أخر الاخبار

رواية جحر الشيطان الفصل التاسع والعشرون29بقلم ندي ممدوح


رواية جحر الشيطان الفصل التاسع والعشرون29بقلم ندي ممدوح

_ مما أنتَ مصنوعٌ يا رجل؟ عُدت من الموت توًا، وكُلُ همك الأطمئنان عليَّ؟! ماذا قد يصيبني وقد أنقذت حياتي؟!. 
همست بتلك العبارة خديجة الجالسة فوق إحدى المقاعد بجوار فراش اراس الذي أفاق منذُ مدة قليلة غير مدرك لما يحدث حوله، أو فقدانه لوالده. 
ضم اراس كفها الصغير في راحته، وعيناه الهائمة برقت ببريقٌ عجيب أرجف جفون خديجة خجلًا وهمس بصوتٌ يفيض بالحنان رغم الوهن الذي يختلط به: 
_ سأظل أنقذها حتى الرمقُ الأخير يا خديجة، لا أسمح أن يُصيبك إي خدش ما دمت على قيدُ الحياة. 
وسئل بقلق  : 
_ لكن، ما بال هذا الحزن في عينيكِ؟! الجميع بخير؟ 
توترت خديجة وهي تجيبه زائغة البصر  : 
_ جميعهم بخير، لا تقلق أنت! 
_ وعائلتك كلها بخير، لا تخفين عني شيئًا! 
تبسمت خديجة بهدوء، واجابته  : 
_ الجميع بخير وكفاك تفكير فيّ فكر في صحتك الآن ولا تشغل عقلك بأي شيء سوا أن تقوم ليّ بخير. 
_ لكِ؟؟ 
تساءل بحبور فـ أطرقت خديجة رأسها، وقالت متجاهلة سؤاله  : 
_ كفى كلامًا حتى لا ترهق نفسك ثُم تقول خديجة السبب. 
ضحك اراس بخفوت شديد ردًا عليها  : 
_ خديجة محال ان تكون سبب تعبي، إنها سبب فرحتي، جنتي، بسمتي، حياتي، أهدتني حياةٌ جديدة منذُ عرفتها، خديجة إنها روضة قلبي. 
كلامته زادتها حياءً فـ افتر ثغرها ببسمة رائعة، فغير اراس الحديث مشفقًا على حالتها  : 
_ أبي بخير؟ 
سعلت خديجة فجاة، وأرتبكت وأشاحت بوجهها عنه وقالت بتردد  : 
_ بخير، بخير لا تقلق، يجب ان أخرج لأطمئن عليه وتأخذ انت قسطًا من الراحة. 
تفاجأ من ردها المريب خاصةً حين هرولت من الغرفة مغلقة الباب. 

                   🍁الحمد لله 🍁

جالسٌ وراء مكتبهُ شارد الفِكر، والبالُ، والقلب، والعينين؛ في تلك التي رحلت عنه دون وداع يُذكر، تاركة النيران تضرم في فؤادهِ من شدة الذنب، فحين سكت عنه الغضب قرر " مالك " أن يذهب إليها ليسمع ما لديها ويعتذر عما بدر منه، لكنه وجد الممرضة توقفه وتناوله ورقةً مطوية وتخبره برحيلها هكذا بكل بساطة، فعاد إلى مكتبه يجز أزيال الخيبة معه وفض الورقة، وسرت عيناه على محتواها  : 
" السلامُ عليكَ يا دكتور مالك. 
رد مالك السلام في قرارة نفسه وتابع القراءة بقلبٌ يخفق: 
أتعلم! هذه أول مرة أكره أسمي ونسبي كثيرًا، لكن ما باليد حيلة، لم يكن ليّ أختيار أبي وأخواتي، أحقًا ظننتي متفقةٌ مع أخي؟ هل حسبت إن الحادث الذي كاد يودي بحياتي إنه خدعة؟ هلا فكرت قبل أتهامي؟  بالله كيف أعتقدت إني قد أأذيك وأنا ادينُ لك بحياتي!  أعدك بأن أفعل جل ما في وسعي لأنقاذ أختك من براثن أخي! ما زلت لا أعلم كيف لطبيب مثلك أن يعلم بأن أخي يتاجر في المخدرات ولماذا أخي … عفوًا ليس بأخي مثل هذا لا يقالُ عليه أخ! لماذا إسماعيل أختطف أختك؟ لكني سأخبرك لأحسن صورتِ أمامك أخي هذا هو أكثر من أذاني وحالتي كانت بسببه، هل لك أن تتصور إنه قتل صديقه الصدوق  … حبيبي أمام عيني؟! 
لا يا دكتور مالك أنا لستُ بتلك البشاعة أنا أكثر من يود لإسماعيل ان ينال عقابه وسأفعل كل ما أستطع عليه  … أعدك بذلك. 
" منار " "
كرمش مالك الورقة في قبضته ونهر نفسه بضيق أضناه  : 
_أنت غبي يا مالك غبي، كان لازم تسمع منها قبل ما تتهمها. 
نفخ في ضيق وأسبل جفنيه ليتمالك نفسه قبل أن يمسك هاتفه طالبًا رقم عاصم يُدلى له بالجديد الذي طرأ. 
وقفت منار أمام باب شقة أخيها مترددة ومدت يدها بالمفتاح الذي أخذته من البواب متطلعةً فيه بفؤادٌ واجف وهي تقلبه بين أصابعها ثُم أخذت نفسًا عميقٍ حاسمةٌ أمرها و وضعت المفتاح في القفل وأدارته حتى أصدر صوتًا منبئًا بأنه تم عمله فدفعت الباب وهاجمتها برودة مفاجئة، وبثقلٍ شديد أجبرت قدميها أن تدخلان فـ اطاعتان 
وأوصدت الباب وراءها وما همت أن تلتفت إذ جاءها صوت أنوثي مخيف يهمس في برود  : 
_ حمد الله على السلامة. 
فـ أنفزعت مطلقة صيحت خوف وهي تتراجع بجسدها تلقائيًا، حتى وقع بصرها على امرأة كبيرةٌ في العمر لكن رغم كبر عمرها ما زالت تتحلى بجسدٌ بدى لها رياضي، وتجاعيد وجهٌ خفيفة، تبتسم بسمة ساخرة وتنهض عن المقعد في بطئ شديد كأنما تبثها بالرعب وراحت تسير بتؤدة كأنها ستنقض عليها لتفترسها، مع كل خطوة تخطيها تعود إزاءها منار أخرى وأجمعت أطراف شجاعتها وقسرًا تحركت شفتاها في همسٌ متلعثم خائف  : 
_ أنتِ … أنتِ مين.... 
أرتج عنها الكلام حين قاطعتها لمار بصوتٌ يجمد الدم في العروق : 
_ جدت مالك، وجدت أروى اللي أخوكِ خطفها! 
شُلت ساقين منار عن الحركة، وتجلت الدهشة على ملامحها وقد زال الخوف قليلًا، وغمغمت  : 
_ دكتور مالك أنتِ جدته؟ 
تأملتها لمار بصمت تام، وما كادت تتحرك حتى انتفضت منار المرتجفة متقهقرة للخلف، فلم تعيرها لمار أهتمامًا وتحركت نحو الآريكة وجلست فوقها باسترخاء يثير الأعصاب بل ومدت ساقيها على المنضدة أمامها كأنما هي مالكة الشقة وقالت في برود ورأسها تستند على كفيها المتشابكين على ظهر المقعد ناظرة للسقف  : 
_ أخوكِ واخد حفيدتِ و والله لو أصابها بس بشرخ بسيط لهخليه يقضي اللي باقي من عمره في السجن … وهو كدا كدا محبوس، مبقش لمار الشرقاوي لو مخدتش حق كل بنت اخوكِ قتلها. 
شهقت منار شاخصةً العينين وهمست بصوت باهت  : 
_ أنتِ، أنتِ بتقولي إيه؟ 
_إيه مكنتيش تعرفي إن أخوكِ بيخطف البنات وياخد اعضاءها؟؟ أو بالأحرى كل اللي بيدخل محلكم لوحده؟ 
ولا متعرفيش أن المخدرات اخوكِ بيهربها في الملابس اللي بتبوعها!! 
لقد كانت الطامة الكبرى على قلب منار التي تهاوت أرضًا كأن ساقيها غير قادرتين على الوقوف فجثت على ركبتيها ودموعها كنهرين جاريين فوق وجنتيها يطفقان من مآقيها. 
بحدة هدرت لمار وهي تعتدل جالسة بلهجة فزعتها  : 
_ فين اخوكِ يا بت؟ من قبل ما يخطف حفدتِ وهو مرجعش الشقة! 
بشفتين مرتعشتين ردت منار بصوت متحشرج أثر البكاء  : 
_ أنا أنا هتصرف، هعرف إزاي أجيبه لحد هنا. 
أمعنت لمار النظر في عينين منار التي يغشاهما الدمع، وتساءلت في اهتمام  : 
_ اذآكِ في إيه؟ 
لم تنبس منار ببنت شفة، بل قالت وهي تسند رأسها على الحائط  بعد لحظات : 
_ تلفوني مش معايا ومش حافظه إلا رقم بابا. 
_ ضاع منك فين؟ 
ليت لمار لم تسأل فسؤلها أجج ذكرى يعزُ عليها نسيانها! 
ذكرى تريد أن تفعل المحال لتُمحى من خانة الذكريات! 
تلك الذكرى التي دفنتها وهي ما زال على قيدُ الحياة. 
يوم إن كانت في هذه الشقة، يومئذٍ خرج أخيها ولم يلبث عن رحيله الكثير فجاءتها رسالة مريبة على هاتفها كان مضمونها  : 
" أخوكِ قدوتك دلوقتي في طريقه عشان يقتل " علي " حبيب القلب، لو مش مصدقاني روحي على المكان ده ********** وشوفي بعينك، سلام يا حلوة " فاعل خير " ". 
لم تدرك أو تصدق ما قراءته، وحسبتها مزحة من إحدى مزحات  " علي" السخيفة. 
فمن ذا قد يصدق أن أخيها قد يُخاصم حتى علي صديق طفولته وليس قتله، فضحكت باستهتار ومع ذلك فقد حسمت أمرها في الذهاب لا ريب إن حبيبها هو من أرسلها، فذهبت بسيارة أجرة أقلتها إلى العنوان المطلوب ومن زجاج السيارة رمقت المكان النائي بقلب متردد، خائف ولم تمكث أن لوحت سيارة أخيها على مد البصر، فقضت السائق أجرته وهبطت في حماس، وسارت وهي تتلفت في حذر حولها فوجدت منزل أدهشها في مكان خالي من السكان، وتابعت سيرها حتى وجدت علي يقف بجانب سيارته على ما يبدو إنه جاء توًا، وأخيها يخرج من المنزل ليقف قبالته، فكادت تخطى لكن انتظرت حين بادر علي قائلًا بصوت يملؤه القلق  : 
_ إيه في يإسماعيل؟ جولتلي تعال طوالي وجيت خير في حاجة حصلت في الشحنة؟ 
شحنة! عن أي شحنة يتحدث؟ فضولها وتساؤلات نفسها جعلتها تستتر خلف الحائط ليصلها صوت أخيها يقول نافيًا  : 
_ لاه مفيش حاچة متجلجش كِده المخدرات أتسلمت و وصلت كُمان بخير ومن غير أي دوشة وعمك احمد فرحان جوي. 
شهقت منار في مكانها كاتمة صيحة كادت تفلت من بين شفتيها، ورأت أخيها يضع كفه على منكب علي وهو يقول بصوتٍ حزين  : 
_ليه عملت كِده يا علي؟  ليه كِده يا صاحبي؟ 
قطب علي حاجبيه مستغربًا، وسئل في تعجب  : 
_ عملت إيه آني؟  
وأستدار ناظرًا إليه، فقال إسماعيل بصوت متهدج  : 
_أمنتك على أختي يا علي، جولتلك خلي عنيك عليها وكون زي ظلها! لكن تحبها؟؟ وهي تحبك؟! 
ازدرد علي لعابه في توتر، وقال مرتبكًا  : 
_كُنت هجولك يا إسماعيل وهاجي أخطبها بس مستني تخلص أمتحاناتها. 
_ ما أنت عارف إن أبويا مش هيدي منار لواحد من رجالته! 
فـ اسرع علي قائلًا  : 
_ كنت ههمل الشغل معاكم وهشتغل في الحلال، وأظن إنك عارف إني بس بنفذ اللي عمي أحمد بيجوله وبسلم الشحنات ومليش في حاجة غير دي. 
فجأة! ضمه إسماعيل باكيًا بمرارة ولم يجب تساؤلات علي عن سبب بكاءه، كأنما ضمت وداع قبل أن يلقى مصيره على يديه. 
وعجبًا للمرء فدائمًا ما تأتيه الطعنة من أقرب حبيب. 
ابتعد إسماعيل عنه وردد بصوت باكي مرير  : 
_ سامحني سامحني يا علي، سامحني يا صاحبي أنا بحبك جوي اكتر من اخ وأنت عارف مليش جريب غيرك بس اوامر أبوي صدرت وأنت عارف كلامه سيف على رجبتي. 
وبغتة كان يتراجع مشهرًا السلاح في وجه علي الذي باغتته  المفاجأه، فشخص بصره عليه غير مستوعب، وهز رأسه في صدمة، متمتمًا  : 
_ هتجتلني؟! هتجتلني يا إسماعيل، هتجتل صاحبك؟ أخوك علي! 
وتبسم قائلًا بثقة بعد دقيقة  : 
_ مهتعملهاش أنا متأكد، دا أنت مكنتش تستحمل تشوفني عيان، ولا حد يكلمني نص كلمة وتجيبلي حقي، مهتعمل...... 
ما كاد ينهى عبارته وأخترقت رصاصة إسماعيل صدره فـ أهتز جسده متقهقرًا للخلف، وحاد ببصره ناظرًا لكفه الذي ضغط تلقائيًا على مكان الطلقة فوجده مغطى بالدماء، فعاد ببصره إلى إسماعيل مترنحًا وقبل أن يتهاوى جسده كان إسماعيل ملقيًا السلاح ويتلقى ثقله كأنما أفاق لتوه من فعلته وراح يصرخ بانهيار. 
في ذلك الحين كانت منار تلهث، واضعة كفها على صدرها في ذات الجانب الذي تلقى فيه علي الرصاصة، ومرتاحة بكفها الآخر على الأرض وهي منكفئة على وجهها، صدى الرصاصة اخترق فؤادها وليس أذنيها، وصرخ قلبها صرخة مدوية لم تعبر حنجرتها التي عُقدت بالصم فجأة، كانت تجاهد أن تنادي بإسمه لعلها تلحقه ولم تستطع، ثُم استوت جالسة القرفصاء تنظر أمامها رامشةٍ وتحيد ببصرها على أخيها الذي يضم جسد حبيبها ولم يكف عن البكاء،  فضحكت فجأة كاتمة فمها بكفها، هامسة كمن أصابه مسٌ من الجن  : 
_ هششش هيسمعوكِ، اسكتِ. 
وضربت على فمها ثم انتحبت وهي تنهض مترنحة وألقت نظرة وداع عليهما وهي تلوح بكفها كأنهما يرونها ومشت هائمة على غير هدى في الطريق الذي طال مسيره حتى وجدت نفسها على الرصيف لكنها لم تشعر إلا باحتكاك عجلات سيارة خلفها وقبل أن تستدير كانت السيارة تسبقها لتنصدم في جسدها الذي كان في مهب الريح بيسر ويطير جسدها دون صراخ من حنجرتها ويرتطم أرضًا ثوانٍ وكان الألم يصرخ في جسدها برمته وجفنيها يرفرفان بثقلٌ عظيم قبل أن تغيب عن الوعي. 
فاقت من ذكراها لتجد ذاتها كانت تصرخ بكل ثقل قلبها ولمار تحاول جاهدة أن تهدأها، ناولتها كوبًا من الماء بشفقة وقالت بحنو وهي تجثو أمامها  : 
_ مين علي ده اللي قتله أخوكِ!؟ 
كانت في شرودها أمام لمار تهذي بكلمات فقهتها لمار جيدًا، دلكت لمار ذراعيها صعودًا وهبوطًا بكفيها، وهي تهون عليها قائله  : 
_ عدى، كل شيء سيمضي. 

