الذي بدأ يرتعش من الإرهاق، عادت تنظر نحو البوابة مجددًا لترى ذلك الأمن يساند إمرأة عجوز تتحرك للداخل، زحفت بسمة مرتجفة لشفتيها تتحرك بخطواتٍ ضعيفة نحو الخارج لتتم تلك المهمة بنجاح، أشارت لإحدى سيارات الأجرة التي توقفت على الفور لها، ركبت داخلها سريعًا تهتف بنبرة مرتجفة:
_ وديني محطة القطر.
نظرت عبر النافذة بألمٍ، تهمس بضعفٍ:
_ سامحوني بس مش هقدر أعيش وسطكم وأنا خسرت كل حاجة وهخسركم معايا.
تحرك السائق ليغادر ولكن لمحت سيارة نوح تصف أمام المشفى، أدارت رأسها سريعًا لترى ذكريات تركض داخل المشفى بلهفةٍ، تهدجت أنفاسها ثم رفعت كفها السليمة على فمها تمنع علو تلك الشهقة، لـــــماذا رأيتكم الآن!! ألا يريد جرحي التلائم؟ وكيف له التلائم وقد مات أطباء والعلاج!
لم تستطع منع نوبتها من الظهور لتجهش في بكاءًا مرير، يبدو أن تلك النوبة تظل تلازمها حتى الموت!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
_ هو أنت مش قُلت هتوديني عن ذكريات النهاردة؟
نطقت بها هند وهي تحرك عجلة الكرسي نحوه، نظر لها سفيان ببعض التوتر يومئ بموافقة، حركت رأسها تحسه على الرد، ليعلق بتنهيدة:
_ فُلة بنت خالك في المستشفى دلوقتي وذكريات راحتلها وعشان كده مش هنعرف نشوفها!
عبست ملامحها بحزنٍ تهتف بصوتٍ خافت حزين:
_ يعني مش هنروح النهاردة؟
تعجب من عدم تعليقها على حال فُلة نظر لها بإمعان ثم قال متجاهلًا الرد على سؤالها:
_ هو أنتِ مش بتحبي فُلة؟
حركت رأسها برفضٍ لحديثه تهتف بتوضيح:
_ مش كده بس زيها زي الغريب بنسبة ليا.. أنا مش بشوفها ومعرفهاش يمكن تفرق مع ذكريات لكن أنا للأسف معرفهاش.
أومأ بتفهمٍ، يشعر بالحزن لأجل تلك العائلة المفككة، لتعيد تكرار سؤالها:
_ هـا مش هنروح؟؟
_ للأسف دلوقتي صعب بس ممكن على بكرة يكونوا كلهم رجعوا البيت وتتجمعي معاهم.
استقبلت اجابته بعبوسٍ، تريد الخروج ورؤية شقيقتها لعلها تعوضها عن شعور الضعف والخذلان الذي تلقته من والدها، تحركت لتغادر نحو غرفتها ولكن اوقفها سفيان ببسمةٍ حنونة:
_ طب بدل ما ترجعي الأوضة ما تيجي نلعب سوا في البلكونة وأهو بالمرة ندردش شوية؟
علت دقات قلبها حتى كادت تخشى أن يسمعها، تستدير بخجلٍ نحوه، ليتحرك سفيان نحوها يمسك بمقعدها يحركه نحو الشرفة مغمغمًا:
_ أيوة يا ستي كده فكيها متكشريش خلي الدنيا تنور تاني.
وضع مقعدها بشكلٍ مريح ثم جلس على المقعد المقابل لتتفاجأ هند من قدح الشاي وأوراق اللعب الموضوع على الطاولة، لتهتف بدهشة:
_ دا أنت جاهز بقى؟
أومأ يضحك بخفةٍ ناطقًا:
_ بصراحة آه ولو كنتِ رفضتي كنت هفضل فوق راسك زن عشان توافقي ونقعد بس ريحتي نفسك من الزن.
ضحكت بخفة تبادله المرح، ليمسك سفيان بالأوراق ويقسمها بينهما وتبدأ جلسة تعارف لطيفة بينهما، يسودها بعض من مشاكسة سفيان وتذمر هند على خسارتها بتلك اللعبة، ولكن بعد مرور وقت كبير صرخت بغيظٍ:
_ مش هلعب أنا مش عارفة اكسبك!!
ترك سفيان الورق يضحك بشدةٍ عليها متمتمًا بصعوبة:
_ أنتِ اللي طيبة زيادة عن اللزوم يا هند.. واللعبة عايزة اللي قلبه جامد عشان يكسب.
