رواية كانت وما تزال الفصل الثاني 2 بقلم حكاوى مسائية

رواية كانت وما تزال

الفصل الثاني 2

بقلم حكاوى مسائية 

خرج من غرفته بكامل أناقته،يستند على عكازه المميز بمقبضه العاجي. بهدوء ورَويَّة ينزل السلم نحو البهو حيث يجتمع باقي أفراد أسرته،استقبلته الحاجة فاطمة بابتسامه حنون،

-صباح الخير 

-صباح النور ماما.صباح الخير خالي.

التفت الى الجميلة بجانب الحاجة وابتسم لها

-صباح الجمال ياسمينتي.

اتسعت ابتسامتها وقبلت وجنته

-اسعدك الله أخي.

-عمي،عمي،كم مرة علي أن أخبرك أنني عمك.

-وانا لا أعترف إلا بأنك اخي،وأخي الوسيم .

ضحكت فاطمة سعيدة بهما ،تغاضت عن لمحة الحزن التي مرت سريعا بعينيه

-تعال لتفطر قبل أن تذهب حبيبي.

-سأفطر في المطعم ماما.

لاحظت ياسمين مداعبة

-غدا سيفطر معنا ،يوم بيوم جدتي .

ضرب رأسها بأصابع يده ،وتوجه نحو الباب مناديا سائقه

-حمّاد ،حماد

حضر حماد مسرعا

-السيارة جاهزة 

كما أمره، يشغل محرك السيارة في الساعة السابعة والنصف،وينتظره ليتحركا بمجرد ركوبه نحو المطعم.

عينه على الطريق ،وكلمة ياسمين ترن في أذنه

-أخي الوسيم.

ابتسم بمرارة:وسيم أعرج.

وعادت به الذكرى يوم كان يهز الملاعب ،يصول ويجول،تجرح الحناجر هتافا باسمه،تتسابق عليه الأندية ،حتى اندفع وقبل اللعب لناد اوروبي،نال الإعجاب والشهرة ،حقق الحلم ،ومع كل نجاح حاسد حقو*د ،أثناء مباراة تعمد لاعب بفريقه أن يوجه ضربة لركبته،صرخ من الألم ،وقع ولم يقم ،في لحظة أضاع حا*قد رأس ماله ،قدمه اليمنى تأذت، وما لاعب كرة إلا قدم يمنى.

بأموال التأمين طور مطعمه الصغير،وأنشأ مطعما آخر ،وبعد سنوات أصبح مالكا لسلسلة مطاعم وهو ابن الثلاثين.ولكنه فقد شغفه منذ أن أخبره الطبيب المعالج أن ركبته لن تنتني مرة أخرى، وأصبح عاجزا يستعين بعكاز.

وقفت السيارة أمام المطعم وساعده حماد على الترجل منها،توجه الى الداخل وعيناه على الصالة ،لم يرها ،التفت نحو الممر المؤدي الى غرفة تغيير الملابس فتهللت أساريره،هاهي تعقد حول خصرها المئزر الصغير.

وحدها ترتدي تنورة طويلة حتى كاحليها،وحدها تحجب شعرها تحت خمارها الأسود ثم تضع فوقه المنديل الأحمر الصغير .

ابتسم لها وبادر بالتحية

-صباح الخير غالية.

-صباح الخير سيد نبيل.

-لو سمحت ،اريد فطورا كاملا.

-هنا أم في مكتبك سيدي؟

-بل هنا يا غالية.

جلس الى طاولة ومد رجله وأسند عكازه على الجدار خلفه، شابك أصابع يديه على الطاولة وهو يتبعها بعينيه،رشيقة جميلة ،كما لم ير فتاة من قبل.

بسيطة ،لا تضع مساحيق زينة ،ولا تتبع بلباسها  الموضة ،بل تكاد لا تغير اللون الأسود ،سواد عيونها ،لاحظ انها لم تغير حذاءها منذ اشتغلت بمطعمه قبل سنة ،ولا غيرت معاملتها لزملاءها منذ أول يوم ،بل لم تغير طريقتها معه ،نفس الإيماءة عند التحية ،نفس النظرة ،نفس نبرة الصوت.

