رواية علي دروب الهوي الفصل التاسع والاربعون49 الاخير بقلم تسنيم المرشدي

رواية علي دروب الهوي الفصل التاسع والاربعون49 الاخير بقلم تسنيم المرشدي
الخاتمة 
يابني إيه اللي أنت عملته دا؟ قوم راضيها، وإحنا هنمشي.. 
هتفها قاسم بضيقٍ لما أحدثه عبدالله، كاد يقف لكن عبدالله بادر بالوقوف وردَّ عليه: 
_ أنا راجع لكم، محدش يمشي، الموضوع دا لازم يتحط له حد!! 

قالها ثم أولاهما ظهره وتوجه إلى الغرفة التي اختفت خلفها صبا، بينما لم تتمالك زينب عبراتها التي تسارعت في النزول وهتفت ناعتة نفسها:
_ أنا السبب، ياريتني ما اتكلمت، ياريتني رفضته من نفسي ومكنش دا حصل!! 

أخرج قاسم زفرةً مهمومة قبل أن يُردف: 
_ أنا من الأول قولتلك الموضوع هيكون حساس جدًا، وأنتِ طلاما واجهتي يبقى تكملي للآخر، واللي حصل دا غلطة عبدالله مش غلطتك أبدًا، لأنه مهما حصل مكنش ينفع يقول كدا لصبا وخصوصًا قدامنا.. 

نظرت إليه زينب كغريقٍ يتعلق في قشٍ، بينما أشار إليها قاسم بأهدابه أن تهدأ، فحاولت إسكات صوتها الداخلي الذي لا يكُف عن اللوم. 

في الداخل؛ ولج عبدالله الغرفة فوجدها جالسة على طرف الفراش تستند بكفيها على الغِطاء، تُحدق أمامها في صمتٍ مريب، أغمض عينيه وأطلق زفرةً قوية لِيُخرج شُحنته السلبية ثم تابع خُطاه نحوها، جاورها في الجلوس وحدق أمامه دون حديثٍ لوقت. 

يُرتب كلماته قبل إخراجها حتى لا يزداد الأمر سوءًا، تنهد ثم التفت برأسه ورمقها أولًا وتحدث بصوتٌٍ نادم: 
_ والله العظيم من غِيرتي اتكلمت كدا.. أنا آسف، حقك عليا...
بس حُطي نفسك مكاني، لو جيت اتكلمت قُصادِك عن واحدة غيرك وبمدح فيها هيكون إيه رد فِعلك؟ 

_ هغير أكيد.. ومش هتقبل الكلام
تمتمت بها صبا، فشعر عبدالله بطوق نجاته في كلماتها وردد: 
_ شوفتي؟!، ودا بالظبط اللي حصل معايا!!

أدارت صبا رأسها وبملامحٍ حزينة همست بنبرةٍ مهزوزة: 
_ بس مش هجرحك بالشكل دا قدام حد، وهحاول أحكِم عقلي وأمسك لساني قبل ما يزعلك.. كنت هغِير بس بطريقة لا تقلل منك ولا تجرح قلبك

هبّت صبا واقفة واسترسلت بصوتٍ مرتفع قليلًا: 
_ على فكرة بقى، بعيدًا عن الغيرة والكلام دا، اختك مش هتلاقي واحد يصونها زي عاصم، أنا فِضلت في بيته مُعززة مُكرمة مِتصانة، راجل وِفَى بوعده معايا.. 

_ خلاص يا صبا.. 
صاح بها عبدالله قبل أن ينتفض من مكانه غير مُتقبلًا كلامها، فتابعت هي دون توقف: 
_ لا مش خلاص، أنا عشان بحب زينب وعيشت معاها تجربتها الأولى عايزاها تعيش حياة كويسة مع إنسان كويس بيفهم وهيراعي ربنا فيها 

_ اسكتي بقى، بطلي تجيبي سيرته قدامي، بتجنن.. 
تكلم بصوتٍ جهوري، اهتزت له الجدران من شدته، فصرخت صبا بما لديها: 
_ أنت متعرفش أنا بعيش تأنيب ضمير إزاي كل ما افتكرت إني بوظت لعاصم حياته مقابل إنه وافق يتجوز واحدة من غير أي ترتيب ولا حتى فكر في العواقب وقتها... 

_ ششش، اسكتي اسكتي مش عايز أسمع كلامك دا 
ارتفع صوته المُنفعل كأن الغضب قد دفع بكلماته دفعًا، ظل يصرخ وهو يضرب الحائط بيده فصمتت صبا عندما وجدته خرج عن طوره، وأسرعت نحوه مُحاولة إيقافه بإبعاد يده عن الحائط: 
_ خلاص عشان خاطري، أنت هتإذي ايدك كدا 

ولكن هيهات لغضبه الذي يريد أن يُفرغه حتى لا يقتل أحدهم، فاضطرت صبا للوقوف أمامه ُمشكلة حاجزًا بينه وبين الحائط وأثناء وقوفها لكم عبدالله وجهها دون قصدٍ فرفعت صبا كِلتى ذراعيها تحمي بهما وجهها من لكماته. 

حينذاك توقفت يدي عبدالله، ولعن نفسه حينما أدرك أن تسرعه وتصرفاته الغير محسوبة كانت سببًا في إيذاء صبا، وزاد آلمه حين رآها تقف أمامه تُحاول حماية نفسها منه، وكأن خوفها منه خنجرًا قد غرس في قلبه. 

جذبها إليه مُحاولًا إدخالها إلى صدره، فكانت صبا مُتجمدة مكانها، وبندمٍ شديد ظل يعتذر مُرارًا وهو يُقبل رأسها: 
_ أنا آسف، والله ما كنت أقصد، حقك عليا..

أزاح يدها عن وجهها فوجد أثرًا على وجهها إثر لكمته، فتشنّجت تعابيره وعض شِفاه بعنفٍ انتقامًا لها من نفسه، هاتفًا بشجنٍ وصوتٍ مهزوز:
_ ياريتها كانت اتقطعت ولا اتمدت عليكي 

وأخذ يُقبل وجهها مكان لكمته، فتراجعت صبا للخلف ثم توجهت بِخُطى هزيلة إلى الفراش فَتَبِعها عبدالله بعينه حتى جلست وقالت وعينيها مُثبتة على الأرض: 
_ لو سمحت سيبني لوحدي.. 

رفض عبدالله واقترب منها مُحاولًا إرضائها: 
_ صبا، أنا..

لم تُعطِيه فُرصة لمواصلة حديثه حيث تحدثت هي بنبرةٍ مُتشنجة رغم انخفاض مستواها: 
_ عايزة أكون لوحدي، سيبني لوحدي

أطال النظر بها قبل أن يُتركها تهدأ وهو يُجمع شتاته ثم يعود إليها مُجددًا، وقف أمام باب الغرفة وتذكر أمر أبيه وزينب الجلسان في الخارج فشعر بالحرج من نفسه فبأي وجهٍ سيُقابلهما بعد صُراخه. 

فتح الباب فجأة، لِيَحدُث كما يحدُث، لقد خرّب كل شيء، لكن المفاجأة أنه لم يجدهما، زفر أنفاسه ببعض الراحة لكن سُرعان ما انتابه شعور الخِزي من نفسه، التفت برأسه ورمق طيف صبا الظاهر من الغرفة بعيون دامعة وصدرٍ مكلوم. 

لم يستطع المكوث مكانه، وعاد إلى الغرفة، توجه نحوها مباشرةً وجسى على رُكبتيه أمامها، ثم أمسك يديها وطبع بعض القُبلات داخل كُفوفها فتساقط دمعه على يدها ثم رفع عينيه في عينيها التي تنهمر منهما الدموع في صمتٍ وقال بصوتٍ مبحوح: 
_ والله ما أقصد.. سامحيني
أنا مش برر لنفسي، بس فكرة إنك كنتي لغيري مِجنناني، مِخلية شيطاني يتخيل حاجات صعبة، مش قادرة أتخطى يا صبا، بس وعد هحاول.. المهم متكونيش زعلانة.. 

ابتلعت صبا ريقها، وتنفست بعض الهواء لِتَغمُر رئتيها بالأكسجين، ويكون هناك مُتسعًا في صدرها، ما كان ليهون عليها بُكاءُه، فرفعت يدها ومسحت عبراته بنعومة فابتسم لها عبدالله ابتسامة خُلقت من قلب وجعه، وقام بإسناد رأسه على قدميها مُتمتمًا بأسفٍ: 
_ متزعليش مني يا دكترة..
أخفضت صبا رأسها إلى مستوى رأسه وأسندتها عليه دون حديث، فمرت دقيقتين ثم نهض عبدالله وجوارها متفقدًا عينيها ليستشف إذ الحزن ما زال 
بهما، ثم سمح لنفسه بطبع قُبلاتٍ حارة على طرف ثغرها هامِسًا كلماتٍ مُحملة بالغيرة التي لم يستطع إخفائها: 
_ غصب عني مش قادر أستلطفه، أنتِ كنتي حبيبتي وبقيتي مراتي يعني بقيتي روحي، جزء مني
كان يُصرِّح بذلك من بين قُبلاته التي تزداد كإثباتٍ لِعشقه وغيرته الشديدة، تمادى عبدالله في التودّد إليها، لا حبًّا فقط، بل رغبةً في بسط هيمنته علّ ذلك يُعِينه على تَخطّي زيجتها السابقة. 

لم تصده صبا، بل تركته يتودد إليها، أملاً في أن يُخفّف ذلك غيرةً أرهقته ويُطفئ ما أثارته مُخيّلته، حتى أنه كان حاد التعامُل، على نحوٍ لم تعهدهُ في أي مرة سابقة، لكنها أرادته أن يهدأ مهما كان الأسلوب. 

*** 

بعد فترةٍ، خرج عبدالله من المِرحاض يتوسط خَصْرُه مِنشفةً طويلة، توجه مباشرةً إلى الخزانة فتحدثت  صبا وهي تُتَابع حركته من خِلال المِرآة التي تجلس أمامها وتُجفف خُصلاتها بالمُجفف الكهربائي: 
_ أنا مخرجة لك هدوم على السرير..

_ دي هدوم بيت، أنا رايح بيت المزرعة.. 
قالها وهو يسحب بعض الملابس له، بينما لم تُعلق صبا فتابع حديثه بجدية:
_ قومي يلا إلبسي عشان تيجي معايا.. 

أخفضت صبا عينيها من عليه سريعًا وتصنعت انشغالها قبل أن تُعطيه ردًا: 
_ روح أنت، خليني أنا هنا.. 

رمقها عبدالله لثوانٍ وتوجه إليها ثم انحنى بجسده وقام بإسناد يديه أعلى كتفها مُقبِلًا وجنتها رافعًا عينيه في عينيها المنعكسة من المِرآة وأردف بنبرةً رخيمة: 
_ هنروح سوا يا صبا، أنا محتاج أصلّح اللي عملته قُصادهم..

نهضت صبا مُبتعدة عنه وقالت بخجلٍ صريح: 
_ أنا يا سيدي راضية بالمُصالحة الخاصة، كفاية أوي عليا كدا..

_ وأنا مش راضي، زي ما ضايقتك بالكلام قصادهم يبقى واجب عليا اراضيكي برده قصادهم.. 
قالها بإصرارٍ على مُرافقتها، لكنها اعترضت أمره: 
_ يا عبدالله أنا مش هعرف أبص في وش حد.. فمتضغطش عليا لو سمحت..