زفرت بتعبٍ تاركة الورق هي الأخرى، تنظر لشكل السماء المليئة بالنجوم، تغمغم بنبرة حزينة:
_ أوقات بحس طيبة قلبي دي عقاب من ربنا.
دُهش من تفكيرها ولكن لولا اقترابه من عائلة الشرنوبي فلمَ فهم ما يحدث، علق على حديثها ممسكًا بقدح الشاي بين يديه يتأمل السماء مثلها:
_ بالعكس طيبة قلبك دي اللي خليتك متكرهيش اختك وتحبيها.. خليتك تتخطي حاجات يمكن لو قلبك قسي فيها تتعبي جامد.. ربنا لما بيرزق الواحد النعم كتير حتى لو الظاهر ليها شر يا هند.. يعني مثلا الشيخ الشعراوي قال في مرة إن الوحش اللي في حياتك هو اللي بيحافظ على النعمة.. زي مثلًا عيلة كلها أخلاق ومعاهم مال وصحة وستر وعيالهم كلهم كويسين بس فيهم شاب واحد بس مبهدل الدنيا ومطلع عين الكل.. الناس بقت تقول لو الشاب دا مش موجود كانت العيلة دي تبقى حلوة ومفيش زيها.. والعين كلها عليها.. عارفة بقى يا هند إن الشاب الوحش دا هو اللي محافظ على الستر والصحة والفلوس اللي العيلة دي فيها.. النقمة اللي في نظرهم هي كانت الحفاظ على النعمة اللي معاهم.. فيمكن عندك نقمة بس اتأكدي إنها خير.
استمعت لحديثه باهتمامٍ، تنصت لكل حرف يتفوه به، أدار سفيان بصره يهتف ببسمة لطيفة:
_ تحبي تكملي ولا تنامي؟
_ لا هنام.
أومأ بهدوءٍ ينهض من مكانه بعدما ترك القدح فارغًا يتحرك بمقعد هند نحو غرفتها تاركًا إياها مع منى لتساعدها فلى النوم، بينما غادر الغرفة ينظر للساعة بقلقٍ ينتظر أن يتصل نوح ويخبره بما يجب حدوثه!
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صرخت بصوتٍ عالي بعدما وجدت الغرفة فارغة وقطرات الدماء تملأ الأرض، استدارت نحو نوح الذي أتى يركض نحوها بقلقٍ لتهتف بإنهيارٍ:
_ فُلة مش هنا!! دي مشيت يا نوح مش هشوفها تاني!! قررت تمشي وتسيبني!!
_ فُلة مين اللي مشيت؟
سأل سعدي بصدمةٍ بعدما عاد من المرحاض، يتأمل فراض الفراش والدماء بجمودٍ، بينما ضم نوح ذكريات بعدما بدأت تصرخ بقوةٍ، تبكي دون توقف، يحاول تهدأتها قليلًا مغمغمًا:
_ أهدي يا حبيبة نوح عشان نلاقيها.
حركت رأسها برفضٍ تتشبث به بقوةٍ وكأنها تضمر في الضياع، بينما ضم نوح بشدةٍ يهتف بصوتٍ دافئ:
_ لو هديتي يا حبيبتي هقدر ألقيها بس كده بتشتت.
أرتجف جسدها بقوةٍ، بينما فهم نوح مقاومتها للانهيار بصعوبةٍ، نظر نحو داليدا التي بدأت تبكي بصمتٍ يهتف بنبرة ثابتة:
_ خليكِ مع أمي يا ذكريات وأنا هروح أشوف المدير والأمن يمكن نلحقها قبل ما تبعد.
تركها مع داليدا ثم سحب سعدي معه الذي لا يزال متجمدًا مكانه، ثم غادرا الغرفة سريعًا يبتعد به عنهم حتى أصبح بنهاية الطرق ينظر نحو سعدي قائلًا بقوةٍ:
_ فوق يا سعدي وتعالي نلحق نشوف فين فُلة قبل ما يجرى ليها حاجة! إحنا مش عارفين هي مشيت فعلاً ولا اتخطفت ولا حد هددها عشان تمشي!!
انتبه سعدي لأخر كلمة له، يحاول البحث عن أي كلمة تخبره أنه لم يُرفض منها بتلك الطريقة، نظر لنوح الذي منحه الطمأنينة ليبدأ كلاهما بالتفرق للطبيب والأخر للأمن بالفعل تحرك الطبيب المسؤول عن حالتها لغرفة الأمن وبدأوا برؤية تسجيل الكاميرات سريعًا ليجدوا فُلة تغادر الغرفة بخطواتٍ متعبة وكأنها تحاول الهروب من شيء مجهول.