عادت تضع أمامه فطوره الفرنسي الذي يشتهر به المطعم،مع ابتسامتها التي لا تصل إلى عينيها،ابتسامة عملية لزوم عملها كنادلة. 

-تفضل سيدي ،بالصحة.

لم تنتظر جوابه ،التفتت لتتجه نحو زبون جلس الى طاولة أخرى.

جاءت قبل سنة تبحث عن عمل ،لايدري لم وظفها ولم يكن بحاجة إليها يومها،شيء ما شده إليها ،وجعله يقبل أن تعمل يوما بيوم لأنها  طالبة بكلية الطب،شيء بداخله يخبره انها ليست مثلها،ليست كتلك التي هجرته لما هجره بريق الشهرة والنجاح.

ومنذ ذاك اليوم وهو يحارب مشاعره نحوها ،ويكفيه أن يراها و يطمئن لوجودها.

يعرف عنها أنها بالسنة الثانية كلية الطب،تشترك وسلمى السكن بشقة على سطح عمارة من أربعة طوابق،يشفق عليها صعود السلم لأن قاطني السطح ممنوع عليهم استعمال المصعد ،فالناس مقامات،وهي تعد من فقراء العمارة،الذين لا يؤدون اشتراك الصيانة. مرة أخرى تعود به ذاكرته إلى أيام فقره،فتح عينيه على حنان فاطمة ،لم يعرف أنها جدته حتى بلغ التاسعة من عمره،ولولا حادث بالمدرسة لما علم ،كبر وحسن خاله بكنف امرأة كادحة،تشتغل ببيوت الأغنياء،لا يكبره خاله إلا ببضع سنوات ،منذ أن سأل عن أمه وهو طفل وعلم أنها تركته لأمها لتتزوج ببلد آخر لم يعد يسأل ،ولا يريد أن يعرف عنها شيئا.كما أنها لا تسأل عنه ولا يذكر انه رآها.

مثل كل أترابه،لعبته المفضلة الكرة ،لعبها حافي القدمين في الأزقة ،ثم انضم إلى فريق الإعدادية ومنه انطلق نحو فريق المدينة وعرفت موهبته حتى لقب بالساحر.

أخذ حسن شهادته الجامعية في الاقتصاد والمحاسبة،في الوقت الذي انضم هو الى الفريق الأوروبي،والمال الذي أخذه من الصفقة نصيبا له من النادي،بدأ وخاله مشروعا صغيرا :شركة مبتدئة في الاستيراد والتصدير.

هاهم اليوم يعيشون بفيلا بحي راق.

يبدو أن حظ حسن لا يختلف عن حظه ،فزوجته تخلت عنه وعن ابنتها ياسمين لأنها لم تصبر على أيام البداية الصعبة،استصغرت الشركة الفتية، واحت*قرت أحلام حسن خصوصا بعد إصابة نبيل،فسلكت طريقا يريحها وابتعدت،سمع أنها تزوجت ،وإلا كانت لتعود بعد الغنى .وفاطمة على حالها ،فيض حنان وأمومة للكل.كم يتمنى لو تفرد جناحها على غالية!

أفاق من سهوه على صوتها وقد احتد على زبون يمسك بطرف ثوبها.

-ابعد يدك قبل أن اقطعها لك.

-شر*سة ،وهذا نوعي المفضل.

-أحترم نفسك ياسيد.

-اسمعيني جيدا ،انا لا أصدق امثالك،حجاب وثوب طويل،ادعاء باطل وانت تعملين في مطعم وسط الرجال.

حاولت ان تبتعد عنه اكثر ولكن إمساكه بطرف تنورتها يقيدها 

-قلت ابعد يدك احسن لك.

نزلت عصا على ذراعه المتشبثة بها فأفلت الثوب صارخا 

-ااااااااه،كس*رت يدي ايها الأعرج.

-وأكس*ر رأسك إذا دخلت هنا مرة أخرى.

لم يشعر وهو ينزل بعكازه على ذراع المتحر*ش الجبان،كيف يتجرأ على شيء يخصه بل كيف يمد يده على أغلى ما في هذا المكان !!!