_ ودا السبب بالظبط إني مُصر أخدك معايا.. 
هتفها ثم دنا منها وتحسس وجهها بنعومة مـستأنِفًا بصوتٍ هادئ: 
_ مش عايز عينك دي تكون مكسورة قدامهم في أي مُقابلة ولا يكون جواكي إحراج منهم، يلا بقى يا حبيبي إلبسي عشان خاطري.. 

شجعها للقَبُول، فلم تجد سببًا آخر للإعتراض، ولبت أمرِه، قامت بتغير ملابسها وغادرت المنزل معه، ركبا السيارة حتى وصلا إلى بيت المزرعة وبعد مُدةٍ، تعمد عبدالله احتضان يدها وهما يقفان على باب البيت، بينما كانت صبا مُضطربة خجولة، تُحِيطها مشاعرٍ عِدة من كل جانب. 

بعد لحظاتٍ؛ فتح قاسم الباب وقد بدت عليه معالم الدهشة لوجودهما، شعر أنه لا يمكنه التصرف أو إبداء فعلٍ بعد ما حدث قبل ساعاتٍ، لا يدري ما عليه الشعور به، لكنه رحب بهما ودعاهم إلى الداخل. 

جاءت زينب في الحال لترى من الزائر، فتفاجئت بوجودهما أيضًا، ولم تُبدي رد فعل، فكان على عبدالله المُبادرة وبِدء ما جاء لأجله، حمحم وقال وعينيه تتناوب النظر بين الثلاثة: 
_ الكلام جنني ومعرفتش أنا بقول ولا بعمل إيه؟ 
بس أنا دلوقتي هِديت، وجيت هنا عشان أصلح اللي عملته.. 

نظر إلى صبا وتابع بصوتٍ نادم يُريد رد اعتبارها أمامهما: 
_ حقك عليا يا صبا، والله العظيم دا من غِيرتي عليكي بس اتكلمت كدا، وياستي من عفا وأصلح كان له أجرًا عظيما، أنا بحبك والله 

غمزها فابتسمت هي وبمزاحٍ هتفت: 
_ خلاص عفونا عنك 

ضحك عبدالله فتسللت السعادة في قلبي قاسم وزينب، الذي جاء دورهما في الحديث حيث قال وهو ينظر إلى زينب:
_ ودلوقتي دورك يا أستاذة، أنا عايز أعرف أنتِ عايزة إيه بالظبط، ومن غير ما تُبصي ليا خالص.. 

_ طب نقعد الأول وبعدين اتكلموا 
اقترحها قاسم فجلس الجميع، وتوجهت الأنظار على زينب التي انكمشت في نفسها خشية أن يحدث ما حدث سابقًا، فاستشف عبدالله ما تعيشه وأراد طمأنتها: 
_ متخافيش يا زينب، اتكلمي وقولي أنتِ عايزة إيه..

أخرجت زينب زفرة طويلة، وأردفت بصوتٍ بالكاد سمعوه ورأسٍ منخفض لا تُجابِه عيونهم: 
_ أنا نفسي أحس إني مرغوبة يا عبدالله، نفسي أحس بالأمان، عايزة شخص يقدرني ويحترمني، وكرامتي عنده رقم واحد، عايزة أكون مُرفهة مش شايلة هم حاجة، ولا خايفة من بكرة، والأهم إن العلاقات حواليا تكون كويسة، مش عايزة أكرر نفس الغلطة وأخلق بيني وبينك مسافات تانية أنا في غِنى عنها.. 

سحب عبدالله نفسًا هادئًا رزينًا ثم هتف سؤاله الجاد: 
_ وأنتِ شايفة إن عاصم يقدر يحقق لك كل دا؟ 

بصعوبة رفعت زينب عينيها ورمقته لوقتٍ ثم أعطته إجابةٍ متلعثمة: 
_ مش عارفة، يمكن آه ويمكن لأ.. 

_ طب وإحنا نعرف منين إنه الشخص المناسب؟  وهيكون جدير إنه يِسد كل الخانات دي ليكي؟ 
تساءل باهتمامٍ، فردَّت زينب مُقترحة: 
_ أنا محتاجة وقت لأسباب كتير، أولهم إني أتأكد أنه الشخص المناسب اللي هقدر أكمل معاه بقيت حياتي، يعني مسألة الجواز دي مش في دماغي حاليًا، مش قبل ما اطمن وأحِس من جوايا إني عايزة أكون معاه في بيت واحد.. 

_ وتاني سبب؟ 
كان سؤاله أكثر جدية فابتلعت زينب ريقها وبتوترٍ
أجابته: 
_ إن العلاقة بينكم تكون بقت كويسة، ومفيش أي مُشاحنات، أصل مش هنضحك على بعض، مفيش حد هيحب ولا هيتقبل حد في يوم وليلة، دا جُهد كبير محتاج وقت طويل، محتاج مواقف وأزمات نُعدي بيها مع بعض عشان نعرف قيمة بعض.. 
عايزة أهله يكونوا مُتقبلين علاقتنا عشان شايفينها مناسبة، مش عشان خاطر ابنهم عايز كدا، عايزاهم هم كمان يحبوني، ودا يمكن يحصل مع الوقت.. 
فإحنا قدامنا كتير أوي على ما نحقق التارجت دا.. 

حل الصمت لوقت، كان الجميع مُترقبًا لقرار عبدالله، الذي هز رأسه مِرارًا ثم قال بحسمٍ : 
_ وأنا موافق نديله فرصة يا زينب.. 

فغرت فاها بصدمةٍ، لقد أدهشها قراره، لم تتوقعه، ارتسمت السعادة على وجوه الجميع، كأن الفرح أشرق في قلوبهم فجأة. 

*** 

_ مين؟ زينب مين!! 
هبّت نهال واقفة، وهي تُصيح باندفاعٍ ونفاذ صبر، بينما تحلّى عاصم بالهدوء ورفع رأسه ناظرًا إلى والدته وأجاب سؤالها: 
_ زينب أخت عبدالله! 

فاجئ عاصم الجميع، حتى أنهم لم يتحلو بالنُطق لحظتها وفضلوا الصمت إلا من نهال التي أغمضت عينيها ثم هتفت مُستاءة: 
_ هو أنت مالك يابني ومال العيلة دي؟ تجربة والحمد لله أنها عدت، عايز تكررها تاني ليه؟ 
أنت مش بتتعلم أبدًا، مرة واحد جاية بفضيحة وعايزاك تستر عليها والتانية عايزاك تلم بواقي غيرك! 

لم يتقبل عاصم تلك الإهانة منها وهبَّ واقفًا بقامة مُنتصبة شامخة وهلل بانزعاجٍ شديد: 
_ كلامك دا صعب، صعب أوي بجد، أنتِ بتهِيني إبنك قبل ما بتهيني بنات الناس، صبا وراحت لحالها ومحبش أبدًا إنك تتكلمي عنها بالطريقة دي، حتى لو مبقتش في حياتي، لأنها في الآخر بنت محترمة وبنت ناس وعلى ذِمة راجل دلوقتي يعني كلامك مرفوض شكلًا ومضمونًا.. 
أما عن زينب فا دي هتكون مراتي، على إسمي مسمحش لأي حد مهما كان مين إنه يِهِينْها بالشكل دا!! 

_ مراتك!! أنت خلاص خليتها مراتك؟ 
أنت للدرجة دي بقيت مغيب؟ 
بعقلٍ يكاد يجن صدح صوت نهال، ثم نظرت حيث عز وقالت: 
_ أنت ساكت ليه يا عز؟ ما تقول حاجة

_ ولما أقول إيه اللي هيتغير، ابنك يعني هيعمل بكلامي؟ ماهو قبل كدا أخد قرار جوازه فجأة وسافر ورَمَانا وراه، ورجع طلّق من نفسه وسافر، برده ودلوقتي عايز يتجوز تاني، لما أنا أقوله يعني متتجوزش هيقولي سمعًا وطاعة؟! 
هتفها عز بتهكمٍ واستياء واضحان، فأخذ عاصم يستنشق الهواء ليتسع رحبه، ثم هدَّأ  من غضبه، ورمق جميع من حوله مُتمتمًا بثباتٍ وهدوء: 
_ يا جماعة أنا جاي لكم النهاردة مش عشان أجبركم على وضع أنتوا مش عايزينه.. أنا جاي بقولكم عايز أتقدم لواحدة عِجبتني وحبيتها، لقيتها مناسبة ليا، البنت شاطرة في شغلها وست بيت بمعنى الكلمة، وأهم من كل دا بلاقي نفسي معاها.. بحس معاها إني مش عايز أبعد، ودا مش قرار مفاجئ ولا متهور زي ما أنتوا فاكرين،
بالعكس أنا سافرت وبِعدت عنها على أساس إني معلقهاش بيا، بس الحقيقة هي إني أنا اللي اتعلقت بيها!!

صمت ليستشف أيًا من تعابير وجه أبيه لكنه كان جامدًا، ووجهه خاليًا من أي مشاعر، بينما كانت والدته متذمرة كما هي لم يخمد غضبها، لكنها تحلت ببعض الصبر وأردفت بهدوء مصطنع: 
_ يا حبيبي طب ما تدور على واحدة تانية واحدة، تكون شبهك وشبهنا، نفس عقليتنا، ومستوانا، بنوتة مش واحدة مُطلقة!! 

_ طب ما أنا مُطلق، هل دا يِعِيبني؟ وهل يِعِيبها إنها منجحتش في علاقة جواز قبل كدا؟ 
مش يمكن دي تدابير ربنا عشان نتجمع وننجح إحنا؟ 
وبعدين إحنا أصلًا ليه نسبق الأحداث، أنا مش بكلمكم على جواز، أنا بكلمكم إني مرتاح لها وعايزها في حياتي، بس إحنا عمومًا محتاجين فترة نتعرف فيها على بعض، ونِدرس بعض،  ونشوف مناسبين ولا لأ
والأهم طبعًا إن العلاقة تكون مقبِولة منكم وراضين عنها، عشان كدا بتمنى تعطونا فرصة..

حدج عاصم أبويه وشقيقيه لفترة، قبل أن تُبدي ڤاليا رأيها: 
_ بصراحة أنا أول واحدة موافقة ومُتقبلة العلاقة، 
أصل طلاما الطرفين عايزين بعض ليه نقف قصادهم؟ هما في الآخر اللي هيتحملوا نتيجة اختيارهم.. 

لِيُضيف عامر رأيه: 
_ انا رأيي نِدي له فرصة، هو شكله اتعلم من تسرعة المرة الأولى ومش عايز يكرر الغلطة دي، يعني هيدرس العلاقة ولو مناسبين يتجوزوا، وافتكر في الفترة دي هتتعرفوا عليها أكتر وهتتقبلوها مع الوقت.. 

كان عاصم مُمتنًا لدعم اخويه، ثم نظر إلى أبويه في انتظار قرارهما، فتبادلا النظرات ثم وقف عز وهتف بحسمٍ: 
_ لو هيكون فعلًا فيه فترة تقيموا بعض فيها يبقى مفيش مشكلة نجرب، التجارب بتعلم..

تفاجئت نهال بقبول الجميع لتلك العلاقة، فما كان عليها سوى الإستسلام والرضوخ لطلب عاصم على مضضٍ: 
_ بس لو محدش ارتاح فينا كلنا العلاقة تنتهي فورًا 

أمال عاصم شفاه للجانب مُبتسمًا بسعادةٍ دقت طُبول قلبه، ثم قام بِعناق والدته وقال
_ طبعًا طبعًا اللي أنتِ عايزاه هو اللي هيحصل
ثم نظر إلى الآخرين وغمز بعينه فانفجروا ضاحكين تحت غرابة نهال المتعجبة من أمرهم. 

