
رواية عروستي ميكانيكي
الفصل الاول1
والفصل الثاني
والفصل الثالث
بقلم سما نور الدين
تنهد بيأس وتأفف بضيق، لم يستطع تحريك رقبته بسبب تلك التي تنام فوق كتفه بل والأدهى من ذلك أن صوت شخيرها قد فاق صوت محرك الطائرة، شعر بالخجل من نظرات بقية الركاب المحيطين بهما.
رفع اصبعيه ينقر بهما فوق كتفها وقال بصوت هادئ قوي:
-ياأنسة اصحي لو سمحتي، أنتي ياأنسة.!
سمع همهمتها التي تتسم بالإعتراض والتي تقارنت بالتصاقها أكثر بذراعه الذي احتضنته بقوة، شعر ببعض الرجفة بجسده فأمسك بذراعها يهزها بقوة وهو يقول من بين أسنانه مغتاظًا منها:
-أنتي يابنتي.! اصحي بقى مينفعش كدة!!
فتحت عينيها ورمشت عدة مرات وهي تحاول أن تستعب مايحدث حولها، انتفضت بمكانها فور أن رأت نفسها تحتضن ذراع هذا الشاب الذي يجلس بجانبها، فقالت بنبرة اعتذار:
-لمواخذة، لمواخذة.
نفض فوق ذراعه وكأنه ينفض ترابًا أو حشرات عالقة به وهو يقول:
-لمواخذة إيه وبتاع إيه، صوت شخيرك وصل لكابينة الطيار مينفعش كدة.
التفتت ناحيته بجذعها وبوجه غاضب صاحت به:
-شخيري!! اتكلم عدل ياأستاذ أنت، لو مش عاجبك قوم شوفلك مكان تاني، وكمان أنت بأي حق تصحيني أنا مصدقت غفلت شوية، منك لله لما بصحى مبعرفش أنام تاني، بس أقولك الحق مش عليك الحق عليا أنا، أنا اللي محذرتكش قبل ما أنام، وعلى العموم حصل خير ، معاك إيمان ميكانيكي سيارات.
مدت كفها الصغير تنتظر التحية من ذاك الذي اتسعت عيناه وفاهه، وبالأخير مد يده ولامس كفها لمسة خفيفة ولكنها تركت تأثيرًا قويًا داخله أخفاه مسرعًا، عاودت إيمان الحديث بوجه بشوش وهي تقول:
-متعرفناش يامحترم.
تنحنح إبراهيم وهو ينظر أمامه وقال بصوت يشوبه الغرور:
-إبراهيم سالم رجل أعمال.
مطت إيمان شفتيها أمامها وهي تتفحصه من أسفله لأعلاه بنظرة تقيمية وقالت بنبرة جادة:
-باين عليك الصرف والله.
التفت برأسه سريعًا، وقال بحدة:
-إيه!! الصرف ياريت ياأنسة تهذبي من ألفاظك شوية.
لوت شفتيها جانبًا، وقالت وهي تعتدل بجلوسها فوق كرسيها:
-متبقاش قفوش كدة ياباشا، وكمان إحنا قدامنا رحلة طويلة، مش معقول هنقفش على بعض من أولها كدة، خليك بحبوح زي البهاوات اللي بييجوا يصلحوا عربياتهم عندي، أجدع واحد فيهم ياباشا بيمدح فيا وفي شطارتي.
مسَّد إبراهيم جبهته بعصبية وبداخله يلعن سكرتيرته الجديدة التي حجزت له مكان بالطائرة غير مكانه المعتاد الخاص برجال الأعمال.
أغمض عينيه بقوة وجز على أسنانه بغيظ فور سماعها وهي تستطرد قولها بصوت قوي مبهج، تتحدث معه بأريحية وكأنها تعرفه حق المعرفة من سنين طوال:
-طبعًا زمانك ياباشا دلوقتي مستغرب إن واحدة أنسة زيي بتشتغل ميكانيكي سيارات، أنا أقولك بقى أصل الحكاية، أبويا الله يرحمه كان مهندس ميكانيكا أد الدنيا، اتعلمت على إيده من وأنا صغيرة حلوة كدة عندي خمس سنين، كان دايمًا يأخدني معاه الورشة، أمي الله يرحمها ويبشبش الطوبة اللي تحت رأسها كانت تقوله حرام عليك هاتطلعها واد بشنب، كان يضحك ويقولها دي اللي هتبقى سندنا بعد ربنا لما نكبر، بنت بمليون راجل.
فى البداية كان ممتعض الوجه من سماعها ولكن مع مرور الوقت وسماعه لها وانجذابه لكلماتها وملامح وجهها التي تعبر عن كل كلمة تنطق بها.
شفتيها، شفتيها التي أثارت انتباهه أكثر فظل متمعنًا بها دون أن ينتبه لذلك ولكنه ما إن رأي دمعة تجري فوق وجنتها الناعمة والتي مسحتها بسرعة بأصابعها، وهي تقول بصوت حزين:
-الله يرحمهم.
فردد هو بدوره بعد أن نكزت قلبه بحزنها:
-الله يرحمهم
لاحت ابتسامة حزينة فوق صفحة وجهها وهي تقول بعد أن استعاد صوتها بهجته مرة أخرى:
-طبعًا جواك بتسأل ياترى إيه اللي موديني تركيا صح؟ قول قول ماتتكسفش.
أصدر ضحكة خافتة وقال:
-فعلًاا، وياترى إيه السبب اللي هيخلي تركيا تقيم الأفراح بسبب تشريفها بقدوم سعادتك.
مطت شفتيها وقالت وهي ترفع حاجبها اعتراضًا على تهكمه الواضح، وقالت بنزق:
-شكلك بتتريق، بس هعديهالك المرادي لأجل إنك ابن بلدي و إحنا في مشوار غربة ولازم نكون مع بعضينا، وعشان كدة هقولك، بص ياسيدي وما ستك الا أنا.
نفخ بضيق أثر كلماتها اللاذعة فقالت وهي ترفع يديها:
-لموأخذة لموأخذة، بس القافية تحكم، اسمعني بقى أصل حكايتي فيها شبه شوية من حكايات السيما.
أبويا الله يرحمه من عيلة غنية أووي أووي، بس وقع في حب أمي الله يرحمها ولما قرر أنه يتجوزها، طبعًا عيلته الأُبهة دي وقفت قصاده وخيرته بين العز والجاه والفلوس أو حبيبته الفقيرة اللي محيلتهاش اللضة.