-ادخلي المطبخ ،من اليوم عملك هناك.

كانت تقف مذهولة ،فلم تتحرك

-هياااا!

افاقت على صرخته فركضت نحو المطبخ ،بينما التفت الى الشاب الذي مايزال يتلوى ألما

-أراك مازلت هنا !

نظرة رعب بعينيه أظهرت مدى جبنه،بيسراه أخذ متعلقاته من على الطاولة وخرج راكضا. لما أصبح بالشارع صاح مهددا

-سوف أردها لك يا أعرج ،سأجعلك كسيحا على كرسي متحرك.

لم يعره انتباها لأن الحارسين أمام المطعم تكفلا به.

كانت ماتزال ترتعش لا تدري مِمَّ،اهو الخوف من المت*حرش أم من غضب مديرها،أم رهبة من الموقف كله.

-طاهر!

أم من غضب مديرها،أم رهبة من الموقف كله.

-طاهر! من الآن الآنسة غالية معك بالمطبخ.

التفت إليها

-إما تعملين مع طاهر أو لا شغل لك عندنا.

هزت رأسها موافقة فاستدار عنها حتى لا تلمح ابتسامته ،ابتسامة أثارها منظرها كطفلة خائفة من والدها.توجه نحو السلم الرخامي ليصعد الى مكتبه المطل على صالة المطعم،سوف يحرم من رؤيتها بين الطاولات كفراشة،ولكنه سيطمئن أنها بعيدة عن نظرات المحسوبين على الرجال.

اقتربت منها سيدة تساعد طاهر ،كرسيا، وضعت يدها على كتفها

-اجلسي قبل أن تقعي،انت ترتعشين. ما الذي حدث؟

-سعدية،دعي الفتاة لتهدأ،ستعرفين ما حدث إن لم يكن منها فمن بثينة .

بثينة هاته نادلة أيضا وكانت شاهدة على ما حدث.

بعد وقت ليس بقليل،هدأت ،فرفعت بصرها نحو طاهر

-عمي طاهر،هل يمكن أن أذهب الآن.

نظر إليها مشفقا،شحوب وجهها ينبئ أنها ليست بخير

-هل انت بخير؟

هزت رأسها نافية .

-نادي بثينة ياسعدية. 

جاءت بثينة ليقول لها طاهر.

-ساعدي غالية لتغير ثيابها،واخبري احد الحارسين أن يوقف لها سيارة أجرة.

سيارة أجرة؟! لا تملك هذه الرفاهية .هزت رأسها مرة أخرى رافضة.

-لابد أن تذهبي بسيارة أجرة، ممكن أن يكون الزبون متربصا لك بالخارج،ثم انت في حالة يرثى لها لن تستطيعي المشي حتى البيت.

دب الرعب في أوصالها،يتربص لها؟يا إلهي!ماذا لو فعل كل يوم حتى ينتقم منها.دون تفكير أخذت قرارها

-شكرا لك عمي طاهر ،أرجو أن تبلغ السيد نبيل أن اليوم آخر يوم لي هنا.

-لماذا بنيتي؟ أعلم أنك تحتاجين لراتبك الشهري ،سأعلمك فنون الطبخ ولن اجهدك لا تقلقي!

-ليس العمل ما يقلقني، افهمني عمي طاهر.

نظرتها أخبرته بمخاوفها ،فهز رأسه أسفا.ربت على كتفها

-في رعاية الله بنيتي،انتبهي لنفسك.

من خلف الزجاج رآها تخرج رفقة بثينة التي قالت شيئا لأحد الحارسين ودخلت ،رآه يشير بيده لتقف سيارة أجرة استقلتها واختفت.

رن جرس بالمطبخ فهمت سعدية أن تجيب

-ابقي انت هنا وانتبهي لما على النار ،سأذهب انا الى المدير.

دخل بعد أن استأذن،قرأ السؤال في عينيه قبل أن ينطقه .فأجابه

-الآنسة غالية تخبرك أنها لن تعود.

