رواية هيبة الفصل السابع والخمسون57 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة بقلم مريم محمد غريب
رواية هيبة الفصل السابع والخمسون57 بقلم مريم محمد غريب
خايفة من إيه يا ريري؟

في دار المناسبات التابعة لمسجد الشرطة بقلب المدينة ..

بدا المشهد مهيبًا تغلفه أجواء الوقار في آنٍ، القاعة الفسيحة ذات الأعمدة البيضاء تتلألأ بأنوار ثرياتٍ ضخمة تتدلّى من السقف العالٍ، تنعكس أشعتها على أرضيةٍ لامعة كأنها مرآةٍ مصقولة ..

على الجوانب انتصبت مقاعد أنيقة مغطاة بأقمشة بيضاء ناصعة، تتخللها شرائط ذهبية تزيد المكان فخامةً وجلالًا ..

تزيّنت المداخل بأقواس من الزهور الطبيعية، بيضاء وحمراء متشابكة بخيوطٍ من الياسمين ينبعث منها عبقٍ طيّب يملأ الأرجاء، وعلى جانبي الممر الممتد إلى منصة العقد، انتصبت أعمدة مضاءة بإنارة دافئة، تعانقها باقات ورد مرتبة بعنايةٍ، فيسير القادمون كأنهم يدخلون إلى حديقةٍ سماوية ..

في صجر القاعة وضعت طاولة مستطيلة مكسوّة بمفرشٍ أبيض تتخلله زخارف مذهبة، أُعدت لتشهد لحظة العقد، وخلفها مقاعد مخصصة للعروسين وذويهما ..

في المنتصف جلس المأذون الشرعي، على يمينه جلس السفير "عاصم البدري" بحلّته السوداء الأنيقة، بجواره ابنته "ريهام" بثوبها الأبيض الطويل ذي الأكمام الشفافة، وقد وضعت وشاحًا خفيفًا على رأسها ..

في الجهة الأخرى، جلس "زين نصر الدين" مرتديًا بذلته الرسمية الداكنة، بجواره جدّه "رياض نصر الدين" وأبيه "طاهر نصر الدين" ..

وبضعة من أصدقاء العريس بالخلف ..

ثم فجأةً رفع المأذون صوته بقراءة آياتٍ من القرآن الكريم صدحت عبر مكبّرات الصوت وسط خشوع الحاضرين وهدوئهم: بسم الله الرحمن الرحيم.. "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ".. صدق الله العظيم ..

ثم ألقى مقدمته المعهودة:

الحمدلله الذي شرّع النكاح وجعله ميثاقًا غليظًا. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد
أيها الجمع الكريم. نحن هنا اليوم لنُتم عقد نكاح ابنتنا المصون ريهام عاصم صفوان البدري ..

بعدها طلب من "زين" و"عاصم" أن يتصافحا وأرخى محرمًا أبيضًا فوق أيديهما، ثم إلتفت إلى ولي العروس وسأله بعبارةٍ رسمية واضحة:

-حضرة الولي. هل تزوّج ابنتك ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد. إلى هذا الشاب. زين ابن طاهر على الصداق المسمّى بينكما؟

ردّ "عاصم البدري" بلهجته العميقة الواضحة:

-نعم.. زوّجت ابنتي ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد. إلى زين ابن طاهر على الصداق المسمّى بيننا. والله على ما أقول وكيل.

نظر المأذون إلى "زين" مستطردًا:

-وانت يا سيد زين. هل قبلت الزواج من ريهام بنت عاصم البِكر الرشيد على الصداق المسمّى بينكما؟

جاوبه "زين" بصوته القوي الواثق وهو ينظر مباشرةً بعينيّ أبيها:

-قبلتُ زواجها على الصداق المسمّى بيننا. والله على ما أقول وكيل.

سحب المأذون المحرمة وهو يعلن ببشاشةٍ:

-زواجٌ مبارك.. بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير
ليشهد الحضور جميعًا على تمام العقد. فقد انعقد الزواج مستوفيًا شروطه وأركانه الشرعية.

أجفلت "ريهام" لأول مرة الآن، عندما هبّ الجميع من مجالسهم مهنئين، نظرت بارتباكٍ إلى أبيها الذي صافح "زين" بحرارةٍ، ثم انتقل ليصافح بعض الرجال الآخرين ..

بينما ينتبه "زين" إليها أخيرًا، رآها لا تزال في مكانها، تجلس وقد بدا عليها الاضطراب الشديد، كأنها طفلة عالقة في زحامٍ غريب ..

ابتسم وهو يقترب منها هاتفًا:

-إيه يا ريري.. مالك يا حبيبتي؟

رفعت وجهها إليه ولم تقوَ على التحدّث للحظاتٍ، ثم قالت بتلعثمٍ:

-آ أنا.. أنا خايفة!!

تلاشت ابتسامته في الحال وهو يسألها باهتمامٍ:

-خايفة من إيه يا ريري؟

واقترب أكثر، أمسك بيدها من فوق قدمها وشدّها لتقف أمامه، لم تقاومه أبدًا، بينما تقول بصوتٍ خافت أضطره لخفض رأسه قليلًا صوبها:

-المكان ده كبير أوي.. و. وكل إللي هنا ولاد. انت ولد وبابي ولد وده ولد ودول كلهم ولاد مافيش بنت واحدة غيري!