ومن غير ما يتردد ياباشا اختار أمي الله يرحمها وبدأ من الصفر معاها وسكنوا في حي شعبي بسيط وفتح ورشة ميكانيكا صغيرة وعاشوا مع بعض أجمل سنين عمرهم وجابوني بعد ما طلعت عينهم عشان يخلفوا، دكاترة وعلاج أشكال وألوان لغاية ما أبويا قال لأمي "خلاص يامنى أنا راضي بقضاء ربنا وأنتي عندي بالدنيا" وعشان صبروا ورضيوا ربنا جزاهم فجأة كدة ياباشا أمي لقت نفسها حامل فيا، وربنا كرمهم بعد عشر سنين جواز، شوفت كرم ربنا عظيم ازاي ياباشا.
كان إبراهيم يضع قدمه فوق الأخرى، مستندًا برأسه فوق ظهر كرسيه مستمتعًا بحكايتها وكأنه يستمع لحدوتة منتصف الليل، استطردت قولها وهي تلوح بيدها أمامه:
-بعد ما توفاهم اللّٰه، ظهرتللي فجأة ياباشا عيلة أبويا، وإن ليا جد نفسه يشوفني بعد العمر دا كله، بس ميقدرش يجيلي عشان صحته على أده، بعتولي واحد ومعاه ورق وملفات وفي مسافة يومين ياباشا كان كل حاجة جاهزة، بس عارف أنا مكنتش هعبرهم لولا وصية أبويا اللّٰه يرحمه إن لو حد منهم سأل عليا مقفلش الباب في وشه، وقد كان أهو وأديني رايحة لما أشوف الحكاية إيه، بس إيه ياباشا أنا اشترطت عليهم لو الأمور معجبتنيش هرجع على طول لبيتي وورشتي، طب واللي خلق الخلق ياباشا أنا سايبة زباين ملهمش عدد، كله يهون تنفيذًا لوصية الميت، مش كدة ولا إيه..
ردد إبراهيم بعد أن وجد أنه لامفر أو مهرب من الحديث أو الاستماع لها:
-طبعًا طبعًا.
ظلت تحكي طوال مدة الرحلة وظل هو يستمع لقصة حياتها منذ أن وُلدت حتى الآن، إلى أن همس لنفسه بالنهاية أنها فعلًا بنت بمليون راجل زي مقال أبوها.
انتهت الرحلة ولأول مرة شعر إبراهيم بمتعة السفر الحقيقية مع أنه قد سافر مئات المرات قبل ذلك، انتهت إجراءات الخروج من المطار فخرجت إيمان من بوابة المطار لتجد سيارة فارهة سوداء كبيرة ورجل يرتدي بدلة سوداء كبيرة لامعة وقبعة بنفس اللون رافعًا بيده ورقة بيضاء عريضة مطبوع عليها اسمها.
فأسرعت ناحيته بخطواتها تجر ورائها حقيبة ملابسها، أشارت لنفسها وقالت للسائق:
-أيوة، أنا إيمان ياسطى.
رفع السائق حاجبه متعجبًا وهو ينظر إليها من أخمص قدميها حتى خصلات شعرها المتطاير حول كتفيها، ولكن اتسعت عيناه عندما لمح شخصًا ما خارجًا لتوه من البوابة.
تخطى السائق إيمان التي تقف أمامه ببلاهة لا تعرف ماذا يحدث، أسرع السائق ليقف أمام إبراهيم وقال بصوت قوي:
-حمدللّٰه على السلامة إبراهيم بيه.
ضاق مابين حاجبي إبراهيم وقال متعجبًا:
-إمام!! مين اللي قالك إني جاي النهاردة؟ أنا مقولتش لحد.
أمسك السائق إمام بحقيبة إبراهيم وقال بعد أن اعتدل بوقفته أمامه:
-محدش قالي حاجة، أنا اتفاجئت بحضرتك قدامي، أنا هنا عشان أوصل أنسه إيمان زي ما جد حضرتك أمرني.
أشار السائق لتلك الفتاة التي تستند بظهرها على باب السيارة، تنظر لهما بوجه مرسوم على صفحته الكثير من علامات الاستفهام. اتسعت أعين إبراهيم عندما ربط مابين ما قال السائق وبين قصة إيمان التي روتها بكافة تفاصيلها له بالطائر، لوحت إيمان بيدها لإبراهيم الذي مشى بخطواته الهادئة ناحيتها وعلامات الذهول مرتسمة بملامح وجهه، صاحت إيمان بصوت عال استرعى انتباه من حولها:
-باااشا، اتفضل تعال لو تحب نوصلك لأي مكان، إحنا ولاد بلد واحدة زي مقلتلك وفي الغربة لازم نساعد بعضينا.
أغمض عينيه ليمنع ما يخيطه عقله من أحداث قادمة بالطريق، ركب إبراهيم السيارة دون أن ينطق بعد أن فتح السائق الباب الخلفي.
بنفس الوقت الذي فتحت إيمان به الباب الأمامي للسيارة لتركب بالمكان المخصص جانب السائق، أسرع السائق بقوله:
-اتفضلي ياأنسة اقعدي ورا جمب إبراهيم بيه.
اعتدلت إيمان بجلوسها وهي تقول:
-وعلى إيه ياسطى، أهي كلها كراسي.
نظر السائق لإبراهيم منتظرًا منه أي تعليمات بخصوص هذه الفتاة الغريبة الأطوار بالنسبة له، فأشار له إبراهيم بالموافقة على ما قالته وليرضى هو الآخر.
بدأ السائق بالقيادة ومن أول دقيقة بدأت إيمان بالحديث بقولها:
-ألا قولي ياسطى أنت تعرف الباشا اللي قاعد ورا دا، أصلي فهمت بالحداقة كدة إنكم تعرفوا بعض.
نظر السائق للمرآة التي تتوسط أعلى سقف السيارة لتنعكس عليها أعين إبراهيم التي أشار له بأن لا يتكلم عن أي شي ويلتزم الصمت.
امتعض وجه إيمان وأصدرت صوت من بين شفتيها اعتراضًا واضحًا على صمت السائق، فقالت بنزق:
-على راحتك.
بعد برهة من الوقت، وقف السائق أمام بوابة حديدية كبيرة تتوسط سور عالي تعلوه أوراق الشجر المكدس بزهور صغيرة ملونة بألوان متنوعة ومتناسقة بجانب بعضها، ضرب السائق بزامور السيارة ليجد بعدها فتح البوابة على مصراعيها، عاود السائق قيادة السيارة التي دخل بها فوق طريق مرسوم بأحجاره الملونة مطبوع عليها رسومات هندسية، وعلى جانبيه حديقة واسعة يغلب عليها اللون الأخضر من كثرة أشجارها والعشب المفترش أرضيتها.
بعد ما أن تجاوز السائق هذا الممر الطويل وقف بالسيارة على جانب درجات السلم الرخامية العريضة، نزل السائق بخفة واضحة ليفتح الباب الخلفي لينزل إبراهيم وهو يربت فوق كتف السائق قائلًا:
-شكرا إمام.