عصر مقبض العكاز بيده حتى ابيضت مفاصل أصابعه

-هل قالت السبب؟

-خائفة.

-مني؟!

-لا،خافت أن يتربص لها الرجل خارج المطعم.

غامت عيناه غضبا،التفت عن محدثه ينظر إلى لاشيء،استأذن طاهر وخرج وهو لا يشعر به. 


وصلت غرفتها وماتزال ترتعش،جلست على طرف السرير المهترئ ،وأخيرا سمحت لدموعها أن تنساب بحرية ،اهتز جسدها النحيل وارتفع وجيبها، أسندت رأسها على وسادتها وضمت إليها ساقيها بوضع الجنين،يستمر بكاءها حزنا وق*هرا وغضبا و....ضعفا. 


أمسك يدها أول مرة وهي تمر بجانبه بعد أن جلس على كرسي قرب فراش أخيها،سحبت كفها الصغير من يده بعنف،ونظرت إليه بغضب قبل أن تخرج إلى أمها.ابتسم وضم يده بيده الأخرى وسأل عليا عن حاله

-انا بخير ،لا داعي لتتعب نفسك بزيارتي.

-هل نسيت أنني انا السبب في رقدتك هاته،فأضعف الإيمان أن أزورك ،واحضر لك دروس كل يوم .

التزم فعلا بإحضار ورق دروس علي وبهية ،ورق لا يفيد ،فعليهما حضور الشرح من الاستاذ،أما ما لا يستوجب غير الحفظ والمراجعة فكله موجود بالكتب المدرسية.

-شكرا لك ابراهيم ،ولكن حقا ،لا تتعب نفسك فأنا عندي كتبي .

-كأنك تطردني علي،على أي،أتركك الآن لتستريح وأعود غدا.

لا يحاول علي إخفاء غيظه منه ،وهو يعلمه ويتجاهله لغرض في نفسه.

جالت عيناه ببهو المنزل باحثا عنها ،ولكنه لم ير غير أمها تخرج من المطبخ.

-لم تشرب شيئا ابراهيم.

-مرة أخرى خالتي 

ودعته على الباب ،مايزال بعينيه امل رؤيتها،ربما خرجت الى أبيها ،لاضير سيغير طريقه ويمر عبر المَسْرَب بين أرضهم وأرض ابي علي.

مد بصره لعله يلمح خيالها،لاشيء،وصل إلى شجرة الأركان الوحيدة بين الحقلين،جلس تحتها منتظرا،لا شيء،أخيرا أعلن استسلامه وعاد الى بيته.

في اليوم التالي،أسرع عصرا نحو بيتها ،حجته عيادة علي،ولكنه وجده على كرسي أمام البيت

-لم قمت يا علي،قد تؤذي ساقك.

-لا ،الطبيب قال أنني يمكن أن امشي مستعينا بعكاز.

ارهف السمع،هذا صوتها تكلم امها خلف الباب،تبا لك علي حرمتني رؤيتها اليوم.

لا يعلم انها من ساعدت علي ليجلس مجلسه الآن وتعمدت أن تغلق الباب حتى لا تراه،رغم أنها غسلت يدها لاتدري كم مرة ،ماتزال تحس لمسته عليها فتلعنه في نفسها كل اللعنات التي تعرف.

-خذ ،هذه دروس اليوم، لو احتجت شرحا فأنا مستعد .

-لا،شكرا .

كلامه مقتضب غاضب،لولا بعض الحياء لطرده، ولكنه لن ييأس ،يجب أن يراها،قام واقفا ورفع صوته مناديا

-يا خالتي ام علي.

-ماذا تريد من أمي؟

-سأعطيها دروس بهية.

-هاتها،سأعطيها لها انا.

لحسن حظه سمعته ام علي ،فالبيت مثل جميع بيوت القرى لاسقف لبهوه،وحدها الغرف ذات سقف.

-ابراهيم،ماذاهناك بني.

-هذه دروس بهية .

-لم تتعب نفسك ابراهيم ،بهية تدرس بكتبها ،حتى أنني مارأيتها يوما تنتبه الى هاته الأوراق.