على الجانب الأخر..
أبتعدت ذكريات عن داليدا تهتف بصوتٍ مبحوح:
_ مش هقدر أقف أكتر من كده من غير ما أطمن على فُلة انا هروح لنوح.
ركضت للخارج قبل أن توافق كلًا من داليدا وحميدة، تسرع بخطاها نحو المصعد تنتظر أمامه لتهبط للأسفل، وأخيرًا حضر المصعد ولكن ما أن فُتح حتى جحظت عينيها بصدمةٍ، ترى يـــاسر أمامها يبتسم بمكرٍ يهتف ببسمة خبيثة:
_ ذكريات زوجة صديقي العزيز.. كنت مستني اللقاء دا بقالي كتير يا حبيبتي.
تراجعت للخلف بذعرٍ بينمت تقدم منها ياسر بخطواتٍ بطيئة تدب داخلها الرعب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
_ يلا يا سعدي بسرعة نطلع بالعربية وأنا خلاص بعت رقم التاكسي لصاحبي وهيجيب عنوان اللي وقفت فيه العربية.
تحركا خارج غرفة الأمن يسيران بخطواتٍ متعجلة ولكن استمع لصوت ذكريات من خلفه تنادي عليه، استدار نحوها بقلقٍ، ينظر لملامحها الملتاعة تقدم إليها قائلًا:
_ مالك بتجري ليه؟؟
_يـ.. ياسر هنا وكان عايز يخدني معاه.
أظلمت عين نوح بشدةٍ، ينظر بشراسةٍ نحو الدرج، بينما هتف سعدي سريعًا:
_ نوح مش هينفع دلوقتي بذات نتدخل مع ياسر.. خد ذكرى وأمشي من هنا وأنا هجيب حميدة ومدام داليدا واروحهم.
نظر نوح بشدةٍ لسعدي يعلم أن معه حق ولكن يريد سحق ذلك الخائن الحقير، سحب يد ذكريات بشدةٍ، يتخطى الممر بخطواتٍ سريعة حتى وصل للسيارة دلف بها سريعًا وإلى جواره ذكريات ثم أنطلق بها يتحرك بعيدًا عن المشفى، بينما استطاع سعدي إحضار داليدا وحميدة وأخذ سيارة أجرة للمغادرة والعودة للمنزل.
ــــــــــــــــــــــــــــ
لاحظ وجود سيارتان خلفه يقتربان منه بطريقةٍ عجيبة، لا بد أن يزيد من سرعة السيارة، هتف نوح بنبرة ثابتة محاولًا أن يبدو هادئًا:
_ ذكريات أنا لزمًا أزود السرعة عشان اتفادهم.
_ مـ.. ماشي.
أجابته بتوترٍ بالغ، ليزيد نوح من سرعة السيارة بطريقة مخيفة، حاول تفادي هاتان السيارتان ولكن إحدهما لحقت به تحاول الاصطدام به بشتى الطرق، صرخت ذكريات بخوفٍ بعد حصل احتكاك بينهم وبين سيارة التي جوارهم، بينما هتف نوح محاولًا السيطرة على السيارة قبل أن تنقلب بهم:
_ أهدي يا حبيبتي خليكِ تحت عشان الإزاز ومتبصيش لفوق مهما حصل.
اومأت تنفذ أوامره دون تعقيب، بينما أخرج نوح مسدسه من تابلو السيارة ولكن قبل أن يتمكن من إمساك المسدس بإحكام اصطدمت سيارته مجددًا ليقع المسدس من يده، ضم نوح شفتيه بعصبيةٍ يضرب عجلة القيادة بغضبٍ جامح، لحظات كان صوت طلقات نيران من السيارة القابعة خلفهم يعلو لينكسر زجاج السيارة الخلفي مما جعل ذكريات تصرخ بذعرٍ مجددًا.
تأمل نوح الطريق أمامه ليجد به عدد كبير من السيارات التي ستتأذى، لا يوجد حل سوى الدلوف وسط الصحراء حتى لا يقع ضحية من الناس حولهم كسر الطريق ودلف وسط الصحراء ولكن بدأ يفقد السيطرة على السيارة، ليهدر بحدةٍ:
_ ذكريات قومي دلوقتي.. وتعالي أقعدي على رجلي
_ نعــــم!!
هدر سريعًا:
_ أنجزي قومي وأمسكي المسدس بتاعي معاكِ ويلا أقعدي على رجلي.