                   🍁الحمد لله 🍁

أستجمعت منار جمُ شجاعتها وكظمت كل الآمها بداخل فؤادها المُتقرح، وطلبت رقم أبيها من هاتف لمار الجالسة بجانبها، كانت كأنها تستمدُ الشجاعةُ منها إذ إن بصرها مُعلقٌ بها، وقدميها تهتزان بتوتر. 
جاءها صوت أبيها قوي النبرات، أجش الصوت، يتساءل عن هوية المتصل، فـ أغروقت عيناها بدموع كُرهٍ، فحثتها لمار على الرد، فتحمحمت وقالت بنبرة جاهدت أن تخرج عادية لا توحي ببكاءها  : 
_ بابا، أنا منار …
بتر والدها عبارتها بقوله المتلهف  : 
_ منار بتي حبيبتي، أنتِ فين؟  أنتِ بخير ردي على ابوكِ يا بتي، حصل إيه معاكِ. 
كانت منار مطبقة أجفانها وهي تستمع إليه ودموعها تترى على خديها، وأجابته بصعوبة  : 
_ اسمعني يا بابا الأول وهحكيلك كل حاجة بعدين، أنا في شقة إسماعيل حاليًا بس هو مفيش وأنا خايفة أفضل لوحدي وتلفوني ضاع مني لما خبطتني العربية، أنا يلا طالعة من المستشفى! 
_ خليكِ عنديك متتحركيش من الشجة أنا هكلم أخوكِ يجيلك دلوج، بس إيه اللي حصل معاكِ؟ أخواتك كلهم نزلوا يسئلوا عليكِ في المستشفيات والاجسام ودوروا وملجوش ليكِ أثر. 
_يا بابا هحيلك كل حاجة حاضر، بس كلم إسماعيل يجيلي أنا خايفة. 
أجاب والدها بتعجل وهو يغلق  : 
_طيب طيب هجفل معاكِ وهكلمه،  ما عايزكش تخافي. 
ولم يكذب والدها خبرًا فما إن أغلق معها حتى طلب إسماعيل وأمره بالذهاب فورًا إلى شقته، ورغم رفض إسماعيل من خوفه أن تكون الشرطة مُحاطة بالمكان، إلا أن والده أجبرهُ علىٰ الذهاب فـ أطاع. 
أغلق إسماعيل مع والده وحدج أروى التي تبكي وهي تطلب المخدرات بجمود، لقد أسرف في أعطاءها كل الأنواع غير عابئ بما قد يصيبها أو تموت أثر ذلك، و ألتقط علبة سجائر من فوق المنضدة وأخرج واحدة وألقى العلبة دون أكتراث وأشعل السيجارة وما زال بصره على أروى، وراح ينفث الدخان مقهقهًا على حالتها التي ساءت بغبطة كأن فؤاد قد بُدل بالصم الصُلاب، ونهض وهو يطفئ السيجارة في الطفاية وألتقط كيسًا يحتوى على بودرة بيضاء ما أن رأتها أروى حتى أشرقت ملامحها الشاحبة وهي تضحك في سعادة، وتقدم نحوها وهو يقطع طرف الكيس بأسنانه ويبصقه ويسكب محتواه على كفه الذي قربه من أنفها فراحت تشمها بنشوة ثم رفع كفه ناثرًا ما تبقى على أنفها فيتناثر على وجهها. 
قال إسماعيل وهو يتحرك مغادرًا  : 
_ انهارده هرحمك ومش هطفي فيكِ السيجارة، عشان أختي رجعت زينه. 
وكمن تذكر شيئًا عاد أدراجه نحوها وقد ارتسمت علامات الحزن على محياه، وقال  : 
_ أجولك سر؟ ما هو أصلي حاسس إني هموت من الكُتمان، أنا جتلت صاحبي كان صديقي من الطفولة وجاري، كبرنا سو وتعلمنا سوا وعيشنا سوا. 
وضحك متابعًا بوجع  : 
_ عارفة جتلته ليه؟ عشان حب أختي! ابويا اول ما عرف امرني بجتله، عشان خاف لـ أختي تتمسك فيه وهو عاوز يجوزها لحد زين مش بيبع مخدرات زينا اصلها تستاهل كل الحلو. 
وهوت دموعه وقال بصوت يفيض بالكسرة  : 
_ هو ليه اختارني آني أجتله وهو عارف أنا بحبه جد إيه؟ آه دُنيا غدارة يا مرات المجدم، غدارة جوي، متعرفيش ايمت هتقلب ع الواحد. 
وتحولت ملامحه للقسوة مجددًا، وقد كانت أروى لا تعطيه اهتمامًا إذ كانت مغلقة جفنيها بوجهٍ شاحب  … شاحب للغاية بتلك الهالات السوداء التي احاطت بشدة عينيها، و وجها المصفر، الذي غطته الحروق جراء اطفاء إسماعيل عُقب السيجارة عليه، وجسدها متهدلًا كأنما عظمها برمته بات لينًا … شديد اليونة. 
بصوتٍ جاد، غمغم إسماعيل متأهبًا للمغادرة  : 
_ ههملك شوي وراجعلك نكمل وصلت العذاب، وادعي ربنا ميكونش جوزك مترصد ليّ بالمكان عشان هجتله طوالي. 
عاد إسماعيل إلى شقته وقد بدل جلبابه الصعيدي ببنطالٍ من الجنزل وقميصٌ وخبأ عيناه خلف نظارة سوداء وتسلل للبناية بحذر وترقب وهو يتلفت حوله، حتى وصل إلى شقته، أغلق الباب وراءه، وتنفس الصعداء، وأشرقت ملامحه وهو يهرل إلى منار بلهفة، مصيحًا  : 
_ منار حبيبتي، أنتِ زينه يا جلبي. 
ضمها لكنها لم تستطع أن تبادله سوء جمود المشاعر، لقد خُدعت! 
كانت مخدوعة منذُ ولدت! 
والدها خدعة وأخيها خدعة، وحياتها خدعة، كل شيء بات خدعة فجأة. 
كانت تحيا في وهم ويا ليت هذا الوهم لم يزول! 
ليتها ظلت موهومة في كل ما حولها! 
لا غرو! الوهم أهون من الواقع أحيانًا. 
وخفية وضعت جهاز ترقب في ملابسه دون أن يدري، وفعلت ما أمرت به لمار تمامًا. 
ثُم جلسا وطفق يسألها عن الحادث وهو على يقين تام بمن دبره لأخته. 
وفجأة! تساءلت منار بتريث وهي تركز عيناها في عينيه : 
_ أومال فين علي؟ لما نزلت عشان أجيب حاجات من السوبر مكنش موجود! ودلوقتي بردوا مش موجود؟! 
راعها إن أخيها أجاب بهدوء كأن ذكر من قتله لم يثير فيه شيئًا، ولم يكن يُعني له شيئًا  : 
_ علي سافر، أبوكِ وداه يخلص له شغل،  وهيتأخر شوي وراجع، المهم إنك زينه ورجعتيلنا بخير  … واللي كان السبب هياخد جزاته. 
كظمت منار كلُ ألم هام في جوانحها، وقالت وهي تكبح موجةً من البكاء  : 
_ سافر! وهيرجع فعلاً تاني. 
_ أومال إيه؟ مصير الغايب يعود لأهله! 
نظرت له نظرة متوقدة بنار الحزن، يا له من جرئ ومُمثل رائع! 
يكذب أيضًا بكل مهارة؟ 
تساءلت منار مرة أخرى باهتمام  : 
_ إلا هو الحادثة عمد، أصلك بتقول هياخد جزاته؟ هو مين؟ 
رد إسماعيل بحنو وهو يملس على رأسها  : 
_ متوجعيش دماغك أنتِ بالحاجات دي، جومي ارتاحي جوة وأني أهنه وفي الصبح بدري هنسافر ونرجع بلدنا. 
أومأت له منار وقامت وما همت بالرحيل أوقفها قائلًا  : 
_ ايوة صح افتكرت، لو صحيتي مع الفجر وملجتنيش متجلجيش ولا تخافي لأني هجدي مشوار اكده وراجع. 
بسمت ظفر ارتسمت على ثغر منار وهي تعي إلى أين سيذهب أخيها. 

               🍁الحمد لله 🍁

انسابت سيارة إسماعيل عقب آذان الفجر في الطريق، تتبعها سيارة خالد الجالس خلف عجلة القيادة وبجانبه حمزة وفي الخلف قبع عاصم ولمار، ومنار التي لم يغمض لها جفن، حتى أحست برحيل أخيها فـ أسرعت ركضًا إلى السيارة التي كانت تدرك تماماً إن لمار تقبع فيها بجانب البناية، فوجدتهم على وشك اللحوقك بأخيها فأصرت على الذهاب معهم، فغادر جان السيارة وصعدت هي بجوار لمار. 
لم يشعر إسماعيل أو يشك بالسيارة التي تتعقبه ولم يخطر له على بال. 
أتبع حمزة بعينيه نزول إسماعيل من السيارة، فإذا بنيران الحقد، والغضب تتأجج في فؤاده، وفتح الباب لكنَّ خالد أمسك بساعده ما أن استقرت إحدى قدميه على الأرض، وقال  : 
_ اصبر بس يا حمزة أكيد في رجالة. 
لكن حمزة لم يبال ونزع ذراعه وترجل، فترجل خالد وعاصم وراءه فورًا، مشهران سلاحيهما، كان رجلين جلسان على مقعدين إزاء بعضهما يتسامرون حين احسُه برياحٍ هوجاء تندفع نحوهما فحانت منهم إلتفاتة، وقبل أن يستلا سلاحيهما كان خالد وعاصم يطلقان على أكفُهما فرفعا إيديهما في استسلام. 
كان إسماعيل لم يصعد إلى أسيرته حين تفاجأ بعاصفة دفعت الباب على مصرعية، وبرز حمزة مشتعلًا غضبًا بث الزعر في قلب إسماعيل الذي قبل ان يستعب وجوده أنقض عليه حمزة بلكمة ساحقة على فكه هشمت أسنانه، وكومته أرضًا، فرفعه حمزة من تلابيبه وكال له لكمة ما بين عينيه جعلت الدنيا تظلم في عينه والأرض تميد به، ومن شدة الألم الذي صرخ في وجهه لم يعرف كيف يدافع عن نفسه إذ أنهال عليه حمزة بلكمة تردفها أخرى دون هوادة، حتى أنهار أرضًا فـ أندفع خالد يحاول أبعاد حمزة وهو يصيح  : 
_ هيموت في أيدك يا حمزة سيبه، روح شوف أروى أنت. 
بصق حمزة فوقه، ودفع خالد صاعدًا السلالُم في سرعة، تمالك إسماعيل نفسه وأسند بكفيه على الأرض وكاد يقف حين ركله خالد فاعاده مكانه، فصاح عاصم ساخرًا  : 
_ هو ده إللي هيموت يا حمزة سيبه؟ 
_ باخد نصيبي يا جدع، الله، وبعدين لسه، هو شاف حاجة  . 
صدح صوت لمار وافيًا من لدن الباب، تقول  : 
_ اطلعوا شوفوا حمزة، وتأكدوا إن أروى بخير. 
أنصاع الشبان فورًا دون أن ينبسا، فتقدمت لمار لتظهر منار من خلفها، رفع إسماعيل بصره بصعوبة أثر انتفاخ عينيه من لكمات حمزة، شطر الباب، فرأى منار، ظن إنه يُخيل إليه، فـ أسبل عينيه وفتحهما ممعنًا النظر فيها إلى أن تأكد إنها هي  … أخته. 
توترت منار وهي تفرك كفيها في ارتباك، فـ انتفخت أوداج إسماعيل وهو يربط كل شيء في بعضه؟ 
أخته من قدمته لهم لقمة سائغة؟ 
نهض مترنحًا متحاملّا على نفسه واجتاز لمار التي حدجته ولم تبادر بأي شيء، و وقف قبالة منار وبقى ذاهلًا قليلًا، ثُم أردف بصوتٍ خافت كمن يُمنى نفسه إنها ليست هي  : 
_ أنتِ مش أختي منار، صُح؟ 
ثُم أردف، يقول بهمس  : 
_ لا، لا أنتِ، أنتِ سلمتيني ليهم كده؟  ليه يا بت ابوي؟ 
هزها من كتفيها صائحًا فيها فلم يتلق إلا دموعٍ تنساب من عينيه بخزى، وحسرة. 
رفع إسماعيل كفه بغية صفعها مع صياحه  : 
_ أنطجي، ليه عملتِ كده دا آني أخوكِ  . 
وقبل أن يهوى كفه على وجهها وبينما هي مغمصة العينين بقوة إذ قبضة لمار أمسكت كفه وظهرت حائلًا بينهما فجأة، ودفعت إسماعيل للخلف مع هتافها فيه  : 
_ أيدك إياك تتمد على إي بنت وخاصةً أختك، أنت محدش علمك الرجولة؟ 
أشتعل صدر إسماعيل غضبًا، وصرخ فيها وهو يهم بضربها  : 
_ منجصشي غير مرة تعلي صوتها عليّ. 
ثنت لمار كفه خلف ظهره، وهمست له في أذنه بصوتٌ يجمد الدم  : 
_ يبدو إنك متعرفيش أنا مين؟ أنا لمار الشرقاوي الإسم ده افتكروا دايمًا عشان هيكون بداية جحيمك، وبعد كدا فكر تلعب مع اللي قدك. 
لو إن أحدٌ قد أخبره إن ثمة امرأة ترعب أعتى الرجال وبقدرات لمار المذهلة ما صدق! 
فقد دفعته لمار بقوة وقبل أن يلتفت كانت هوى بلكمة قوية في معدته. 
أندفعت منار نحوه وصفعته بكل ما يصطخب بداخلها من أحساساتٍ شتى، وصاحت فيه: 
_ أنت من انهارده مش اخويا، علي اللي سافر أنت اللي قتلته، انا اخويا مش تاجر مخدرات ولا بيقتل، يا شيخ يخرب بيت اليوم اللي اتولدت فيه وخدتك فيه قدوتي، أنا بكرهك. 
نزلت كلماتها على مسامعه نزول الصاعقة فكانت الطامة الكبرى له. 
في آوان كل هذا، كان حمزة يضم جسد أروى بعد ما فك قيودها، ينظر لوجهها المكتسى بالحروق بعجز، وشحوب وجهها بخزى، وهالاتها بجزع. 
ضربات قلبها كانت متذايدة للغاية، وبدا له إنها تلتقط أنفاسها الأخيرة. 
فغدا كطفلًا صغير يُناجى والدته ألا ترحل. 
ألا تتركه. 
يعتذر عن كل ما عاشته! 
كان خالد وعاصم واقفان بجانبه بصمت، عيناهم لم تفارق جسد أروى، المتهدل كأنما فارقت الحياة. 
استدمعت عينا خالد بمرارة، وبكى حمزة وهو يضم جسدها مرددًا  : 
_ سامحيني أنا جيت متأخر، بس متسبنيش يا أروى، يا رتني كنت مكانك. 
وبكى …بكى كطفلًا صغير يرجو إمه ألا تذهب. 
كضال يتوسل أن تستهديه! 
كغريق في بحرٌ لُجي يستنفر بذورق نجاة تعيده على المرسى. 
ثُم نهض حاملًا إياها بين ذراعيه، وصك على أسنانه، قائلًا بغضب عارم  : 
_ الكلب كان بيديها مخدرات، والله ما هرحمه. 