ابتسم علي منتشيا، فأمه قالت ما أثلج صدره،بينما سرت نظرة إحباط بعيني ابراهيم ،ولكنه احب أن يستغل الأمر

-ولماذا تتغيب عن مدرستها،يكفي تغيب علي

-أبوها لا يقبل أن تذهب وحدها دون أخيها.

-من حقه أن يخاف عليها،مارأيك أن أقلها كل يوم ،انا أذهب أيضا كل صباح وأعود مساء.

هب علي معارضا

-لا يمكن،اختي ستنتظر أن نذهب معا ،لم يبق سوى اسبوع لأزيل الجبص،اسبوع لن يغير شيئا.

-ما رأيك أن اقلكما معا،هكذا لن تضيع دروسك انت أيضا.

-قلت لا،سننتظر حتى أشفى.

رأت ام علي إصرار ابنها الغاضب،ارتجف قلبها فخرا بهذا الرجل الصغير، شبيه أبيه في غيرته على ذويه.

-أشكرك ابراهيم،ولكن كما قال علي ،هو اسبوع واحد وتعود الأمور كما كانت.

القى السلام واتسحب منهزما أمام غيرة وإصرار هذا العلي. 


نامت كما هي ،بعض دموعها ماتزال عالقة برموشها،وحذاءها الرث بقدميها، أنهكها الحزن والتفكير،التفكير فيما مضى والتفكير فيما هو آت.من أين لها المبلغ الذي كانت تأخذه أجرة عملها بالمطعم ،المنحة الدراسية لا تكاد تكفي مستلزمات الدراسة .

دخلت سلمى كعادتها تلقي فردتي حذاءها، توجهت نحو غرفتها وهي تزيل عنها سترة طقمها الذي كان في يوم ما أسودا،لمحت غالية متكومة على فراشه

ودا،لمحت غالية متكومة على فراشها ،نظرت الى ساعة

 يدها،ليس هذا وقت رجوعها،لماذا هي هنا،هل هي مريضة؟

دخلت إليها تجس حرارة جبينها ،لا ،ليست محمومة ،هزت كتفها

-غالية،غالية ،مابك نائمة ألم تذهبي الى العمل؟

عادت إلى الواقع وعادت معها دموعها

-لن أذهب هناك مرة أخرى.

-لماذا؟ ما الذي حدث؟

قصت عليها ما حدث ،ضحكت ودفعتها من كتفها

-دائما اقول ما الذي يعجبهم فيك،ربما ابتسامتك فهي الشيء الوحيد الجميل بك.

نظرت إليها غالية بحزن ،تعلم انها تستفزها لتخرجها من حزنها،تعلم انها تحبها ،وتخاف عليها.

-وجدت لك الحل،اللثام الطبي،ضعي واحدا على وجهك وبهذا تتنقبين نقابا عصريا لا يثير شبهة.

ابتسمت غالية

-سيثير الخوف ،الرعب من المرض.

جلست الى جوارها تحيط كتفيها بذراعها.

-أعلم أنه صعب عليك،رفعت صوتها قليلا،ثم مابهم لايتحرشون إلا بك ،ألا اعجبهم انا بتنورتي الضيقة وشعري المفرود على ظهري،وبثينة ألا يرون جمال ساقيها و صدرها الذي يكاد ينط خارج قميص زي المطعم.

ضربتها على كتفها

-توقفي ،لا نريد ذنوبا على ذنوبنا.

-توقفنا حضرة الشيخة، هل رفضت العمل بالمطبخ؟

-سأبحث عن عمل آخر ،ربما أجد مكانا بالمطعم القريب من الجامعة.

-أعرف شخصا قد يفيدك ،ولكن هل تجيدين الطبخ؟

-قليلا،بعض الأصناف خصوصا المعجنات والفطائر.

-وهذا هو المطلوب،زبائن ذاك المطعم أكثرهم طلاب الجامعة ،ولايناسبهم الأكل الفاخر.

-من سيتوسط لي من معارفك.

-ليس من معارفي،انا شخصيا،ذاك المطعم ملك للسيد نبيل وانا سأكلمه.