لينتفضا هما الإثنان على صوت إيمان وهي تقول بعد أن مالت براسها تتحدث معهما من خلال النافذة:
-يالا ياسطى، هنتأخر أنا عايزة أرتاح شوية من تعب السفر، وأنت ياباشا حمد اللّٰه ع السلامة.
تنهد إبراهيم باستسلام والتفت ليصعد درجات السلم، مال السائق بجذعه لينظر لها من خلال نافذة السيارة وقال:
-إحنا وصلنا أنسة إيمان.
وقبل أن يستدير ليفتح لها باب السيارة، كانت إيمان تفتح الباب لتنزل مسرعة وتحدق بعينيها هذا البيت الكبير الذي يشبه القصر وقالت بصوت قوي:
-اللهمَّ صلي على النبي، دا بيت جدي.
ردد إمام وقال:
-اتفضلي ياأنسة إيمان، هما منتظرينك اتفضلي.
نظرت إيمان للذي يقف أمام البيت منتظرًا إياها واضعًا كفيه داخل بنطال بذلته، صعدت درجات السلم ووقفت أمامه وهي تقول:
-شكلنا كدة ياباشا طلعنا قرايب، صح ولا إيه العبارة؟ ولا أنت جاي زيارة؟
فتحت الخادمة الباب قبل أن ينطق إبراهيم بكلمة واحدة، فأسرع بالدخول متجهًا لغرفة جده، نظر وراءه ليجد تلك التي دخلت وتكاد رقبتها تلتوي من التفافها حول نفسها وهي تشاهد كل ركن من أركان البيت الواسع وما يحويه من أثاث فاخر، انتفضت بمكانها وكادت أن تتعثر عندما سمعت صوت إبراهيم وهو يصيح بها:
-أنتي ياأنسة!! جدك في انتظارك.
وضعت يدها فوق صدرها وقالت:
-إيه ياعم خضتني!! طيب جاية.
هرولت ناحيته بخطوات واسعة لتجد نفسها بجانبه أمام باب خشبي أبيض اللون، طرق إبراهيم الباب وبعدها قام بفتحه، دلفا الاثنان داخل الغرفة الواسعة ليقترب إبراهيم بخطوات هادئة ناحية الفراش الواسع القابع بمنتصفه رجل عجوز مغمض العينين تخترق ذراعه الواهن إبرة متصلة بخرطوم بلاستيكي ينتهي بقاروة تحوي محلول غذائي.
جثى إبراهيم فوق ركبتيه بعد أن مد كفه يحتضن بداخله كف جده العجوز، همس بالقرب من وجهه:
-جدي، جدي أنت صاحي؟
فتح العجوز عينيه بصعوبة والتفت برأسه ناحية وجه إبراهيم وقال بعد محاولته الصعبة ليرسم ابتسامة فوق شفتيه بصوت واهن:
-إبراهيم أنت جيت، الحمد للّٰه إني شوفتك قبل ما ربنا يسترد أمانته.
رد إبراهيم مسرعًا بعد أن غطت عينيه سحابة شفافة من الدموع تكاد أن تنحدر فوق وجنتيه:
-حبيبي ياجدي ربنا يخليك لينا، أنت هتخف وهتقوم تاني وهترجع أحسن من الأول، أنا أول معرفت حجزت وجيت على طول، وتخيل بقى ياجدي أنا مش جاي لوحدي، جاي ومعايا هديتك اللي طلبتها.+
ارتجف جسد العجوز وقال بلهفة:
-وصلت!! حفيدتي وصلت، هي فين ياإبراهيم؟ فين؟
التفت إبراهيم برأسه لتلك التي تقف بجانب الباب وتمسح دموعها براحة يدها، ترك إبراهيم يد جده وهب واقفًا ثم أشار لإيمان أن تتقدم ناحيته وهو يقول د:
-تعالي، تعالي ياإيمان جدك عايز يشوفك.
اقتربت إيمان بخطوات بطيئة ناحية الفراش وهي ماتزال تمسح بدموعها، أفسح إبراهيم لها المجال لتقف مكانه، وقفت تنظر للعجوز المريض، ثم قالت:
-سلامو عليكو ياحج، ألف سلامة عليك ربنا يشفيك يارب ويزيح عنك.
ولأول مرة منذ أن وقع العجوز مريضًا بالفراش يبتسم ابتسامة عريضة وصوت ضحكاته الخافتة لن يسمعها إلا القريب جدًا منه، فتح راحة يده وقال بعد أن سكتت ضحكاته:
-قربي.
نظرت لراحة يده ثم نظرت للواقف ورائها وكأنه هو من يدعمها بتلك المواقف، فأشار لها إبراهيم برأسه لتستجيب لطلب العجوز، جثت على ركبتها ثم مدت كفها الصغير بتردد لتلتحم بيد العجوز الذي قال:
-أنتي عارفة أنا مين؟
لم تنطق سوى بإشارة من رأسها من أسفل للأعلى، ردد العجوز وقال بعد اكتسى صوته بعض القوة التي اكتسبها من رؤية حفيدته:
-أنا مين؟
فردت مسرعة:
-أنت جدي، أبو أبويا اللّٰه يرحمه.
تغضنت ملامح الجد بالحزن ما إن تذكر ولده الغالي الذي لم يره حتى توفاه اللّٰه، فقال بصوت حزين:
-فيكي شبه كبير من أبوكي اللّٰه يرحمه، سامحيني يابنتي كنت عايز أصالح أبوكي لكن أمر اللّٰه سبقني سامحيني.
ابتسمت إيمان وقالت وهي تهز رأسها:
-مسمحاك ياجدي، أبويا كان دايمًا يكلمني ويحكيلي عنك، وهو مش زعلان منك، بالعكس واللّٰه.
تنحت دمعة للعجوز وجرت لترتكز فوق الوسادة فتمتم قائلًا:
-الحمد للّٰه، رحمة اللّٰه عليه.
نظر الجد يبحث بعينيه عن حفيده فقال:
-إبراهيم .
اقترب إبراهيم من فراش جده وقال:
-نعم ياجدي.
ابتسم الجد وقال بصوت جاد وهو ينتقل بعينيه بين حفيديه:
-النهاردة كتب كتابك أنت وإيمان، ألف مبروك ياولاد.
الفصـــــــــــــــــــــــل الثــــــــــــــــــــاني
-مبروك ياولاد .
اتسعت عين إبراهيم وفرغ فاهه ، ازدادت حدة تعجبه وانتفض عندما صاحت إيمان بفرح وهي تنظر إليه وتقول :
-ألف ألف مبروك يا باشا ، شوفت وشي حلو عليك إزاي ، فرحك في نفس اليوم اللي أنا جيت فيه ، ربنا يتمملك بخير يا باشا يارب .
مسح إبراهيم وجهه بعصبية وقال بغيظ من بين أسنانه :
-أنتي عندك عته في دماغك ، بتباركيلي على إيه .