****************

(إهداء هذا الفصل إلى الحبيبة التي لا تكفيها الكلمات ( أسماء) 
جعلك الله منارة في حياتي لا تنطفئ أبداً، ورزقٌ لا يزول يومًا عني يا رزق الرحمنُ لقلبي، أشكرك لولاكِ ولولا تشجيعك ما اكتمل هذا الفصل، لحسن حظي إني حظيتُ بكِ قمرًا وسط سماءٌ مظلمة) 

انقضى شهرًا بحلوه ومره، ولكن أيامه كانت أقسى أيام قضاها حمزة، أيام مرت كأنها سنين وكل يومٍ بسنة؛ كان يرى أروى وهي هائجة تارة، باكيةٌ تارة وتتوسله أن يعطيها ذاك السم، وتارة متعصبة حتى ذات مرة شجت جبهته حين غافلته وألقت عليه شيء، بل أشياء، بالأحرى كل ما بالغرفة، عاش أمر أيام من الممكن أن تمر عليه، أيام فطرت قلبه بل شطرته نصفين وتركت في سويداءه جرحًا غائر لن يزول أثره أمد الدهر. 
يا الله كيف مر ذلك الشهر وقد ظن إنه لن يمر بذاك اليسر. 
لقد تحسنت حالتها نوعًا ما! 
لو يعرف كيف يحلق كطائر حر من شدة السعادة والله لفعلها بغير روية. 
ما ألَم به ليس بهين، ما ألَم به لن ينساه، وكيف ينسى دموعها التي كانت تقهره؟ 
ولا المهدئ الذي كان يسري في أوردتها فتسقط فاقدة الوعي بين ذراعيه تصيبه بالعجز؟ 
كيف ينسى رجاؤها؟ 
والله لن ينسى، تلك اشياء لا ولن تمحى. 
عجبي لفؤاده كيف تحمل كل هذا صامدًا صمود الجبال الراسيات. 
يخشى أن يغفل عنها ثانية مخافةً أن تؤذي نفسها فيؤذى قلبه الولهان! 
لم يتركها أحد كان الجميع يأتوها يوميًا، لكن حمزة كان يرفض أن يبيت أحد معها غيره. 
كانت راقدة على الفراش وقد استردت بعضٌ من صحتها، واندملت حروقها، أما ندوبها فتالله لم تلتئم، وأنَّى لها أن تلتئم وكوابيس تلك الندوب ملازمة لها، في نومها، ويقظتها. 
إنها هشة … هشةٌ للغاية. 
طرقاتٌ منغمة على الباب، نبئتها بهوية صاحبها، من غيره شريك حياتها! كلا، شريك قلبها، شطرها الأخر من فؤادها! روحها الهائمة في داخلها، لقد اذداد حبه حتى تشعب بين حنايا جوانحها، وشغاف قلبها، حتى أصبحَ وتينه. 
ألا يقولوا:  إن المُحب يُعرف وقت الأزمات. 
وهو كان بلسم ازماتها، ورفيق نكبتها، ومشكاةٌ عتمتها الذي لم يبرحها في أشد أيامها حلكة. 
فكيف لا يتعظم ويتغازر حبه في كيانها، و وجدانها؟ 
أطل حمزة برأسه من لدن الباب، وتأمل بسمتها التي انبلجت على محياها فور رؤيته، و وجهها الذي عاد له لونه، ونضرته، وغمغم غامزًا بمرح  : 
_ أدخل ولا ارجع؟ القمر يأمر بس.
أشارت له أروى بأصابعها، وهي تقول ضاحكة في غبطة  : 
_ أدخل، أدخل، قال يعني لو قُلت لك أمشى هتمشى! 
قهقه حمزة ضاحكًا وهو يغلق الباب مجيبًا  : 
_ لا طبعًا، قال امشي قال بعد ما جيت!  بتستهبلي انتِ ولا إيه يا ست البنات؟ 
لثم جبهتها بلطف، وسأل بنبرة حانية  : 
_ عاملة إيه انهارده؟  
زمت أروى شفتيها، قائلة بملل  : 
_ زهقانة، وقرفانة وعايزة امشي  . 
رد حمزة وهو يجلس على مقعدًا سحبه قريبًا من فراشها  : 
_ خلاص بقا يا ستي هتطلعي اهو، ومحضرلك مفاجأة! 
برقت عينا أروى ببهجة وحماس، وسئلته بلهفة ممزوجة بالسرور  : 
_ إيه هي؟ 
_ وتبقى مفاجأة إزاي لو قُلت؟ 
راوغها حمزة، فمطت شفتيها متمتمة بضيق  : 
_ ايوة صح. 
ثُم أستطردت بنبرة يشوبها الحزن  : 
_ هو البنات ليهم كام يوم مجوش ليه؟ 
أخذ حمزة نفسًا عميقًا ومال ممسكًا كفها في راحتيه، وقال بهدوء  : 
_ أروى، شهاب قدم الفرح عشان مسافر في شغل وعايز ملك معاه، بس ملك رفضت والله وكانت حابة إننا نعمل فرحنا سوا، بس هو مصر وأنا قُلتلها خلينا نفرح بيكِ وحتى أروى تتحسن حالتها شوية، ونفرح تاني ان شاء الله، ومعاذ هيسافر. 
لم يرى حمزة اتساع عينا أروى مذهولة من كم الأحداث التي طرأت، حتى صاحت فجأة منتفضة تاركة كفه بعنف  : 
_ نعم.؟؟؟ جواز إيه؟  ملك مينفعش تتجوز شهاب! ملك لازم لازم …
تداركت نفسها فلاذت بالصمت، فبُهت حمزة وقطب حاجبيه، وسألها  : 
_ لازم إيه؟ مش فاهم كملي! 
تلاقت أعينهم وخيم الصمت وما هم حمزة أن يحثها أن تكمل كلامها إذ رحمها الطارق الذي طرق الباب فحادت بصرهما على سمر التي ظهرت عند الباب و وراءها شيماء التي تتحاشى النظر إلى أروى. 
وقف حمزة فورًا، واعتدلت أروى في جلستها، دنا حمزة من سمر مرحبًا  : 
_ تعالي يا ماما، شيماء! تعالي أدخلي. 
لم يتصادفا منذُ أخر محادثة كادت تودي بعمرها، رمقت اروى شيماء بنظرات لم أحد يفقهه، ولم تلبث أن انخرطت مع سمر في التسامر. 
لم تستطع شيماء أن تتفوه ببنت شَفة، فقد جاءت مجبرة مع والدتها التي أصرت على أتيانها. 
لم تعلم كيف تتكلم أمامها وهي السبب في كل ما هي فيه! 
وأي حديث هذا قد يُقال؟ 
عمَّ تسئل؟ عن صحتها؟ أم مسامحتها؟ 
استأذن حمزة منهن وغادر لدقائق، وبقين ثلاثتهن. 
لم يزل توتر شيماء قط وبدا إنه لن يزول ألبتًا، حتى جاءت مكالمة لوالدتها فستأذنت لتجيب و وقفت امام الباب. 
تفرست أروى في شيماء لحظة، قبل أن تسألها بلطف  : 
_ عاملة إيه يا شوشو طمنيني عنك؟ كده متجيش خالص تشوفيني. 
قد يظن ظانٌ أن أروى مار في نفسها عن خبث شيماء! وإنها تعمدت ذهابها إلى المحل! لكنها أبدًا لم تفكر في ذلك، بداخلها نطفة نظيفة ترى الجميع بريء، نظيف. 
نظرت شيماء إلى أروى من خلف دموعها المترقرقة في عينيها، وفضحت نفسها بنفسها حين أردفت بتوسل  : 
_ أروى، صدقيني مكنتش أعرف إن كل ده هيحصل! أنا … أنا. 
انخرطت في بكاءٍ مرير من شدة الذنب الذي يبدو إنه سيمتد يأنبها طيلة العمر، فـ انتفضت اروى تربت على ظهرها، قائلة بقلق  : 
_ يا بنتي بتعيطي ليه؟  أنا عارفة إنه …
قالت شيماء بصوتٍ متهدج مقاطعة كلامها  : 