*** 

بعد مرور أربعة أشهر، مساءًا؛  كان قاسم جالسًا في مِكتبه يشعر بالوحدة والملل اللذان رافقاه المدة الماضية، صدح صوت رنين هاتفه فسحبه بمللٍ تحول إلى القلق واللهفة عندما قرأ الإسم الظاهر أمامه وأجاب في الحال: 
_ صادق! آدم كويس؟ 

_ اطمن يا قاسم بيه، آدم بخير، دا حتى فيه خبر هيفرحك أوي.. 
قالها صادق بصوتٍ حماسي فاثار اهتمام قاسم الذي تلهف لمعرفة ما ذلك الخبر السّار: 
_ إيه، فرحني؟ 

_ آدم هيُخرج حُسن سير.. 
وما أن قالها صادق حتى انتفض قاسم من مكانه فرُحًا بذلك الخبر وهلل بسعادة لا تسعه وعيون لامعة: 
_ قول واللَّه

_ واللَّه، أنا بـكرة هروح من بدري أخلص إجراءت خروجه.. 
هتفها فشكره قاسم بِعرفان: 
_ الله يفرحك يارب زي ما فرحتني ، عرفني بُكرة كل التفاصيل عشان أكون معاك 

أكد قاسم عليه ثم أنهى الإتصال، كانت الغرفة لا تسع أجنحة قاسم وشعر بحاجته لمشاركة سعادته مع أحدهم، فقرر الذهاب إلى شخصِه العزيز دون التفكير في عاقِبة ذهابه. 

*** 

عاد عبدالله من الخارج، حامِلًا بعض الأكياس البلاستيكية، فاستوقفه ظلام البيت الغير مألوف،
أضاء زِر الإضاءة، فإذا بالورود الحمراء تتناثر على الأرض، والشموع تتلألأ على المائدة، وقد أُعِدَّ العشاء والحلوى بعنايةٍ لافتة، ثم وقعت عيناه على صبا الواقفة في بهائها، بمظهرٍ سلب قلبه من فرط جمالها.

ابتسم بعذوبة ثم انحنى بجسده تارِكًا ما معه من أكياسٍ، وتوجه نحوها حتى أصبح أمامها وتساءل وهو يتفقد المكان من حولهما: 
_ هو النهاردة عيد وأنا مش عارف ولا إيه؟ 

بسعادةٍ عارمة أجابته بذلك الصوتٍ القيق المُتحمس: 
_ دا بمناسبة مرور خمس شهور على جوازنا.. 

رُفع حاجبي عبدالله تلقائيًا، وقال وهو يتفحصها بعناية: 
_ عُقبال الخمس وعشرين مع بعض يا حبيبتي

تضاعفت ابتسامتها، وقالت: 
_ تعالى نتعشى عشان أعطيك هديتك.. 

_ وكمان هدية، طب أنا كدا شكلي وحش وأنا مش مشارك في الإحتفال دا بأي حاجة
هتفها عبدالله مازحًا فقالت صبا بتلقائية:
_ كفاية وجودك، وبعدين الهدية أنت مشارك فيها برده، مش أنا لوحدي...

أثار كلامها فضول عبدالله وتساءل مستفسرًا: 
_ لا كدا مش هقدر استنى لما نتعشى، اديني هديتي دلوقتي لو سمحتي.. 

ضحكت صبا عاليًا وبحماسة شديدة قالت: 
_ بصراحة وأنا كمان مش قادرة استنى عشان اديهالك، بس هلعبك لعبة الأول عشان تلاقيها بنفسك.. 

قلب عبدالله عينيه مصطنعًا الإستياء وهتف بمللٍ: 
_ وليه الفرهدة دي بس، ما تديهالي على طول 

_ تؤتؤ، دا شرطي وإلا بعد ما ناكل..
بدلالٍ مبالغ هتفتها، فردد عبدالله باستسلامٍ:
_ أمرنا لله ياستي، قولي هتعملي إيه؟ 

ضحكت ثم أوضحت له ماهي اللعبة: 
_ هنلعب لعبة سخن، وسخن جدًا لو قربت أوي من المكان وبارد وبارد جدًا لو بِعدت أوي، عشان تعرف مكان الهدية، هتدور عليها وكل ما بِعدت عنها هقولك بارد، وكل ما قربت منها هقولك سخن لغاية ما تكتشف مكانها.. 

ضاق عبدالله بعينيه وقال: 
_ مش فاهم أوي بس ماشي هفهم وأنا بجربها.. 

رفعت صبا يديها وصفقت مُشجعة إياه: 
_ اوكي يلا ابدأ، دور في أي مكان.. 

ابتعد عبدالله، وأخذ يبحث في جميع الأرجاء فكان ردها المُتكرر: 
_ بارد جدًا 

حتى شعر عبدالله بالملل وهتف: 
_ إيه دا كل حاجة بارد، أومال انتي حطاها فين؟ 

مدّت صبا شِفاها للخارج رافعة كتفيها للأعلى وأخبرته:
_ أنت اللي بتدور في أماكن بعيدة، دور في مكان تاني أقرب.. 

تأفف الآخر وبدأ رحلة بحثه ثانيةً بمكانٍ قريب من صبا فكان ردها: 
_ ساخن جدًا .. 

_ يا فرج الله
هتفها مُتأملًا اقترابه من الوصول إلى الهدية، وتابع بحثه حتى وقف أمامها بنفاذ صبر وقال: 
_ لا بقى، كدا الهدية هي أنتِ ولا إيه

إزدادت بهجة صبا وأردفت: 
_ يعني حاجة زي كدا، كمل تدوير.. 

بعدم فهم لما يحدث تابع عبدالله البحث في ملابس صبا فكانت تُخبره كلما ابتعد عن المكان المُراد بأنه بارد حتى لمس بطنها فقالت: 
_ ساخن جدًا 

تأمل عبدالله عينيها وقال: 
_ هي جوا بطنك ولا إيه؟ 

دمعت عيني صبا بتأثرٍ وأمسكت يده وثبتتها على بطنها ثم أماءت بتأكيدٍ لسؤاله فاستوقفه حديثها لبُرهة يحاول استيعاب مخزى كلامها، فابتلعت الأُخرى ريقها وتمتمت: 
_ أنا حامل!! 

ساد الصمت لثواني، تجمد عبدالله مكانه، اتسعت عينيه بدهشةٍ، لقد حانت لحظةً لطالما تمناها في السِر، ثم تبدلت ملامحه شيئًا فشيء، من الذهول إلى فرحٍ مكتوم ثم أظهر ابتسامةٍ عريضة عجز عن  إخفائها. 

_ صبا هو أنا كدا هكون أب؟ يعني إحنا هنبقى عيلة مش مجرد اتنين بيحبوا بعض؟ 
رددها مذهولًا فأماءت صبا مؤكدة وعيونها تترقرق منهما العبرات. 

ضمّها عبدالله إلى صدره بهدوءٍ ثم دفن رأسه في خُصلاتها المحررة وتمتم برضاءٍ: 
_ شكرًا يارب إنك منِيت عليا بالإحساس دا.. 

تراجع للخلف وبإبتسامةٍ عريضة صاح: 
_ هتبقي ماما؟ 

قهقه بفرحة عارمة وواصل هاتفًا: 
_ أحلى ماما فى الدنيا كلها 

_ يا بختهم بيك، هتبقى أب حنون أوي 
همستها صبا وهي تُملس على ذقنه بنعومة، فحملها عبدالله برفقٍ ودار بها مُراعيًا حركته، ثم استمعا كليهما إلى قرع الجرس، فقطب عبدالله جبينه وتساءل: 
_ مين جاي في الوقت دا؟ 

_ رفعت صبا كتفيها للأعلى جاهلة الزائر، فقال عبدالله بأمرٍ: 
_ طب ادخلي جوا لما نشوف مين دا؟ 

تفقد عبدالله العين السحرية فابتهج وفتح الباب على الفور مستقبله بِترحابٍ فريد: 
_ أنت جاي في وقتك بالمِلي.. ادخل ادخل

_ يارب خير.. 
هتفها قاسم وهو يُولج بِخُطاه فنادى عبدالله بصوتٍ عالٍ حيوي: 
_ تعالي يا صبا دا بابا..

بدَّلت ملابسها سريعًا وخرجت إليهما مرحبة بقاسم بلطفٍ: 
_ أهلًا يا عمي، البيت نور والله، كويس إنك حضرتك جيت عشان ناكل سوا.. 

رحب قاسم بها وقال بحماسٍ طاغيًا على نبرته:  
_ مش هقول لا.. 

تعجب عبدالله من أمره  وأردف سؤاله الفضولي وهو يرمقه بطرف عينيه:
_ إيه السعادة دي كلها؟ 

ثم وجه بصره على صبا وسألها: 
_ أنتِ عرفتُيه قبلي ولا إيه؟ 

ضاق قاسم بعينه عليهما وتساءل مستفسرًا: 
_ عرفتني إيه؟ 

تقوست شِفاه عبدالله وهو يُخبره بذلك الخبر السّار: 
_ صبا حامل! 

بينما سيطر الخجل من صبا التي توردت وجنتيها وعضّت شِفاها السُفلية وهي تُعاتِب عبدالله في نظراتها وكأنه اقترف أمرًا فادِحًا بإخباره أمر الحمل، اتسعت حدقتي قاسم بدهشة انعكست على شفتيه التي تبسمتا، وأخذ يُهنئهما بسعادةٍ تضاعفت داخله. 

فالأخبار السّارة كانت مؤجلة حتى تأتي دُفعة واحدة لتمنحه شعورًا قد افتقر إليه منذ فترة، وبعد أن بارك لهما ردد بمزاجٍ سوي: 
_ الأخبار الحلوة كلها بتيجي مع بعض، الحمد لله 

غمزه عبدالله مُشاكسًا إياه، وقال سؤاله الفضولي: 
_ أنت كمان عندك أخبار حلوة؟، طب فرحنا، مع إن أشُك إن فيه أحلى من خبر حمل صبا!! 

ابتسم قاسم وبعفوية تحدث دون إدراكٍ لما سيفعله كلامه: 
_ آدم خارج بكرة!! 

اختفت الإبتسامات وتجهمت الوجوه، وخِصيصًا صبا التي كزت أسنانها بغضبٍ تجدد داخلها، حينها دنا قاسم من عبدالله الذي تجمد مكانه دون إبداء أي ردٍ، وأمسك بيده وتوسله: 
_ نفسي أشوفكم مع بعض، نفسي أطمن عليكم وتكونوا سند لبعض عشان أرتاح.. 

انتبِها كليهما على صوت صبا الذي صدح من خلفهما: 
_ طب بعد إذنك يا عمي، أسيبكم على راحتكم

أوقفها قاسم قبل ذهابِها بقوله: 
_ استني يا بنتي

وعندما عاودت الوقوف تابع كلامه بشجنٍ: 
_ الكلام ليكي برده يا صبا، العلاقة مش هتكون قوية غير وانتوا كلكوا ايد واحدة..