ارتسم الغضب على ملامح إيمان وقالت بضيق وغيظ :
-وليه الغلط بس يا باشا ؟ أنا غلطانة إني بباركلك على جوازك ، حقك عليا ، سحبناااها .
استطردت قولها ولكن هذه المرة وهي تهمس لنفسها بغيظ :
-اللهي تكون جوازة سودة على دماغك يابعيد .
صاح إبراهيم بغضب وهو يميل ناحيتها دون أن يراعي هذا العجوز الذي ينظر لهما باستمتاع شديد وشعر وكانه يستعيد قواه شيئاً فشيئاً :
-بتقولي إيه في سرك سمعيني كدة .
زفرت بضيق وقالت وهي تضع كفها فوق الاخر ، وتنظر لجدها العجوز :
-مقولتش حاجة ، غير إني بستغفر ربنا ، إيه دا .. هو في إيه ، ماتشوف قريبك ماله ياعم الحاج .
صاح إبراهيم بها قائلاً بعد أن تنهد يأساً واستسلاماً :
-الصبر يااارب ، طب أنتي عارفة مين هي العروسة ، والسؤال الاهم أنتي عارفة أنا أقربلك إيه ؟
رفعت حاجبيها وقالت بنزق بعد أن التوت شفتيها :
-أنت .. شكلك كدة تبقى واحد قريبي ، والعروسة بقى ، وانا إيش عرفني هي مين ، هو أنا هنجم ، وكمان أنا مبشمش على ضهر ايدي حضرتك .
تخصر وأنزل برأسه لأسفل يحركها يمينا وشمالاً ، ثم قال وهو ينظر إليها ويشير لصدره بأصبعه :
-أولاً أنا ابن عمك ، ثانياً هو جدك مش عم الحج ، ثالثاً ودا الأهم إن العروسة تبقى حضرتك يا أنسة إيمان .
مالت برأسها للأمام ، ثم رمشت عدة مرات بعينيها التي ضاقت ثم قالت بتلعثم :
-بص ياباشا اولاً وثانياً مفهومة ، أنت جدي والحج يبقى ابن عمي ، أوكيه معنديش مانع ، لكن ثالثاً دي معلشي مسمعتهاش كويس ، عيدها تاني كدة .
صاح بوجهها بعد أن قام بشد شعر رأسه بغيظ :
-ايييه اللي انتي بتقوليه دا !! أنا اللي ابن عمك والحج ، قصدي جدي يبقى جدك ، فهمتي ؟
اقتربت منه وصاحت بدورها بغضب :
-نسيبنا بقى من الموضوع الأساسي عشان نشوف مين قريب مين ، ياسيد يامحترم جاوبني مين العروسة .
اقترب منها ومال برأسه هو الأخر حتى أصبح لا يفصل بين وجهيهما إلا إنشات قليلة وقال بصوت هادئ حاد :
-أنتي العروسة ياهانم .
عاودت رمش عينيها عدة مرات وهي تنتقل بنظرها بين الجد وابن العم ، رفعت يدها تلوح لهما ثم قالت وهي تخطو ناحية الباب :
-سلامو عليكو .
أسرع إبراهيم وأمسك بمرفقها يدفعها ناحيته وهو يقول بصوت غاضب :
-تعالي هنا رايحة فين .
نظرت ليده وأنزلتها ببطئ وهي تقول محذرة إياه :
-لأ .. لأ ياباشا اوعى تتهور لحسن في الاخر تتعور ، مش الاسطى إيمان اللي حد مين كان يكون يمسكها كدة ، آه لموأخذة ، أنا هعديهالك المرادي بس عشان صلة الدم اللي بينا ، لكن المرة الجاية ياريت تفكر وتراجع أفكارك قبل ماتكررها ، مفهوم ياأمور .3
كان ينظر إبراهيم إليها وكأنه بعالم اخر ، يؤكد لنفسه أنها المرة الأولى بحياته التي يرى بها امراة بهذه النوعية ، تلجم لسانه أمامها ، هو الذي عرف الكثير من الفتيات يقف متسمراً عاجز اللسان أمام من .. عروس المستقبل .
كان الصمت سيد الموقف حتى صاح العجوز بصوت ضعيف رافعاً ذراعه لأعلى :
-إيمان .
التفتت إيمان ، زفرت بخفوت وهي تستغفر ربها ، اتجهت إلى جدها ، ثم جثت فوق ركبتيها وأمسكت بيده وهي تقول بصوت هادئ ولكن بملامح جامدة :
-نعم ياجدي ، أفندم .
ضغط الجد على كفها الصغير وهو يقول بإستسلام :
-عايزة تمشي يا إيمان ، عايزة تسيبي جدك اللي خلاص قرب يقابل وجه كريم ، جدك اللي عانى وتعب عشان يلاقيكي ويضمك لحضنه ، يشم ريحة ابنه فيكي ، دا أنتي بنت الغالي يا إيمان ، هان عليكي جدك بالسرعة دي .
رمشت إيمان محاولة منها لعدم الاستسلام والضعف ، فأسرعت بقولها :
-لا طبعاً ياجدي ، بس .. أصل اللي حضرتك قولته .. يعني .. ماينفعش خالص سعادتك ، جواز إيه بس ومبروك إيه ، أنا لقيت نفسي فجأة ومن أول خمس دقايق في البيت دا عروسة ، ولمين .. لده ، كتير كدة بصراحة .. لا دا كتير اوي .
اقترب إبراهيم وبعينين تطق شرار أشار إليها بسبابته وصاح غاضباً :
-أنتي ، هذبي من ألفاظك هو إيه اللي لده ، أنتي تطولي ياهانم ، تطولي إني من الأساس أوافق اتجوزك .
مالت إيمان بوجهها أمام وجه العجوز وهمست :
-شوفت ياجدي .. شوفت دا مينفعش ، دا واحد عنده ثقب بشخصيته ، مينفعش ياجدي مينفعش .
ضحك جدها وهو يتمعن بملامح حفيدته ، حفيدته التي ملكت قلبه من اللحظة الأولى ، صاح قائلاً بصوت ضعيف :
-إبراهيم ، قرب يابني .
وعلى مضض اقترب إبراهيم ، فأستطرد العجوز قوله :
-اسمعوني كويس أنتو الاتنين ، قرار جوازكوا ، قرار نهائي مافيش رجعة فيه ، عارف إن القرار صدمة ليكو أنتو الاتنين ، لكن بترجاكوا تصبروا وتسمعوا كلامي ، أنتو عارفين أصلا يعني إيه إني أترجاكوا .
أسرع إبراهيم بقوله :
-العفو ياجدي ، حضرتك تؤمر وإحنا ننفذ ، لكن .. لكن ياجدي .