_ أنا كنت عارفة إن حمزة في مهمة في محل ملابس فيه بنات وشباب بيشتغلوا، عشان كده بعتلك عشان تشوفيه وتتخانقوا انتوا الاتنين … مكنتش عايزكم تكملوا مع بعض اصلًا! ليه حمزة ياخد كل حاجة حلوة وانا لا؟ 
فغرت أروى فاه مندهشة، واتسعت عيناها على آخرهما، وهي تتطلع إليها وقد ران عليها الصمت من شدة الصدمة، بينما غطت شيماء وجهها بكفيها. 
كان حمزة واجمًا، ممتقع الوجه أمام الباب هو وسمر، لا مرية إن قلبه يغلي كالقدر الآن، أحس فجأة إن الدنيا ضاقت عليه بما رحبت. 
كأن رحابها يتسع كل شيء إلا هو. 
ما أقسى على المرء حين يوجعه قريب، لم يظن يومًا إن يوجعه. 
كرَّ عليها بغتة ساحبًا إياها من ذراعها فشهقت مذعورة حين رأته ولم تكد تستوعب حتى تلقطت صفعة منه قوية تركت علامة على وجنتها، وهزها بعنف، وهتف بصوتٍ كسير  : 
_ ليه، ليه كده؟ إيه كمية الغل إللي جواكِ دي؟ أنتِ إزاي كده يا شيخة؟ 
أدارها نحو أروى التي وقفت تحاول نزعها من يديه، وأسترسل قائلًا بحزن  : 
_ بصي شوفي اللي قدامك دي … لو مكناش وصلنا في الوقت المناسب كانت ماتت! 
تهدج صوته في آخر كلمة نطقها، كأن قولها بمثابة خروج الروح من الجسد لا يقوَ عليه المرء، ولم يزل ينظر إلى أروى مع عبارته بأعيُن فاضت بالآسف وشعر كأنه المسؤال عما عاشته. 
وبعدما كظم حزنه، أدار جسد شيماء نحوه، ونظر لها بشفقة، بحزن، بوجع، بكسرة كلهم في آن واحد امتزجا ليؤلموا قلبه أشد ألم، وأتبع قائلًا بصوتٍ باهت  : 
_ عايزة تفرقينا؟ ليه؟ مستكترة أروى عليَّ ليه؟ شوفتِ مني إيه وحش لكل الكره ده؟ حمزة اللي شايفه مالك كل حاجة خسر أمُه وهو بيجي على الدنيا! حمزة في كل مهمة بيروحها بتكون روحه في كفة والمهمة في التانية بيتولد ليه عمر جديد لو عاش ونجي! 
حمزة بيكون رايح اما فشل وموت مفيش تالت بينهم! 
أنا كنت بعمل كل حاجة عشان رضاكِ بس لأنك أختي، حمزة اللي كان أخوكِ … خلاص 
قلب كفيه مع بعضهما مع قوله وهو يبتعد عنها خطوة  : 
_ مفيش حمزة من دلوقتي في حياتك، حمزة اللي كنتِ بتدعي عليه بالموت من انهارده ميت بالنسبالك. 
انتفض فؤاد شيماء مع هذه العبارة، لمَ انتفض؟ 
لماذا وجعها كلامه؟ 
عمَّ تتساءل الآن؟ ألم يكن هذا ما تمنته؟ ها هو حمزة يتخلى عنها! 
لن يدخل في شئونها؟ سيغدا الحاضر الغائب في آن! 
كم مؤلم موت الأنسان في قلب المرء وهو حيٌ يرزق، إنها أشد ألمًا من الميتون في القبور لو تعلمون! 
وكم من ميت في قلوبنا وهو حي؟ 
كانت لم تزل سمر تتطلع إلى ابنتها واجمة، ممتقعةً الوجه الذي بدا كأنما فارق الحياة توًا. 
ها هي نبتة عمرها تقتلع من بذورها أمام عيناها! 
فيمَ اخطئت ليرزقها الله بابنة تمتلك كل هذا الجحود! 
كيف تُرمم ما تصدع، أم إن النسيان قد يطمسه؟ 
_أمشي عشان خارج أنا ومراتِ. 
قالها حمزة بخشونه ولهجة لأول مرة تخرج من فيه إلى شيماء التي نظرت له لثوانٍ كأنما تتأكد إنه يحادثها، لكنّ نظراته التى تألقت بالقسوة والجفاء نبأتها إنها بالفعل خسرته. 
ويا عجبي إن تألمت لذلك ولم تقوّ على التحرك قيد أنملة. 
إلى أن ضغطت سمر على مرفقها بقسوة، وقالت بلهجة أجشه  : 
_أمشي خلينا نرجع، يا رتني ما جبتك معايا. 
وهمست بخفوت  : 
_ويا رتني ما ولدتك. 
همهمتها وصلت إلى شيماء التي ذاد الحزن في قلبها واستسلمت لوالدتها التي سحبتها وراءها، خيم الصمت على حمزة وأروى دقائق، بترته أروى التي قالت وهي تضم كف حمزة   : 
_حمزة، متزعلش شيماء متقصدش أكيد! 
ألتفت إليها حمزة هامسًا  : 
_ هششش، المفاجأة في الإنتظار. 
وترك كفها ملتقطًا حقيبة ناولها لها، وهو يقول  : 
_ غيري براحتك، وهستناكِ بره. 
🍃لا إله إلا الله 🍃 
توقفت السيارة أمام أكاديمية ( A,H) لتعليم أساسيات الدفاع عن النفس، جاست عينا أروى في المكان قبل أن تلتفت إلى حمزة وتسأله  : 
_ إحنا هنا ليه؟ 
فحرك كتفيه مجيبًا وهو يترجل  : 
_ هتعرفِ دلوقتي، تعالي! 
تحرك حمزة ممسكًا بكفها وأخذ بيدها إلى داخل الأكاديمية فوجدت إسلام يجلس خلف مكتب أنيق ما أن رآها هب واقفًا مهللًا: 
_المديرة التي يُجابه جمالها جمال القمر، حللتِ أهلًا و وطأتِ سهلّا. 
ثُم اردف وهو يتقدم إليهما  : 
_ كيف حالك اليوم، أريدك أن تتعافي سريعًا حتى نبدأ العمل. 
_ عمل؟؟ 
تساءلت اروى بدهشة وهي تقلب بصرها فيهما وما هم حمزة أن يفسر، إذ بادر إسلام، قائلًا  وهو يشير إلى حمزة بنبرة لم تخلو من المرح والحماس في آن: 
_ هذا الأخ الذي يجاورك وقف على رؤوس الجميع . 
وتابع باسطًا ذراعيه بعينين تتألق بالسعادة  : 
_ حتى صنع هذا الجمال لجميلة الجميلات . 
زمت أروى شفتيها بدون فهم، وعقدت ذراعيها، وهي تقول  : 
_ لم أزل لم أفهم، أريدُ توضيح الآن يا سيد حمزة. 
تبسم حمزة في حنان، وقال بنبرات هادئة وئيدة  : 
_ هذه الأكاديمية صُممت خصيصًا لكِ لتعلمين بها الفتيات الدفاع عن النفس، هذه هي هديتي لكِ! 
فغرة أروى فاه مذهولة وهمست بصدمة: 
_ماذا قُلت؟ 
_كما سمعتِ بالظبط يا حبيبتي. 
جابت عينا أروى في كل شطر في المكان، وقالت ودموع الفرح تترقرق في عينيها  : 
_ حمزة، أنا … أنا…
قاطعها حمزة مردفًا بنبرة حانية، وعينان تفيضان حبًا  : 
_ متقوليش أي حاجة كفاية نظرت الفرحة في عينيكِ دي. 
انبسطت اساريرها وتطلعت فيه أروى تتأمله مليًا بقلبٌ متيمٌ، وحين طال تطلعهما الهائم الذي يفيضُ بالعاطفة، تحمحم إسلام يثبت وجوده الذي بدا له منسيًا. 
فتطلع فيه الأثنين مجفلان كأنما تفاجآ من وجوده، فتبسم إسلام قائلًا  : 
_ يجب أن أغادر لدي موعد هام ينبغي بي الذهاب إليه، سأتركما تتفحصان في المكان وتأخذان راحتكما، هيا، إلى اللقاء. 
قال آخر عبارته بعجل وهو ينظر إلى ساعة معصمه ويسير شبه راكضًا غير مبال باستماع الرد. 