وقبل أن يُضيف المزيد قاطعته صبا بترديدها الهجومي رغم انخفاض نبرتها: 
_ العفو عند المقدرة يا عمي، وأنا للأسف مش في مقدرتي أسامحه، دا مشتمنيش عشان أسامحه كدا بسهولة، دا دمر لي حياتي، سرق مني أماني وعيشني أسوأ أيام عدت عليا، أنا بسببه عملت حاجات عمري ما تخيلت إني أعملها، أنا مِسكت سلاح عشان أموت بيه نفسي، لخبطت للناس حياتها ولغاية دلوقتي عايشة بتأنيب الضمير.. 
هو مدسش على طرف هدومي، اللي عمله مش بسهوله يتسامح عليه.. دا استحالة يحصل 
لكن أنا هكون متفهمة جدًا لو عبدالله صلّح علاقته بيه، هو في الآخر أخوه، ودي أمنيتك وأنا مش هقدر أقف قُصاد رغبة حضرتك، لكن أنا.. آسفة حقيقي مش هقدر

أنهت الجُملة وسُرعان ما هرولت إلى الغرفة هاربة قبل أن تخونها دموعها، بينما أطلق عبدالله زفرةً مهمومة ضَجِرة وقال بصوتٍ مهزوز وعينيه تتهربان من عيني والده: 
_ كان نفسي أوي، لو كنت جيت لي من كام سنة كنت متأكد وقتها إن الكُره دا آخرته حُب وعلاقتنا هتكون كويسة، بس للأسف الكُره دا وصلنا لدايرة مقفولة على أذى عيشنا عواقبه وأظن أنت بنفسك عاصرت معايا الفترة دي، فأنا مش هقدر.. 

رفع عينيه في والده وتابع:
_ سيبها للوقت، يمكن يحصل اللي أنت عايزه، محدش عارف بكرة فيه إيه.. 

تبخّرت معالم السعادة من قلب ووجه قاسم الذي بدى عليه العجز، كأن عمرًا قد أُضيف على عُمره، نكس رأسه ثم ربتَّ على ذِراع عبدالله وأطلق بسمة انكسار قبل أن يُوليه ظهره لِيُغادر، لكن عبدالله قد رفض ذهابه على حاله ذاك. 

أسرع نحوه وقام بتقبيل رأسه قائلًا: 
_ يعز عليا أمشيك زعلان كدا، بس غصب عني، اللي عيشته بسببه مكنش سهل.. حقك عليا يا بابا 

_ أنت عملت إيه بس عشان تقول كدا، على رأي صبا العفو عند المقدرة.. 
قالها بحزنٍ خيّم ملامحه، وصوته، تنهدوتابع كلامه بعد أن شكّل بسمةٍ باهتة على محياه:  
_ أنا بس فرحة خروجه خلتني اتعامل بعفوية من غير ما أفكر في العواقب، يلا تصبحوا على خير

أصرَّ على الذهاب تحت نظرات عبدالله المُتابعة له بحزنٍ شديد لحاله الذي تبدل، أغلق الباب ووقف يُعيد تفكيره في الأمر من أجل والده لكنه وجد رفضًا قاطع لإعادة الوصل بينه وبين أخيه، فوكل أمره لله هو يُدبره كيف يشاء.  

***

صباح اليوم التالي، وقف قاسم أمام مركز الشرطة، 
في انتظار خروج آدم بفروغ صبر، مر وقتًا طويل حتى ظهر أمامه بهيئته التي اشتاق إليها القلب وارتوت بها العين. 

لم ينتظره قاسم حتى يأتيه بل توجه نحوه مُهرولًا فاتِحًا ذراعيه على مصرعيه فألقى آدم بنفسه بين يدي أبيه، ليحظيا بعناقٍ حار يُداوي فراق الأشهر الماضية ليحل مكانه دِفء وطمأنينة. 

تراجع قاسم ونظر إلى آدم بتفحصٍ قبل أن يُردف بلهفةٍ: 
_ يلا يا حبيبي عشان نرجع البيت تاخد شاور كدا وأحضر لك أحلى فطار.. 

أماء آدم بقبولٍ لكنه اعترض كلامه: 
_ تمام، بس فيه مشوار الأول لازم أعمله وبعدين نروح على البيت..

_ مشوار إيه دا؟ 
بغرابةٍ شديدة تساءل قاسم، فهو للتو قد خرج من السجن، كيف لحق ورتب مشاويره؟ تنهد آدم وقال بثباتٍ وعيناه تنظران على الفراغ جوار أبيه:
_ هنروح عند أونكل عز!! 

قطب قاسم جبينه بمزيجٍ من الغرابة والقلق اللذان راوداه ثم سأله بجدية:
_ نعمل إيه عند عز؟ 

صوَّب آدم بصره على قاسم وأجابه: 
_ لما نروح هتعرف يا بابا..

رفض قاسم التحرُك من مكانه قبل معرفة ما الأمر: 
_ لأ لازم أعرف دلوقتي أنت ناوي على إيه؟

لم يُود آدم الإفصاح عما ينوي فعله، فتنهد بقوة وقال وعيناه تبحثان في الأرجاء: 
_ خلاص روَّح أنت يا بابا حضر الفطار وأنا هخلص هناك مصلحتي وهجيلك.. 

ثم أولاه ظهره وابتعد عنه بِضع خُطوات، باحثًا عن سيارة أجرة، فناداه قاسم بحدةٍ: 
_ اركب يا آدم وأنا هوديك، لما نشوف آخرتها إيه 

دون تفكيرٍ عاد آدم مُتجهًا إلى السيارة دون مواجهة عينين أبيه حتى لا يُكشف أمره، بينما لم يكُن قلب قاسم مُطمئنًا لذهابه إلى عز بعد خروجه مباشرةً، وكأن قلبه يُخبره بثَمة مصيبة في طريقهم. 

بعد فترة؛ قد وصلا إلى فيلا عز، صف قاسم سيارته ولم يكاد يفعل حتى ترجل آدم مـسرعًا وتوجه إلى الباب بسرعة فائقة، ضاعفت القلق داخل قاسم الذى دعى داخله أن يمُر الأمر مِرار الكُرام. 

تَبِعُه حتى دلفا البيت، فاستقبلهما عز ومعالم الدهشة جلية على وجهه لرؤية آدم في بيته: 
_ أهلًا يا قاسم، حمد لله على سلامتك يا آدم، أنت خرجت امتى؟ 

ببرودٍ قال: 
_ لسه خارج دلوقتي.. 

ثم جاب آدم المكان بعينيه كأنه يبحث عن شيءٍ فأثار الريبة داخل عز الذي بادر بالسؤال:
_ هو فيه حاجة يا قاسم؟ 

تلك الأثناء حضر جميع من بالبيت، ومعالم الذهول مُشكلة على تقاسيمهم، فكان الأمر مريبًا لهم إلا من ڤاليا التي تملكها الخوف والارتباك وانكمشت في نفسها وعينيها لم تـرفعان من على آدم. 

في المقابل رد قاسم على سؤال عز ظاهرًا عدم عِلمه بما يحدث: 
_ أنا مش فاهم حاجة، هو طلب مني يجي على هنا.. 

_ اهدوا يا جماعة وانتوا تفهموا..
هتفها آدم وبِخُطواتٍ شامخة توجه إلى ڤاليا وقام بمسك يدها تحت صدمة من الآخرين، ثم نظر إليهم بثباتٍ كصيادٍ يتحد  فريسته وأردف بصوتٍ أجش: 
_ أنا جاي أخد مراتي!! 

حل الصمت لثواني، جحظت أعين الجميع، وخفقت قلوبهم بشدة، تناقُض شديد قد عاشاه، خوفٍ من كلماته أن تكون حقيقة، وصدمة لعدم استيعاب عقولهم لذلك الهراء. 

وأخيرًا استطاع عز التحدث فخرجت نبرته مُتشجنة يُغلقها غيرة الأب لرؤية يد ابنته في يد رجلٍ غريب: 
_ هو إيه الكلام دا؟ مرات مين

ثم وجه أنظاره الحادة إلى قاسم وصاح: 
_ ما تشوف ابنك بيقول إيه يا قاسم

بقلة حيلة هتف قاسم وعينيه تتناوب النظر بين عز وآدم بصدمة: 
_ أنا مش فاهم حاجة.. مراتك إزاي يا بني، ما تفهمنا أي حاجة! 

فتدخل عامر بنفاذ صبر وهو يُحاول إبعاد آدم عن شقيقته:
_ أنتوا لسه هتسألوا، ابعد ايدك دي عن اختي.. 

ليضيف عاصم بحُنُقٍ لتلك السخافة الحادثة:
_ هو إيه اللي بيحصل هنا، وأنتِ ساكتة ليه يا أستاذة ڤاليا؟ 

جاء دور آدم للرد على أسئلتهم، أخذ نفسًا وتحلى بالهدوء الواثق قبل أن يعترف بالحقيقة ويده مُشبسة في يد ڤاليا: 
_ أنا وڤاليا اتجوزنا في السجن..

ثم قام بسحب ورقةً من جيب بنطاله وقال: 
_ وأدي العقد العُرفي كمان.. اللي إن شاء الله هنخليه رسمي وقدام الناس كلها 

خرج الجميع عن طورهم، وارتفع صخب غضبهم وهما يهاجمون آدم بالكلمات، فتداخلت الأصوات في بعض وبدت غير مفهومة، حتى صرخ عز من بين الجميع بصوتٍ اهتز له الهواء: 
_ العقد دا باطل، تِبلُّه وتشرب ميته.. 

ودون إدراكٍ من آدم قام عامر بسحب الورقة من بين يديه وقام بتقطيعها إلى قُطع صغيرة أمام عينيه بتحدٍ، مُرددًا من بين أسنانه المُتلاحمة بشرٍ: 
_ ورينا عرض اكتافك..

شدَّ آدم على يد ڤاليا، وصاح عاليًا دون خجلٍ حتى  يُخرس ألسنة الجميع: 
_ أنا كنت بطلب بنتك في خلوة شرعية!! كان بيتجهز لي اجدعها أوضة هناك عشان اخد حقوقي منها!! 

_ اخرس، أنت بتقول إيه يا حيوان؟!!!
نطقها عز بعد أن أسدل صفعةً عنيفة على وجه آدم، الذي صرَّ أسنانه بغضبٍ، لكنه تحلى بالثبات لآخر أنفاسه، بينما نظر عز إلى ڤاليا بنظراتٍ تحمل من الإشمئزاز قدرًا وسألها وهو يهُز جسدها بقوة: 
_ الكلام اللي بيقوله دا صح؟
ردي عليا، انطقي وقولي غلط!! 

لم تُجيبه، كانت خائفة لا تتحلى بالشجاعة للإعتراف أمام أبيها بذلك، فنكست رأسها في خجلٍ، وتمتمت بأن تنشق الأرض وتبتلعها، وما كادت تخفض رأسها حتى أعادها عز منتصبة فتفاجئت ڤاليا بيده التي رُفعت للأعلى حتى تنسدل على وجهها بصفعةٍ غاضبة لو كانت انسانًا لأدخلها قبرها تلك الليلة. 

أغمضت عينيها سريعًا تنتظر ذلك الألم التي ستشعر به لكن يد آدم منعت ذلك، حيث أنه أمسك ذراع عز وهتف:
_ خد حقك مني أنا، مراتي محدش يلمسها! 

دفعه عز بكل ما أوتي من قوةٍ، ثم شعر أنه ليس بخير، وأن الأرض تدور من حوله، ترنح بين اليمين واليسار فأسرع نحوه عاصم وعامر وأسنداه حتى استقر توازنه. 

