رواية ثنايا الروح الفصل السادس والاربعون46 بقلم رانيا الخولي

رواية ثنايا الروح بقلم رانيا الخولي
رواية ثنايا الروح الفصل السادس والاربعون46 بقلم رانيا الخولي
كانت في بئر عميق ومظلم. 
لا يوجد ألم لا يوجد خوف، فقط فراغ أسود وصمت مطبق ثم بدأ الصوت يتسلل إلى هذا الفراغ ليس كصوت واضح بل كهمهمات بعيدة، مشوهة كأنها تسمعها من تحت الماء.

شعرت بحركة أيادي تنتشلها، ترفعها. 
لم تكن أيادي جاسر القوية التي تعرفها كانت أيادي غريبة متسرعة. 
لم تستطع فتح عينيها كان جفناها أثقل من الرصاص. 
لكنها شعرت بالهواء البارد يلفح وجهها، وشعرت بقطرات لزجة دافئة تسيل على صدغها.
الأصوات بدأت تتضح قليلاً، لكنها كانت تتداخل في ضجيج فوضوي.

"...يا ساتر يا رب... المنظر صعب جوي..."
"...اطلبوا الإسعاف بسرعة... بسرعة!"

صوت آخر أقرب يصرخ بهلع.
"...ده مات خلاص... شوف الدم اللي حواليه... لا حول ولا قوة إلا بالله..."

مات.

ترددت الكلمة في عقلها الفارغ من الذي مات؟ لم تستطع ربط الكلمة بأي وجه.
صوت آخر رد عليه بحسم.
"...لأه لأ... لسه فيه نفس... أنا شايف صدره بيتحرك... شيلوه بالراحة... بالراحة بقولك!"

شعرت بأنها تُوضع على سطح صلب. 
ثم سمعت ذلك الصوت الحاد النفاذ، الذي يخترق الضباب في رأسها. 
صوت صفارات سيارة إسعاف تقترب، تتعالى ثم تصم أذنيها. 
كل شيء كان مزيجاً من الفوضى والهلع لكنها كانت معزولة عنه، تطفو في بحر من اللاوعي.
غابت مرة أخرى.

عندما عادت إليها ومضات الإدراك، كانت الحركة أسرع أكثر عنفاً. 
كانت تُدفع بسرعة على سرير متحرك. 
الأضواء البيضاء الساطعة في سقف طويل كانت تومض فوق عينيها كطلقات نارية، مما جعلها تغمضهما بقوة. 
الأصوات الآن كانت أعلى وأكثر وضوحاً.

"حالة حادث سيارة فقدان وعي جزئي!"
"الضغط بينزل! جهزوا غرفة العمليات فوراً!"
"النزيف من الرأس، اشتباه ارتجاج!"

كانت الكلمات الطبية تتطاير فوق رأسها كطيور نذير شؤم. 
شعرت بإبرة حادة تخترق جلد ذراعها، وبرودة سائل يسري في عروقها.

"والحالة التانية؟" صوت ممرضة يسأل.

جاء الرد من مسعف يلهث.
"إصابات متعددة... الصدمة كلها كانت ناحيته... هو اللي واخد الخبطة كلها... حالته خطيرة جداً... دخل اوضة العمليات التانية."

هو.

هذه المرة الكلمة اخترقت ضباب عقلها كالصاعقة. 
هو
جاسر الرجل الذي ألقى بنفسه فوقها
الرجل الذي كان ظهره هو الدرع الذي يفصلها عن الموت.

حاولت أن تتحرك أن تصرخ باسمه أن تسأل عنه. 
لكن جسدها لم يستجب كان ثقيلاً غريباً كأنه ليس ملكها. 
لم يخرج من فمها سوى أنين خافت باسمه ضاع وسط جلبة الأطباء والممرضين.

آخر ما شعرت به قبل أن يبتلعها الظلام تماماً مرة أخرى لم يكن ألم جراحها بل كان إحساساً جليدياً بالرعب. 
الرعب من أن يكون الصوت الأول الذي سمعته... 
"مات"
كان عنه هو. 
الرعب من أن يكون قد دفع حياته ثمناً لتهورها، وثمناً لحمايته لها.

❈-❈-❈

كانت حديقة سرايا الرفاعي تنعم بلحظة هدوء نادرة جلس الرجال الأربعة كأعمدة للبيت يستمتعون بنسيم الأصيل البارد. 
وهدان في مقعده المفضل يتكئ على عصاه وبجانبه سالم وحامد اللذان كانا يتناقشان بصوت خفيض في أمور الزراعة والأرض وعلى مقربة منهما جلس مالك وسند بحوار خفيف كظلهم.

من بعيد ظهرت ورد وهي تحمل صينية الشاي الفضية تسير بخطواتها الهادئة المعتادة، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة وهي تنظر إلى تجمع رجال عائلتها كانت هذه اللحظات هي ما تعيش من أجله لحظات الألفة والسكينة.
وفجأة شق رنين حاد هذا الصمت رنين هاتف مالك.
أخرج مالك هاتفه من جيبه ونظر إلى الرقم الغريب باستغراب ثم ضغط على زر الرد ووضعه على أذنه.
_ ألو.
في البداية كانت ملامحه هادئة، ثم تحولت إلى حيرة ثم في لحظة خاطفة تجمدت تمامًا، اتسعت عيناه وشحب لون وجهه، ووقف فجأة على قدميه مما لفت انتباه الجميع إليه.
_ أنت بتجول إيه مستشفى إيه؟ طب طب ايه اللي حوصل؟
عند سماع كلمة مستشفى، توقفت ورد في مكانها وتجمدت الصينية في يديها
نظر الجميع إلى مالك بقلق بالغ وقد وقف سند وحامد على أقدامهما بشكل لا إرادي.
_ ومراته معاه....طب.....كيف...إيه اللي حوصل.....حادثة؟

كانت الكلمة الأخيرة هي الرصاصة التي اخترقت جدار الصمت
حادثة

سقطت صينية الشاي من يدي ورد تناثرت أكواب الزجاج على الأرض محدثة صوتًا مدويًا حادًا كصرخة ألم، وانسكب الشاي الساخن كأنه دموع الأرض لكن لم يلتفت أحد لصوت الزجاج المحطم، كانت كل العيون كل الحواس مركزة على مالك وعلى الكارثة التي حملتها كلمته
_ حادثة إيه يا مالك؟ مين اللي عمل حادثة؟

_ انطوج يا ابني في إيه؟

أنهى مالك المكالمة ويده تسقط بجانبه كأنها فقدت الحياة، نظر إليهم بعينين زائغتين كأنه لا يراهم.

_ جاسر ونغم عملوا حادثة عربية، هما الاتنين في مستشفى دلوجت.