أجابه العجوز بنفس نبرة صوته الخافتة الواهنة :
-هتفهم كل حاجة بعدين يابني ، لو مت في وصية هتعرفوا منها أنا ليه مصمم إن جوازكوا يكون النهاردة قبل بكرة ، أما إذا ربنا مد في عمري شوية كمان ، أنا بنفسي هقول أنا ليه أمرت بكدة ، بس مش دلوقتي بعدين ، ها وأنتي يا إيمان هترفضي تنفذي وصية جدك الأخيرة .
وكعادتها ترمش بعينيها عدة مرات فور أن تتعرض لموقف محرج أو صعب ، ازدردت ريقها بصعوبة ثم بتردد واضح للعيان ، هزت رأسها بالنفي وهمست :
-أمرك ياجدي .
ارتسمت الإبتسامة فوق شفتي العجوز الذي شعر براحة كبيرة تفترش قلبه ، شد بقبضته كفها الصغير وقال :
-ألف مبروك ياولاد ، المحامي جاي النهاردة بالليل لإستكمال الإجراءات ، وبكرة إن شاء الله حفلة كتب الكتاب .
نظر العجوز لإبراهيم ممتناً وقال :
-خد عروستك لأوضتها واوعى تسيبها ، هي متعرفش حد غيرك هنا يا إبراهيم ، مفهوم يابني .
حاول إبراهيم رسم ملامح الرضا فوق صفحة وجهه ولكنه فشل وبشق الأنفس خرج صوته قائلاً :
-مفهوم ياجدي ، مفهوم .
نظر إبراهيم لإيمان وقال :
-اتفضلي معايا .
بداخلها عرفت بأن دنيتها انقلبت مائة وثمانين درجة ، حاولت أن تستعب مايحدث ، فقررت الإعتراض وليحدث مايحدث ، ولكن قطع عنها ماكادت أن تفعله عند دخول الممرضة للغرفة وهي تقول باللغة التركية :
-Üzgünüm, enjeksiyon zamanı .
( عذراً ، حان وقت الحقنة ) .
هز إبراهيم رأسه متفهماً وقال :
-Tabii, devam et .
( بالطبع ، تفضلي ) .
أشار إبراهيم لإيمان بأن تنهض من مكانها ، استجابت له طواعية بعد أن فهمت مايدور حولها ومن الحقنة التي تمسكها الممرضة ، خرجت إيمان من الغرفة وهي تزفر بضيق قائلة :
-دا إيه الورطة المهببة دي .
سمعت صوت من خلفها يقول :
-هي فعلا مهببة .
استدارت إيمان له قائلة بغيظ :
-بقولك إيه ياحضرت أنت ، شغل الأفلام العربي القديمة دا ماينفعش معايا ، أنت لازم تشوف حل للورطة المنيلة دي .
وضع إبراهيم كفيه داخل جيوب بنطاله وقال وهو يتعداها ناظراً أمامه :
-أنا زيك بالظبط يا أنسة .. متورط لكن أظن أنك وافقتي على كل اللي قاله جدك ، وأظن أن من الأفضل نسمع كلامه لغاية ماتوضح كل الأمور .
استدار ووقف بقبالتها وقال :
ودلوقتي اتفضلي معايا .
تنهدت بيأس واضح أمامه ، ومشت بجانبه باتجاه السلم الذي رفعت رأسها لأعلى بعد أن وصل لأذنيها صوت أقدام تضرب درجات السلم نزولاً باتجاههما .
وجدت فتاة نحيفة شقراء ترتدي شورت جينز وبلوزة تخفي صدرها وتظهر بطنها وكتفيها بوضوح وبشكل سافر ، رفعت إيمان حاجبها الايمن وأمسكت بذراع إبراهيم تهمس من بين أسنانها :
-ومين المزة دي اللي لابسة من غير هدوم لموأخذة .
نفض إبراهيم ذراعه من بين براثن أصابع كف إيمان الصغير ، وهمس بدوره :
-ياريت تسكتى .
نزلت نيرمين بسرعة فوق درجات السلم ، ثم رمت بنفسها بحضن إبراهيم وهي تقول باللغة التركية :
-Seni çok özledim sevgilim .
( أفتقدك كثيراً حبيبي ) .
نزع إبراهيم ذراعي نيرمين عن عنقه بعد أن امتعض وجهه وقال بنزق :
-Yüzlerce kez Nermin sana ne yaptığını doğru olmadığını söyledim .
( قلت لك نيرمين للمرة المائة لا يصح ماتفعلينه )
صفقت إيمان بكلتا يديها وقالت بغيظ :
-لا معلش ، أنا مش قرطاس جوافة في القعدة ماتتكلموا زي مخاليق ربنا .
رد إبراهيم بتأفف :
وطي صوتك ، دي نيرمين بنت عمك سمير ، مامتها أصلي هانم ، تركية .
نظرت نيرمين باستعلاء لإيمان من أسفل لأعلى ، وقالت بتساؤل :
-مين دي إبراهيم .
مالت شفتي إيمان جانباً بعد أن تخصرت وأسرعت بقولها بنبرة ساخرة وهي تهتز بكتفيها قبل أن ينطق إبراهيم :
-محسوبتك تبقى إيمان ، بنت عمك أحمد ، خطيبة المعدول اللي اتشلعقتي برقبته من شوية ، عرفتي أنا مين ياختي ولا أعيدلك من الأول ، عشان باين كدة الفهم عندك صعب .
اتسعت عين نرمين وفرغ فاهها من الصدمة الكبرى وقبل أن تحاول جمع شتاتها التي بعثرته تلك الكائنة الغريبة ، علا صوت امراة تقف بمنتصف الصالة تقول :
-إيه اللي بيحصل هنا بالظبط !
الفصـــــــــــــــــــــــل الثالـــــــــــــــــــــــــث:
استدار جميعهم ليجدوا سيدة تقف بمنتصف الصالة الواسعة يبدو أن عمرها قد تخطى الأربعون بقليل ، تقف بوقار وهيبة ولكن تبدو الطيبة بملامح وجهها والتي تحاول بشق الأنفس أن تستبدلها بملامح الجمود والقوة ، ولكنها فشلت ببراعة .
تقدم إبراهيم ناحيتها ، مال بجذعه يقبل ظهر كفها وهو يقول :
-ازيك ياعمتي ، أنا لسة واصل من شوية ، كنت هغير هدومي وأجيلك أوضة حضرتك .
ربتت العمة زهرة فوق كتف إبراهيم ولكن عينيها كانتا لا تحيدان عن تلك الواقفة بعيداً تنظر لها بتوجس وحرص ، قالت زهرة :
-حمدالله ع السلامة يابني .
رفعت زهرة يدها تشير بها ناحية إيمان وقالت :
‐أنتي ، تعالي .
التفتت إيمان يمينا وشمالاً برأسها ثم أشارت لنفسها باصبعها وهي تقول متسائلة :
-أنا ياحجة !!