-السيد نبيل؟ولماذا لا يضع له اسم مطاعمه؟ 

-لأنه خصصه لطلبة الجامعة ،يعني أن مستواه أقل من مستوى مطاعمه الفخمة،مما يعني أن الأجرة ستكون أقل.

-موافقة ،كلميه غدا إذن ،فأنا لن اذهب لأنني اخاف أن أصادف ذاك الرجل.

-رجل؟ قولي ديكا ،كلبا،بل أقل وأحقر. 

-ما يهمني هو أن لا أراه لاهو ولا غيره.

-سأكلم السيد نبيل غدا ،بل سأرجوه وإلا لن نجد ما ندفعه لصاحب الشقة آخر الشهر.

-سامحيني سلمى ،فأنا اعرف انك لا تحبين أن تطلبي من احد معروفا.

-ولن أفعل،انا مجرد رسول واحدة جبانة تخاف أن يعترض طريقها كلب متحرش. سأتكلم بلسانك وأقدم طلبك.

-وانا موافقة ،وإن أحببت كتبت الطلب وما عليك إلا أن تمدي الورقة للسيد نبيل.

-ليس إلى هذا الحد ،إذا فشل الشفوي سنقدم الكتابي.

ضحكت لدعابة رفيقتها.

-مادمت قد ضحكت قومي لتعدي لنا عشاءنا.

-ماتزال بقية من أرز الأمس.

-الوليمة الدسمة؟! لابأس وفرنا قيمة عشاء قد تنفع.

-مادمت قد ذكرتني،اليوم دورك في الطبخ،ولأن العشاء جاهز عليك بالأواني،الجلي حبيبتي من مهام المطبخ أيضا،وغرفتك؟  الى متى ستبقى كأنها غرفة صبي .

-الى ان يرث الله الأرض ومن عليها.

ثم رفعت رأسها ووقفت على أصابع قدميها ،تخصرت بيد ورفعت يدا لتشير كأنها كونتيسة زمانها

-غدا سأصبح دكتورة شهيرة غنية وسيكون لي من يخدمني.

-احلمي حبيبتي،فالأحلام مجانية،غدا يتم تعيينك بمستوصف قرية ويصبح هدفك أن تنامي دون خشية عقرب تسلل الى فراشك.

ارتعدت بشكل مسرحي

-ماهذا الذي تقولينه،سأرفض طبعا ،إذا كنت أخشى الصراصير كيف أتعامل مع العقارب.

-والأفاعي.

-كفي عن إخافتي غالية ! مالي والطب، آه يا أمي واحلام أمي.

-احمدي الله أن حلمها لم يكن أن تشتغلي ببيوت الأغنياء لتعينيها على مصاريف عيش إخوتك.

عادت إلى الجد ،تنهدت وجلست قرب غالية

-أصبت حبيبتي ،أمي فريدة ،لم أر مثلها،أبي الموظف بنى لها قصورا من رمال،انهارت مع أول موجة ،زميلة بمكتب البريد حيث يعمل،أعجبه دلالها وأسَرته اناقتها،ترك أمي في منتصف الطريق،مع حمل ولدين وبنتين،بحثت عن عمل ولم تجد غير خدمة البيوت،خدمة نساء أكثر حظا،وليته وفى لزوجته الثانية ،ابتلي بالخمر والسهر ،هي أيضا طلقها بولد وبنت،غير أنها اعتمدت على راتبها ،لهذا تصر أمي على تعليمنا ،تقول أن الشهادة ستضمن الوظيفة والوظيفة تضمن مدخولا قارا وحياة كريمة.

-هيا قومي لتسخني العشاء ،كفانا كلاما لا يفيد بشيء،حياة كريمة ،إن استمرت عجلة البلاد في نفس الطريق لا الوظيفة ولا غيرها سيضمن حياة كريمة ،إذا كانت أثمنة كل شيء ترتفع يوما عن يوم ،والأجور قارة لا تتحرك ،تخيلي من أي فئة سيصبح الموظف.

-ونعود لمقولة امي،كل شيء يغلو إلا الإنسان يرخص.