ساد صمت مروع للحظات، صمت أثقل من أي ضجيج بينما كانت العقول تحاول استيعاب هول الخبر.
_ ابن أخويا ونغم بنتي؟! لا يا رب... لا يا رب... 
كانت ورد تبكي وتتحدث في آن واحد وخوفها على ابن أخيها الذي عاد إليها بعد زمن، وعلى نغم التي ربتها كابنتها يمزق قلبها.
_ بنتي بنتي يا مالك حالتها كيف؟

_ معرفش اللي اتصل بيجول حالتهم خطيرة هما الاتنين.
لم يكن هناك وقت للأسئلة أو للوم العداوة القديمة الكراهية مشاعر الثأر كل شيء تبخر في لحظة أمام حقيقة الموت التي طرقت الباب، لم يعد جاسر هو العدو بل أصبح زوج ابنتهم يرقد بين الحياة والموت.
_ مستنيين إيه يلا بينا على المستشفى يلا
تحول المكان في ثواني ركض سند ومالك نحو الداخل لإحضار مفاتيح السيارات بينما حاول سالم تهدئة ورد التي كانت تنهار، وحامد الذي كان يقف  يردد الدعاء واسم ابنة اخيه بصوت خافت.

لم يكن خوفهم على نغم فقط فرغم كل ما فعله جاسر لم يتمنى أحد له الأذى بهذا الشكل، لقد كان مشهد قبضته على يد نغم يوم اجبرها على الزواج منه، ومشهد قوته وهو يفرض إرادته، لا يزال عالقًا في أذهانهم، لكن فكرة أن هذه القوة وهذا الشموخ قد سُحقا تحت كومة من الحديد المحطم كانت فكرة مرعبة، تذكرهم جميعًا بمدى هشاشة الحياة، وبأن رابطة الدم حتى لو غطاها غبار الكراهية تظل أقوى من أي شيء في لحظات الفاجعة.

كانت سيارات عائلة الرفاعي تشق طريقها بسرعة جنونية، كأنها تسابق الزمن نفسه، وصلوا إلى المستشفى في وقت قياسي، وترجلوا منها دفعة واحدة كأنهم كتلة بشرية واحدة متحركة بالخوف والأمل.
كان بهو المستشفى يعج بالحركة والأصوات لكنهم لم يروا أو يسمعوا شيئًا، تحركوا كأنهم في فقاعة من الصمت الخاص بهم.
عيونهم تبحث بجنون عن أي دليل أو أي وجه مألوف.
جروب نسائم روائية جروب رانيا الخولى 
رأى مالك مكتب الاستقبال، فاندفع نحوه والبقية خلفه.
_ لو سمحتي في مصابين حادثة وصلوا من شوية، اسمهم جاسر التهامي ونغم عامر

نظرت الموظفة في سجلاتها ببرود مهني أثار أعصابهم، ثم رفعت رأسها
_ أيوه يا فندم وصلوا من حوالي نص ساعة هما في العمليات دلوقتي ممنوع الوقوف هناك.

لم تكن كلمة ممنوع لتردع وهدان الرفاعي الذي تقدم بخطوات ثابتة رغم قلقه وصوته الأجش يهدر في المكان.
_ إحنا أهلهم ولازم ندخل نطمن عليهم

في تلك اللحظة خرج طبيب شاب من أبواب العمليات تبدو عليه علامات الإرهاق الشديد.
ركضوا نحوه جميعًا كأنهم غريق يتعلق بقشة.

_ يا دكتور إحنا أهل الحالات اللي وصلت من شوية، جاسر ونغم طمنا عليهم أرچوك.

نظر الطبيب إلى وجوههم الملهوفة بأسف واضح وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن ينطق بالكلمات التي كانوا يخشونها.

_ للأسف الحالتين حالتهم حرجة جدًا الأستاذ جاسر عنده نزيف داخلي ودخل العمليات فورًا، أما المدام نغم...

صمت الطبيب للحظة وكأن الكلمات التالية أثقل من أن تُقال، فتعلقت قلوبهم بهذه اللحظة من الصمت القاتل
صرخت ورد ليل بصوت مبحوح
_ بنتي مالها يا دكتور انطق.
أكمل الطبيب بصوت هادئ وحزين
_ المدام كانت حامل، وللأسف بسبب الحادثة فقدت الجنين.
سقط الخبر عليهم كالصاعقة.
حامل..
فقدت الجنين..
تجمدت ليل في مكانها ووجهها يفقد كل ألوان الحياة، فقد لاحظت الحزن الذي ارتسم على وجهها وهي في المشفى مع روح، نظرة اشتياق ولهفة.

وحامد حوقل بصوت خافت حزناً على ابنة أخيه وما تعانية الآن 
وسالم الذي لا يعرف لما الدنيا تقسى عليها بتلك الحدة.
أما مالك وسند فقد تبادلا نظرة حزينة، لم يكونا يعرفان بأمر الحمل لقد كان سرًا آخر من أسرار نغم وجاسر انكشف بأكثر الطرق مأساوية.
_ وهي.... وهي عاملة إيه دلوجت؟
سأل حامد بصوت بالكاد يُسمع
_ حالتها الحمد لله مستقرة بس عندها ردود متعددة في الضلوع، إحنا بنعمل كل اللي نقدر عليه ادعولها.

تركهم الطبيب وعاد إلى جحيم الطوارئ، وتركهم هم في جحيمهم الخاص، واقفين في منتصف الردهة محطمين ومشتتين..

لم يكن هناك مكان للعداوة الآن، لم يكن هناك سوى الألم المشترك، والخوف من القادم، لم تكن فاجعتهم في نغم وجاسر فقط، بل في هذا الحفيد الذي لم يروه والذي رحل قبل أن يبدأ رحلته.
رابط الدم الجديد الذي كان يمكن أن يصلح ما أفسدته السنين قد قُطع قبل أن يتكون.
جلس وهدان الرفاعي على أقرب مقعد، لأول مرة يبدو عليه الضعف والانكسار مما يحدث لأحفاده..

❈-❈-❈

كانت السيارة تسير بهدوء على الطريق الزراعي الطويل، وأشجار الكافور العالية تلقي بظلالها المتراقصة على الزجاج الأمامي، كانت صبر تجلس في مقعدها تضم نفسها في صمت ويداها متشابكتان على ساقيها اثناء ذهابهم إلى منزل جده.
لم تعد تتألم جسديًا، لكن هناك ألمًا من نوع آخر كان لا يزال يسكن عينيها ألم الخوف.
شعر أكمل بتوترها الصامت فمد يده ووضعها فوق يديها الباردتين برفق
_ لسه خايفة؟
أومأت برأسها دون أن تنظر إليه فشد على يدها بلطف.
_ خايفة من إيه دلوقتي، أنا جنبك ومحدش يقدر يعملك حاجة.
_ خايفة ادخل البيت ده تاني عشان مفتكرش اليوم ده.
تنهد أكمل وأدار وجهه لينظر إليها للحظة خاطفة قبل أن يعيد تركيزه على الطريق.
_مش من حقك تخافي، اللي حصل ده خلاص ماضي وانتهى وانتي وابننا دلوقت في حضني.
رفعت عينيها إليه أخيرًا وقد لمعت فيهما الدموع.
_ غصب عني والله يا أكمل.
_عارف انه غصب عنك وأوعدك إن طول ما انا عايش مش هسمح لحد يقرب منك. 
ابتسم أكمل ابتسامة دافئة وصلت إلى عينيه، وبدأت خيوط الطمأنينة تنسج نفسها حول قلب صبر شيئًا فشيئًا.
لقد كانوا على وشك الوصول للمنزل وبدا كأن صفحة جديدة وهادئة ستبدأ أخيرًا.
وفجأة شق رنين حاد هذا الصمت الهادئ، رنين هاتف أكمل.
نظر إلى اسم المتصل "مالك" 
_ده مالك بيشوفتنا وصلنا ولا لأ.