🍃اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك 🍃

خرجت لمياء من المدرسة وهي محفوفة بالبنات يتسامرن ويتضاحكن، وصافحتهن عند الباب وأخذت تسير في طريقها مبتغية رجُلًا جالسًا أمام محلٌ صغير، وحين دنت منه، قالت بفرحة أشرقت لها وجهها  : 
_ عمو توفيق عامل إيه؟ 
هب الرجل فور سماعه صوتها ورؤيتها، ورد بلهفة  : 
_ أستاذة لمياء نورتيني يا بنتي، عاملة إيه؟ 
وسحب مقعدًا من الخلف وهو يتابع  : 
_ تعالي اتفضلي، اتفضلي. 
جلست لمياء وهي تعدل حقيبتها في حجرها، وتقول  : 
_ بخير يا عمو الحمد لله، أنت كويس وبتاخد علاجك؟ 
_ ايوة يا بنتي الحمد لله. 
قالها الرجل وهو يجلس إزاءها، أخرجت لمياء علبتين تحوى طعامًا، وأردفت بمرح  : 
_ هنتغدا سوا إنهارده يا عمو … بس فين علاجك الأول؟ 
نفى توفيق برأسه، قائلًا  : 
_ مش كل يوم تيجي نتغدا سوا يا بنتي، أنا بخير والله. 
نظرت له لمياء باستنكار، وقالت  : 
_ إيه بس يا حج توفيق تقولي بنتي ومش عاوز تتغدا مع بنتك؟  استنى انا هجبلك العلاج. 
نهضت لمياء تزامنًا مع قولها، و وقفت امام الرف وأخرجت على غرة من توفيق عُلب أدوية من حقيبتها وأخذت التي أنتهت دون أن يدري، وقدمت له الدواء وعادت لمقعدها. 
قال توفيق بعد ما حمد لله وركن الكوب  : 
_ العلاج مخلص وانا عارف إنك جبتي غيره وإنك بتعملي كدا كل مرة، أنا عيالي مش بيعملوا اللي أنتِ بتعمليه معايا... 
قاطعته لمياء بنبرة رقيقة يخامرها الود  : 
_ متقولش كده يا عمو هو أنا مش زي بنتك ولا إيه؟  ويجلا بقا ناكل عشان جعانة. 
_ يلا يا ستي. 
رصت لمياء الطعام وتناولا سويًا، وقبل أن تغادر وصته أن ياخذ العلاج في وقته وتركت عُلب من الطعام غير التي تناولها، وغادرت المكان، هذا الرجل بات لا يمر يوم عليها إلا وهي تزوره في ذهابها وأيابها، كان اول لقاء لهما حين وجدته مغشيًا عليه في محله الصغير وقوت يومه فـ أسعفته في الحال، لتعلم إنه يعيش بمفرده بعد زواج ابناءه ولا يأتي احد لرؤيته إلا فيمَ ندر، كما إن زوجته متوفية، ويعيش بمفرده … دون آنيس فكانت هي ذورق النجاة في عتمة أيامه. 
وقفت لمياء في انتظار سيارة أجرة، وبغتة ظهر أمامها إسلام ودون أي كلمة فاجئها بسؤاله  : 
_ ماذا كُنتِ تفعلين مع هذا الرجل. 
أنتفض جسد لمياء وهي تتراجع في زعر، هامسة  : 
_ بسم الله الرحمن الرحيم. 
واستطردت ببسمة صفراء  : 
_ هذا ليس من شأنك! 
أسبل إسلام جفنيه متنهدًا، وقال في هدوء: 
_ حسنًا، لا أريدُ أن أعلم... 
قاطعته لمياء، صائحة  : 
_ ما الذي جاء بك؟ 
هُنا وتوترت ملامحه قليلًا واذرد لعابه، ولم يذد على وجهه إلا علامات التردد، وتبسم بسمة حائرة، وأردف  : 
_ أودُ ان أقول شيئًا! 
أومأت لمياء بانتباه، وقالت في اهتمام: 
_ كلي آذانٌ صاغية هانذا أصغي؛ هات ما لديك؟ 
أطرق إسلام مليًا، فعقدت ذراعيها متأففة ولم تنبس ببنت شفة، رفع رأسه فجأة ودون أي مقدمة قال دفعة واحدة  : 
_ هل تقبلينني زوجًا يا عزيزتي لمياء؟ 
فغرت لمياء فاه في بلاهة، فضحك هو متابعًا بصوت متهدج بالعامية كأنه طفلًا يتعلم التكلم  : 
_ عـ … عاوز رقم أبوكِ وهجيب لك الأكلة اللي بتحبيها. 
ثم تساءل في حزن بيَّن و وجهًا عابس: 
_ يا إلهي ما هي إسم الأكلة؟، تبًا نسيت!  يا الله ماذا افعل. 
هزت لمياء رأسها في حيرة وقالت تجاريه  : 
_ انت تريد رقم والدي؟ الذي هو يسك... 
قاطعها قائلًا بلهفة  : 
_ وعنوان بيتك. 
هزت لمياء رأسها في عنف وهي تتفرس فيه كأنه أحد المجانين قد هرب من السرايا، فـ أسترسل إسلام باسم الثغر، مشرق الوجه  : 
_ عاوز اعرف كل حاجة عنك يا بهيمة! 
شهققت لمياء متسعت العينين حتى كادتا ان تخرجان من محجريهما، وأشارت إلى نفسها وهي تساءل بصوت خافت، حزين، كمن على وشك البكاء  : 
_ أنا بهيمة؟ 
وراعها أن اومأ برأسه ببسمة تذاد اتساعًا، وحين رأى الدموع تترقرق في عينيها، و وجهها قد وجم، حدثته نفسه قائلة  : 
( لماذا تبكي؟ ألست بهيمة هذه كلمة غزل كما أخبره معاذ ومالك؟  ) 
ثُم ضرب جبينه بكفه، وافتر ثغره عن بسمة كضوء الفجر وهو يعتقد إن أدمعها المترقرقة في عينيها بسبب سعادتها لطلبه فهش وبش، وقال في بشاشة  : 
_ لا تبكِ يا لمياء رجاءً اعرف كم إن الخبر مفرح. 
والآن هل تعلمين ماذا سأحضر لكِ؟ 
لم يتلق ردًا، فستأنف مفكرًا بأقتضاب  : 
_ ماذا كان إسم الأكلة، إنها تبدأ بحرف الميم! يا الله نسيت مرة اخرى، سحقًا للنسيان. 
كظمت لمياء غيظها، وكبحت غضبها، وأستفسرت  : 
_ أكلة تبدأ بحرف الميم؟  تقصد ملبن؟ 
هز رأسه بالنفي، فـ اقترحت مفكرة  : 
_ مكرونة؟ 
_ لا، لا ليس هذه إنها كلمة من حرفين! 
شوحت لمياء بكفها، وقالت بأمتعاض شديد  : 
_ مش عاوزة…
تفاجئت به يهتف بحماس، ولهفة  : 
_ ها هي مِش، هجيب لك مِش! 
احتقن وجه لمياء بالبكاء وهي تسأله بتريث  : 
_هتجيب ليّ مِش؟ وأنت جاي تتقدم لأبويا اللي أنت عايش معاه في نفس البيت وبتسألني عن عنوانه!  وبتقولي يا بهيمة يا بهيم إن شاء الله دودو المِش ياكلك يبعيد روح. 
تساءل إسلام وقد كسى الحزن وجهه  : 
_ أخبروني إن هذه الأكلة تحبيها وأنهم يتقدمون بها. 
_ بـ المِش؟؟
أولته لمياء ظهرها وسارت مبتعدة عنه في لمح البصر توقف سيارة اجرة وتندس بها في عجل، مخلفة وراءها إسلام الذي يتساءل بذهول، وقد إنطفئت فرحته تمامًا  : 
_ هي لا تريد المِش!؟ ما الذي احزنها في كلامي؟ هل قُلت شيئًا خاطئ يا تُرى؟ 