نفذت ذكريات أوامره كما طلب، ليرفع أحد ذراعيه كي تجلس ذكريات على قدمه ثم همس بنبرة ثابتة:
_ أحضنيني جامد يا ذكريات ومتخرجيش من حضني مهما كان السبب.
أومأت دون ردع حديثه، تدفن وجهها بتجويفة رقبته، بينما لمح تل رمال مرتفع نسبيًا اتجه نحوها ثم بلحظة ترك العجلة وضم ذكريات بقوةٍ داخله حتى حدث اصطدام قوي بتل ولكن سيطر على السيارة لتتوقف تمامًا. تأوه نوح قليلًا مما حد ولكن لابُد أن يتماسك، أبعد ذكريات قليلًا يتفحصها بعناية ثم قال بهدوءٍ:
_هاتي المسدس بسرعة ويلا بينا.
أخذ منها المسدس ثم تحرك خارج السيارة وبيده مسدس وباليد الأخرى كانت ذكريات تقف جواره يخفيها خلفه، يأخذون السيارة ساترًا لهم، ثم تذكر أمر الهاتف ليفتش عنه بجيب سرواله!!!
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد 🤎🌻
تابع الفصل العشرين " لقد ظهر الخائن"
وسط حقول الحياة هناك نبتة طيبة ذات عطر طيب ونبتة سامة ذات عطر طيب تجذبك لها لتقع ضحية داخل سُمها.
ــــــــــــــــــــــــــ
صف سيارته يمسك بمسدسه بحذرٍ مراقبًا الطريق بعناية، ولكن تنفس براحة بعدما رأى نوح يخرج من خلف السيارة وخلف ذكريات يسيران نحوه بملامح مرهقة للغاية، ترجل سعدي من السيارة سريعًا يهتف بدهشةٍ ممزوجة بقلق:
_ إيه اللي حصل يا نوح؟
أشار نوح لذكرى بأن تصعد للسيارة ولكنها رفضت تغمغم بجدية:
_ مش هدخل العربية غير وأنت معايا.
استدار لها يرمقها بدهشة من طريقتها، بينما استطردت ذكرى ببسمة بريئة:
_ مقدرش أسيبك تاني يا نوح.
ضحك سعدي بخفةٍ، يغمغم ماكرًا:
_ الحب ولع في الدرة يا عم نوح.
_ أخرس يلا عشان معوركش.. وأنتِ أطلعي العربية لينا أوضة تلمنا.
تحركت ذكريات من أمامه تغمز بمكرٍ، بينما حدقها نوح بذهولٍ يضرب كف بالأخر قائلًا:
_ البت دماغها اتلحست من الرصاص.
أومأ سعدي بموافقة بعدما رأى طريقة ذكرى، استرسل نوح بجدية وشك:
_ كان في عربيتين ورانا يا سعدي وبيزنقوا عليا لحد ما دخلت هنا ومشيوا..
نظر سعدي حوله بتدقيق، ثم سأله بحيرة:
_ اشمعنا هنا؟!
_ دا نفس المكان اللي أضربت فيه بالرصاص من سنتين.
رأى لمعة الألم بعيني نوح، يبدو أن التعافي صعب حتى يصبح ألمه واضحًا بتلك الطريقة. تنهد سعدي ثم ربت على كتفه قائلًا:
_ متقلقش يا نوح.. صدقيني مفيش حد يقدر يخونك.
ابتسم بمرارةٍ يجيبه وهو يشير على المكان حوله:
_ تفتكر ليه جابني هنا إلا وهو بيوصلي رسالة إن الخاين وسطنا وقريب مني وأنا مش عارف أوصله.. أنا حتى مش عارف أشك في مين يا سعدي!!
عجز عن الرد، فهي رسالة واضحة بأن الخائن عاد له ويقع وسطهم الآن ولكن من!! زفر باختناقٍ يغمغم بنبرة مليئة بمرارة فقدانها:
_ طب يلا بينا يا نوح.. كفاية فُلة اللي مش عارفين نشوف هي راحة فين!
نظر له بحزنٍ ليخفي سعدي عينيه عنه لا يريد أن يراه بذلك الضعف، لقد انفطر قلبه بعدما غادرت ولا يعلم لماذا كانت تهرب بتلك الطريقة!!
تحرك مع سعدي وركبا السيارة في صمت، كلًا يقع في واحة أفكار لانهاية لها.