فتدخل آدم قائلًا: 
_ ڤاليا هتيجي معايا، لغاية ما أشوف أقرب ميعاد مع المأذون نكتب فيه الكتاب، سلام 

أنهاها ثم أرغم ڤاليا على السير وعينيها مُثبتة على والدها، فلقد نهش الندم قلبها لجعل والدها مقهورًا بذلك الشكل القاسي، خرجت من البيت وتلاهما قاسم الذي لم يقدر على مواجهة صديقه، فكان قليل الحيلة لا يقدر على مواساته حتى! 

خرج مُنكس الرأس حتى وقف أمام آدم، فحدق به بعينين لا تحملان غضبًا بقدر ما تحملان وجعًا وعِتابًا صامتًا، لم يكن قويًا بما يكفي لقيادة السيارة، فتوجه إلى الباب الخلفي واستقل المقعد بأنفاسٍ أصبحت ثقيلة عليه. 

بينما ساعد آدم فاليا على الركوب، واستقل هو أيضًا خلف المقود وتحرك بالسيارة مُبتعدًا عن البيت، حتى وصل في وقتٍ قياسي إلى الفيلا الخاصة بعائلته. 

ولج الثلاثة إلى الفيلا، وقبل أن يصعد آدم إلى الطابق العلوي تحدث قاسم بصوتٍ هزيل:  
_ محتاجين نتكلم!! 

أماء آدم بقبولٍ، ثم صعد برفقة ڤاليا حتى بلغ غرفته، وما أن ولجاها حتى تبخر هدوء ڤاليا لطالما تلبست ثوبه إجبارًا وانفجرت باكية، ثم صرخت في وجه آدم:
_ ليه قولت كدا؟ مكنش دا اتفاقنا، متفقناش على كدا أبدًا، إزاي قولت كدا عني، إزاي يا أدم؟ 

حاول آدم لملمة ما اقترفه في حقها: 
_ مكنش قدامي حل غير كدا، اهلك مش بالسذاجة اللي هيقبلوا بحتة ورقة عُرفي ملهاش أصل، أنا كنت مضطر، لو مقولتش كدا مكنش حد سابك تخرجي معايا من البيت! 

_ تقوم تقول ان٥ي كنت بجيلك عشان.. إزاي قِدرت تنطق عني كدا، فِرقت أنا إيه دلوقتي عن بنات الليل؟ إزاي هان عليك تقول عليا كدا؟ 
هتفتها بعدم تصديق وهي تقع على الأرض بإهمالٍ، انتفض جسدها من شِدة بُكائها فوقف آدم مُكبل الأيدي، للتو أدرك خَطْوته الطائشة التي خلّفت وراءها انكسارًا وهدمت كل ما بُني من ثقةٍ. 

جلس آدم القرفصاء أمامها محاولًا إصلاح ما اقترفه بالكلمات مُتمنيًا أن يشفي جرحها الذي تسبب فيه: 
_ والله العظيم مقصدتش خالص كل دا، أنا قولت كدا عشان هما استحالة كانوا يقتنعوا بجوازنا طول ما مفيش سبب قوي، والدليل إنهم اخدوا الورقة وقطعوها وكنت هخرج زي ما دخلت.. 
بس أنا قدرت أخدك معايا بسبب الكلمتين دول 

هرب بعينه لوقتٍ قبل أن يُعاود النظر إليها ويستأنف حديثه بهدوءٍ حزين:
_ عارف إن الكلام صعب عليكي، دي ضريبة إننا نكون مع بعض، إحنا اتفقنا على حاجة وبدأناها ومكنش ينفع نرجع مهما كانت العواقب..
إهدى يا ڤاليا، هما مع الوقت هيقتنعوا بعلاقتنا، لما يشوفوكي سعيدة معايا، وقتها هيتغاضوا عن اللي حصل..

مدت يدها إلى الأمام بضعف وقلة حيلة هامسة بخفوت: 
_ طب هما هيحترموني إزاي بعد كدا؟ إزاي بابا هيقدر يتخطى إنه بنته اللي وثق فيها تخون ثقته دي وتعمل كدا؟ 
طب أنا إزاي هحترم نفسي إزاي وأنا عارفة سبب جوازنا؟ 

حاول آدم تهدئة روعها ببعض الكلمات، فلا يملُك غيرهم الآن مُتأملًا نجاحه: 
_ أنتِ بس عشان لسه الوضع جديد جواكي ١٠٠ إحساس في نفس الوقت، بس لما تعدي فترة مش هتكوني كدا، وهما كمان هَيِهْدُوا ومع الوقت هينسوا، وأنا أوعدك إني هرجع علاقتكم قوية زي ما كانت.. بس أنتِ متسبيش إيدي وخليكي معايا، ماشي يا فيفو؟ 

نظرت إليه بعيون تترقرق منهما الدموع، فنهض هو وأضاف:
_ هروح أتكلم مع بابا وراجع لك تاني، حاولي تهدي، تمام.. 

غادر الغرفة على الفور، ثم ترجل السُلم باحِثًا عن والده الذي وجده في ردهة البيت يُشاهد الخارج، وقف خلفه وبنبرةٍ يُخيّمها الخجل الصريح تمتم: 
_ بابا.. 

التفت إليه قاسم، وانسابت من عينيه نظرةً كسرت آدم قبل أن ينطق بحرفٍ، ثم تحدث بِثقل: 
_ إزاي تحط أبوك في موقف زي دا؟ هان عليك شكلي؟ إزاي قِدرت تصغرني قدام الناس كدا؟

شكل الضيق على معالم وجهه قبل أن يوبخه: 
_ أنت إزاي أصلًا تعمل عملتك دي؟ جبت الجُرأة دي منين؟

_ يا بابا اسمعني.. 
لم يكد يُنهيها حتى صرخ فيه قاسم: 
_ أسمع إيه بس؟ هو لسه فيه حاجة تتسمع؟ 
بتتجوز عُرفي يا آدم، كنت بتطلب البنت تيجي لك
بكل وقاحة!! 

بتوسلاٍ حاول آدم إيضاح الأمور له: 
_ والله العظيم مفيش أي حاجة من دي حصلت، هتجوزها إزاي بس من غير موافقة أبوها؟ فرضًا عملت كدا، هل دا هيكون جواز قدام ربنا، لا طبعًا، دا حتى أنا فكرت إني اكتب عليها ويكون عاصم وليّها وكل حاجة تمشي حسب الشرع والقانون منفعش طلاما أونكل عز موجود وصحته كويسة وهو الوصي عليها ، صدقني أنا قبل ما أخد أي خطوة سألت وفكرت في كل الحلول بس ملقتش.. 
كنت مضطر أكدب عشان أقدر أخدها، لو مكنتش عملت كدا مكانتش ڤاليا معانا في البيت دا دلوقتي!

بعدم اقتناع لما أخبره عنه هدر به شزرًا: 
_ هو بالغصب يابني؟ تاخدها بالغصب!! 
كنت استنى ونفكر سوا في حل يرضي الكل، لكن أنت اخدتها عِند وبفتحة صدرك بوظت كل حاجة!! 

_ الظاهر إن حضرتك مش شايف إن كل حاجة بايظة اساسًا، أنا مستقبلي خلاص ضاع، شُغلي وخسرته، وبعد ما كان بيضرب لي تعظيم سلام، دلوقتي مفرقش حاجة عن أي مجرم خارج من السجن، أنا لا مكان هيقبل يشغلني ولا أهل ڤاليا كانوا هيقبلوا بيا لو وقفت على راسي!!
قال كلماته بتهكمٍ لاذع، فظهر في صوته مرارة دفينة وكأن سخرية صوته مُحَاولة يائسة ليسمع أبيه حجم الخراب الذي لا يراه، فنجح آدم في جعله يتأثر به ويُشفق عليه.

فرت دمعة من عيني آدم وهو يتابع بصوتٍ ثقيل مهزوم:
_ أنا هكتب كتابي وأبعد عن هنا خالص، هسافر برا، أحاول أبدأ من جديد، هحاول أقوِّم نفسي وأربيها، هشتغل وهتعب من غير واسطة، هتعلم أحب مراتي والناس من غير حقد وكُره، هحاول أتغير بجد، ووقتها يمكن عيلة ڤاليا تسامحنا على اللي عملناه، وعبدالله وصبا يكونوا قدروا يتخطوا الحادثة ويسامحوني هما كمان، لكن دلوقتي محتاج أبعد اوي.. 
ساعدني يا بابا 

فلما أنهى كلامه، احتضنه قاسم بكل قوته، متأثّرًا بالوجع الذي يعيشه، مشفقًا عليه، وقرر أن يكون أكبر داعم له في كل خُطواته المُقبِلة. 

*** 

في مساء اليوم التالي؛ كانت عائلة عز حاضرة رِفقة قاسم الحاضر مع والدة آدم، يتوسط الأريكة المأذون الذي ينهي إجراءات الورق، وعلى جانبيه يجلسان آدم وڤاليا، كانت بعض الوجوه متجمهة وبعضها عابسة يتغلب عليها الضيق. 

لا نفس يصدر، هدوء يُشبه سكون الفجر، لكن سكون مجبور، يتنافى مع الغضب والرفض اللذان يتجلا داخل الجميع، قطع المأذون ذلك الصمت عند إصداره همهمة لجذب انتباه الحاضرين ثم بدأ مراسم عقد القِران حتى أنهاها بمباركته لهما: 
_ بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير وعلى خير إن شاء الله.. 

غادر المأذون بعد إتمام مهمته، ثم نهض آدم وتفقد ساعة يده وقال مُوجهًا حديثه إلى ڤاليا: 
_ يدوب نلحق نوصل المطار.. 

أماءت بِقَبولٍ ثم صوّبت أنظارها على عائلتها، وقد انهمرت العبرات من عينيها بخليطٍ من المشاعر، لا تستوعب أنها ستغادر وعلاقتهم مضطربة، كانت تنظر إليهم تستعطف مشاعرهم نحوها، تُود أن يتقبلاها كما في السابق، لكن هيهات لذلك الحُزن التي خلَّفته من وراء اتفاقها مع آدم، لقد دمر الوصال بينهم. 

تسلل عز إلى الخارج أولًا دون النظر خلفه، تلاه الآخرين تحت نظرات ڤاليا المتأثرة بذهابهم قبل أن يسامحوها، وما أن خَرجَ الجميع حتى أجهشت في البُكاء المرير، كمن فقد عائلته إلى الأبد. 

دنا منها آدم وقام باحتضانها، مُرددًا بدعمٍ: 
_ كل حاجة هتكون كويسة، أوعدك هصلح كل دا.. 

بعد مُدة؛ كانا على متن الطائرة، ليبدأوا حياة خاصة بهما، وإعادة تأهيل أنفسهم، ليكونوا قادرين على إصلاح العلاقات المهدومة، تاركين خلفهم كل ماضي كان قاسيًا. 

*** 

بعد مرور عام وبِضعة أشهر قليلة، انقضى حفل زفاف وليد وخلود، 
ولجت خلود إلى الغرفة الخاصة بهما، رِفقة عليا التي أصرّت على تقديم المساعدة لها، وقفت خلفها تخلع عنها حجابها. 

فأثارت خلود التي تتمايل غرابتها، وتساءلت وهي تُتَابع خلع تلك الدبابيس التي لا تنتهي: 
_ أنتِ يابت واقفة ترقصي ومزاجك رايق.. 

