رواية المراة الرمادية الفصل الثالث3والاخير بقلم جراب الراوي

رواية المراة الرمادية الفصل الثالث3والاخير بقلم جراب الراوي

عم عبد الجواد وشه اتقلب…
بقى لونه أصفر كأنه اتسمّم.
قالي: 

" انا تعبت من الكتمان وحاسس إن النهاية قربت "
أخد نفس عميق وبعدين قال : 

"يا ابني… الحكاية حصلت من 10 سنين.
ست اسمها سماح… كانت جاية من قرية جنبنا.
ست غلبانة على باب الله … وجوزها مات وملهاش حد ..
سكنت في  شقة صغيرة في العمارة القديمة اللي قصادك.
وفي يوم… ابنها تعب ."

ـ "تعب إزاي؟"

رد وهو بيبلع ريقه:

ـ "سخونية.
و نزلة برد.
أهل البلد قالولها: وديه الوحدة الصحية… عشان يلحقوه."

الكلمة دي جرحتني…
كأنها اتقالت مخصوص عشاني

ـ "راحت الوحدة…
الدكتور المناوب وقتها كان الدكتور صابر نفسه .
كان شاب متهور… ومكروه."

ـ "حصل إيه؟"

عم عبد الجواد قالها بغصّة:

ـ "الولد مات في إيده.
مات من حقنة غلط ..
والدكتور خاف.
وخلى المغسّل يخلّص الموضوع بسرعة…
وغسّلوا الطفل من غير ما الأم تشوفه…
ودفنوه من غير تصريح... 
حتى محدش عارف دفنوه فين...
ومن غير ما يعرفوا الأم حتى."

سكت… كأنه خايف يكمل.

ـ "والأم؟"

رد بصوت مرتعش:

ـ "الأم معرفتش.....
بعتوها تشتري علاج وهمي من صيدلية بعيدة بحجة إن الأدوية ناقصة في الوحدة ..
ولما رجعت الوحدة  تدور عليه…
قالولها  " انتي استلمتي ابنك وانتي خارجة... ابنك خرج معاكي "

سكت تاني.
سكتة طويلة تقطع القلب.

وبعدين كمل :

ـ " الست طلعت تجري في الشوارع…
تدور عليه .. وفضلت تصرخ و تعيط أيام وليالي ..
لحد ما في ليلة 

سمعنا صرخة.
ولقيناها مرمية قدام العمارة القديمة …
ميتة....
ولاد الحلال عملوا اللازم ودفنوها في مقابر الصدقة "

أنا قعدت مُتسمّر…
عقلي بيصرخ:
" يعني اللي لتظهر لي دي ست ميتة ..." 
" لكن ليه أنا؟
ليه بتظهرلي؟"

عم عبد الجواد قال:

ـ "ظهرت قبل كده…
للدكتور صابر بعد شهرين…
ومن ساعتها وهو بيحصل له أعراض غريبة ..
والمغسّل....
لقوه في غرفة الغُسل… وشه متشوه.
ومحدش قدر يعرف حصله إيه."
والناس في البلد.... فضلوا يجيبوا شيوخ والآخر ...
اتفقوا يقفلوا العمارة كلها…
علشان الست كانت بتظهر عندها.
والكلام مات على كدة ...
بس واضح إنها رجعت."

الليلة الأخيرة… اللي خلت النهاية واضحة

كنت ناوي أهرب من البلد.
خلاص…
وصلت لمرحلة إني أشوف الموت أهون من استمرار الرعب ده.

حزمت حاجتي…
وفتحت باب الشقة عشان أنزل.

لقيت الست واقفة عند أول السلّم.

وشها قريب جدًا…
وعنيها الرماديين ميتحركوش…
سابت لي. مسافة لكن جسمها ثابت زي حجر.

قالت:

" تعالى."

كان صوتها مش طالع من فمها…
الصوت كان جاي من ضهرها…
من جوه جسمها…
كأنه في روح تانية بتتكلم بدلها.

ـ "ابني…
هو هنا."

نزلت وأنا بموت من الخوف…
 رجليّا بتتحرك غصب عني.
مشيت وراها كأني مسلوب الإرادة ..
و هي مشيت قدامي…
لحد باب العمارة القديمة…
اللي مقفول بالجنازير.

مدّت إيدها…
ومجرد ما لمست الحديد…

الجنازير اتفتحت لوحدها.

دخلت…
وأنا وراها.
العمارة من جوه مليانة غبار… وسقف واقع… ورائحة موت.

قالت:

ـ "اسألهم…
مين غسّل."

وفجأة…وفجأة…

إيدها اترفعت.
مش بإرادتها…
اترفعت زي ما تكون حد ماسكها من فوق زي عروسة خشب… وبتشاور.
صابعها العضم اللي تحت الجلد الرمادي… اتوجه نحية حيطة متشققة، عليها طبقة تراب سميكة وطوب واقع.