ــــــــــــــــــــــــــــ
أوقف السيارة عند المحطة ينظر للمرآة التي تعكس حال تلك المسكينة التي لا تزال تذرف الدموع بغزارة، ليهتف بقلقٍ:
_ أنتِ كويسة يا بنتي؟؟
كأن صوته وميض أفاقها من نوبة سوداء ليس بها إلا الدموع وحسرة تقطع القلب بأنيابٍ سامة، نظرت له بأعينٍ مدمعة ثم قالت محاولة السيطرة على ذاتها:
_ كـ. كويسة.
_ طيب إحنا وصلنا خلاص.
نظرت حولها لتجد بالفعل وصلت ولكن كيف ستعطيه المال، نظرت له برجاءٍ منكسر، تهتف برجفة:
_ أنا مـ.. مش معايا فلوس..
نظر لها قليلًا صامتًا بينما ازداد خوف فُلة منه تشعر أنه سيصرخ بها بحدةٍ ويسبب لها فضيحة، تذكرت الحلق الذي ترتديه أخر ما ورثته من أبويها، لتمسك بالحلق تحاول نزعه قائلة بلهفة:
_ حضرتك خد الحلق دا بيعه وهيجيب تمن المشوار وأكتر بس بالله عليك ما تفضحني.
دهش الرجل من ردة فعلها، ليسرع بالهتاف:
_ أهدي يا بنتي خلاص مسامحك في الفلوس.. بس أنتِ هتركبي القطر إزاي؟ وأنتِ ممعكيش فلوس!
توقفت عن الحركة ترتجف يديها بتذكر أن مالها كله ليس معها، نفت برأسها تنظر للأسفل بخجلٍ وأعين مكسورة:
_ مش عارفة.
أشفق على حالها ولهيئتها المزرية ليهتف ببسمة مطمئنة:
_ طب بصي أنتِ زي بنتي وأنا ميهونش عليا أسيبك تتلطمي وسط كلاب السكك.. في في الحارة اللي عايش فيها عمارة فيها شقة فوق السطوح إيه رأيك.. وصاحبها راجل جدع هيسيبك تعيشي فيها.
رفعت بصرها بامتنان له، تهتف بكلماتٍ متقطعة:
_ مش عارفة.. أقولك إيه.. شكرًا بس أكيد عايز فلوس!
حرك رأسه ينفي حديثها يغمغم بتوضيح:
_ هو هيصبر عليكِ لما أكلمه.. وفي مشغل خياطة في نفس العمارة عايز بنات تشتغل فيه.. اشتغلي فيه وأبقي أدفعي الإيجار براحتك.
ابتسمت من بين دموعها بفرحةٍ تومئ برأسها بسعادة مخذولة تردف بارتباك:
_ شكرًا أنا.. ربنا بعتك ليا نجدة والله.. أنا كنت هضيع أكتر.
أومأ لها ببسمة مطمئنة، يهتف بهدوءٍ يدير محرك السيارة:
_ طب هوصلك لهناك ولو احتاجتي حاجة قوليلي أنا هتلاقيني ساكن في العمارة اللي في وشك.
غادر ذلك العجوز بها نحو الحارة، بينما حمدت فُلة ربها بتضرع، لقد ضاعت ولا تعلم أي سبيل للعودة، أصبحت كلمة عودة مستحيلة لا يمكن تنفيذها. تذكرت سعدي وذكريات.. حميدة وداليدا.. لقد اشتاقت لهم جميعًا كيف ستعيش وحيدة بعدما كانت تأنس بهم! تنهدت بحرقة مؤلمة تنظر من الشباك لتجد شارع يعج بالناس حولها، توقف السيارة أمام عمارة صغيرة مكونة من خمس طوابق، ثم علا صوت السائق يهتف بهدوءٍ:
_ تعالي يا بنتي اوديكي الأوضة.. هي هتحتاج شوية تنضيف معلش.
ابتسمت بحزنٍ تجيبه سريعًا:
_ ولا يهمك كفاية جبتلي مكان اتستر فيه.
تحركت معه نحو العمارة يصعدان بهدوءٍ حتى وصلت السطح كان مليئ بالأتربة وبعض الحشرات، تحركا نحو الغرفة لتجدها بها طاولة ومقعدين ومرتبة صغيرة على الأرض، نظر الرجل بحرجٍ منها مغمغمًا:
_ لا مؤاخذة يا بنتي المكان على قده.. بس لو وقع قدامي سرير كويس هجبلك.. وأنا عندي كاتل وبوتجاز صغير عينين كده بيشتغل بالكهربا هجبهولك عشان لو حبيتي تطبخي.