مالت عليا على أذنها وهمست سؤالها: 
_ أنتِ مش خايفة؟ أو متوترة؟

توقفت خلود عن الحركة، وقد قضبت جبينها بغرابةٍ وهتفت:
_ وأخاف ليه؟ 

_ يعني.. أي بنت بتكون متوترة في يوم زي دا 
قالتها عليا، فاستنكرت خلود مفهومها وردت مُستاءة: 
_ هو وليد دا أنا لسه عارفاه من يومين؟ إحنا مع بعض بقالنا ٣سنين، معتش فيه فرق بينا خلاص.. 

_ أومال أنا كنت مرعوبة يومي ليه؟ 
تساءلت عليا بفضولٍ، فضحكت خلود وهتفت ساخِرة: 
_ يا بنتي أنتوا علاقتكم كانت، نفذ يا عسكري، تمام يا فندم 

انفجرت خلود ضاحكة، وهي تُمثل الموقف كأنها عسكريًا يقف أمام الضابط الأعلى رُتبه منه يُلبي أمره بوضعه يده قُرب رأسه، فلكزتها عليا وصاحت بحنقٍ مُصطنع: 
_ أمك السبب يختي.. مكنتش بعرف أعمل حاجة بسببها

_ لا والله أنتِ اللي عبيطة، ما أمك هي هي، بس الفرق إننا كنا بنسرق اللحظات الحلوة، دا غير إن وليد كان قلبه جامد وبيعمل اللي هو عايزه ومش بيخاف منها، لكن جوزك ياعيني كان بيترعب منها.. 
نطقتها خلود مُتهكمة، فاستنكرت عليا وصف زوجها بالجبان وعدّلت ذلك الوصف: 
_ مسمهاش بيترعب منها، قولي بيحترمها.. 

سحبت نفسًا عميق ثم تابعت: 
_ أنا خلصت، وراحة لجوزي، لما نشوف فتحة الصدر دي هتدوم لإمتى

أطلقت عليا ضحكة ساخِرة فقلبت خلود عينيها مُستاءة ورددت بثقة: 
_ يا بنتي عمري ما أخاف من وليد والله، أنتِ بس اللي مش عارفاه.. 

_ كفاية أنتِ عارفاه.. سلام يا كتكوتة 
ودعتها عليا ثم خرجت من الغرفة، بينما وقفت خلود تخلع فستانها
في الخارج؛ انسحب الجميع من البيت؛ فولج وليد إلى الغرفة فصرخت فيه خلود مانعة دخوله وهي تخفي معالم جسدها بفستانها: 
_ استني، خد البيجامة بتاعتك أهي واستناني برا..

استنكر وليد ذلك ثم رفع حاجبيه مُرددٍ بعدم إعجاب: 
_ هو أنا مستني ٣ سنين خطوبة عشان يوم الفرح يتقالي خُد البيجامة بتاعتك واستناني برا! 

ضحكت خلود وأوضحت إليه مقصدها من خلف طلبها: 
_ ما أنا عايزاك تتفاجئ يا ليدو، يلا بقى استنى برا 

أطال النظر بها قبل أن يُردد ببسمةٍ عذبة حماسية: 
_ ما بقى إلا القليل، يا مسهل 

قالها ثم أخرج تنيهدة بلوعةْ لا يُطيق الإنتظار؛ سحب بيجامته وخرج من الغرفة، فأسرعت هي في إغلاق الباب خلفه، فذهب وليد إلى ردهة البيت ووقف يتفقد بيجامته مًرددًا بتهكمٍ: 
_ وبيجامة إيه دي كمان اللي هلبسها يوم فرحي؟ 

ألقاها على الأريكة، وأخذ يخلع حُلته إلى أن بات لا يرتدي سوى سِروالًا قصير، فضّل المُكوث به، تلك الأثناء صدحت اهتزازة قوية من هاتفه مُعلنة عن وجود اتصال، فعقد وليد ما بين حاجبيه بغرابةٍ لذلك الإتصال. 

لَقِف الهاتف ثم هز رأسه يمينًا ويسارًا عندما قرأ إسم المتصل، وأجاب في الحال: 
_ والله العظيم كنت عارف إنه أنت، مش معقول حد معندوش دم غيرك هيكلمني دلوقتي! 
هنبتديها رخامة من بدري كدا؟
أنا قولت مثلًا هتصحيني الصبح بدري، لكن دا أنا لسه واقف بالشورت يا حبيبي عيب كدا 
اخلص عايز إيه يا زكريا 

قهقه الآخر وتحدث بسخافةٍ: 
_ واقف بالشورت ليه، معندكش هدوم؟ أطلّعلك من عندي؟ 

_ لا يا سيدي متشكر، دا أنا لو هقعد ملط مش عايزك تيجي.. 
هتفها وليد بنفاذ صبر، فتابع الآخر مشاكسته:
_ اتعشيتوا من الأكل اللي أنا جايبه؟ 

_ يابني هو أنا لحقت أعمل حاجة؟ بقولك أختك طرداني من الأوضة وواقف في الصالة بشورت! 
أخبره وليد بإنكارٍ لتلك المكالمة الغير منطقية، فهلل زكريا بفرحة: 
_ من أولها كدا طرداك برا الأوضة، ادبح لها القطة يابني من بدري.. 

تلك الأثناء؛ فُتِح باب الغرفة وخرجت منه خلود بِطلةٍ خفق قلب وليد إثرها، اهتز كيانه لتلك الهيئة التي يراها عليها لمرته الأولى، كم كانت رائعة، للمرة الأولى الذي يفهم فيها معنى كلمة أنثى. 

إلتوى ثِغره للجانب مبتسمًا بجاذبية، ثم قال بعقلٍ هائم: 
_ طب بالسلامة أنت يا زكريا..

_ رايح فين؟ 
تساءل الآخر بفضولٍ فردَّ وليد وعينه يتفحصان كل أنشٍ بخلود:
_ رايح ادبح القطة.. 

أنهاها ثم أغلق الهاتف وألقاهُ بعيدًا دون النظر للعواقب، وقف وليد يتطلع بها بعينين تلمعان من شِدة إعجابه بمظهرها الفريد الذي وحده يمكنه رؤيتها عليه، ذلك الحين راوده مقطعًا من إحدى الأغاني فرددها وهو يُشير لها بالقدوم إليه: 
_ قدُك المياس يا عمري
يا غُصين البان كاليُسر
أنت أحلى الناس في نظري
جل من سواك يا قمري

جاءته وهي تتغنج بدلالٍ بالغ، فهلل الآخر دون تصديق: 
_ سيدي يا سيدي..

وصلت إليه وقامت بالتعلُّق في رقبته، فرفعها وليد عن الأرض بمحاوطتة خَصْرِها بذراعيه، ثم اقترب من وجهها حتى شعر ببعض حواسها القريبة من وجهه، وهمس بعذوبة أمام شفتيها: 
_ إيه الدلع دا؟ لا متوقعتش الجُرأة دي، كنت راسم إنك هتطلعي عيني زي الخطوبة كدا 

_ مش من حقي دلوقتي.. 
تمتمت بها فكان وليد متفاجئًا بشخصيتها الجديدة، وعلّق بسعادةٍ:
_ ولا يا ولا، دا شكل الدلع للرُكب 

ابتسمت خلود في خجلٍ، فأضاف وليد متسائلاً: 
_ طب مش خايفة مني؟ 

نظرت إليه خلود بجبينٍ مقضوب، وردت بحيرة: 
_ لأ، ليه بتقول كدا؟ 

أوضح له مقصده من سؤاله: 
_ يعني.. البنات في يوم زي دا بيكونوا خايفين ومتوترين.. كدا يعني 

ابتلعت خلود ريقها قبل أن تُخبره بنبرةٍ مُدللة: 
_ ممم بس أنت حبيبي، حد يخاف من حبيبه؟! 

انحنى وليد على شِفاها وطبع قُبلةً رقيقة، وهمس بصوتٍ عذب مُتيم: 
_ والله أنت اللي حبيبي

ثم تراجع للخلف مُحاولًا تفقد قميصها قبل أن يُبدي إعجابه الشديد: 
_ أول مرة أفهم جُملة صِبرت وِنُولت.. 

فعضّت الأُخرى شِفاها بحياءٍ ولم تستطع منع سؤالها الذي دفعه فضولها حول معرفة إجابته: 
_ يعني أنا حلوة؟ 

_ يخراشي، هو دا سؤال؟! دا أوي أوي
قالها وهو يغمزها بمشاكسةٍ، ثم خَطى خُطواته باتجاه الغرفة وهو يدندن: 
_ عيونك سود يا محلاهم قلبي تلوع بهواهم
صار لي سنتين بستناهم حيرت العالم فى أمري

فأطلقت خلود قهقهةً عالية فهلل وليد: 
_ يا الله 

ثم ركل باب الغرفة عندما بلغها، كأنه يزيل آخر حاجزٍ يفصل بينه وبين بداية حياتهما الخاصة، فكانت الغرفة شاهدةً على لحظةً يُكتب فيها فصلًا جديدًا من عُمرهما، فصلًا عُنوانه البِدء معًا. 

***

صباح اليوم التالي، طلع النهار وقد أشرق يومًا جديدًا على العروسين يحمل الأمل والبِدايات، استيقظت خلود بحالٍ ليس على ما يُرام، لكنها لم تُظهر، كانت رؤياها مشوشة وتشعُر بِدوارٍ طفيف. 

وعندما حاولت التحرُك من على صدر وليد، تسببت 
في قلقِه، فتساءل بصوتٍ ناعس:
_ راحة فين؟

_ معتش عارفة أنام.. 
اكتفت بها، فأعادها وليد إلى حُضنه، ثم قبّل خُصلاتها وهمس:
_ متبعديش عني، لسه مشبعتش منك.. 

مال برأسه قليلًا ليتلاقي مع عينيها وسألها باهتمامٍ: 
_ أنتِ كويسة دلوقتي؟ 

_ بصراحة مش عارفة، حاسة إني دايخة..

عبِست ملامح وليد وأردف: 
_ دا أكيد عشان متعشتيش امبارح.. 

أطلق ضحكة خبيثة قبل أن يُضيف:
_ الغلطة دي عندي، مقدرتش اصبر شوية، أنا آسف.. 

ثم نهض فجأة وقام بجذب يديها لِيُساعدها على الوقوف قائلًا بحماسة: 
_ قومي نفطر، عشان تبقي كويسة.. 

أماءت خلود برأسها، وسارت إلى جواره حتى شعرت بأنفاسها تُثْقل ورأسها يدور بشِدة فتعلقت في ذراع وليد هامسة بنبرة تائهة: 
_ مش قادرة.. أنا تعبانة

وما أن قالتها حتى خارت قواها واختل توازنها، فأسرع وليد في اللِحاق بها قبل أن تسقط أرضًا، حملها بين ذراعيه ووضعها على الفِراش بقلبٍ ينبض خوف، وظل يُناديها وهو يضرب وجهها بِخفة: 
_ خلود.. متقلقنيش بالله عليكي، إيه اللي حصل دا؟؟ 

انتصب وليد في وقوفه وطالعها بِذُعرٍ وصدرٍ يعّلوا ويهبط خشية أن أصابها مكروهٍ، وضع يديه التي ارتجفتا في منتصف خصرٍه يحاول جمع شتاته الذي تبعثر لِيُحسِن التصرف، وعندما فشل في جعلها تستيعد وعيها قام بالإستعانة بهناء: 
_ لو سمحتي اطلعي بسرعة يا مرات عمي، خلود وقعت فجأة ومش عارف أعمل لها إيه؟!