ضحك "زين" بخفةٍ وهو ينظر إليها من جديد قائلًا:

-بجد يا ريري؟ خلّيتي سيادة السفير ولد وأنا زين نصر الدين أشهر رائد في الداخلية ومعايا زمايلي وكوادر الشرطة وكلنا على بعض كده ولاد؟!
ماشي يا ريري إللي تشوفيه!

حانت منه إلتفاتة نحو أفراد عائلتهما ليجدهم منخرطون في حديث التعارف ذاك ..

ثم عادو النظر لها وقال بجدية:

-بصي يا حبيبتي احنا جينا هنا عشان نكتب كتابنا. عشان نتجوز
والموضوع ده عشان يتم لازم في وجود رجالة بس. الحريم. أو البنات مش ضروري يكونوا موجودين
البنت الوحيدة إللي وجودها مهم هي انتي. عشان تمضي على عقد الجواز. وانتي شاطرة وعرفتي تمضي.

سرّها مدحه، فابتسمت برقةٍ مظهرة غمازتاها وهي تقول:

-آه صح. أنا مضيت
يعني خلاص أنا كده اتجوزتك؟ بقيت عروسة زي ما قولتلي؟

أومأ لها مبتسمًا:

-أيوة يا حبيبتي.. اتجوزتك
وبقيتي عروسة. عروستي!

اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إليه بسعادة طفولية، بينما يشرد فيها رغمًا عنه، وينسى للحظة إعاقتها العقلية ..

لم يرى أمامه إلا امرأة مكتملة النضج، ذات ملامح ملائكية، ولأول مرة تضع بعض الزينة في بشرتها الفريدة، أحمر شفاه وردّي لامع، كحلًا داكنًا حدّد عيناها الزرقاوان باتقانٍ ..

وجد لسانه ينطق لا شعوريًا:

-انتي إللي حاطة مكياج لنفسك يا ريري؟

أومأت له بقوة قائلة:

-أيوة.. ليلى علّمتني. وكنا بنلعب كتييييير بالميك أب.

ساد الوجوم ملامحه لحظة ذكرها "ليلى".. لكنه رد عليها بلهجةٍ طبيعية:

-إنتي طول عمرك شاطرة وبتتعلمي كل حاجة بسرعة يا حبيبتي.. بس ممكن أطلب منك طلب؟

ريري ببراءةٍ: آه ممكن.. عايز إيه؟

زين بجدية: ماتحطيش مكياج تاني أبدًا.. شكلك الطبيعي أحلى بكتير. اتفقنا؟

وافقته "ريهام" بلا تفكيرٍ:

-اتفقنا.

ابتسم لها راضيًا ..

وبعد لحظاتٍ جاء "عاصم" من وراء "زين".. يضع يده فوق كتفه قائلًا:

-مبروك يا زين؟

إلتفت "زين" نحوه وقال بابتسامته الواثقة:

-الله يبارك في معاليك.

تعبيره جامد وصوته متصلّب وهو يوصيه:

-انت لسا واخد قلبي كله. مش حتة منه
ريهام دي أغلى ما أملك يا زين.. خلّي بالك منها كويس.

طمأنه "زين" بثقةٍ:

-أطمن يا باشا.. ريهام في عنيا
ماتقلقش عليها من اللحظة دي.

نقل "عاصم" بصره نحو "ريهام".. أمسك بيدها واعتذر من "زين" لبضعة دقائق ..

أخذ ابنته في زاوية قريبة، اقترب منها ومسّد خدّها براحة يده قائلًا:

-متأكدة إنك عايزة تروحي مع زين يا ريري؟

هزت رأسها بإيجابٍ، فسألها:

-بتحبي زين؟

-آه.. بحبه!

تنهد "عاصم" بعمقٍ، لا يسعه الآن إلا رؤية أمها، وكأن الزمان يُعيد نفسه، كأنما ليلة زفافه تتكرر وزوجته تتجسّد أمام عينيه في شخص ابنته ..

لطالما كانت نسخة أمها، تشبهها كثيرًا، والخوف، كل خوفه لو أن "زين" يشبهه هو ..

لن يهدأ له بال حتى يطمئن حيال ذلك، لا يمكنه أن يترك ابنته لرجلٍ مثله، لن يتحمل أن يكون مآلها إلى ذات مصير والدتها ..

حاوطها بذراعيه وضمّها إلى صدره بحنانٍ جمّ وهو يقول بلهجةٍ تختلج بدموعه الحبيسة:

-وأنا بحبك يا ريهام.. وعملت كل ده لمصلحتك. أنا عاوزك تتبسطي وتكوني سعيدة طول عمرك
زين وعدني إنه هايخلّيكي مبسوطة.. لكن أنا مش هقف عند الوعد بس... أنا هفضل جنبك.. عمري ما هاسيبك
تعليقات



<>