أومأت فُلة ببسمة شاحبة للغاية، ليستأذن منها كي يغادر ولكن اوقفته فُلة قائلة:
_ أنا معرفش اسم حضرتك.. أنا فُلة!
استدار لها يبتسم برفقٍ مجيبًا:
_ عمك صلاح يا بنتي.
أومأت تبتسم بهدوءٍ، تعود تستدير نحو المكان بقلبٍ مكلوم، لتعود وتغرق الدموع عينيها، تمتلك ثلاث بيوت ولا يمكنها الذهاب لواحد منهم، حقًا تعز من تشاء وتذل من تشاء، رفعت بصرها للسماء تنظر بألمٍ تدعو الله:
_ حسبي الله ونعمة الوكيل.. كلوا مال اليتيم وأذوني واتعدوا حدودك يارب أنتقم منهم أشد انتقام وردلي حقي منهم دنيا وأخرة.
مدت أناملها تزيح دموعها بألمٍ، ثم تقدمت من الغرفة تبدأ بتنظيفها لتستريح بها وتفكر بحياة ليس بها الحياة.
أمسك صلاح هاتفه بهدوءٍ يضغط على زر الاتصال على رقم ما، ثم وضع الهاتف على أذنه يغمفم برسمية:
_ تمام يا باشا اللي طلبته أتنفذ بالمللي والمدام فوق في السطوح لوحدها... لا متقلقش أنا مأمن كويس العمارة محدش هيقدر يوصلها.. سلام يا بيه.
أغلق معه يستدير ليغادر ولكن وجد أمامه شاب ذو ملامح إجرامية، يرتدي سلسلة من حلقات كبيرة، ينظر لصلاح ببسمة مريبة قائلًا وهو يشير بعينيه على تلك العمارة:
_ مين المزة اللي جت دي يا عم صلاح؟
نظر له بتحذير يهمس بنبرة صارمة:
_ إياك يا سيد إياك تقرب منها.. دي العين عليها كتير ولو حد قرب لها هنروح كلنا في داهية.. الناس اللي وراها نابهم أزرق ومش هنخلص منهم.
ضرب على صدره بقوةٍ يغمغم بغطرسة:
_ لا بقولك إيه يا عم صلاح نابهم أزرق على نفسهم.. المزة دخلت دماغي وعايزها فبلاش تخليني أعاند.. عرفني نظامها إيه!
مسح صلاح على وجهه بنفد صبر يغمغم بعصبية هامسة:
_ يا بني آدم أفهم اللي فوق دي لو جرى ليها حاجة مش بعيد يدفنوا الحارة باللي فيها.. أبعد عن سكتها الله لا يسيئك عشان هي مش ناقصة..
ثم أضاف بسخرية:
_ ثم من قلة البنات يا سيد.. ما البنات الشمال على قفا من يشيل.
نظر سيد نحو العمارة ببسمة صغيرة، ثم قال وعينيه تلتمع بإصرار:
_ زهقت من الشمال وعايز استقر يا عم صلاح.
ضحك بسخرية يهتف بتهكم:
_ على عمك صلاح برضو يا سيد.. عايز تستقر ولا تجرب النضيف شوية والوسـ** شوية.. أنا قولتلك ومش هقول تاني كله إلا البنت اللي فوق دي يا سيد عشان الزعل هيبقى على كل.
غادر صلاح يصعد سيارته ليكمل باقي عمله، بينما نظر صلاح له باستخفاف ثم همس وهو يرفع يده يودعه:
_ مع السلامة يا عم صلاح وأوعدك هدي لنفسي مدة لبكرة الصبح لو مخرجتش من دماغي هدخلها هي بيتي.
ـــــــــــــــــــــــــ
هربت الخادمة من أمامه بذعرٍ بعدما اكتشف اختفاء ابنته هند، لقد فعلها نوح وأخذ ابنته الثانية، نظر حوله كوحشٍ جريح يبحث عن شيء ليبرد نار غضبه ولكن لا شيء، ظل يضرب بأثاث المنزل حتى بدت كساحة حرب بينه وبين جماد لا يرى لا يسمع لا يتكلم.
ذلك الغضب عندما يسيطر على العقل يصبح كل شيء مشوه حتى وإن كان صالحًا. جلس على المقعد بإنهيارٍ يتذكر شقيقه وأسرته في الماضي..
_ فين فريد يا نادر؟
سألته بقلقٍ على فلذ كبدها وبكريتها، ليحدقها نادر بضيقٍ يجيبها وهو يشيح بيده:
_ وأنا إيش عرفني.. أهو راح في أي داهية!
