رواية هيبة الفصل الخامس والخمسون55 بقلم مريم محمد غريب

رواية هيبة بقلم مريم محمد غريب
رواية هيبة الفصل الخامس والخمسون55 بقلم مريم محمد غريب
وقعتي قلب زين يا شيخة.

في مدينة الملاهي العملاقة ..

الأضواء المبهرة ذات الألوان المتعددة تتراقص على وجه "ريهام".. عيناها الواسعتان تعكسان بهجة طفلة لا تزل عالقة في زمن البراءة اللانهائي .. 

تتداخل أصوات الضحك والموسيقى مع صرير الألعاب، بينما يدها الصغيرة متشبّثة بيد "زين" الغليظة، كأنها وجدت أمان العالم كله فيها ..

قالت وهي ترفع رأسها نحوه، تتأمل ملامحه الوسيمة وهي لا تعي حقًا معنى الاعجاب الذي تشعره تجاهه:

-زين.. ريري مبسوطة أوي!

ابتسم بخفة، عيناه تراقبانها لا كطفلة، بل كفريسة ..

-وأنا كمان مبسوط! .. قالها بلطفٍ، وتابع مداعبًا خدّها بأنامله:

-عشان شايف الضحكة دي.

أطلقت إحدى ضحكاتها الموسيقية المحببة، ثم انطلقت نحو لعبة الخيول الدوّارة، تدور حول نفسها قبل أن تعتلي "اليوني كورن" ..

فظل هو واقفًا يتابعها، وفي عينيه مزيجٌ من صبرٍٍ محسوب ونوايا مخبوءة  ..

كانت تلوّح له بيدها كلّما مرّت أمامه، كأنها تعلن ولاءها البرييء، حين انتهت، ركضت نحوه تتنفس بسرعة، وجبينها يلمع بعرق ٍخفيف ..

-عاوزة Cotton Candy! .. قالتها بلهاثٍ وهي تشير صوب عربة حلوى القطن

أومأ لها "زين" قائلًا:

-طبعا. انتي تؤمري.. تعالي.

وأخذها من يدها تجاه العربة ..

أشترى لها ما تشتهي، ثم انتقلا إلى اللعبة التالية تنفيذًا لرغبتها، وقد كانت الأفعوانية "قطار الموت" ..

حاول "زين" إقناعها بارتياد لعبة أخرى أقل مجازفة من تلك، لكنها أصرّت، فأجلسها بأحد المقاعد وحدها وأعدّ لها احتياطات الأمان جيدًا، كان سينتظرها بالأسفل، لكنها جمدته هاتفة:

-زيــن!

إلتفت إليها فورًا:

-إيه يا حبيبتي مالك؟ غيرتي رأيك ولا إيه؟

هزّت رأسها: لأ. أنا عايزاك تركب اللعبة دي معايا.

اقترب أكثر وهو يقول بهدوء:

-ريري لو خايفة ننزل ونشوف لعبة تانية.. ها قولتي إيه؟

-ريري مش خايفة. ريري عايزاك تركب جنبها. انت إللي خايف يا زين.

لم يستطع كبح ضحكة أفلتت من فمه وهو يحدق في التكشيرة التي انبلجت على وجهها فاتن الملامح، ثم قال:

-لأ يا ريري زين مابيخافش.. حاضر هاركب جنبك.

وقفز بجوارها بخفةٍ، أغلق حوله أحزمة الأمان وأنزل السور المعدني أمامهما، ثم نظر إليها فوجدها تبتسم بإتساعٍ ...

-مبسوطة؟

أومأت له بقوة صائحة بطفولة:

-أووي أوووي!

دقيقة أخرى، ثم بدأت اللعبة في التحرّك، تدريجيًا، وقد كان "زين" يراقبها باهتمامٍ ..

لا زالت الحماسة على وجهها، لكن عيناها عكستا مشاعر الخوف وليدة اللحظة، وفجأة ..

انفجر الصراخ حولهما، ما ان انحرف القطار وأنزلق بسرعةٍ رهيبة لأسفل، صرخت "ريهام"بدورها، صراخٌ حقيقي، هستيري وقد أجهشت بالبكاء بينما القطار لا يقف ويواصل انحرافاته وصعوده وهبوطه ..

مد "زين" يده ممسكًا بيدها بقوة وهو يصيح بأعلى صوته لتسمعه من بين الصخب:

-ماتخافيش يا ريري.. دي مجرد لعبة
ماتخافيش.

لكنها لم لأول مرة لا تسمعه.. لا تشعر به ..

أغشى عليها فجأةً فوق المقعد، فذعر "زين" لرؤيتها هكذا، وعلى الفور أخذ يصيح بصوتٍ جهوري في الشاب الذي يدير اللعبة أن يوقفها ..

لكن الأخير لم ينصت له، ولم يعبأ مطلقًا، واكتلمت الدورة لنصف دقيقة أخرى، وطوال هذا الوقت لم يترك "زين" يدها، وبيده الأخرى يمسك رأسها بحرصٍ لكي لا تتأذى ..

وما ان توقفت اللعبة حتى فك أحزمته وقفز منها إلى موقع وقوف الشاب، هجم عليه مثل وحشٍ كاسرٍ وأخذ يكيل له اللكمات والركلات، بينما رواد الملاهي تجمهروا من حولهما وراقبوا المشهد الدموي بين خوفٍ وذهول ..