رفع الهاتف إلى أذنه
_ أيوة يا مالك.
تغيرت ملامح أكمل في ثواني.
وتحولت الطمأنينة إلى حيرة، ثم إلى صدمة مطلقة.
تجمدت يداه على عجلة القيادة واتسعت عيناه وهو يستمع للكلمات القادمة من الطرف الآخر.

_ إنت بتقول إيه حادثة إزاي طب هما فين دلوقتي....... أنا خلاص داخل على البيت أهو.... مسافة السكة وهكون عندك

أغلق الخط ووجهه شاحب كالأموات توقفت السيارة على جانب الطريق فجأة نظرت إليه صبر بقلق شديد وقد عاد الخوف ليتسلل إلى قلبها من جديد.
_ أكمل في إيه؟ مين اللي عمل حادثة؟
أخذ أكمل نفسًا عميقًا محاولًا استيعاب الكارثة قبل أن ينطق بها.
_ جاسر ونغم عملوا حادثة عربية، وحالتهم خطيرة في المستشفى.
شهقت صبر ووضعت يدها على فمها بصدمة
_جاسر التهامي، ونغم أخت روح؟
تنهد أكمل بثقل 
_أيوة هما أنا لازم أروح المستشفى حالًا، هوصلك البيت الأول وبعدين...
قاطعته صبر بصوت حاسم لم يكن يتوقعه.
_ لأ مش هقعد في البيت لوحدي، أنا خايفة ومش هعرف أقعد ثانية واحدة  خدني معاك.

نظر إليها ورأى الإصرار والخوف الحقيقي في عينيها، لم يكن هذا وقتًا للعناد أو النقاش.
_ مينفعش آخدك المستشفى بالمنظر ده، المكان هيبقى مقلوب ومش حمل توتر زيادة.
_ طب وديني في أي حتة، وديني عند روح ووعد تاني في بيت الرفاعي، بس متسيبنيش لوحدي أرجوك.

فكر أكمل لثانية لقد كان اقتراحها هو الحل الأمثل، ستكون مع روح ووعد في أمان، ولن تكون وحدها.
هز رأسه موافقًا وانطلقت السيارة مرة أخرى تشق ظلام الليل، لكن هذه المرة لم تكن متجهة إلى بيتهما الهادئ، بل إلى قلب العاصفة في سرايا الرفاعي

❈-❈-❈

توقفت سيارة أكمل أمام البوابة الضخمة لسرايا الرفاعي، التي كانت مفتوحة على مصراعيها والأضواء مشتعلة في كل مكان، كأن البيت كله يصرخ من الألم التفت أكمل إلى صبر قبل أن تنزل.
_ أنا مش هتأخر، هطمن وأجيلك على طول خليكي مع روح ووعد ومتتحركيش من هنا.
أومأت صبر برأسها، ونزلت من السيارة وقلبها يخفق بقوة وهي ترى الأنوار الصاخبة، والجو المشحون بالترقب.
دخلت إلى البهو الفسيح الذي كان خاليًا إلا من صوت بكاء مكتوم قادم من ناحية غرفة الجلوس.
سارت نحو الصوت بخطوات حذرة، فوجدت روح تجلس على الأريكة ويبدو عليها التعب.
كانت تبكي وتنفجر في بكاء صامت يهز جسدها كله، بينما كانت وعد ونادية تجلسا على الأريكة تحتضن طفلة روح الصغيرة الذي كانا ينظران إلى والدتهما بخوف صامت لا يفهمان سبب انهيارها
_السلام عليكم..
التفت الجميع ناحية الصوت فأدعت عين روح أكثر وهي تقترب من صبر وتقول ببكاء
_نغم بتموت يا صبر، بتموت وأنا قاعدة هنا زي العاجزة.
احتضنتها صبر بتأثر
_إهدي يا روح وأدعلها أحسن، وبعدين العياط غلط عليكي.
شهقت بالبكاء أكثر
_خايفة عليها جوى ياصبر أنا مليش غيرها.
نهضت وعد وتقدمت منها بتأثر
_متجلجيش عليها، سند طمني وجالي انها كويسة.
_ أنا لازم أروحلها المستشفى لازم أكون جنبها مش هجدر أسيبها لحالها هناك
قالت صبر 
_ اهدي يا روح اهدي أكمل راح وهيطمنا، كلنا قلقانين عليها بس مينفعش نروح كلنا المستشفى ونعمل زحمة
قاطعتها روح بصوت عالي يملؤه الإصرار والألم
_ لأه لازم أروح، هي محتاجاني دلوجت أنا حاسة بيها لازم أروحلها

تدخلت وعد بصوت هادئ رغم القلق البادي عليها
_ يا روح اسمعي كلام صبر عشان خاطر بنتك، وبعدين انتي لسة والدة مكملتيش يومين انتي حتى مش جادرة تجفي على رچلك.

اغمضت روح عينيها بألم
فهي حقاً مجهدة ولن تستطيع التحرك خطوة واحدة
لذا عادت للبكاء مرة أخرى
نهضت نادية وحملت منها قاسم
_هاتيه انيمه وارتاحي انتي.
أومأت لها صبر بامتنان وتركت لها قاسم وجلست بجانب روح لتحتضنها بتأثر
_اطمني متجلجيش ربنا عالم بينا وان شاء الله يقومها بالسلامة
قالت روح ببكاء وألم
_خايفة عليه جوي يا صبر، حاسة روحي بتنسحب مني.

❈-❈-❈

وصل صخر إلى المستشفى كالصاروخ ووجهه متجهم كصخرة صماء.
دخل إلى بهو الطوارئ فرأى تجمعًا بشريًا عرفه على الفور، إنها عائلة الرفاعي كلهم يقفون هناك، وجوههم شاحبة وعيونهم زائغة.
اشتعلت النيران في صدر صخر، فكل مآسي جاسر في رأيه تبدأ وتنتهي عند هذه العائلة، تقدم نحوهم بخطوات عنيفة وصوته خرج كأنه احتكاك حجرين.
_ إنتو إيه اللي جابكم اهنه؟ جايين تشمتوا فيه بعد ما عملتوا عملتكم.