صفعة مؤلمة سقطت على وجنته بقوةٍ، يستمع لصراخ أمه الحاد:
_ قطع لسانك يا قليل الرباية لما تتكلم مع أخوك الكبير تتكلم عنه باحترام متنساش نفسك أنا مش عارفة ليه مخدتش طيبة وحنية أخوك!
نظر لها بجمودٍ يشعر بالخذلان منها مجددًا، ليست المرة الأولى التي تصفعه وتضربه لأجل فريد، استدار ليغادر بصمتٍ قبل أن يصرخ بها مجددًا ويتناسى كل شيء حوله، ولكنها أوقفته تردف بنبرة جعلت قلبه يشتعل ألمًا:
_ أخرج شوف أخوك فين؟ بدل ما يكون حد زعله وقاله كلمة تضايقه!
استدار بأعينٍ سوداء يهتف بحقدٍ واضح:
_ لو هموت أبنك دا أخر واحد أدور عليه.
_ مش هتحتاج تموت عشان مدورش عليا أنا جيت خلاص.
قالها فريد يقبل نحو والدتها التي ضمته بلهفةٍ تسأله بقلقٍ:
_ اتأخرت ليه برة يا فريد؟ كده يابني تقلقني عليك!
ربت فريد على يدها يقبلها بحنوٍ متمتمًا:
_ غصب عني يا ست الكل.. سمعت كلمتين ملهمش لزمة من واحد زميلي عشان لسه مش عارف أكتب كويس.
_ أنا فرحان فيك يا فريد.. تستاهل كل كلمة وحشة بتتقالك.
حقد مخيف يحلق بين كلماته، ينظر لشقيبه بغلٍ واضح، بينما تقدمت منه والدته تصرخ به بقسوةٍ:
_ أنت متربتش.. ولا عمرك هتتربي يا نادر.. لايمكن تكون ابن بطني.
نظر لها بألم واضح يعلق بتهكم:
_ ليه بدلوني بعيل تاني!!
رمقته بنفورٍ ألم نادر بشدةٍ، جعله يريد الصراخ بها ويخبرها لماذا تفعلين ذلك بيّ أهو فلذ كبدك وأنا لا؟
لماذا فرقتي في المعاملة بيننا؟ لماذا تعطيه كل الحب والدلال وأنا لا؟ ما ذنبي أني أبنك الثاني ولستُ البكري!! أنتِ ظالمة يا أمي ولن أسامحك أبدًا.
انقطع سيل تلك الذكرى عندما شعر بدموعه تدفق بغزارة من عينيه لتسيل على وجهه، هبط على الأرض يضم نفسه كوضعية الجنين، زاد فيضان عينيه ليصبح لها صوت _ شهقات_، أهتز جسده بشدةٍ من الضغط الكتمان يهزي بكلماتٍ متقطعة:
_ ليه يا ماما.. ليه عملتي كده! أنا ابنك برضو ابنك.. مبقاش في فريد تاني.. أنا اللي هاخد حبك لوحدي.. أنا ابنك.. ابنك برضو.
عشوائية حديثه تزداد ودموعه لا يوجد أكثر منها، يهتز بحركاتٍ ثابتة مريبة، يتمنى لو أخذ رشفة صغيرة من حنانها الذي غرق به فريد وحده.
ــــــــــــــــــــــــــــ
طرق على المكتب بأصابعه بتدريج، ملامحه المكفهرة تنم على شر، يفكر بياسر الذي امتلك نصيب نادر في شركة وجعل الحرب بينهما من جديد، عادت النيران تندلع بينهما ولكن تلك المرة لن يتركه ياسر، قطع شروده صوت رنين الهاتف يعلو، نظر للرقم ليجده غريب، تجاهل الموضوع فهو ليس بالوقت الذي يسمح له بالحديث، عاد الهاتف يعلو رنينه مجددًا، ليسحب الهاتف ويجيب بنفد صبر:
_ ألو مين!
_ كل دا عشان ترد يا محفوظ!
تجمد جسد محفوظ بصدمةٍ يتطلع للهاتف ثم يعود ليسمعها تجيب وكأنها تراها:
_ بظبط كده.. ذكريات الشرنوبي معاك.
ضيق عينيه بشكٍ منها ثم عاد يبتسم قائلًا بتهكم:
_ خير يا.. يا بنت الشرنوبي بتتصلي ليه؟
مطت شفتيها تردف بنبرة ماكرة خبيثة:
_ للأسف مكنتش أفكر في يوم إني هحتاجك بس المصلحة بقى.