إلى أن حضر بعض أفراد الأمن، حاولوا تخليص الشاب من يده بصعوبة، إلا إن "زين" جمد الجميع وهو يذكر هويته بغلظةٍ ..

وأخيرًا قام عن الشاب بعد أن أدمى وجهه تمامًا، ثم عاد إلى "ريهام وهو يمسح قبضته الملوثة بالدماء في كنزته ..

خفق قلبه بوجلٍ وهو ينظر في وجهها الشاحب، نزع الأحزمة من حولها وحملها إلى المنصّة السفلية، أراح جسدها فوق السطح الصاج ...

-ريري. ريهام! .. ناداها لاطمًا مرارًا خدّها برفقٍ

لم تستجيب لنداءاته ..

فجاءته إحدى الفتيات بقنينة ماءٍ، سكب القليل في كفه فوق ومسح على وجهها، بدأت تفيق ببطٍ، فزفر براحةٍ وهو يخاطبها بلهجةٍ رقيقة:

-كده يا ريري. خضتيني عليكي.. فوقي يا حبيبتي
ماتخافيش. أنا زين.. أنا جنبك أهو.

رفعت جفنيها بتثاقلٍ، لتظهر عيناها الزرقاوان بين رموشها الكثّة، نظرت إليه فورًا متمتمة:

-زيـن!

تنهد "زين" قائلًا:

-وقعتي قلب زين يا شيخة.

وحملها بين ذراعيه كطفلة صغيرة، نزل بها على مهلٍ، ثم أجلسها إلى مقعدٍ رخامي قريب، بينما ذهب ليعتذر من الشاب الذي ضربه ...

-والله ما كنت أعرف ان حد أغمى عليه يا باشا! .. قالها الشاب بلهجة منكسرة وهو يضع ضمادٌ فوق أنفه النازف

اعترى "زين" شعورٌ قوي بالندم على تسرعه في أذيته، مد يده، فأجفل الأخير خائفًا ..

ابتسم "زين" بلطفٍ وربت على كتفه قائلًا:

-حقك عليا يا عم. أنا بس لما بنفعل مابشوفش قصادي
وبعدين انت زي اخويا الصغير.. صح؟

أومأ له الشاب، فأضاف "زين" وهو يستلّ محفظته من جيبه ويسحب ورقتين نقديتين ويدسها في جيب الآخر:

-دول من أخوك. ماتكسفنيش.

-مقبولة يا باشا.

-أنا اسمي زين نصر الدين. انت اسمك ايه؟

-رضا محمود.

-عاشت الأسامي يا رضا.. طيب بص بقى 
انت أخويا الصغير زي ما قلت لك. لو احتاجت أي حاجة تعالالي مكتبي في ..

وذكر له الجهة التي يعمل بها ...

-لو مالقتنيش أنا هابقى أعرف أوصلك.. اتفقنا؟

ابتسم الشاب من بين جروحه وقال:

-اتفقنا يا باشا.

تصافحا، ثم تركه "زين" عائدًا إلى "ريهام ..

كانت تأكل النقانق المالح وتشرب العصير الذي أحضره لها "زين" لتستعيد إتزانها بالكامل ..

جلس بجوارها وهو يقول باهتمام:

-عاملة إيه دلوقتي يا ريري؟ لسا دايخة؟

نفت "ريري" بهزة رأس وقالت بنشاطٍ متجدد:

-لأ أنا كويسة.. تعالى نروح بيت الرعب بقى.

أمسك "زين" برسغها وأبقاها مكانها وهو يقول بحزمٍ:

-بيت رعب إيه يا حبيبتي. مش كفاية الرعب إللي عيّشتيني فيه من خمس دقايق
لأ انسي خلاص. كفاية أوي كده إنهاردة. مافيش لعب تاني.

مطّت فمها بحزنٍ وقالت:

-يعني إيه مش هالعب خلاص؟ أنا عايزة ألعب!

زين بصرامة: لأ مش هاتلعبي. انتي تعبتي أصلًا من كتر اللعب
وشك بقى أصفر أهو.

عوجت وجهها مرددة:

-يعني إيه وشك أصفر دي؟ في حد وشه أصفر انت بتكدب يا زين!!

قلب "زين" عينيه مستغفرًا بصوتٍ خافت، ثم نظر إليها قائلًا بصبرٍ:

-وشك أصفر يعني جسمك تعب يا حبيبتي. محتاجة تهدي خالص وتبطلي جري وتنطيط.

ضربت الأرض بقدمها هاتفة:

-بس أنا لسا عايزة ألعب!

زفر "زين" بنفاذ صبر.. لكنه تمالك أعصابه رغم ذلك ..

ابتسم لها بلطفٍ وقال بهدوء:

-طيب يا حبيبتي. إيه رأيك أخدك ونروح ناكل في المطعم إللي تختاريه
وبعدين نروح نجيب آيس كريم أو دونات. بتحبي الدونات؟

أومأت له بقوة، فتنهد برضا وقال:

-خلاص هانروح دلوقتي الفود كورت ونعمل كل إللي انتي عايزاه هناك. وبعدين أخدك وأروّحك.. عشان الوقت اتأخر.. اتفقنا؟

ريهام مبتسمة: اتفقنا
يتبع 
تعليقات



<>