-هيا ياسلمى، ينتظرنا عمل كثير على محاضرات امس واليوم.لا تنسي أن الامتحانات بعد اسبوع. 


بعيدا ،داخل حرم جامعة أخرى ،كان يقف وسط جموع الطلبة ليأخذ شهادته التي تأخر عنها كثيرا بسبب مرضه وانقطاعه عن الدراسة لسنتين .يقف بعيدا وحيدا ،بعد عودته تحت تشجيع طبيبة المستوصف ورجاء والدته وأخواته،آثر الوحدة ،فسنه أكبر من زملاءه، وحماسه أقل منهم ،كأنه كبر سنين عديدة خلال الأربع سنوات الماضية،كأن شيئا انطفأ داخله،جذوة خبت شيئا فشيئا حتى صارت رمادا تذروه تنهيدة كلما ذكرها.

-ابراهيم الجوهري ،امتياز .

تقدم ليأخذ شهادته في الهندسة الفلاحية كما قرر والده.

والده،هو من يقرر وعليه التنفيذ،ما تذمر يوما ولا تمرد ،ولا خالفه الرأي،هل حقا كان يريد أن يتخصص في الهندسة الفلاحية، لا يعلم ،لأنه لم يكلف نفسه يوما عناء التفكير او الاختيار ،عاش ينفذ اختيارات والده ،يحقق أحلامه، ويوم اختار وعشق أضاع عشقه واختياره.

أخذ الورقة من يد الاستاذ وشكره،ثم توجه نحو سيارته،لن ينتظر احتفال الشباب،فهو ليس شابا مثلهم ولا شيء ليحتفل به.

استقل سيارته وتوجه نحو البلد ،توقف على مشارفها،على تلة تطل على الحقول الخضراء هناك تشمخ تلك الشجرة الشاهدة على حبه وقهره،رغم أن عليا غرس أشجار الأركان كسور حول أرض أبيه ،إلا أنها ماتزال فتية ،كأنها بنات شجرته ،علي في السنة الأولى من كلية الطب ،هو أيضا ابتعد ،اختار جامعة بمدينة أخرى ،منذ ذاك اليوم لم يكلمه،مهما حاول معه لا يجد إلا الصد ،حتى هاته الأشجار التي غرسها فعل ليمنعه من دخول أرضهم او القرب من بيتهم،هو الذي ما أراد بعدها إلا عبق ذكراها وكأن لسان حاله يقول

أمر على الديار ديار ليلى **أقبل ذا الجدار وذا الجدار. 


-أبي،أريدك أن تخطب لي.

-كنت أنوي أن أفعل بعد أن تنال شهادتك.

-لن انتظر أبي،يمكن أن يأخذها غيري. 

-اطمئن لقد كلمت أباها وهي لك .

هتف سعيهتف سعيدا

-كلمت عمي ابا علي؟

-ولماذا اكلم أباعلي؟ ماشأنه بابنة صابر الهواري؟

-من صابر هذا وما شأني وابنته؟ انا أريد بهية ابنة ابي علي.

-ستتزوج ابنة صابر الهواري،ابنته الوسطى،كبير قبيلة هوارة ،هكذا ستضمن مقعدك بمجلس النواب وربما الوزارة.

غاب عقله وصم سمعه،ألن يتزوج حبيبته،بعد أن رفضت أن تنظر إليه او تكلمه ظن أن خطبة ستقربهما ،ولكن أباه يئد احلامه،لا ،لن يتنازل عنها ،سيستعين بأمه،سيحارب لتكون له بهية قبيلته وبهية قلبه.

فعلا،لجأ الى امه،لم تعطه أملا كبيرا .

-يا أبا ابراهيم،كيف تحكم على وحيدك بالأسى؟  ألا ترى انه عاشق وسعادته مع بهية .

-عن أي عشق تتحدثين،ولع طفل بطفلة،سينساها ما إن يضم إليه جسد زوجته.