نظرت زهرة لإبن أخيها إبراهيم بعد أن رفعت حاجبيها وهي تقول متعجبة :
-حجة !!
اخفض إبراهيم رأسه وقال بيأس وبصوت خافت :
-البيت كله ياعمتي بقى حجاج ، رجالة وستات .
عاودت زهرة النظر لإيمان وقالت وهي تهز رأسها بالإيجاب :
-أيوة أنتي ، تعالي .
تنهدت إيمان وهمست بداخلها :
-هو يوم باين من أوله ، أما نشوف الحجة راخرة عايزة تجوزني لمين المرادي .
اقتربت إيمان من عمتها زهرة بتوجس واضح وخطوات محسوبة حتى وقفت بقبالتها ، ارتسمت الابتسامة فوق شفتي زهرة وهي تقول بحنو :
-أنتي إيمان بنت أحمد أخويا الله يرحمه ، صح ؟
وبدون أن تدري ارتسمت فوق شفتي إيمان ابتسامة حزينة وهي تهز راسها بالإيجاب ، ثم تفاجئت حين وجدت نفسها مغموسة داخل حضن عمتها وشعرت بوجنتيها مبللة أثر دمعات عمتها التي قالت بصوت باك حزين :
-حبيبتي فيكي شبه كبير من أحمد ، وكأني بحضنه هو ، حمدالله ع السلامة حبيبتي وأهلا بيكي وسط أهلك .
رفعت إيمان ذراعيها لتحتضن عمتها بقوة ، فقد اشتاقت لمثل هذا الدفء والحنان منذ وفاة والدتها ، وأثناء ذلك كانت أصلي هانم تنزل درجات السلم وهي تنظر لتلك الصغيرة القابعة بحضن زهرة ، زهرة عدوتها اللدودة داخل العائلة والبيت ، وقفت بنهاية السلم تحاوط كتف ابنتها المصدومة بذراعها وقالت بالتركية :
Güvenliğiniz için Tanrıya şükürler olsun Ibrahim
( حمداً لله على سلامتك إبراهيم ) .
رفعت زهرة رأسها وحاوطت إيمان بذراعها جانبا دون أن تبعدها عنها ، وقالت بنبرة يملؤها الثقة والقوة:
-اتكلمي عربي يا أصلي ، العربي اللي بتتكلميه أحسن من أي حد بالبيت ، ولا نسيتي تحذير حماكي .
تنحنحت أصلي ورسمت ابتسامة زائفة فوق شفتيها وقالت :
-لا طبعا منسيتش يازهرة ، بس لغة بلدي دايماً بتطغى عليا ، أعمل إيه ، مش هتعرفيني يازهرة ، مين البنت دي اللي وخداها في حضنك وكأنك تعرفيها من زمان .
نظرت زهرة لإيمان بحب وقالت بسعادة :
-أنا فعلاً أعرفها من زمان ، أعرفها حتى من قبل ماتتولد ، الأنسة الجميلة دي تبقى إيمان ، إيمان بنت أحمد أخويا الله يرحمه ، أعرفك يا إيمان ، أصلي هانم مرات عمك سمير ، سلمي عليها .
ارتسمت ملامح الغضب والحقد فوق صفحة وجه أصلي وهي تهمس بذهول :
-بنت أحمد !
اقتربت إيمان من أصلي وهي تعاود الزفر بضيق هامسة لنفسها :
-الأسامي خلصت من البلد مافيش غير عصري دي ، وكمان هو أنا هفضل اتمشور بالبيت دا أسلم عالرايح والجاي كدة .
مدت إيمان يدها بالسلام لأصلي وهي تقول بود :
-أهلا ياحجة ازيك كدة وازي صحتك .
أشارت أصلي بنفور لنفسها وهي تقول بغيظ :
-إيه !! حجة !! انا حجة !!؟؟
وضعت إيمان بيدها جانباً وصاحت بصوت عال بعد أن فاض بها الكيل :
-طب قولي يارب اكتبهالي ، هي كلمة حجة وحشة ، ياستي يارب ابقى أنا حجة ، دا إيه الهم دا .
تراجعت أصلي وابنتها خطوتين للوراء بذهول ، كتمت زهرة ضحكتها بصعوبة ، فنادت للدادة :
-دادة فاطمة .
هرعت دادة فاطمة التي خرجت من المطبخ باتجاه زهرة قائلة :
-أفندم ، زهرة هانم .
أشارت لإيمان بيدها وقالت :
-خدي إيمان لأوضتها يا دادة وخليكي معاها لو طلبت أي حاجة .
أسرعت فاطمة تحمل حقيبة إيمان وقالت وهي تقف وتشير للسلم أمامها :
-اتفضلي يا أنسة إيمان .
أسرعت إيمان بحمل الحقيبة بعد أن نزعتها من يد فاطمة وهي تقول :
-عليا النعمة ما ينفع ، اتفضلي أنتي ياحجة قدامي وأنا هطلع وراكي ، دليني أنتي بس الأوضة فين .
شهقت فاطمة والتفتت ناحية زهرة تنظر إليها بحيرة واضحة ، صاحت زهرة بصوت عال :
-ايمان ، ادي الشنطة لدادة فاطمة واطلعي قدامها .
عاودت فاطمة لتميل وتأخذ الحقيبة من يد إيمان التي تراجعت بيدها للوراء وصاحت مستفرة:
-والمصحف ماينفع ، بقى أخلى الست الكبيرة تشيل وأنا أطلع قدامها طرزان كدة .
تنهدت زهرة وقالت باستسلام :
-اطلعوا أنتو الاتنين وخلصوني .
تقدم إبراهيم اليهما حاملاً حقيبته ، وقال بضيق:
-هاتي الشنطة ، وأنتو الاتنين اطلعوا قدامي ، يالا .
مدت إيمان يدها بالحقيبة لإبراهيم وهي تقول بحماس :
-اتفضل ياباشا .
استطردت قولها وهي تنظر لفاطمة :
-شوفتي بقى ياقمر مجدعة الرجالة اللي بتبان في الوقت الصح .
ثم التفتت بعينيها للجميع والذي كان متسع الأعين بتعجب وصدمة واضحة ، وقالت وهي تلوح بيدها :
-أقول سلام للحلوين ، نصاية بس أريح وأنزل تاني .
استطردت قولها وهي تشير لعمتها قائلة بصوت عال :
-ياريت ياعمتي يعني لو أي تصبيرة كدة لغاية الغدا مايجهز ، انشالله حتى شندويتش جبنة بالخيار وجمبه كوباية شاي هيبقى ميت فل وسبعاتشر .
صعدتا الاثنتان أمام إبراهيم الذي كان يهز رأسه غير مستعب لما يحدث وأن تلك العروس الميكانيكي ، عروس من ؟ عروسه هو !!
