رواية متعة السالكين 5..
الجزء الخامس
بقلم ليلى مظلوم
تناثر الزجاج في الغرفة ..لم آبه إلى ذلك أبدا ..ولكن يبدو أنها رأت شيئا فاجأها حتى أوقعت العصير بتلك الطريقة… ثم ردت يديها إلى فمها وقالت: ولدي !!!!إنه أحمد ..كم أنا مشتاقة له.. هل تتحدثان معه الآن… ؟
ولم أعرف في تلك اللحظة بماذا أجيبها ..كم هو صعب على الإنسان أن يفقد من يحبه وهو لا يزال على قيد الحياة ..لقد لعنت الغربة آلاف المرات ولم أشف غليلي… أم أحمد وجدتي تتشابهان في فقد ولديهما ..فجدتي قد خسرت ولدها والذي هو أبي ..عندما قرر الهروب من قدره لأنه لم يعد يتحمل الكم الهائل من الذكريات التي تذكره بوالدتي ..وهل إن رحل من لبنان سينسى أم أن روح والدتي سترافقه دوما .؟.إلا أن القدر أصدر حكمه ..واختاره ليكون في الجنة وربما في النار..
ولا أدري أيهما أصعب نار الفراق أم نار العقاب ؟؟..ولو كنتُ مكان الرب لاخترت نار الفراق لأنها أكثر استعارا في القلوب ..إنها تحرق كينونة الإنسان وتجعله يعيش شبح الموت ..أما النار الأخروية فإنها تكتفي بحرق الجسد ثم العودة إلى الجنة ..وكم هي مملة إن لم يكن الأحباب ساكنيها ..
أذكر ذلك اليوم جيدا ..عندما كنا نشاهد التلفاز أنا وجدتي …ثم ورد خبر عاجل يقول أن الطائرة المتوجهة إلى الصين قد تعطلت ثم عانقت البحر ومات كل الركاب بمن فيهم الربان ..لم أفهم حينها ما الذي يجري ..إلا عندما صرخت جدتي بأعلى صوتها: لا لا… لقد ذهب لينسى ..فلحق بها !!وماذا عني ..وماذا عن نور؟؟لا لا يا الله… كيف تأخذ منا أحبابنا ..يا الله يا الله…
كنت حينها في الرابعة من عمري ..ولكني أذكر ما حصل كمن يشاهده الآن ..لأن جدتي وقعت أرضا بعد سماع الخبر ..فهرعت إلى الهاتف واتصلت بخالي فقد كنت أحفظ رقم سهى جيدا ..وطلبت منه المجيئ فورا ..والذعر يتملكني ..كل هذا ولم أكن أعرف أن والدي قد فارق الحياة ..ولا أخفيكم سرا ..حتى لو علمت هذا فإني لن أهتم ..لأنه لا ذكريات لي معه ..سوى حضن واحد أو حضنان على الأكثر ..وكانت جدتي تحضر لي الهدايا وتقول لي هذا من والدك ..ولكني لم أكن اصدقها ..
عيب الكبار أنهم يظنون أنه باستطاعتهم خداع الصغار ..ولكنهم لا يعلمون أن قدرة الصغار على تحسس القلب والعقل تفوق أضعاف ما هم يتحسسون ...لم أكن أشم ريح أبي ولا بصمة صوته في تلك الهدايا… فهل الجناة يُهدون…
جدتي خسرت ابنها بسبب امرأة قتلت ولدها وهو لا يزال يتنفس ..والطائرة تواطأت مع تلك الروح حتى أخذت أنفاسه الأخيرة… أما أم أحمد ..فقد سرقت ولدها امرأة أخرى ..ولا زالت تعيش على أمل استرداده ..أو أقله جمعهما سوية… وشاركت الغربة وربما النجاح في العمل في تلك العملية القذرة ..نعم عملية قذرة ..لأن المسكينة كانت تعمل ليلا و نهارا حتى تؤمن لولدها ما يسد رمقه ورمق دراسته ..لأن والده بكل بساطة قد تزوج بامرأة أخرى وتخلى عن عائلته ..بالرغم أن أم أحمد لها نصيب كاف من الجمال على كبر سنها ..ولو كنتَ ثاقب النظر ستلحظ ذلك جيدا ..إلا أن للوفاء رأي آخر ..ولي مداخلة أخرى حول هذا الأمر لاحقا..