-هل كنت لتفعل؟

نظر اليها ،عتاب بعينيها،هل تظن انه كان سينساها لو تزوج بأخرى؟

-انا لست هو ،أنا أحببت ابنة عمي وكبر حبك بقلبي ،أما هو فأعجب بفتاة رآها وربما تمنعت عنه ،لو حصل عليها سيسلاها، سيعيش معها تعيسا،ويضيع مستقبله.

-اخطبها له لربما بعد أن يظن أنها له يفتر حماسه.

-لن أفعل،أخبريه أنني لن أقبل أبدا، فإما أن يكون ابني او يكون زوج بهية .

دخلت عليه غرفته تواسيه

-ما زال الوقت مبكرا ،أكمل دراستك،وإن كنت ماتزال تريدها سأخطبها لك.

-أمي أنا احبها،وهي وحيدة أبيها وجميلة ،أبوها لا إخوة له ولا وريث غيرها وأخوها علي،سيطمع بها أكثر من واحد ،مازلت بالسنة الثانية من الجامعة ،أمامي سنتان وربما أكثر ،إن كان أبوها يسمح لها بالدراسة اليوم فربما سيمنعها غدا ،انت لم تري غيرة أخيها عليها ،مع أول خاطب سيزوجها خوفا عليها.

-مارأيك أن أذهب انا لأكلم والديها؟

امسك بيديها بين يديه

-أتفعلين أمي؟

وضعت يدها على خده

-من أجلك أفعل واعصي أباك لأول مرة في حياتي.

عانقها يخفي دموعه التي انتصرت عليه. 


عاد الى سيارته وانطلق نحو البيت،استقبلته أمه، قبل يدها وجبينها ومد لها الشهادة ،أطلقت زوغرودة بينما كان هو يصعد الى غرفته.

غير ملابسه ونام ،نام هروبا من حرقة قلبه،من ذكرياته ،من نظرة عينيها العاتبة الدامعة، هروبا من نفسه.

طرقات على باب غرفته افاقته من غفوته،سمح للطارق بالدخول فأطلت صغرى اخواته

-أبي يريدك.

ألقى على كتفيه سلهامه الصوفي(عباءة مغربية خاصة بالرجال)،نزل السلم نحو الصالة الكبيرة حيث يجلس أبوه مع مجموعة من رجال القرية.بادروه بالتهنئة بينما وقف أبوه فاردا ذراعيه

-اهلا بمهندسنا.

عانقه يضرب بيد قوية على ظهره،ثم اجلسه جواره.

-غدا سنذهب إلى قبيلة هوارة لنتفق على زواجك من ابنة كبيرهم.

قام دون أن يعقب،توجه الى الخارج نحو شجرته.

جلس مستندا الى جذعها،وضع يده على حجر املس يمسح عنه التراب

-حبيبتي،لقد أخذت الشهادة ،لأصدقك القول،انا لا أهتم، هل يظنون أنني سأنفذ دراساتي هنا أو سأغير شيئا في هذه الارض،مخطئون، لأنني لن أفعل،لن ابني من دمرني،لن أسعد من أتعسني.

وضع رأسه على الحجر وضم إليه جناحي سلهامه واستلقى على الأرض فاردا يمناه على كومة تراب بجانبه كأنه يضمها إليه

-تعلمين بهيتي؟ يريد أن يزوجني،حكم علي بالموت ويريد لذكراه أن تحيى عبر جث*تي،يريد أحفادا من ج*ثة ،يريد من ميت أن يصبح عضوا بالبرلمان ،ماذا سيعطي ميت للأحياء.لا يختلف أبي عن أبيك،كلاهما قاتل،بل لعل أباك أرحم من أبي،حتى الدموع ماعادت تسعفني لابكي على نفسي،جفت دموعي بهية ،مات قلبي حتى أنني لا أشعر بشيء لأحد.

ربت على التراب

-بهية خذيني إليك حبيبتي، لعلني أعود إلى الحياة فأنا ميت دونك.

سامحيني حبيبتي،سامحيني بهية .

مافتئ يرددها ويربت بكفه على التراب حتى نام.

يد خشنة لشخص ما غطته بسلهامه وان

          

           الفصل الثالث من هنا 

        لقراءة باقي الفصول من هنا 

تعليقات



<>