كانت فاطمة تصعد السلم بخطوات متعثرة تلتفت حول نفسها ، ثم أسرعت بخطواتها بالممر المؤدي لغرفة إيمان ، فتحت الباب ودعت إيمان للدخول وهي تقول :
-اتفضلي يا أنسة إيمان .
رمى إبراهيم بالحقيبة أمام الغرفة ومشى ، وقبل أن يصل لغرفته وصل لأذنيه صوت إيمان وهي تصيح قائلة :
-توشكر يا باشا .
رفع رأسه لأعلى وهو يقول باستسلام :
-الصبر يارب .
دلفت إيمان للغرفة ثم وضعت الحقيبة بجانبها أرضاً ، وما إن استقامت حتى اتسعت عينيها وفرغ فاهها وهي تلتفت حول نفسها تنظر للغرفة الواسعة بأثاثها الفاخر قائلة :
-يااا دين النبي ، كل دي أوضة !! دي أكبر من شقتي والورشة مع بعض .
تنحنحت فاطمة وقالت :
-حضرتك على ما تاخدي حمامك ، أكون رتبت هدوم حضرتك بالدولاب ، تؤمري بحاجة تانية أنسة إيمان .
وقفت إيمان وقالت وهي تربت فوق صدرها :
-الأمر لله متشكرة ياحجة ، ولا بلاش ياحجة لحسن ستات البيت بيزعلوا من الكلمة دي .
ابتسمت فاطمة وقالت بهدوء :
-قوليلي دادة فاطمة .
هزت إيمان رأسها وقالت باسمة :
-متشكرين يا حجة فاطمة ، معلش أصل كلمة دادة دي تقيلة شوية ، بس وعد مني هحاول ، وكمان مالوش لازمة تتعبي نفسك ، أنا هوضب الهدوم جوة الدولاب .
تنحنحت فاطمة ، وقالت باسمة الوجه :
-أنسة إيمان لو سمحتي ، أنا بشتغل هنا واللي قولته دا طبيعة شغلي ، إن أخلي بالي من حضرتك وطلباتك وأساعدك .
ذمت إيمان شفتيها وقالت بعد أن تنهدت :
-بصي ياقمر عشان نبقى على نور من أولها ، أنا غير العالم اللي تحت دول ، أنا لا هانم ولا حضرتي ، وأنا وأنتي ياست فاطمة زي بعض ، بنجري على أكل عيشنا ، فخلينا نتعامل عادي مع بعضينا ، أنا أقولك ياحجة فاطمة وأنتي تناديني يا إيمان .
رمشت فاطمة وفركت يدها قائلة بتلعثم :
-لكن مينفعش !!
اقتربت منها إيمان بابتسامة واسعة وقالت وهي تمسك يدها :
-خلاص ، من غير ما تقلقي ، بصي من الأخر ، أنا لو احتاجت حاجة هقول بصوت عالي يااااحجة فاطمة الحقيني،حلو كدة.
هزت فاطمة رأسها بالإيجاب وعلامات الرضا تظهر بملامح وجهها الباسمة ، بعد برهة من الوقت ، كان إبراهيم يغدو بغرفة عمته ذهاباً وإياباً بعصبية واضحة وهو يقول مستنكراً :
-يعني ياعمتي كنتي عارفة إن ليا بنت عم مش عارفين مكانها ، وإنكوا أول مالاقيتوها قررتوا تجيبوها هنا وكماااان تجوزهالي !!
كانت زهرة لا تحيد بعينيها عن ابن أخيها الذي كان يفور كبركان غاضب يكاد أن يدمر كل من حوله ، قالت وهي تضع قدمها فوق الأخرى :
-طبعا كنت عارفة ، تفتكر بردو إن جدك يخبي عني حاجة زي كدة ، وكمان أنت زعلان إننا أخيراً لقينا بنت عمك أحمد الله يرحمه .
وقف ابراهيم متسمراً أمام عمته وقال بهدوء مرغماً عليه :
-ياعمتي أنا معنديش مشكلة إننا نلاقيها وتيجي تعيش معانا ، أنا مشكلتي الأكبر والأصعب هي إن جدي مصمم يجوزهالي ، ازااااي بس !! أنتي مشوفتيهاش عاملة إزاي ، دي عبارة عن كارثة متحركة .
أجابته زهرة باقتضاب وبملامح وجه جامدة :
-جدك وأكيد عارف مصلحتك .
وقفت واتجهت ناحية مرآة زينتها ترتب خصلات شعرها الذي تخضب بعضاً منه باللون الأبيض ، وقالت بهدوء أعصاب تحسد عليه :
-اهو جدك عندك تحت أنزل كلمه ، يمكن تقدر تخليه يغير قراره ،ولو إني معتقدش ، بس أهي محاولة ، اتفضل .
صاح إبراهيم غاضباً وهو يتجه للباب :
-طبعاً هنزل أكلمه .
همست زهرة لنفسها :
-حبيبي يا إبراهيم ، مفيش مفر ، هتتجوزها يعني هتتجوزها .
*****
كانت إيمان تزفر ضيقاً وهي تجلس فوق الفراش بعد اغتسالها واستبدال ملابسها ، فقالت وهي تتحدث مع نفسها بحسرة :
-محدش عبرني بالقمة عيش حاف حتى .
مدت يدها لهاتفها تحاول مرة أخرى الإتصال بجارتها وصديقتها الوحيدة لوزة ولكن بدون فائدة ، فقررت الخروج من الغرفة لتجد من يساعدها سواء لملأ معدتها الفارغة أو لمساعدتها بالإتصال بصديقتها .
نزلت درجات السلم فوجدت إبراهيم متجها ناحية غرفة جده ، فنادت بصوت عال :
-يا باااشا .
أخفض رأسه بإستسلام وهو يتنهد بيأس واضح ، استدار لها واجابها بضيق :
-نعم ، أفندم ؟
اتجهت ناحيته بعد أن ضحكت ضحكة خافتة ،ثم قالت وهي تحييه بيدها كتحية ضباط الشرطة :
-العفو ياباشا ، دا أنت اللي افندم وسيد الأفنديه .
صاح إبراهيم بضيق :
-اللهم طولك ياروح ، انجزي عايزة إيه ؟؟
مدت له يدها وقالت متسائلة :
-الموبايل بتاعي مش عارفة ماله ، بتصل بس أبيض ، لا صوت ولا صورة ، ومافيش حد هنا أعرف أكلمه غيرك .
أمسك بهاتفها يتفحصه وهو متاففاً ، ثم قال :
-طبيعي ميشتغلش ، العيب بالخط مش بالموبايل .
أسرعت بقولها وهي تتقدم ناحيته أكثر وتقول وهي تنظر لهاتفها :
-لا ياباشا ، الخط تمام دا أنا شاحنة بخمسين جنيه قبل ما اسافر .