نظر إليه الجميع بصدمة واستنكار، فكلامه كان كالصفعة في وجه حزنهم وخوفهم، حاول مالك أن يرد عليه لكن وهدان الرفاعي أشار إليه بيده إشارة صامتة ليسكت، ثم تقدم هو بنفسه ووقف أمام صخر الذي كان ينظر إليه بتحدي واضح.

_ إحنا اللي عملنا عملتنا برضك يا صخر؟
جاسر معملش حاچة تخلينا نعمل فيه إكدة
اللي بتتكلم عليه ده بقى جوز بنتنا  على سنة الله ورسوله، والغلطة الوحيدة اللي عملها في حقنا، صلحها وبقى جوز بنتنا وصهرنا، هنخاف عليه كيف ما بنخاف عليها.

اشتدت نظرة وهدان وتحولت إلى لهيب حارق وصوته الذي كان هادئًا أصبح كقعقعة الرعد
_ ولو فاكر إنك بالكلمتين دول هتصحي تار قديم نام واندفن، تبجى غلطان عشان التار ده لو صحي المرة دي، أنا مش هتنازل والواحد من ولادي دول بعشرة منك ومن اللي مشغلك، اسمع الكلمتين دول وحطهم حلجة في ودنك، جاسر دلوجت واحد مننا واللي هيمسه يمسنا كلنا.

تراجع صخر خطوة إلى الخلف بشكل لا إرادي، لم يكن يتوقع هذه القوة وهذا المنطق من وهدان، لقد جاء مستعدًا لمعركة لكنه وجد أمامه حائطًا صلبًا من رابطة الدم الجديدة، لم يكن يريد عداءً الآن ليس وهو لا يعرف مصير جاسر، وليس وهو يعلم أن أي عداء جديد يعني أنهم سيبدأون في البحث والتدوير خلفه وخلف أعماله وهذا آخر ما يريده.

ابتلع صخر غضبه وأشاح عينيه في هزيمة مؤقتة
تابع وهدان
_ اللي حوصل حوصل، دلوجت كلنا اهنه عشان نطمن على ولادنا اللي بين الحياة والموت، فبلاش كلام يزود العداء بينا اكتر من إكدة 

صمت صخر تمامًا ووقف بعيدًا  
لم يقف كجزء منهم بل كعدو يراقبهم من بعيد ينتظر خروج الطبيب من غرفة العمليات، ينتظر الكلمة التي ستحدد مصير جاسر ومصيره لو علم الحقيقة.
في هذه اللحظة لم يكن هناك أعداء أو حلفاء كان هناك فقط انتظار ثقيل كأنه جبل وخوف بارد كالثلج يسيطر على قلوب الجميع
_____________

كانت الشمس قد بدأت تفقد حرارتها والظلال تمتد طويلة في الحديقة. 
جلست ونس على أحد المقاعد لكنها لم تكن تشعر بالراحة. 
كانت عيناها معلقتين على شروق التي كانت تسير ذهاباً وإياباً على العشب كحيوان حبيس في قفص، وهاتفها ملتصق بيدها تحاول الاتصال مرة تلو الأخرى دون جدوى.

زاد من قلق ونس حركة غير طبيعية في أرجاء المكان. 
رجال جاسر أولئك الذين اعتادت رؤيتهم كصقور صامتة وهادئة كانوا يتحركون بسرعة وارتباك
همسات متوترة نظرات قلقة وركض من وإلى بوابات المنزل. 
كان هناك شيء ما يحدث شيء كبير وخاطئ.

لم تعد تحتمل نهضت ووقفت في طريق فواز كبير الحراس الذي كان على وشك الدخول إلى سيارته مسرعاً.
_فواز!

توقف الرجل على الفور واستدار نحوها باحترام لكن وجهه كان متجمداً بقناع من القلق حاول إخفاءه.
_أمرك يا ست هانم.

_فيه إيه؟ مالكم رايحين چايين زي اللي في بيته حريجة؟ وجاسر وينه لسة مرجعش ليه؟

حاول فواز التهرب وأشاح بنظره.
_مفيش حاچة يا هانم، شوية شغل تبع البيه وهو زمانه على وصول.

لم تقتنع ونس رأت الكذبة في عينيه، ورأت العرق البارد الذي بدأ يتكون على جبينه خطت نحوه خطوة وتغيرت نبرتها من السؤال إلى الأمر.
_بصلي إهنه يا فواز أني مش بسألك أني بأمرك ولدي ماله؟

ارتبك الرجل وبدأ يتلعثم.
_يا ست هانم... البيه...

صرخت فيه ونس وقد نفد صبرها تماماً، وشعر قلبها ببرودة الجليد تزحف إليه
_البيه ماله؟! انوطج!

تحت ضغط نظراتها الآمرة انهار قناع فواز، خفض رأسه وقال بصوتٍ خرج بالكاد صوت كان بمثابة حكم بالإعدام على روحها
_چاسر بيه... عمل حادثة بالعربية... هو والهانم.

سقطت الكلمات في صمت الحديقة كصخرة سقطت من السماء 
للحظة لم تفهم ونس بدا عقلها وكأنه يرفض معالجة هذه الجملة المرعبة 
"حادثة؟ جاسر؟"

ثم وكأن سداً قد انهار بداخلها بدأت الحقيقة تتسرب، اتسعت عيناها بصدمة مطلقة وبدأ جسدها يرتجف بعنف، رفعت يدها إلى فمها، وخرجت منها شهقة مكتومة، شهقة تحمل كل ألم العالم.

تراجعت خطوة إلى الوراء ثم أخرى وكأنها تحاول الهرب من الكلمات التي قيلت اهتزت الأرض من تحت قدميها، وبدأت الدنيا تدور بها.
_چاسر... ابني...

همست بها بصوتٍ مبحوح صوت أم ترى كابوسها الأكبر يتحقق أمام عينيها.

في تلك اللحظة كانت شروق قد سمعت كل شيء 
سقط الهاتف من يدها وجرت نحو زوجة عمها التي كانت على وشك الانهيار.
_مرت عمي!

لكن ونس لم تعد تسمع شيئاً لقد تحول العالم من حولها إلى ضباب أسود. 
كل ما رأته هو صورة ابنها ضحكته قوته شموخه. 
كل هذا قد يضيع قد يختفي.

أطلقت صرخة مدوية صرخة أم مجروحة في أعز ما تملك، صرخة هزت أركان البيت وجعلت الطيور تطير من على الأشجار.
_ولدي!!!

ثم هوت على ركبتيها وانهارت على الأرض تضرب صدرها بقبضتيها وهي تصرخ باسمه مراراً وتكراراً. 
لم تكن تبكي بل كانت تنتحب بنحيب يقطع نياط القلب لقد سقطت السماء فوق رأسها وتحطم عالمها في لحظة واحدة ولم يعد هناك سوى الظلام، والألم وصورة ابنها الوحيد وهو يصارع بين الحياة والموت.