🍂 اللهم إني أسألك الفردوس الأعلى 🍂

يتعافى الجسد سريعًا، وتلتئم جروحه في طرفة عين، أما جروح القلب لا تبرأ تظل ندوبه حييه. 
خرج اراس من المستشفى منذُ أيام قلائل حتى اعتاد السير مجددًا، ولم تتركه خديجة ألبتًا حتى حين علم بموت أبيه، كانت له البلسم الذي يطيب الألم، ولـ هنا الرفيق، والآنيس، تعلم كم فقدان الأب مؤلم وإن نكبتهم لا يجابهها أي نكبة... لكنها الحياة لا فرح دائم ولا حزن دائم، وكلنا لله. 
كانت تجلس فوق الفراش تسمعُ رعاية الصلاة ( للشيخ سمير مصطفى) وأسيلت عبرتها، وتزلزل قلبها، وارتجف جسدها حتى إن أراس المتصنع النوم بجانبها أنتفض جالسًا، وسألها بلوعة  : 
_ خديجة لما تبكي؟ 
انهملت دموع خديجة أكثر، وقالت وهي تضم بذراعيها قدميها وكأنما تحادث نفسها لا هو  : 
_ كم مرة ألتفت قلبك يا خديجة وأنتِ في حضرة الرحمن؟ 
كم مرة شغلتك الدنيا الفانية؟ 
كم مرة وقفتِ بين يدي الرحمن وقلبك ليس بحاضر؟ 
آه لو لم تقبل صلاتك يا خديجة آه. 
خديجة تبكي؟ خشيةً أن لا تقبل صلاتها! 
ما هذه الفتاة إنها لا تترك فرضًا، تقيمُ الليل كل ليلة ما الذي داهها؟ 
إذن ماذا يقول هو بحق الله؟ 
لكنّ خديجة غيرت فيه الكثير عاثت في قلبه فسادًا بل أصلاحًا ليكن صادقًا. 
رنا إليها، و وضع كفه على ظهرها المنحني فـ ألتفتت إليه قائلة وعيناها تستمطر دمعًا  : 
_ كان قلبي يلتفت يا أراس في الصلاة في بعضُ الأحيان هل يغفر ليّ الله؟ 
لم يدرك ماذا يفعل لكن السؤال جاس في خاطره هل يغفر له الله؟ 
إنه هو من يجب أن يسال هذا السؤال، ليس هي. 
حين سكت عنها البكاء محت دمعها بكفيها كالأطفال، وانبلجت بسمة على ثغرها وهي تقول له  : 
_ سأصلي قيامُ الليل. 
ترى الدمع في أجفانه يترقرق فتتساءل نفسها  : 
_ تُرى هل يتوب؟ هل ينصلح قلبه؟ هل يصبح شخصًا صالح؟ 
أنتبه لها فتبسم هازًا رأسه فغادرت الفراش لتتوضأ، بينما أخذ هو هاتفها ونظر فيمَ كانت تسمع ليبحث في هاتفه حتى ظهرت أمامه سلسلة رعاية الصلاة وغادر الغرفة، توجه إلى المكتب، فإذا بشذا أبيه يخترق أنفه، وصدى صوته يصمُ أذنه، وطيفه تميمة تطوف حوله، فعتراه الحزن وأثقل صدره ودلف مغلقًا الباب مرتكنًا عليه بظهره وبقى دقائق عيناه تتقلب في كلُ ناحية على أمل رؤيته. 
ترآنا ننسى الموت؟ أم هم ينسونا؟ 
تظنوا الموت هو الرحيل؟ 
الموت هو إن يرحل من قلوبنا من كان يومًا ساكنًا. 
الميت وإن رحل فهو ساكن فينا. 
ترآه كيف سيكون حاله لو إن والده قد وافته المنية وخديجة ليست زوجته؟ 
مال على مقعد أبيه وتلمسه بحنين فاض من عينين حزينتين فقدتا شغف الحياة، لكن الله رحيم كما قالت خديجة حقًا. 
فلولها لما. تخطى هذه العقبة كانت طوق النجاة لقلبه من من جرفٍ هار كاد ينهار به في جُب الظلام. 
أستمع إلى الجزء الاول من رعاية الصلاة، وكان يبكي ويضحك مع طرفات الشيخ، إنه لم يصلي ابدًا لم يستشعر لذة الصلاة ومعناها قط! لا يحفظ حرفًا من القرآن. 
لا يعلم كيفية الصلاة حتى! 
ما أن انهى الجزء الأول وجاهد إلا يستمع الثاني بجهدٍ عظيم وبحث عن كيفية الوضوء والصلاة ومن فوره نهض ليتوضأ وما أن خرج من دورة المياة أرتجف قلبه وهو يتذكر كلمات خديجة عن أن الوضوء يغسل الذنوب، فخرّ ساجدًا لله على الأرض رغم إنه لم يعلم شطر القبلة لكن قلبه قد سجد فكيف لجسده أن لا يسجد؟ 
ألم تقل خديجة إن الله قريبٌ من عبده وهو ساجد؟ 
خبيرٌ بقلبه، عليمٌ بحالة، رؤوف بروحه، لطيفٌ بعبده، رحيمًا رحمته وسعت كل شيء، حنان سيحنو على قلبه، سيجبر بخاطره، لن يرده خائبًا، بكاءه، دموعه؛ تزلزل قلب كل من يرآه، وترج روح من يسمع نحيبه. 
وللغريب إنه جفت دموعه ورفع رأسه وأسبل جفنيه فهوت دموعٍ صامتة كأنما يناجي الله بفؤاده فلم ينبس، لذة الراحة التي اغدقت قلبه لم تزور فؤاده يومًا. 
وردد بصوتٌ ضغيف، رافعًا كفيه إلى فمه، ناظرًا إلى السماء عبر النافذة  : 
_ يا رحمن أغثني، يا رحمن اغثني، يا غافر الذنب اغفر ذنبي، يا قابل التوبة أقبل توبتي، أحيي قلبي يا رحيم، اغسل سخيمة صدري، وأجب دعوتِ انا عبدك الضعيف تائه في دروب الحياة أتخبط في كل درب وأكاد أسقط من ثقل الذنوب فاعصمني وسدد خطايا، وأمحصُ قلبي من كل الخطايا والذنوب. 
سكت، ودموع قلبه لم تسكت، وقام بعد ردحًا من الزمن متوجهًا إلى غرفته فتناهى له قُرب الباب خديجة تشدو فارهف السمع... 
وأعلمُ أنــكَ تغفـــرُ ذنبـــي
وأعلمُ أنــكَ تســــترُ عيبي
ولكنني نـــادمٌ يـــا إلهـــي
أكـــاد أنوءُ بحسـرات قلبي
وكم ذا تمنيتُ ألا أقول بنجواي يوماً :
عصـــيتك ربــــي 
و يســجد دمعي و يروي الثـرى
وتضـــرع روحي لـ رب الورى
عبيــــداً عصــــــاك
وهــــا قـــد دعـــاك
بدمع الأســى خـده عُفِّرا 
فإمـا عصيتُ .. فـ هــا قــد أتيت
بقــلــبٍ حــــــزين .. ودمع جرى
وإمــا غفـوتُ .. فـإني صحـــوت
ومــن خــاف أدلج عند الســـرى 
وأعلم أنــك تغفـــر ذنبـــي
وأعلم أنــك تســــتر عيبي
ولكنني نـــادمٌ يـــا إلهـــي
أكـــاد أنوءُ بحسـرات قلبي
وكم ذا تمنيت ألا أقول بنجواي يوماً :
عصـــيتك  ربي ... 
يا الله هل تشعر به خديجة؟ فما تنشد جاء في صميمه. 
وردد باسمًا معها  ( واعلم أنك تغفرُ ذنبي) 
ثُم أردف في أسى: 
_وكم ذا تمنيتُ ألا أقول بنجواي يوماً 
عصـــيتك ربــــي …
واستتبع بأمل ينير قلبه، ويشرق روحه  :  غفرانك يا غفار يا ودود. 
فتح الباب فتوقفت خديجة عن الشدو، فاستأذن باسمًا  : 
_ هلا أعرتيني …
سكت محرجًا من طلب مصلاة ليصلي عليها، فـ استوضحت خديجة بهدوء: 
_ اعيرك ماذا؟ هلا تأتي سأسجل الآن عن شفاعة الحبيب محمد، أتحبُ أن تسمع؟ 





النبي محمد! أسم الحبيب هذه المرة فعل في قلبه شيئًا لم يدري كنهه، ليت خديجة تسردُ قصته على مسامعه فكم مشتاق ليعلم كل كبيرةٌ وصغيرةٌ عن نبيه الذي لم يقتضي به يومًا. 
وجد نفسه يجلس بجانبها في لهفة، وشوق لم ينتباه يومًا، بينما تحمحمت خديجة وتربعت وهي تنظر إليه بأعيُن تتلألأ وتسجل قائلة  : 
_ كُنا قد تكلمنا عن حوض الحبيب، والآن نأتي لشيء سيصيبك بالأطمئنان ويذيدك حبًا لنبيك وهي شفاعته ﷺ يوم القيامة قد يكون يوم المخاوف والأهوال إلا أن رحمة الله تدرك عباده يومئذٍ وتتجلى رحمته فحين تدنو الشمس من الرؤوس، ويبلغ الجهد بالعباد ويجتمع رأيهم على طلب الشفاعة من الأنبياء ليشفعوا لهم عند ربه، فيأتون آدم ونوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وكلهم يـأبى عليهم ، ويذكر لنفسه ذنبا إلا عيسى بن مريم ، فلا يذكر لنفسه ذنبا ولكنه يأبى الشفاعة ويحيل الناس على النبي صلى الله عليه وسلم فيأتونه ، فيقول أنا لها ، أنا لها ، فيشفع صلى الله عليه وسلم إلى ربه ليفصل بين عباده ويريحهم مما هم فيه .