اقتربت من أم أحمد وأنا أحبس دموعي لا أعلم إن كان من أجلها أو من أجلي… أمسكت يديها المجعدتين ..وأجلستها على سريري الخاص ..ثم وضعت يدي على كتفها ..وقلت بهمس حنون :لا أخفيك يا خالة أن الذي رأيته هو ولدك ..ولكنني بكل صراحة لا أتحدث معه ولا أعرفه إلا من خلال اسمه وأكد لي شكوكي هو ما تناثر الآن في الغرفة ..
ثم أمسكت يدها وقرّبتها من الحاسوب شيئا فشيئا ..وبدأت أتجول في صفحة أحمد جابر ..وأنا أنظر إلى سهى لترشدني كيف أتصفح بشكل سليم ..وكانت تنفذ ما أطلبه منها. دون أن أطلب منها ..يكفي هول المشهد لتفهم كل شيئ . كانت متأثرة بشكل كبير ..ولو كان باستطاعتها تقديم المساعدة أكثر من معلوماتها في التصفح لفعلت ..
وبدأت أم أحمد تراقب حفيديها. .وتقول بهمس :أتمنى لو أحتضنهما ..أليس لي الحق في ذلك ؟؟..ولكن ما أغباني ..إن حصلت على حضن والدهما فهذا سيكون معجزة حقا ..
تظاهرت بأنني لم أسمعها.. لقد علقت الكلمات في حلقي ..فقد سمعت كثيرا عن أولئك الأولاد العاقين في المدرسة ولكني لم أظن أنني سأرى هذا بأم عيني في يوم من الأيام ..علي أن أساعد تلك المرأة التي خدمتنا في شبابها وفي عجزها بأي ثمن ..وأردت أن تنتهي المهزلة بسرعة ..فقلت لها: أم أحمد يكفي هذا عليّ أن أطفئ الحاسوب الآن ..المهم أن ولدك وعائلته بخير أليس كذلك ..؟
وكأني بها تجيبني ..ولكني لست بخير ...إلا أنها ابتسمت ابتسامة صفراء ودفنت دموعها في مقلتيها ..ثم نظرت إليّ بفخر واعتزاز مانعة إياي من الشعور بالشفقة عليها..وقالت: سأحضر لكم العصير مجددا ..بعد أن أنظف هذا ..!
بالطبع قالت جملتها وهي تشير إلى الفوضى التي أحدثتها هول المفاجأة ..وتساءلت حينها ..كيف يمكن لأي إنسان أن ينسى والدته بهذا الشكل ..لا بد وأنه مريض نفسي ..ولن أذهب بعيدا ..ها هو والدي لم يحبني يوما ..ولم يسمح لي بحبه كما يجب.. كنت أتمنى لو أحبه وأفتخر به كباقي الفتيات ولكنه حرمني هذا الحق رحمه
الله… وهل سيرحمه الإله ..لست أدري ..
وعندما خرجت أم أحمد ..قلت لسهى :عليّ أن أتحدث إلى ذلك الرجل العاق ..وأشرح له ظروف أمه لعل قلبه يرق لها ..
-أتعلمين مسكينة هي أم أحمد ..ساعد الله قلبها ..والآن دعينا نتحدث عن سامي ..لقد أرسل إليك رسالة أخرى يطالبك فيها بالرد عليه ..فهلا فعلت هذا ؟
-لا… ليس الآن ..
-مممم يبدو أنك تخجلين من التحدث أمامي ..بكل الأحوال عليّ أن أذهب حالا .واشربي العصير وحدك