❈-❈-❈

مر الوقت بطيئًا وثقيلًا كأنه دهر كامل كانت كل دقيقة تمر كسنة وكل ثانية كطعنة سكين في قلوبهم الواقفة في ردهة المستشفى
لم يكن هناك صوت سوى صوت خطوات الممرضات البعيدة، وصوت أنفاسهم القلقة وصوت دقات قلوبهم التي كانت تدق بعنف كأنها طبول حرب.

كانوا يقفون كالتماثيل كل في زاويته الخاصة، وهدان يجلس صامتًا وعصاه بين يديه، وسالم وحامد يقفان بجانبه كأنهما حارسان شخصيان له.
أما مالك وسند فكانا يذرعان الممر ذهابًا وإيابًا غير قادرين على الثبات في مكان واحد 
ووقف صخر بعيدًا عنهم كأنه جزيرة معزولة يراقب باب غرفة العمليات بعينين لا ترمشان.

وفجأة تحرك الباب
توقف الجميع عن الحركة وتجمدوا في أماكنهم حبسوا أنفاسهم، وتعلقت كل عيونهم بالباب الذي انفتح ببطء وخرج منه الطبيب نفسه الذي قابلهم في البداية خلع كمامته وظهر على وجهه إرهاق شديد ممزوج بشيء غامض لم يستطيعوا تفسيره.

اندفعوا نحوه جميعًا في لحظة واحدة وسبقهم صخر الذي وصل إليه أولًا
_ جاسر عامل إيه يا دكتور طمني.

تكلم الجميع في نفس اللحظة أصواتهم متداخلة يملؤها الرجاء والخوف.
_ طمنا يا دكتور

رفع الطبيب يده يطلب منهم الصمت فنظروا إليه بترقب قاتل.
_ الحمد لله العملية كانت صعبة وطويلة بس قدرنا نوقف النزيف الداخلي.
انطلقت زفرة ارتياح جماعية من صدورهم، كأنهم كانوا يغرقون ووجدوا أخيرًا ما يتنفسون به، لكن الطبيب أكمل بسرعة قبل أن يترك للأمل فرصة للنمو.
_ بس ده ميمنعش إن الحالة لسه خطيرة جدًا الأربع وعشرين ساعة الجاية هي أهم فترة، هتحدد كل حاجة هو حاليًا في العناية المركزة تحت الملاحظة الدقيقة وممنوع عنه الزيارة تمامًا.
سأل وهدان بصوت أجش
_ يعني إيه يا دكتور يعني هو هيفوج امتى؟
_ العلم عند ربنا يا حاج وهدان، إحنا عملنا اللي علينا والباقي على ربنا
وعلى قوته.
هو دلوقتي في غيبوبة ومحدش يقدر يعرف هتستمر قد إيه أو هيفوق منها ولا لأ كل اللي نقدر نعمله دلوقتي هو الدعاء.
كانت كلماته كمن يسكب الماء البارد على جمرة أملهم الصغيرة، لقد نجا من الموت لكنه لم يعد إلى الحياة بعد، بل أصبح معلقًا في منطقة رمادية بين العالمين.
سأل سالم بصوت خافت عن ابنته
_ ونغم بنتي أخبارها إيه؟
_ حالتها استقرت نوعًا ما نقلناها لغرفة عادية بس لسه فاقدة الوعي من أثر الصدمة والمسكنات، محتاجين نصبر عليها هي كمان.
شعروا وكأنهم في كابوس لا ينتهي، فكلاهما يرقد فاقدًا للوعي، لا أحد منهما هنا ليحكي ما حدث لا أحد هنا ليجيب عن أسئلتهم، بقيا هما الاثنين سرًا مغلقًا يرقد كل منهما في غرفة منفصلة.
شكر وهدان الطبيب الذي انصرف ليرتاح، وعاد الصمت ليخيم عليهم مرة أخرى، لكنه كان صمتًا مختلفًا لم يعد صمت الترقب بل صمت العجز والانتظار المرير، انتظار معجزة من السماء تعيد إليهم من يرقدون خلف الأبواب المغلقة 

دلفت ونس وشروق للردهة فتجد الجميع أمامها وجوههم لا تبشر مطلقاً 
اوقفت الطبيب الذي تركهم فأسرعت إليه برجاء
_طمني يا دكتور على ابني ومراته.
وجد الطبيب نفسه محاصرًا بين يدي أم مكلومة  نظر إليها بأسف وحاول أن يجمع شتات كلماته ليعيدها مرة أخرى

_ يا امي اهدي أرجوكي أنا لسه جايلهم دلوجتي.
لكن ونس لم تسمعه
_ قايلهم إيه أنا أمه أنا اللي لازم أعرف ابني فين وديني أشوفه حالًا.
وهنا تدخل وهدان بصوته القوي رغم حزنه محاولًا السيطرة على الموقف

_ اهدي يا ام جاسر الدكتور بيجول إن جاسر خرچ من العمليات وحالته مستقرة بس هو في غيبوبة مينفعش تدخلي عنديه.
سقطت كلمة "غيبوبة" على ونس فسقطت هي على أقرب مقعد وانهارت في بكاء صامت يهز جسدها كله لم تعد تقوى على الوقوف أو الكلام

ساد صمت رهيب في المكان لم يقطعه سوى بكاء ونس المكتوم، وشهقات شروق المصدومة 
وقف الجميع عاجزين أمام هول الكارثة التي لم تفرق بين أحد .
لقد ضربت الجميع في أضعف نقاطهم وتركتهم حطامًا متناثرًا في ردهة مستشفى باردة لا يجمعهم سوى الألم المشترك، وانتظار فجر جديد قد يأتي وقد لا يأتي أبدًا.
لم يتركهم أكمل وظل معهم لحظة بلحظة.

***

بينما كانت ونس غارقة في حزنها لمحت بحركة بطيئة قدمين تقفان أمامها رفعت رأسها المنهك، لتجد سالم ومالك يقفان أمامها، وعلى وجهيهما حزن عميق وتعاطف صادق. 
لم تكن هناك نظرة عداوة أو شماتة، بل نظرة إنسان لإنسان يشاركه نفس الألم.

انحنى سالم قليلاً وقال بصوتٍ هادئ وحنون
_يا أم چاسر... اهدي يا حاچة اللي بتعمليه في نفسك ده مش هيفيد ادعيله، ربنا كبير.

لكن كلماته كانت كالزيت الذي يُصب على النار انفجرت ونس في البكاء مرة أخرى بصوتٍ مكسور يملؤه اليأس.
_كيف أهدى؟ كيف أهدى وولدي روحه بتطلع بين إيدين الدكاترة؟ مش هرتاح... مش هرتاح غير لما أشوفه بعيني.

أضاف مالك بنبرة محترمة رغم الألم الذي كان يعتصره هو الآخر
_يا حاچة الدكتور جال الساعات اللي چاية صعبة مفيش في إيدينا غير الدعاء.

تدخل سالم مرة أخرى، مقترحاً حلاً عملياً يحمل في طياته لمسة من الرحمة.
_طيب اسمعيني... ادخلي عند نغم في أوضتها ليل وورد چوا معاها اجعدي معاهم، وأول ما يخرج الدكتور ويطمنا على چاسر هنيچي ونخبرك على طول أهوه تبقي چنب نغم تطمنيها وتطمنك.