فعن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك ( أي يصيبهم الهم من طول الوقوف والأنتظار من شدة الحر وعظم الموقف) ، فيقولون: لو استشفعنا ( أي لو طلبنا شفاعة الأنبياء عند الله ليصرفنا عن موقفنا هذا) على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم - صلى الله عليه وسلم – فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم ( كلمة تقال على سبيل التواضع، أي: لست في تلك الدرجة التي تخولني الشفاعة في هذا الموقف العظيم فهناك من هو أولى مني .)، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله، فيأتون نوحاً - صلى الله عليه وسلم – فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - الذي اتخذه الله خليلاً، فيأتون إبراهيم - صلى الله عليه وسلم – فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا موسى - صلى الله عليه وسلم - الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة، فيأتون موسى - عليه السلام – فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته، فيأتون عيسى روح الله وكلمته، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبداً قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا أنا رأيته، وقعت ساجداً فيدعني ما شاء الله، فيقال: يا محمد ارفع رأسك، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي، ثم أشفع فيحد لي حداً، فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، ثم أعود فأقع ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك يا محمد، قل تسمع، سل تعطه، اشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه، ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة، قال – الرواي - فلا أدري في الثالثة أو في 



الرابعة قال: فأقول: يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن . أي: وجب عليه الخلود ) رواه مسلم .
يوم القيامة هو يوم الصعاب والأهوال، يقف الناس في عرصات ذلك اليوم فتدنو الشمس من رؤوسهم مقدار ميل، ويغرق الناس في عرقهم، وينالهم بسبب ذلك نصب وتعب شديدين، فيتمنون الخلاص من ذلك، فلا يرون سبيلاً إلا طلب الشفاعة من أنبيائهم، فيذهبون إلى آدم أبي البشر – عليه السلام - فيرى نفسه دون منزلة ما يطلبون، فيذهبون إلى الخليل إبراهيم وبعده إلى موسى وبعده إلى عيسى – عليهم السلام -، وكلهم يستحي من الله أن يشفع عنده وقد ارتكب ذنباً تاب الله عليه فيه، إلا أن كل نبي يرشد إلى غيره، حتى يرشدهم عيسى – عليه السلام - إلى محمد – صلى الله عليه وسلم – ويقول لهم: اذهبوا إلى محمد فهو خاتم الأنبياء، وهو عبد قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتون النبي - صلى الله عليه وسلم – فيقول: أنا لها، أنا لها، ثم يسجد لربه، فيلهمه ربه محامد لم يكن يحمده بها في الدنيا، ويقبل شفاعته، ويأمر الناس بالانصراف من ذلك الموقف كل إلى جزائه، فيأمر الله العباد أن يجتازوا الصراط، فيقع بعض هذه الأمة في النار لذنوب ارتكبوها، فيأذن الله بالشفاعة للنبي - صلى الله عليه وسلم - فيشفع في كل من قال: "لا إله إلا الله" خالصاً من قلبه ولو كان وزن إخلاصه مثقال ذرة أو حنطة أو شعيرة من خير .
وهذه شفاعة قد اختص بها الله نبيه وفي ذلك المقام المحمود الذي وعد الله به نبيه محمد، وثمة شفاعات اخرى يخص الله بها نبيه محمد عن سائر الأنبياء منها شفاعته في استفتاح الجنة قال صلى الله عليه وسلم : ( أنا أول شفيع في الجنة ) رواه مسلم .
سكتت خديجة وشردت عيناها كأنها تتخيل هذا اليوم العظيم، كم تشتاق لنبي الله، لحبيبها الرسول الشفيع؛ كيف لا تقضي به؟ ولا تعمل بسنته، تُرى كيف توجد ناس غفلة عن سنة الرسول؟
لم تشعر بدمعها الذي انسكب فـ ازاحه أراس بأنامله برقة وهو باسم الوجه فبادلته البسمة ولم يخف عليها وميض عينيه الذي لأول مره تراه، فتابعت متحمسة،وقالت  : 
_ ومن أنواع شفاعة الحبيب صل الله عليه وسلم هي شفاعته في العصاة المؤمنين الذين عصوا الله. 
صمتت مجفلة حين أحست برعشت جسد أراس بجانبها وهو يتحاشى النظر لها إليها يواري عينان فاضتا دمعًا. 
يشفع الرسول للعصاة؟  فهل يشفع له؟ 
تلت خديجة قولها قائلة وهي تختلس النظر إليه  : 
_ إن الله رحيمٌ بعباده يقبل توبة عبده مهما أسرف في الذنوب " قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم"الزمر 53
" قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو ارحم الراحمين " يوسف 92
أنهت خديجتها التسجيل حين لمحت أراس ينهض مغادرًا بعدما أخذ منشفة معه وكادت أن تذهب وراءه لكنها أثرت أن تذره بمفرده قليلًا ليلملم شتات نفسه، خرجت من الغرفة مبتغية غرفة آجار وهي تضم إلى صدرها مصحفًا، وطرقت الباب، وانتظرت قليلًا حتى جاءها صوت يدعوها بالدخول، فدخلت واغلقت الباب خلفها وتقدمت من هنا التي بدا وجهها شاحبًا وسألتها  : 
_ كيف حالك اليوم، أنتِ بخير؟ أخذتِ دوؤك؟ 
اومأت لها منة وهي تمسك معدتها في ألم وتجيبها بوهن  : 
_ أفضل حالًا، أتعبتك معي يا خديجة سامحيني.. 
_ عفوًا، لا تقولي هكذا مرة اخرى. 
قالت خديجة ومدت كفها بالمصحف قائلة بود  : 
_ هذا هدية لكِ. 
نظرت منة إلى المصحف الممدود في تردد، وأخذته بكفٍ مرتعش وهي تساءل  : 
_ ولمَ مصحف بالتحديد؟ 
ردت خديجة باسمة  : 
_ أحبُ أن أهدي أحباءي به؛ أولًا لإنه حينما يقرؤ منه سيكتب لي أجر، ثُم سيتذكروني في كل مرة يتلون منه وربما يدعوا ليّ، وأيضًا لإني لا ارى أجمل من ان يهادي المرء أخيه مصحفًا يظل يذكره به، ويحافظ عليه في عينيه وقلبه. 
_ واو. 
قالت منة بمحبة، وهمست  : 
_ يا الله، لو اكون مثلك يا خديجة؟ 
قالت خديجة وهي تضع كفها على وجنتها بحنو  : 
_ ستبقين وافضل مني إن شاء الله. 
وقالت في تذكر  : 
_ أما زال آجار مصرًا على السفر ما زالت صحتك غير جيدة؟ 
زمت منة شفتيها وهي تجيبها بضيق  :
_ ما زال مصرًا لا تقلقين إنها مجرد قرح في المعدة ستشفى.. 