وضع الهاتف بيدها وهو يقول مكفهر الوجه :
-مش مشكلة شحن يا ذكية ، المشكلة بالخط مش شغال هنا .
مد يده ونزع هاتفه من بنطاله وأعطاه إياها وهو يقول :
-خدي تليفوني دلوقتي ، وأنا بعدين هجيبلك موبايل وخط جديد .
أمسكت بالهاتف والفرحة تكاد تلتهم ملامح وجهها وهي تقول :
-ألف شكر ياباشا ، ماشاء الله موبايل أخر حلاوة .
اتسعت عينيها ببلاهة وهي تصيح :
-اييييه دا !! دا ماركة التفاحة ، دي أغلى ماركة دي ، صح ياباشا ؟
قال بنبرة صوت باردة :
-عايزة تتصلي بمين ؟؟
أجابته بلهفة :
-البت لوزة والواد بلاطة ، عايزة أطمن عليهم .
قطب جبينه وقال مستغرباً :
-مين ؟؟! بلا.... إيه ، ووزة مين .
صاحت بتعجب :
-البت لوزة صاحبيتي حبيبتي ، والواد بلاطة الصبي بتاعي ، استنى أنا هحيلك حكايتهم .
أسرع بقوله قبل أن يتورط بحديث طويل عريض لا فائدة منه :
-لاااا مش دلوقتي ، أنا هدخل لجدي وأنتي كلميهم.
بدأت تضغط بأصابعها فوق شاشة الهاتف وهي تقول دون أن تنظر إليه :
-تشكر يا باشا ، متقلقش على رصيدك هما دقيقتين بس .
وقبل أن يغلق باب غرفة الجد وراءه قال متأففاً :
-اتكلمي براحتك .
وضعت الهاتف فوق أذنها وفور أن سمعت صوت صديقتها صاحت بحماس :
-بت يااا لوزة ، إزيك يابت ، أيوة أنا إيمان ، هو حد بيعبرك غيري يا خايبة ، طب والنعمة ليكي وحشة يابت ، اسكتتتي على اللي حصلي هحكيلك كل حاجة بعدين ، طمنيني عليكي وع الواد بلاطة ..
ظلت تتحدث وهي تمشي وبدون أن تدري وجدت نفسها تخرج من باب البيت ، تسمرت مكانها بعد أن أنهت مكالمتها مع صديقتها ، تنظر للجراج الواسع والذي يضم أكثر من سيارة فارهة ، ثم نظرت للسائق ( إمام ) واقفاً يزفر بغضب من فشله بإصلاح ما تعطل بالسيارة ، صاحت وهي تتجه نحوه :
-مساء الفل يا أسطى إمام ، إيه مالك متعصب ليه ؟!
اعتدل السائق بوقفته وقال وهو يهندم ملابسه :
-مافيش يا أنسة إيمان ، قلت أشوف العربية مالها يمكن أعرف أصلحها ، بس للأسف معرفتش وهاتصل بالميكانيكي ييجي يصلحها .
شهقت ايمان وأسرعت بخطواتها ناحيته وصاحت قائلة :
-يانهار أبيض ياجدعان ، تتصل بميكانيكي وأنا موجودة ، دا حتى يبقى عيب في حقي ياجدع ، امسك التلفون دا ، خلي بالك منه دا بتاع الباشا ، والحلوة دي نص ساعة بس ياسطى أؤمؤم وتستلمها عروسة .
تسمر السائق مكانه بعد أن اتسعت عيناه وفرغ فاهه ، أخفض رأسه لأسفل ينظر للهاتف القابع بيده ، ثم رفع رأسه وعينيه تبحث عن تلك التي نزعت سترتها الجينز وثنت اكمام قميصها ثم غمست برأسها داخل موتور السيارة ، أسرع السائق ناحيتها يصيح بخوف :
-لا يا أنسة إيمان مايصحش حضرتك مينفعش ، يا أنسة أرجوكى .
لم ترفع إيمان راسها عما تفعله وبدأت تعمل بكلتا يديها بكل حماس تبحث عن أصل المشكلة بتعطيل السيارة ، ثم قالت بأريحية :
-اللي ميصحش يا غسطى اؤمؤم إني أشوف عربية عطلانة واقف ساكتة ، وكمان إيه أنسه وإيه حضرتك دي ، أنا وأنت ولاد عم كار واحد ، أنت سواق وأنا ميكانيكي ، يعني مافيش تكليف مابينا .
خرج إبراهيم من غرفة جده غاضباً بعد ما يأس عن ردعه بفكرة زواجه من تلك الميكانيكي ، كاد أن يفقد أعصابه وذلك لأن إصرار جده أصبح أكثر من ذي قبل .
أخذ يبحث عنها بكل الأرجاء بالصالة فلم يجدها ، حتى وقعت عينيه على الباب المفتوح ، فاتجه ناحيته ، وخرج يبحث عنها بالحديقة الواسعة إلى أن وصل لأذنيه صياحها البعيد وهي تقول :
-ناولني القاضم التاني يا اؤمؤم .
كان السائق واقفاً يحمل بين يديه حقيبة تمتلئ بمعدات صغيرة مخصصة لإصلاح السيارات ، ببلع ريقه بصعوبة خوفاً من نتائج ما يحدث معه وأمام عينيه ، اعتدلت إيمان بوقفتها بعد ما أغلقت غطاء مقدمة السيارة ، وقالت باسمه الوجه وهي تمسح جبهتها التي تلونت بسواد الشحم :
-كان في صوت طقطقة في الملفات ، ودا ليه بقى ياسطى عشان الكبالن كانت بايظة لموأخذة ، أنا غيرتها ، بس بسم الله ما شاء الله الجراج هنا مليان بكل المطلوب ، دلوقتي بقى هابص بصة تحت العربية عشان يبقى كله تمام .
أسرع السائق يصيح برجاء واضح :
-لاااا يا أنسة إيمان ، أرجوكي كفاية كدة .
لم تعره إيمان أي اهتمام وتمددت تحت السيارة بخفة واضحة ثم صاحت بقولها :
-ناولني المفتاح يا اؤمؤم .
انتفض السائق ( إمام ) عندما وجد من يضرب كتفه بقوة ، التفت ليجده ابراهيم ينظر له بعيون تملئها الغضب وتتلون بإحمرار الغيظ ، لم يستطع السائق أن يتفوه إلا بكلمات متبعثرة متلعثمة :
-حضرتك يا إبراهيم بيه أنا والله قلتلها بس .. بس ..
نظر هما الاثنان أرضاً عندما تفوهت إيمان قائلة بصوت عال :
-المفتاح يا اؤمؤم ، أنت مش سامعني ولا إيه ؟!
صاح إبراهيم بصوت حاد عال :
-مفتاح يكسر دماغك أنتي واؤمؤم بتاعك ، اطلعي يابت من تحت العربية ، اطلعيييي .