عند ذكر اسم "نغم" انتفضت ونس وكأنها كانت قد نسيت وجودها في خضم صدمتها بابنها اتسعت عيناها بقلق جديد.
_نغم... هي... هي كيفها؟ چرالها إيه؟

أجاب سالم بحزن
_تعبانة يا حاچة بس الحمد لله حالتها مستقرة هي في أوضة عادية، بس لسة مفاجتش من أثر الحادثة.

في تلك اللحظة شعرت ونس بموجة جديدة من الألم. 
نغم... ابنتها التي لم تلدها الفتاة التي أعادت النور إلى حياتها وحياة ابنها لا يمكن أن تخسرها هي الأخرى.

ساعدتها شروق على النهوض وسندتها وهي تسير بخطوات ثقيلة نحو الغرفة التي أشاروا إليها، فتحت شروق الباب بهدوء ودخلت ونس أولاً.

كان المشهد في الداخل يدمي القلب 
كانت نغم راقدة على السرير شاحبة الوجه وهناك ضمادة صغيرة على جبينها كانت تبدو كزهرة رقيقة قد داستها عاصفة هوجاء. 
ليل وورد تجلسان بجانبها تقرآن القرآن بصوتٍ خافت.

ما إن رأت ونس نغم بذلك الحال حتى شعرت بخنجر آخر يغرس في قلبها لم تعد هذه زوجة ابنها، بل ابنتها بكل ما تحمله الكلمة من معنى هي التي عوضتها عن سنوات الوحدة، هي التي أذابت جليد قلب ابنها وأعادت إليه إنسانيته مستحيل... مستحيل أن تخسرها هي الأخرى.

تقدمت بخطوات مرتعشة وجلست على حافة السرير من الجانب الآخر. 
مدت يدها المرتجفة ومسحت على شعر نغم بحنان أمومي خالص، ثم انحنت وقبلت جبينها قبلة طويلة دافئة.

وبينما هي قريبة منها، سمعت همساً خافتاً يخرج من بين شفتي نغم اللاواعيتين، همساً بالكاد يُسمع لكنه اخترق قلب ونس كالسهم.
_"جاسر..."

هنا، لم تعد ونس قادرة على التحمل انهمرت دموعها مرة أخرى، لكنها هذه المرة كانت دموع حب وألم وأمل. 
انحنت وهمست لها بصوتٍ يرتجف من الوجع
_هيرچعلك يا جلب أمك... هيرچع جاسر جوي، وهيتحدى الموت عشانك.

شعرت ورد بمدى الألم الذي تعانيه ونس فقامت من مكانها واقتربت منها ووضعت يدها على كتفها تربت عليها بحنان.
_اهدي يا أم چاسر... إن شاء الله هيبقوا زينين ربنا مش هيضيع صبرنا.

ثم قالت بنبرة قوية ومليئة بالإيمان، موجهة حديثها للجميع
_تعالوا... تعالوا نتوضى ونصلي كلنا نصلي وندعي بنية شفاهم ونجاتهم. مفيش في إيدنا دلوجت حاجه غير رحمة ربنا.

في تلك الغرفة الصغيرة اجتمع قلب أم وقلب أخت، وقلب زوجة عم، وقلب أم لعدو الأمس، وضرة تراجع حسباتها، اجتمعوا جميعاً تحت راية واحدة: 
راية الدعاء والأمل في انتظار معجزة تعيد إليهم أحباءهم من على حافة الموت.

لكن لم يكن هناك وقت للعداوات أو للدهشة فالخوف كان أكبر من كل شيء.
ـــــــــــــ

وقفت شروق عند باب الغرفة، لم تدخل بالكامل كانت تقف على العتبة، لا تنتمي إلى الداخل مع النساء المتوحدات في دعائهن، ولا إلى الخارج في ممر الرجال المليء بالترقب والغضب الصامت كانت في برزخ خاص بها، تشاهد المسرحية المأساوية التي كتب فصولها والدها بدم بارد.

من زاوية رؤيتها كانت ترى كل شيء ترى زوجة عمها ونس منهارة تحتضن يد نغم فاقدة الوعي، وكأنهما أم وابنتها يواجهان نفس المصير. 
ترى والدة نغم وعمتها التي لم تعرفها  يواسيان أم عدو الأمس.
ترى رجال أبيها ورجال الرفاعي يقفون على طرفي نقيض في الممر، لكن الحزن والخوف كان قاسماً مشتركاً على وجوههم جميعاً إلا والدها حزنه في فشل مهمته.

وفجأة ضربها السؤال بقوة لم تعهدها من قبل.

عشان إيه؟

عشان إيه كل ده؟ عشان إيه كل هذا الدمار؟

نظرت إلى وجوه الرجال في الممر رجال أقوياء جبابرة في أراضيهم، يقفون الآن عاجزين ينتظرون كلمة من طبيب ليحدد مصير أبنائهم نظرت إلى النساء في الغرفة، قلوبهن تحترق ودموعهن لا تجف.

عشان إيه؟

هل يستحق المال كل هذا الألم؟ هل تستحق الأرض أن تُروى بدم الأهل؟ هل تستحق السلطة أن تُبنى على أنقاض القلوب المحطمة؟

لأول مرة في حياتها رأت شروق حقيقة عالمها عارية من أي زيف عالم قائم على الكراهية والطمع، والرغبة في السيطرة. 
عالم ظنت أنها جزء منه بل أميرته القادمة لكنها الآن وهي ترى النتيجة الحقيقية لهذه "الإمارة"، شعرت بغثيان عميق.

تذكرت والدها، وهو يتحدث بقوة في الهاتف يأمر بقتل ابن أخيه ببرود، وكأنه يأمر بذبح خروف. 
تذكرت والدتها وهي تحرضه وتطالبه بالمزيد من القسوة. 
تذكرت نفسها وهي تبكي وتغضب لأن جاسر اختار أخرى ولم تفكر يوماً في الثمن الذي قد يدفعه الجميع.

في تلك اللحظة كرهت كل شيء.

كرهت والدها الذي علمها أن القوة هي كل شيء، كرهت والدتها التي زرعت فيها الحقد والغيرة كرهت المال الذي لم يجلب سوى الخراب. 
كرهت السلطة التي أكلت قلوبهم وحولتهم إلى وحوش.

وفهمت أختها "زينة" فهمت لماذا هربت بعيداً عن هذا الجحيم زينة لم تكن جبانة بل كانت الأكثر شجاعة لقد رأت الحقيقة قبلهم جميعاً، واختارت أن تنقذ نفسها.

شعرت شروق بأنها غريبة، دخيلة على هذا المشهد هي ابنة القاتل تقف بين ضحاياه. 
لا مكان لها هنا لا مكان لها في عالم جاسر الذي كادت أن تدمره بغبائها وغيرتها لا مكان لها في هذه العائلة التي لم تعد تعرفها.