_ وإيه المصلحة اللي بيني وبينك!
كشفت عن أنيابها بشرٍ تهتف بفحيحٍ مخيف:
_ نادر باع نصيبه لياسر.. وياسر بصراحة مضايقني زيادة عن اللزوم وعشان كده عايز أخلص منه.
رفع محفوظ حاجبه، يهتف بشكٍ:
_ وإيه اللي يخليني أصدق كلامك؟؟
علا صوت ضحكتها، تردف بخبثٍ:
_ عيب يا محفوظ.. هو مش أنت برضو اللي عرفت دانيال عليا ولا إيه؟
صمت أمامه طوفان مكرها، يبدو أنها حيّة تلدغ من يحاول منعها عن هدفها، استرسلت ذكريات ببسمة مريبة:
_ مفيش أكتر من إنك تساعدني أخلص منه.. والمقابل إنك هتكون مساعد دانيال ورئيس مؤسسة الحوت في مصر.
_ لو رفضت؟
قلبت عينيها بمللٍ مغمغمة:
_ والله أنت مش غبي عشان ترفض ولاسيما إن ياسر بدأ الحرب ومش هيسكت غير لما يطردك زي ما طردته زمان صح ولا إيه؟
زفر باختناقٍ فلا يريد أن يظل مهددًا، غمغم بموافقة مؤقتة حتى يرى ماذا سيحدث، لتهتف ذكريات بهدوءٍ:
_ حلو يبقى خليك على أتصال تاني باللي هيتنفذ.. سلام.
أغلقت معه، تغمض عينيها ببسمة تعلو ثغرها، تدندن أغنية صغيرة وهي تلتف حول نفسها:
_ أخاف مني على الدنيا وأخاف من الدنيا على قلبي.. أنا مش حابب القسوة ومش حابب كمان طيبتي!!!
صمتت عن الدندنة والحركة تفتح عينيها ببطءٍ، تنظر أمامها برغبة جامحة في الانتقام، لقد أطلقوا سراح العصفور ليصبح صقر يصطاد فريسته، استدارت لتعود داخل المنزل ولكن صُدمت عندما رأت سعدي يقف أمامها، تجمدت أمام نظراته المشمئزة لها، يهتف بعدائية:
_ أنتِ إزاي بالحقارة دي! إزاي تخوني جوزك وأنتِ عارفة اللي حصله زمان.. أنا.. أنا قرفان أبصلك!
حدقته ببرود، لم تتأثر بحديثه البتة، تتقدم نحوه حتى وقفت أمامه مباشرةً تهتف بكلماتٍ باردة:
_ اللي حصله زمان ولا حاجة مقارنة باللي أنا فيه.. اللي غدر بيه صاحبه، إنما اللي غدر بيا يبقى أبويا.. عارف يعني إيه أبوك يبيعك كده ولا كأنك حتة خردة رخيصة..
ثم أضافت بحقدٍ مليء بعدائية واضحة:
_فالبيه اللي بدافع عنه دا زيه زي نادر زيك بظبط.. كلكم صنف وس*** وعايز الحرق.
رفع كفه ليصفعها ولكن قبض على يده قبل أن يهوي بها على وجهها، نظرت نحو يده المرفوعة ثم قالت بتهكم:
_ ما تضرب.. بس خليك عارف إني مش هخلي اللي زيك يقرب مني.. فخليك حلو كده وأسكت عشان اللي بيقف في طريقي..
صمتت تقترب منه تهمس ببسمة خبيثة تفوح منها رائحة الشر:
_ بقتله!! بس قبلها لزمًا أخسره كل حبايبه.
دفعها سعدي بعيدًا يحدقها بإشمئزاز واضح، يغمغم بتهديد صريح:
_ أنا هقول لنوح على كل حاجة مش هسيبه مخدوع في واحدة *** زيك.
كاد أن يغادر ولكن تجمد جسده عندما سمع صوتها الكريه يهتف بخبثٍ:
_ تفتكر نوح هيصدق مراته اللي معملتش حاجة تخليه يشك فيها ولا صاحبه اللي طول الوقت مخونه!
استدار ينظر لعينيه الخبيثتان، يشعر بالعجز الحقيقي في اتخاذ القرار المناسب، هل سيصدقه نوح أم سيقضي عليه بشكه الدائم به!
الحقيقة واضحة أمامه ولكن من سيصدق أن ذكريات الشرنوبي هي الخائنة وسطهم!!!
تمت بحمد الله