حيطة فاضية.
لكن أنا حسّيت… إن في حاجة وراها.
حاجة مستنِّياني أنا بالذات.

قربت رجلي خطوة…
التانيّة…
وكل ما أقرب، صوت قلبي بيعلى أكتر من صوت أنفاسي.

لقيت تحت الحيطة… كتلة تراب متكوّرة بشكل غريب، زي ما يكون الأرض اترفعت من تحتها قبل كده… وترجع تهدى تاني.

الست بصوت متقطع جاي من جوة ضهرها قالت:
“ابني نايم … هنا ..دفنوه هنا "

الكلمة جرحت وداني…
رجليّا اتخلخلت.
بس معرفش ليه… لقيت نفسي بنزل على ركبتي وبمد إيديا في التراب.

كنت بحفر.
زي مجنون.
زي واحد بيدوّر على نفسه مش على طفل.

إيديا اتعورت…
أظافري اتكسرت…
والتراب دخل تحت جلدي ..

وفجأة…
صوابع إيدي خبطت في حاجة ناشفة.

خشب.
كأنه صندوق صغير متآكل.

جذبته…
فتحته…

ولقيته.
عظام صغير.
رفيع… هش…
ملفوف بقميص أزرق باهت… زرايره فضي بس متآكلين ومصدّيين.

القميص نفس اللي كان على المخدة عندي..

نفس الطفل اللي قعد على سريري على هيئة تُراب.

أنا تخنقت…
والدموع نزلت غصب عني.

قربت الست.
بهدوء… ومدت إيديها…

وخدت الرفات.

الموضوع ما خدش ثانيتين.
مجرد ما الرفات لمس جسمها، التراب اللي عليها وقع زي غبار سنين بيتنفض…
وشكلها اتغير للحظة…
مش بقيت حلوة أو واضحة…
بس بقي فيها ملامح "بشرية".
كأنها أخيرًا… ارتاحت.

خرجت وشايلة الرفات على ايديها ..
وخرجت أنا وراها.

كانت بتمشي في الشارع بالليل…
متكوّنة من ضل وريحة تراب، وأنا بتبعها زي طفل بيتبع أمه أول مرة يشوفها.

وصلت لبوابة المقابر.
ما حدش لمسها…
اتفتحت لوحدها.

دخلت.
وأنا وراها.

كانت ماشية بخطوات ثابتة…
كأنها حافظه الطريق كويس…
لحد ما وقفت قدّام قبر بسيط في مقابر الصدقة ..
قبر ما عليهش غير طوبة كبيرة، من غير شكل.

هي حطت الرفات…
بس أنا ما شوفتش إزاي.
اللحظة دي اختفت من عيني.
زي ما يكون المشهد اتقص من ذاكرتي بالعافية.

لفت وشها 
 وانا كنت واقف بعيد شوية…
بتبص لي.

نظرتها ما كانتش غضب.
ما كانتش رعب.

كانت شكر.
بس من نوع تاني…
شكر حزين.
شكر منهك، مكتوم، زي أم بتبوس ابنها آخر مرة.

وبعدين…
اختفت.
مش طارت…
مش مشت…
اختفت زي ما الهواء بيختفي من أوضة مقفولة.

أنا وقفت…
رجلي سايبة…
قلبي بيخبط…
رميت عيني على القبر…
قربت…

لقيت مكتوب عليه بخط محفور بدقة رغم التراب:

المرحومة / سماح عبد الحميد
وتحتها:
الطفل / يوسف 

والتاريخ… من عشر سنين.
طيب مين كتب اسم الطفل على الشاهد ...وهو ماكانش مدفون هنا اصلا ؟؟!!

ساعتها…
عرفت إن اللي شُفته مش كابوس.
ولا خيال.
ولا هلاوس.

دي جريمة.

جرّمت سكوتهم.
جرّمت الرعب اللي عاشته.
جرّمت حق طفل اتدفن غصب … وحق أم ماتت تدور عليه.

قعدت قدام القبر…
ولقيت نفسي بقول بصوت واطي:

“أنا مش هسكت.”

وأنا حالف… زي ما الطبيب بيعاهد نفسه أول يوم في المهنة.

أول مرة…
حسّيت إن الخوف مش العدو.
الظلم هو العدو.

أنا باكتب الكلام ده وأنا مستني الصبح يطلع…
علشان أروح النيابة…
وأفتح بلاغ رسمي بالجريمة.
ما يهمنيش لو قالوا عليّ مجنون.
ما يهمنيش لو حد حاول يوقفني.

في أم رجعت لابنها…
وأنا لازم أرجّع حقهم.
.......
وده كان أول باب اتفتح بيني وبين المرأة الرمادية… 
                   تمت
                   

تعليقات



<>