تراجعت بهدوء، خطوة خطوة، حتى خرجت من مدى رؤيتهم لم يلاحظها أحد فالجميع كان غارقاً في مأساته.

سارت في الممر الطويل الفارغ وأحست بأنها تسير بعيداً عن حياتها القديمة كلها لقد رأت الثمن والثمن كان باهظاً جداً.

يجب أن ترحل.

❈-❈-❈

في صباح اليوم التالي كان قد ذهب الجميع بأمر من الطبيب وظلت ليل مع ابنتها وكذلك ونس التي لم يستطع أحد إقناعها بالعودة.

في غرفة نغم..

كانت نغم تسبح في محيط أسود لا قرار له محيط من اللاوعي كان هادئًا ودافئًا ومريحًا لم تكن تريد أن تغادره أبدًا.
لكن كانت هناك أصوات تخترق هذا السكون أصوات حادة كشظايا الزجاج المكسور تتكرر في رأسها كصدى مشؤوم..

مات...
لا لسه بيتنفس....
اطلبوا الإسعاف حالًا....
صوت ارتطام عنيف.....
رمى نفسه عليها عشان يحميها......

كانت هذه الكلمات تطاردها في الظلام تجبرها على أن تتذكر ما لا تريد تذكره.

كانت ترفض العودة إلى الواقع ترفض الاصطدام ببشاعته، حاولت أن تغوص أعمق في محيط الظلام أن تختبئ في سكونه الأبدي، لكن ألمًا حادًا في صدرها كان يعيدها إلى السطح، ألم جعلها تئن بصوت خافت متقطع..

حينها شعرت بشيء دافئ يمسك بيدها شعرت بلمسة حانية، وأصوات أخرى تعرفها أصوات من عالم النور عالم الواقع الذي تهرب منه..

_نغم يا حبيبتي فوجي يا بنيتي عشان خاطري..
كان هذا صوت أمها صوت يملؤه القلق والحب.

_نغم فوجي يا بنيتي محتاجالك.
وهذا صوت ونس صوت يرتجف من الخوف.

كانتا تحاولان سحبها من محيطها المظلم إلى عالمهما المؤلم، لكنها كانت تقاوم لا تريد العودة لن تتحمل قسوة الخبر الذي ينتظرها هناك.
كانت تعرف أن هناك شيئًا فظيعًا قد حدث، شيئًا يتعلق بكلمة 
مات...
وشيئًا يتعلق بالرجل الذي رمى نفسه عليها ليحميها...

فتح باب الغرفة بهدوء ودخل الطبيب الذي اقترب من سرير نغم وفحص مؤشراتها الحيوية ثم نظر إلى ونس وليل
_هي بتستجيب وده كويس جدًا لازم تفضلوا تتكلموا معاها، لأن شكلها رافضة الواقع خالص..

أمسكت ليل بيد ابنتها الباردة وتكلمت بصوت يائس.
_نغم عشان خاطري فوجي أنا محتاچالك جوي، متسبينيش لحالى مجدرش أعيش من غيرك أنتِ وأختك.

شعرت نغم بدموع أمها الساخنة تسقط على يدها، وشعرت بكلماتها تخترق حصونها شيئًا فشيئًا لم تعد تستطيع المقاومة أكثر، الألم في صدرها يزداد والأصوات الحنونة تناديها بإصرار

فتحت عينيها ببطء شديد كان الضوء ساطعًا ومؤلمًا
أغمضتهما وفتحتهما مرة أخرى فرأت وجه أمها الباكي ووجه ونس القلق يطفوان فوقها كأنهما حلمان بعيدان..

نطقت ليل بلهفة
_نغم حبيبتي أنتِ سامعاني
حاولت نغم أن تتكلم لكن لم يخرج من حنجرتها سوى صوت أجش ضعيف،
حركت شفتيها بكلمة واحدة، سؤال واحد، كان يحوم في رأسها منذ أن بدأت تستيقظ.
_جاسر

تجمدت ملامح ليل وونس وتبادلتا نظرة سريعة مليئة بالألم والحيرة،
ماذا يقولان لها
كيف يخبرانها بالحقيقة القاسية، وهي في هذه الحالة الضعيفة.
لم تكونا تعرفان أن سؤالها هذا ليس عن حالته، بل هو محاولة يائسة لتكذيب الصوت الذي يتردد في رأسها ويقول مات..

بدأت تعود نغم إلى عالم الواقع على دفعات كمن يصعد من أعماق المحيط نحو سطح عاصف.
كان أول ما استقبلها هو الألم، ألم حاد نابض في ضلوعها يذكرها مع كل نفس بأن جسدها قد تحطم، ثم جاءت الأصوات واضحة هذه المرة صوت بكاء أمها المكتوم وصوت أنفاس ونس المتسارعة.
فتحت عينيها بالكامل وثبتت نظراتها الضائعة على وجه أمها
_ أمي.
_ حبيبتي حمد لله على سلامتك يا روح جلبي.

لكن نغم لم تكن تهتم بسلامتها، كان هناك سؤال واحد فقط يحترق في عقلها، سؤال يجب أن تعرف إجابته وإلا سيموت كل شيء بداخلها، نظرت إلى ونس ثم إلى أمها وكررت الكلمة التي نطقتها قبل أن تغيب عن الوعي لكن هذه المرة كانت نبرتها تحمل كل رجاء العالم وكل رعبه بصوت متهدج.
_ جاسر..... جاسر...... فين؟

ساد صمت مريع في الغرفة، صمت لم يدم سوى ثواني لكنه كان أبديًا.
تجمدت ملامح ليل بينما أشاحت ونس بوجهها غير قادرة على مواجهة نظراتها.
كان هذا الصمت هو الإجابة التي كانت تخشاها.
اخترق الرعب قلبها كشفرة جليدية.
لا مستحيل، لا يمكن أن يموت ويتركها هكذا، لا يمكن أن تكون آخر كلماتهما معًا كلمات غضب وخيبة أمل، لا يمكن أن يرحل وهي مدينة له بحياتها.
_جاسر....فين؟
صمتهما المستمر كان يقتلها، شعرت بأن الجدران تطبق عليها وأن الهواء ينسحب من الغرفة.
_ مستحيل مستحيل يموت ويسيبني بعد ما زعلته مستحيل.
حاولت أن تنهض أن تنتزع الأجهزة الموصولة بها، لكن حركة بسيطة أرسلت موجة من الألم المبرح عبر صدرها، فانطلقت منها صرخة ألم حقيقية صرخة ممزوجة باليأس
_ آآآه.
قالت ليل بلهفة
_اطمني جاسر كويس بس هو في العناية دلوجت.

كانت كلمة "العناية" هي الشرارة التي أشعلت حريقاً من اليأس في روح نغم. 
لم تسمع كلمة "كويس" في قاموس المستشفيات. 
"العناية" تعني أن الروح معلقة بخيط رفيع بين الحياة والموت.