فقط مر بِضع دقائق، وكان الجميع يَغْزُون البيت، وعلى الرغم من التزاحم إلا الهدوء كان يَعُم  المكان، منتظرين حضور زكريا للطبيب. 
ولم يخلوا وليد من النظرات المعاتبة في عيون الواقفين. 

حتى أن والدته نادته وتحدثت معه في زاويةٍ لا يستطيع أحد سماعها بها:
_ أنت عملت لها إيه يابني، ما البنت كانت زي الفل امبارح؟ 

فارت الدماء في عروق وليد وبرزت بشِدة ثم صاح: 
_ هعملها إيه يعني؟ إيه السؤال الغريب دا؟!

وما كاد يُنْهي جُملته حتى خرجت هناء مُهللة بهلع: 
_ أنا عايزة أعرف بنتي حصلها إيه؟ 

أغمض وليد عينيه بضجرٍ ثم استدار بجسده وواجه زوجة عمه قبل أن يُعطيها ردًا: 
_ ما أنا قولت لحضرتك، صحيت من النوم قالت إنها دايخة، خمنت عشان متعشتش بليل وقولت لها قومي نفطر وفجأة وقعت كدا.. 

_ وإيه اللي خلاها متتعشاش بليل؟
صدح سؤالها فوقع وليد في كومة خجلٍ ولم يستطع إعطائها إجابة، ثم انتبه الجميع على الباب الذي دخل منه زكريا، فكان حضوره للطبيب ملجأً لوليد للهرب من سؤال زوجة عمه. 

ولج الطبيب إلى الغرفة، ورافقاه وليد وهناء التي رفضت البقاء في الخارج، بعد قليل؛ خرج الطبيب وشرح وضع خلود بعملية: 
_ اطمنوا يا جماعة، خير إن شاء الله 
بس واضح إنها ضعيفة شوية، ومحتاجة تهتم بصحتها أكتر، وياريت تعمل تحليل أنيميا عشان نشوف لو قليلة تاخد علاج، على العموم أنا ركبت لها محلول وهتحتاج واحد تاني بليل عشان تكون أفضل، حمد لله على سلامتها.. 

تدخلت هناء مُعقبة: 
_ أيوا فعلًا دي بقالها يجي أسبوع مأكلتش كويس.. 

حدجها وليد بعيون واسعة، للتو كان ترمي اللوم عليه، حرك رأسه بإنكارٍ ثم وصّل الطبيب إلى الخارج وعاد من جديد يرمقهم بنظراتٍ واثقة فكان كل كلمة من الطبيب أظهرت براءته، وأشارت للآخرين أنه ليس هو المسؤول. 

دلف الجميع إلى الغرفة ليطمئنوا على خلود إلا من زكريا الذي لحِق بوليد قبل دُخوله ونهره: 
_ أنت عملت في البت إيه يالا؟ 

_ وحياة أمك هناء؟! على أساس كلام الدكتور مكنش قدامك؟! 
هتفها باستياءٍ شديد، ثم قلب عينيه ضجرًا وتمتم بغيظٍ: 
_ عيلة أسهل حاجة عندها يغلطوني، دا حتى أمي اتعلمت منكم..

قهقه زكريا ودفع بوليد نحو الغرفة هاتفًا بمزاحٍ:
_ طب ادخل يا خفيف.. 

ولج كلاهما الغرفة، فتفاجئ وليد بانكماش خلود على نفسها، وما أن رأته حتى لامته بإشاراتٍ من عينيها أنه تركها تواجه ذلك الكم بمفردها، فكانت خَجِلة لا تقدر على مواجهة عيونهم. 

استشعر وليد ذلك من خلف شِفاها التي آكلتها وتوجه نحوها بِخُطى ثابتة، ثم جاورها وحاول جذب انتباها إليه: 
_ كدا تخضيني عليكي يا خوخة؟ 

نكست رأسها وردّت بخفوت: 
_ مش عارفة إيه اللي حصلي فجأة كدا.. 

وما أن استمعت لها هناء حتى صاحت تلُومها: 
_ عشان تِبقي تسمعي كلامي وأنا بتحايل عليكي طوب الأسبوع تاكلي كويس وتهتمي بصحتك، وأنتِ كل اللي عليكي مش فاضية، مش قادرة، بعدين، وآخرتها متتعشيش امبارح، كان وراكي إيه شاغلك عن الأكل؟ 

برقت عيني خلود وهو تَتَطلع في والدتها، غير قادرة على إعطائها إجابة، ناهيك عن وليد الذي لم يرفع عينيه البتة عليهم، فكان واضحًا للجميع الإجابة، فبادر محمد بالحديث: 
_ يلا جماعة ننزل، ملوش لزوم وجودنا هنا، طلاما اطمنا عليها.. 

ثم نظر إلى ابنته وقال: 
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبتي، خدي بالك على نفسك أكتر من كدا

ثم أمر هناء قائلًا: 
_ يلا يا هناء سيبي البنت ترتاح 

أبت النزول معه مُعلِلَة: 
_ انزل أنت، أنا هحضرلها الفطار الأول وبعدين أنزل وراك.. 

تدخل وليد مُرددًا: 
_ متتعبيش نفسك يا مرات عمي، أنا هعمل لها الفطار بنفسي.. 

باسيتاءٍ وتزمجرٍ هتفت: 
_ يا أخويا كنت خليتها تتعشى الأول.. 

لم يستطع زكريا منه ضحكاته التي خرجت رغمًا عنه فتوعد له وليد بنظراته، بينما لم يتقبل محمد إصرار زوجته وأمرها بجدية:
_ يلا قدامي يا هناء، جوزها يحضرلها الفطار.. 

وعندما استشفت نبرته الجادة لم تُبدي اعتراضٍ، وأسبقت بِخُطاها إلى الخارج، تلاها الجميع حتى بات البيت خاليًا إلا من خلود وليد الذي أخرج زفرةً كان يكتُمها داخله. 

_ عاجبِك اللي عملتيه فيا دا؟ كلهم فكروني عملت فيكي حاجة؟! 
قالها وهو يهُز رأسه ويضحك مُتذكرًا اتهامات الآخرين، فشاركته خلود الضحك ورددت باستحياء: 
_ أنا آسفة والله.. 

تنهد وليد ثم نهض وردد ساخرًا: 
_ يعملي إيه آسفك دا بس، لما أروح أحضرلك الفطار وأجي..

أولاها ظهره ثم توقف وعاود النظر إليها، مُتسائلًا بابتسامةٍ عريضة: 
_ أومال أنتِ متعشتيش امبارح ليه صحيح؟ 

غَزت البسّمة وجه خلود، التي أسرعت في إخفاء وجهها بيدها التي تستطيع تحريكها وهتفت بتذمرٍ مصطنعًا: 
_ إمشي يا وليد من هنا.. 

قهقه عاليًا وانسحب من الغرفة، قام بتحضير الفطور لهما وعاد إليها، شَرعَ وليد في تناول الطعام كما يُطعمها بيده حتى امتلأت معدتها فقالت: 
_ كفاية، شِبعت..  

_ متأكدة؟ بدل ما تقعي تاني، مش ناقص إتهامات تانية!! 
بمزاحٍ هتف، فأكدت خلود على كفايتها من الطعام فأعاد الصينية إلى المطبخ وعاد إليها متسائلًا باهتمامٍ:
_ محتاجة حاجة اعملهالك؟ 

أماءت وأخبرته: 
_ شعري مضايقني، ممكن تجمعوا..

تفقد وليد خُصلاتها الشارِدة قبل أن يبدأ بالبحث عن الفُرشاة ورِباط الشعر المُلون، عاد إليها وجعلها تجلس في وضعيةٍ يُمكنه الجلوس خلفها وبدأ يُمشط شعرها برفقٍ كي لا يؤلمها، ابتسم حينما تذكر شيئًا وشاركه معها: 
_ فاكرة وأنتِ صغيرة لما كنا بنلعب كلنا في الشارع وشعرك كان مضايقك وبينزل على عينك وأنا وقفت ضفرته ليكي.. 

عقدت خلود ما بين حاحبيها مستاءة من عدم تذكُرها للأمر ورددت: 
_ إيه دا، امتى الكلام دا؟ مش فاكرة حاجة! 

_ كنتي صغيرة أوي، تقريبًا كنتي ٤ سنين، أكيد مش هتكوني فاكرة.. 
تمتم بحنينٍ لذكراه التي تركت أثرًا جميل داخلهما، ثم تابع نسج جديلة من خُصلات شعرها الطويلة بحرفية وجمال، حتى انتهى منها فضمها إلى صدره بلهفةٍ وخوف ظهر في صوته:
_ خوفتيني عليكي أوي يابنت الإيه، مكنتش أعرف إني بحبك للدرجة دي، حسيت إن روحي اتسحبت مني ومتردتش إلا لما  اطمنت عليكي.. 

كلامه كان بابًا قد تسللت منه السعادة إلى قلبها، فانعسكت ابتسامة فرحة على ثِغرها، أخذت يده الموضوعة عليها ورفعت كفه عند فمِّها ثم طبعت قُبلة رقيقة داخله، هامسة وعينيها تلتقي بعينه:
_ ربنا يخليك ليا

رفع وليد يدها وقبّلها بحبٍ، وصرَّح بمشاعره الدافئة: 
_ ويخليكي ليا يا أغلى من روحي.. 

استندت خلود برأسها على كتفه، وغمرت مشاعر الحب والأمان والدفء المكان، فصار الجو من حولهما كأنَّه حضن لا يُفارق قلبَيهما. 

*** 

في أحد أيام الربيع، حيث النسيم العليل يُلاعب أوراق الأشجار والطيور تُغرد بألحانها العذبة، وانتشر عبير الزهور في الأرجاء، كان الجو بديعًا يملأ القلب صفاءً وسعادة. 

يجلس الجميع في حديقة بيت المزرعة، كما اعتادوا في آخر يومٍ من كل شهر، كانت فكرة عبدالله قد اقترحها لتجميع العائلات، الأحباب والأصدقاء معًا، كما يُشرك والدته معهم أيضًا بطهي وجباتٍ لا حصر لها وتوزيعها على المحتاجين. 

لَقِف عبدالله ذلك الصغير الذي يركض نحو الموقد وأخذ يُدغدِغه وسط صراخٍ وضحكات منه، فهتف عبدالله مُشاكسًا: 
_ أنت شكلك جُعت، صح؟ تعالى لما نسرق لنا كفتة ونجري.. 

رفع عبدالله صغِيره وأجلسه فوق كتفيه ثم توجه به حيث الموقد وقال: 
_ يا مامي، يَحيىَ جعان وعايز كفتة 

رمقته صبا بطرف عينيها قبل أن تهتف بحاجبين مرفوعان: 
_ يَحيىَ برده اللي عايز كفتة؟

مال عبدالله برأسه نحوها وهمس قُرب أُذنها: 
_ يَحيىَ، أبو يَحيىَ، الإتنين واحد يا أم يَحيى 

غمزها فضحكت صبا ثم أخذت واحدة وقامت بإطعام عبدالله في فمه، فأغمض عبدالله عينيه مُلتذِذًا بطعمها الذكي ثم هلل بإعجابٍ: 
_ تحفة تحفة، إرميلي ١٣ واحدة تانين كدا 

قهقهت صبا ثم دفعته بعيدًا وقالت:
_ أنت عايز تاكلها لوحدك، روح أقعد وإحنا خلاص بنحضر الأطباق وهتاكل.. 