🍃 اللهم أرزقني شفاعة الحبيب محمد ﷺ 🍃

يوم زفاف أو ربما يوم  مأتم لا يمكن لأحد أن يتوقع. 
كان المعازيم تتوافد إلى القاعة تستقبلهم لمار ومعها ياسين، وعثمان، وحذيفة. 
وحضرت ملك في أبهى صوره، كإنما أميرة هربت من إحدى الاساطير بفستانٍ أبيض يزينه خمارٌ ملفوفٌ بوجهًا كالكوكب الدري في بهاءه وتوهجه، عيناها حزينتين على حبيبٌ سافر، وأوجاعًا تهل. 
الفتيات كانوا يحوطوها كإحاطة السوار بالمعصم وهي تتأبط ذراع والدها وانبعثت الأغاني في الأرجاء، وتعلقت العيون على العروسة  وتجمع نسوة العريس وصفقت الإيدي واهتزت الأجساد، بينما أبتعدت ملك جالسة واقتربت منها لمياء ودارين وشيماء. 
في إحدى الزوايا كانت تقف اروى بجانب هيثم، تحادثه قائلة  : 
_ مقدرتش افتح مع ملك موضوع عالجها! 
فرد هو وهو يطالع ملك : 
_ الموضوع صعب يا أروى، وصعب جدًا بس لازم وضروري تحاولي، لازم. 
صمت هنيهة متاملًا فيها ملك وقال  : 
_ملك مش فرحانة عنيها مطفية، يا رتهم كانوا كتبوا الكتاب بس واستنوا على الفرح. 
ألتفتت له اروى وسألته فجأة  : 
_ هي ملك ليه وافقت على شهاب، دايمًا كلنا كنا متأكدين انها بتحب معاذ وهو كذلك. 
تنهد هيثم ونظر لها، قائلًا بتؤدة  : 
_ومين قال إن ملك مش بتحب معاذ؟ 
همت اروى بالكلام فقاطعها متابعًا  : 
_ ملك شايفة إنها مستحيل تكون لـ معاذ لأنها مش شايفة نفسها تستاهله، خوفها محسسها إنه لو عرف بحالتها هيستحقرها ويبعد عنها، هي بتخبي عن كل اللي حواليها لأنها مش عاوزة حد يستحقرها ولا يكرهها... فوافقت بشهاب أعتقد إنه عارف. 
كانت الطامة الكبرى على أروى التي شهقت في فزع، قائلة  : 
_ نعم!! 
تجاهل هيثم صدمتها وتابع وعيناه على شهاب  : 
_ شهاب ده شاب عنده حب تملك فظيع لكل حاجة عجباه... شهاب بباه مديه منصب ميستحقوش لأنه فاشل، كل طلباته مجابة والفلوس معاه كتيرة، شاب عنده نقص وعدم مسؤلية واخد الدنيا لعب ولهو. 
ثم قال ونظره انتقل إلى شيماء التي تعدل فستانها  : 
_ عندك شيماء عندها وسواس وشك في كل اللي حواليها انهم مش بيحبوها وشايفة حمزة واخد كل حاجة مع انها لو فتحت عينيها هتلاقي نفس الحب اللي الكل مديه لحمزة من نصيبها. 
نظر إلى اروى حين طال صمتها فوجدها شاردة في مكانٍ ما، فناداها لكنها التفتت إليه ضاحكة وقالت بلهفة  : 
_ مش هسمح لملك تضيع جهز نفسك عشان تعالجها. 
ثُم لمحت إسلام الذي كان في طريقه خارج القاعة فركضت خلفه منادية وخلفها هيثم المندهش لمَ يجرى. 
كاد إسلام أن يفتح باب السيارة حين أستمع إلى أروى فالتفت لها بتساؤل فقالت بعجل وهي تدور حول السيارة  : 
_ اصعد،  اصعد، احتاج إليك، هيا، هيا. 
فصاح إسلام بضيق  : 





_على رِسلك، إلى أين أنا ذاهب حتى أجلب جدو أدهم وجدو زيد.... 
ضحك هيثم متنبئًا إلى أين أروى ستذهب فقاطع إسلام قائلًا  : 
_ اذهب أنت معها وأنا سأجلبهم، هيا لا تتأخرا. 
🍂اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم 🍂 
مرت ربع ساعة كانت خلالها لمار تختلس النظر إلى ساعة معصمها وهي تأجل عقد القرآن حتى مجيئ الجماعة، حين تلقت اتصالًا ما كادت أن تجيب حتى هبط قلبها بين قدميها، وكادت الدموع تنفجر من عينيها، وإذا بها تنطلق للخارج. 
قبل ذلك بدقائق كان هيثم يقود السيارة وتنبه لشاحنة تتبعه فراحت تنصدم عمدًا في مؤخرة سيارته فعلا صراخ حبيبة وهالة وريم، وحاول هيثم تفادي السيارة والإسرع لكن مع أخر اصطدام دارت السيارة حول نفسها، وهاج الجميع جزعًا ثم انقلبت السيارة مرة تلو الأخرى حتى استقرت رأسًا على عقب، غامت عينا هيثم والدم يسيل من وجهه ولاح له وجه عائشة ودارين وأحس بدوار حاد كأنه في لعبة تدور وتدور وتدور دون توقف وأسود كل شيء في عينيه، ود أن يرى الجميع ولكن قد فات الآوان. 
ركضت لمار إلى السيارة التي تجمع ملأ من الناس حولها يخرجون الأحبة امام عيناها، فتسمرت قدميها، وتخشب جسدها..... 
🥀اللهم نجني من النار 🥀 
لم ينتظر شهاب عندما سنحت له الفرصة بعدم وجود لمار فطلب عقد القرآن فورًا وما هم المأذون أن يبدأ إذ انقلبت شاشات العرض التي في القاعة إلى سورة ملك وهي تسرق بعض الأشياء التافهه من مكتب شهاب، ثُم أشياء من زملاء العمل مثل قلم، خاتم، سلسة وما غير ذلك، وتعلقت كل العيون الذاهلة إلى ملك وفشا القيل والقال وعم الهمس، انهارت ملك وبكت بصمت وهي ترتجف كأن شبح الموت أمامها، وتهز رأسها للجميع وهي تطوف بعينيها على وجوه عائلتها كأنما تخبرهم إنه غصب عنها، لم يكن بيدها. 
فـ اسرعت لمياء ركضًا إليها ودفنت وجهها عن اعيُن الناس في حضنها، وبالمثل بادرت دارين. 
الصدمة شلت الجميع، حتى شهاب نفسه الذي بقا محدقًا في الشاشة دون استيعاب، وصح صوت امه صارخًا فيه وهي تفجر كلامها تفجيرًا  : 
_ سراقة!  عاوز تتجوز من سراقة، عاوزنا نناسب ناس زي دي؟  بقا انا دي تبقى مرات ابني وحدة بتسرق. 
كان جسد ملك يرتجف مع كل كلمة تنطق بها كأن كلامها رصاص يخترق صدرها دون هوادة. 
لا غرو! فـ الكلمات أشد ألمًا من الرصاص. 
فالرصاص يرحمنا من الألم حين يأخذ روحنا، اما الكلمات فمن قد يداويها؟ 
لم تتوان والدت شهاب وأبيه في الكلام القاسي إلى أن غادروا، ورحلت المعازيم بعد ما ألقوا ما ألقوا من سموم الكلمات فتهاوت ملك أرضًا. 


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-