_لأ... لأ... بتكدبوا عليا...
همست بها بصوت متقطع وهي تهز رأسها بعنف نظرت إلى وجه أمها إلى وجه ونس رأت الشفقة وهذا أكد لها أسوأ مخاوفها إنهم يخفون عنها الحقيقة.

_مستحيل... مستحيل يموت ويسيبني مش هسمحله..

قد لا تراه مرة أخرى ليسمع كلمة "آسفة" هذا الإحساس بالذنب كان أقوى من أي ألم جسدي كان سماً ينهش روحها
_هو عمل أكده عشان ينقذني... أنا السبب... أنا اللي جتلته...

اندفعت ليل نحوها.
_يا بنتي حرام عليكي نفسك! اهدي يا جلب أمك
دلف طبيب آخر ليتفاجئ بما يحدث
_في ايه يا جماعة ازاي تسبوها تتحرك كدة.
ردت ليل
_عايزة تروح لجوزها تطمن عليه

قال الطبيب بقلق
_يا مدام نغم لو اتحركتي تاني هتأذي نفسك أكتر! الضلع المكسور چنب الرئة، أي حركة غلط ممكن تعمل كارثة!

لكن نغم لم تكن تسمع كانت دموعها تنهمر كشلال حارق.
_لازم أشوفه... ودوني له... لازم أتأكد بنفسي...
وافق الطبيب أمام ذلك الإصرار وإن ذهابها إليه أفضل من انهيارها وحركتها التي تضرها أكثر.
قال للممرضة
_هتلها كرسي وخليها....
قاطعته نغم وهي تهز رأسها برفض قاطع ونظرت إليهم بعينين تقدحان ناراً من الإصرار والألم.
_لأ... مش هركب حاچة هروح له على رجليا.

صاحت ليل
_إنتي اتچننتي يا نغم! كيف هتمشي وأنتي إكده؟

نظرت نغم إلى أمها وفي صوتها كان هناك قوة غريبة قوة ولدت من رحم الألم قوة استدعتها من ذكرياتها معه
_هو... هو اللي علمني أكون جوية. علمني مواجهش ضعفي بالهروب مش هروح له وأني ضعيفة ومكسورة على كرسي هروح له واجفة.

كانت كلماتها جنوناً لكنه كان جنوناً منطقياً بالنسبة لها. 
أن تذهب إليه محمولة يعني أنها تعترف بالهزيمة وهو لم يعلمها الهزيمة قط.

في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة ودخل عمها سالم توقف مكانه وهو يرى المشهد: نغم تحاول الوقوف والطبيب وأمها يحاولان منعها ووجهها شاحب كالموتى لكن عينيها تشتعلان حياةً وإصراراً.
_فيه إيه؟ إيه اللي بيوحصل إهنه؟

قالت نغم بصوتٍ يرتجف من الألم والإصرار، موجهة حديثها لعمها
_عايزة أروح لچاسر يا عمي وهروح له على رجليا.

نظر سالم إلى الطبيب الذي هز رأسه برفض، ثم نظر إلى ابنة أخيه رأى في عينيها شيئاً مختلفاً لم يرى عناداً طفولياً بل رأى قوة امرأة تحارب من أجل رجلها. 
رأى فيها صدى من قوة جاسر نفسه وأدرك أنها لن تتراجع.

تقدم نحوها بخطوات ثابتة وتجاهل كل الاعتراضات وقف أمامها، وقال بهدوء وحسم
_هتروحي له على رجليكي.

ثم استدار نحو الطبيب.
_جهزوا اللازم وأني هسندها المسؤولية مسؤوليتي.

تحت نظرات الجميع المصدومة، انحنى سالم وساعد نغم على الوقوف ما إن استقامت قامتها،د حتى أطلقت أنيناً طويلاً مكتوم وشعرت وكأن ألف سكين تخترق صدرها. 
أمسكت بذراع عمها بقوة تكاد أظافرها تنغرس في لحمه كانت ترتجف بالكامل والعرق البارد يغطي جبينها.

ووضع سالم يدها الأخرى بين يده وذراعه الآخر هو حول خصرها، ليحمل معظم وزنها.
_جاهزة يا بت أخوي؟

أومأت برأسها ودموع الألم تختلط بدموع الإصرار.

وبدأا المسيرة كانت أبطأ وأقسى مسيرة في حياتها كل خطوة كانت جحيماً كل نفس كان حريقاً في صدرها كانت تسير وهي تبكي بصمت، لا من الضعف بل من شدة الألم كان عمها يسير معها بنفس البطء، صامتاً، قوياً، يقدم لها الدعم الجسدي والمعنوي الذي تحتاجه.

كان مشهداً مهيباً ومؤلماً ابنة الرفاعي تسير متحدية الموت لترى عدو الأمس، ابن التهامي مسنودة على كتف عمها الذي كان يوماً ألد أعدائه. 
لقد محا الألم كل الخطوط ولم يترك سوى رابطة إنسانية قوية ورغبة امرأة في الوصول إلى الرجل الذي أصبح روحها، حتى لو كان الثمن هو تمزيق جسدها خطوة بخطوة.
كان هناك ألم واحد فقط تشعر به ألم الخوف عليه.
عندما وصلوا إلى باب العناية المركزة توقفوا أخذت نفسًا عميقًا ودفع عمها الباب.

كان راقدًا هناك في منتصف الغرفة كجبل هادئ بعد عاصفة مدمرة
سرير أبيض وجسد عاري الصدر، موصول بشبكة معقدة من الأنابيب والأسلاك.
كانت الأجهزة من حوله تصدر أصواتًا منتظمة، هي الدليل الوحيد على أنه لا يزال على قيد الحياة، كان وجهه شاحبًا، وعيناه مغمضتين، وهناك كدمة كبيرة على صدغه.

بصعوبة وألم لا يحتمل سارت نحوه بخطوات بطيئة متعثرة تسندها الممرضة التي أخذتها من يد سالم

كل خطوة كانت أصعب من التي قبلها، وقفت بجانب سريره ولم تعد قادرة على التحكم في دموعها
انهمرت بصمت وهي تتأمل الرجل الذي كان قبل ساعات كتلة من الغضب والقوة، والآن هو كتلة من السكون والضعف.
انحنت نحوه ويداها ترتجفان وهي تمدها لتلمس يده الباردة.
_ جاسر.... أنا آسفة....
كانت الكلمة أثقل من الجبال.
_ أنا السبب..... أنا اللي عملت فيك اكده، مكنش المفروض أكسر كلامك... مكنش المفروض أزعلك سامحني.... عشان خاطري سامحني....

كانت تريد أن تضع رأسها على صدره لكن الألم يزداد مع كل حركة وكل نفس.
كانت شهقاتها تهز جسدها المتألم
_ متسبنيش..... سامع أوعى تسيبني.... وتمشي...... لو عملتها......لو اتخليت عني دلوجت..... أنا عمري ما هسامحك.... ارچعلي يا جاسر أنا محتاچالك ارچع عشاني
تعليقات



<>