رمقها عبدالله شزرًا ثم أولاها ظهره وغادر متمتمًا لإبنه:  
_ تعالى نروح نلقط رِزقنا من الشيش طاووق اللي هناك دا 

_ يا زكريا، حرام عليك بجد، سايبلي ليلى وآيلا وقاعد تتمشى هنا وهناك، طلاما مش بتعمل حاجة خُد واحدة منهم أو ياريت الإتنين عشان بيجروا ومعطليني.. 
صدح صوت ليلى متوسلة زكريا بأن يصطحب التوأم، فجسى زكريا على رُكبتيه وتناوب بنظره بينهن وقال:
_ أنتوا مش بتلعبوا مع ولاد عمتوا عليا ليه؟ 

_ تؤتؤ.. 
قالتها إحداهن وهي تُحرك إصبعها رافضة، فتساءل زكريا عن السبب: 
_ ليه بس؟ 

_ ماما.. 
اكتفت بقولها، فهي لا تستطيع ترتيب جُملةً كاملة بعد، بينما نظر إلى الآخرى الساكنة وقال بمزاحٍ: 
_ طب ليلى وفهمنا أسبابها، وأنتِ مش بتلعبي معاهم ليه يا آيلا؟ 

_ ليلى..
نطقتها بتلعثمٍ فهز زكريا رأسه مُتفهمًا ثم هتف وهو يهُزها برفقٍ: 
_ يا بنتي خلي عندك شخصية، هتفضلي ماشية ورا ليلى كدا لغاية امتى؟

ثم قام بحملِهن وأخذ يُلاعبهن تحت ضحكاتٍ بريئة منهن. 

على جانب آخر؛ انتقت خلود مِقعدٍ بعيد عن الطعام، إذ لا تتحمل شم رائحته بسبب حملِها، اقترب منها وليد عندما رآى تعابيرها مشمئزة وتساءل: 
_ أنتِ كويسة؟ 

_ ريحة الأكل قالبة مُعدتي، قولت لك بلاش أنا المرة دي، وأنت أصريت.. 
وما كادت تُنهيها حتى راودها شعور الغثيان فركضت مهرولة إلى الداخل لِتُفرغ ما في معدتها. 

وبينما كانت زينب تضع الطعام على الطاولة المستطيلة التي قاموا بوضع عِدة طاولات جنبًا إلى جنب لتصبح مائدة طويلة تكفي الجميع، نادتها نهال: 
_ زينب حبيبتي، أحط الأطباق دي فين؟ 

بابتسامة هادئة أشارت زينب إلى هناك: 
_ في كراسي هناك قدامها فاضي، ممكن حضرتك تحطيهم هناك، مع إن شايفة إن ملوش لزوم تتعبي نفسك وإحنا هنحضر كل حاجة.. 

_ بصراحة أنا مبسوطة وأنا بعمل كدا، الأجواء هنا جميلة أوي.. 
صرَّحت نهال باعجابها الشديد لتلك التجمعات، ثم توجهت حيث أشارت زينب ووضعت ما معها من طعامٍ وعادت من جديد تحمل الأطباق الأخرى، بينما علّق عاصم على تصرفات والدته ببعض الدهشة: 
_ والله أنا مش مصدق إن أمي بتعمل كدا، بركاتك يا زوزو

قهقهت زينب ثم وضعت في يده طبقًا وأوضحت: 
_ أنت هتفضل تعلق على اللي رايح واللي جاي بس، ساعدني يلا.. 

كادت تُغادره، لكنه لحِق بها وأمسك ذِراعها وقال بنبرةٍ أنهكها الإنتظار: 
_ أبوس ايدك كفاية فترة تعارف لغاية كدا، وافقي نتجوز بقى.. 

استنشقت زينب نفسًا عميق وأردفت مُختصرة: 
_ مش وقته، خلينا نخلص اليوم دا وبعدين نشوف موضوع الجواز.. 

أولاته ظهرها وغادرت، بينما وقف يُتَابعها هو بشوقٍ حار وعيون لامعة من شِدة تلهفه لإتمام زواجهم، خرج من شروده من تعليقٍ ساخر: 
_ لسه برده منشفة دماغها؟ 

مال عاصم حيث مصدر الصوت فاذا به عبدالله، حرك رأسه مُبديًا انزعاجه وأجابه بفتورٍ: 
_ مش عارف هنفضل كدا لغاية امتى؟! 

_ هتقبل النهاردة!! 
هتفها عبدالله ثم غمزه ومشى مُبتعدًا عنه، فجدد الأمل داخل عاصم الذي ابتسم بعفوية وذهب يضع الطبق الذي بيده على الطاولة. 

عِند بوابة الحديقة، دخلت سيارة حديثة بِخُطواتٍ 
صاخبة، كل العيون ارتكزت عليها ف صمتٍ مفاجئ، وما أن فُتح بابها، ونزل منها آدم وڤاليا فتجمدت الأنفاس وعلت علامات الدهشة على وجوه الجميع، فلم يتوقعوا حضورهم اليوم. 

أمسك آدم يد ڤاليا ثم باليد الأخرى حمل صغِيره ذو الشهور الأولى وولج نحو أبيه الذي ألقى بنفسه بين ذراعيه بشوقٍ حار، فلم يتحلى برؤياه منذ زمنٍ بعيد. 

ثم حمل عنه صغيره ورمقه بعيون متأثرة، فكان يشبه آدم بشكلٍ كبير، ابتسم بسعادةٍ ثم نظر إليهما ورحب بهما: 
_ حمد لله على سلامتكم، نورتوا بيتكم

_ الله يسلمك
قالاها في آنٍ واحد، ثم توجهت أنظار ڤاليا تلقائيًا إلى عائلتها، وقد حملت صغيرها عن قاسم وتوجهت إليهم بعد أن استمدت الشجاعة من عيني آدم الذي تَبِعَها. 

وقفت أمامهم ثم نظرت إلى صغِيرها وقالت: 
_ عز يا دادي.. حفيدك

جسمٍ صغير لا يتخطى عمره الأربعة أشهر قد أعاد إلى عز دفءٍ ومشاعرٍ جميلة تجاه ابنته، ثم علا صوت آدم من خلفهم: 
_ أنا وعدت ڤاليا إني زي ما كنت سبب في تفريقكم أكون السبب في جمعكم، عشان خاطر عز الصغير سامِحنا.. 

ترقرقت العبرات من عيون عز ثم انحنى على الصغير وقَبلهُ على جبينه، رفع عينيه على ڤاليا التي تترقبه بلهفةٍ شديدة، ودون أن تُدرك فِعلته قام بجذبها إلى حُضنه فباتت هي وصغيرها ينعمان بحضن عز الذي أعاد لڤاليا الأمان لطالما افتقدته منذ رحيلها عنه. 

وعندما اطمئن آدم من عودة الوِصال بينهما توجه إلى عبدالله، لقد حان دوره في أخذ مسامحةً منه ليوطد علاقته به، وقف أمامه وقبل أن يتحدث كادت تغادر صبا المكان لكن آدم قد لحِق بها وقال: 
_ وغلاوة يَحيىَ تستني.. 

توقفت صبا على مضضٍ، فبدأ آدم حديثه بمزيجٍ من الندم والرجاء: 
_ أنا عارف إنكم أكتر ناس أنا آذيتها، وكان آذى كبير وعواقبه كبيرة، بس برده أنا دفعت التمن، وعندي أمل إننا نكون عيلة، إنكم تقبلوني بينكم ووسط كل الناس دي
أنا ندمان والله، اتعاقبت واتربيت واتحرمت من حاجات كنت بحبها، كفاية لغاية كدا، آن الأوان إن ولادنا يكبروا وسط عيلة بتحب بعض
مش عايزهم يعرفوا يعني إيه كُره، أنا أذيتكم نتيجة إني اتربيت على كُره من صغري
ومش عايز أكرر دا مع ابني، عايزه يطلع سوي ودا مش هيحصل غير لما يتربى وِسط عيلة بتحب بعضها ومفيش بينهم خلاف ولا زعل

تماسك آدم قدر الإمكان لألا يبكي ثم خص صبا بالحديث: 
_ سامحيني يا دكتورة، عشان خاطر ربنا تسامحيني وتنسي اللي فات! 

انهمرت دموع صبا رغمًا عنها، حملت صغيرها الذي يَشُد في ملابسها ونظرت إليه ثم تفقدت ڤاليا التي انضمت إليهم هي وصغيرها ثم قالت لآدم: 
_ هسامحك عشان خاطر ابني وابنك يطلعوا سويين ويحبوا بعض، عشان تجربتك أنت وعبدالله متتكررش تاني.. 

زفر آدم أنفاسه الحبيسة، لقد أزالت صبا ثِقل ذلك الحِمل من على صدره، لم يشعر بابتسامته التي غزت شِفتاه بسعادةٍ عارمة، وحينها نظر إلى عبدالله الذي فتح له ذراعيه فلم يتردد لحظة وألقى آدم بنفسه على الفور شاعِرًا بِدِفء الإخوة لطالما افتقر إليه. 

استغل عاصم تلك الأجواء الحميمية، واقترب من زينب التي تبكي في صمتٍ تأثُرٍ بما يحدث حولها، لكزها بخفة وهمس: 
_ يعني مش عيب كل دول يفرحوا كدا وأنا لأ؟

مسحت زينب دموعها براحة يدها، ثم قالت بهدوءٍ: 
_ أنا موافقة.. 
اتسعت حدقتي عاصم بذهولٍ وهتف ليتأكد: 
_ قولي واللَّه
_ واللَّه 
أقسمت فهلل عاليًا دون تصديق: 
_ اللَّه أكبر..

تحولت النظرات عليه، فضحك وصاح: 
_ اعذروني يا جماعة، من حقي والله، دا أنا بقالي سنتين بتحايل عليها توافق نتجوز!! 

قفز في الهواء واستأنف حديثه ببهجةٍ شعر بها من هم حوله: 
_ النهاردة الحد، يوم الخميس الجاي الفرح، كلكم معزومين 

فغرت زينب فاها بصدمةٍ وأردفت بعيون واسعة: 
_ خميس إيه، أنت بتقول إيه؟ 

_ واللَّه العظيم ما انا راجع في كلامي أبدًا، الخميس يعني الخميس، أنا مش ضامنك، دلوقتي تقولي موافقة وتيجي كمان يومين ترجعي في كلامك، فإحنا نلحقك أحسن 
هتفها بأسلوبٍ طريف جعل الجميع يضحكون، ثم توجهوا إلى المائدة وأخذت كل عائلة مكانها، وقبل أن يشرعوا في تناول الطعام هتف عبدالله: 
_ متنسوش أمي من دعائكم.. 

فدعوا لها جميعًا بالرحمة، وشرعوا في تناول الأطعمة الذكية، وبينما كان الجميع مُنشغلًا بين الأكل والأحاديث الجانبية كان قاسم مُترأس الطاولة، يجلس في صدر المجلس كأن المكان يستقيم به، يُمرّر نظراته على الوجوه من حوله، أبناؤه، أسرته، أصدقاؤ وعيناه مُمتلئتان بحب صافٍ وامتنان دافئ
            تمت بحمد الله 

تعليقات



<>