رواية كانت وما تزال الفصل الخامس 5بقلم حكاوي مسائية

 

رواية كانت وما تزال

الفصل الخامس5

 بقلم حكاوى مسائية



ماكادت تدخل البيت الصغير حتى فوجئت بنظافته

-ماهذا؟ سلمى تنازلت ورتبت البيت؟!!!

أسرعت نحو المطبخ الصغير 

-حتى المطبخ يا ياسلمى !!! لابد أنك تريدين مني خدمة ،وخدمة كبيرة. (هزت كتفيها)لابأس سأنام قليلا ثم أقوم لأتفحص محاضرات الأمس.

ماكادت رأسها تلامس المخدة حتى نامت ،إعياء العمل وتعب الدراسة نالا منها وأنقذاها من أمواج تتقاذفها بين العقل والقلب.

جاءت ام إبراهيم، زوجة كبير البلد ،شيخ الدوار ،رئيس الجماعة،جاءت إلى أم علي ،زوجة أبي علي ،فلاح سعيد بأرضه التي تكاد لا تَبين أمام اراضي أبي أبراهيم،ولكنه سعيد بكنزيه علي وبهية ،سعيد بمحصول يغنيه سنة كاملة ،ويكفيه حاجة أسرته الصغيرة ،مرضي والديه اللذين ماتا تحت جناحه مغمورين بحنوه وبره،سعيد بزوجته الصالحة ،وما الدنيا إلا زوجة صالحة.

-اهلا وسهلا بالحاجة .

-اهلا بك يا أم علي،هههه من دون الأسماء لا تحبين غير هذا الاسم.

-والله مذ كنت صبية حلمي أن يكون لي ولد واسميه علي و نذرت ألا أجيب إلا على نداء أم علي.

-ولماذا يا...أم علي؟

-كنت في المدينة عند احباب لنا ،وهناك رأيت فيلما على التلفاز ،هو فيلم مصري ،يقدمون أكلة يبدو انها حلوة ،ويسمونها أم علي،رأيتهم يحبونها فتعجبت من اسمها،ومن حبهم لها،ولهذا أحببت هذا الاسم.

ضحكت ام إبراهيم حتى ظهرت نواجدها 

-تحبين اسم أكلة !!!

-كنت ،واليوم ليس احب إلى قلبي من ولدي ،فأحب أن أُنسَب إليه.

-ما علينا،حفظه الله لك هو واخته بهية .

-ولو قلت لك أن بهية سُميت بسبب أغنية مصرية أيضا!!!

-حقا؟!!!كأني بك مجنونة يا أم علي!

-بل يتيمة يا أم إبراهيم، تعلقت بما حرك بي عاطفتي لأنني عشت مع من لم يرحمني،حتى عوضني ربي بأبي علي.

-خير العوض رضى الرحمان يا ام علي، و قرة عينك ،ولديك حفظهما الله لك.

-واسعدك بزينة شباب القبيلة إبراهيم. 

-لأجله جئت يا عزيزتي،أبراهيم تعلق بزينة البنات بهية ،وجئتك خاطبة. 

-عزيزة وعزيز يا حاجة ،ولكنني لا يد لي في الأمر ،هو بيد الرجال ،يوم يأتي الشيخ لأبيها لن يرده بإذن الله.

توترت الحاجة وتململت في جلستها،الشيء الذي لم يخفَ على جليستها 

-انا جئت اربط الكلام معك ،و(أرشم الصبية)

(الرشيم،هو مصطلح يطلق على خطبة تقوم بها أم العريس،تأتي بحلية ذهب،وتأخذ وعدا أن الفتاة لن تكون لغير ابنها)

-عني انا ،مئة اهلا ومرحبا،وسننتظر الحاج بعد امتحانات الباكالوريا.

-عن اية امتحانات تتكلمين؟ما أعرفه انها ماتزال في أولى باكالوريا!

-وما لا تعلمينه أنني وأباها حلمنا أن تكمل تعليمها.

-يدير الله خير(يفعل الله خيرا)،البنت لن تحتاج شهادة ولا عملا ،المهم أنني أريدها لولدي،اعتبريه خطيبها من اليوم .

-كما قلت يا حاجة ،يدير الله خير، الكلام في وقته أفضل وأبْرَك، ولا كلام بعد كلام الرجال.

قامت الحاجة ممتعضة، ليس هذا ما كانت تنتظر ،ظنت مركز زوجها وهيبته وغناه وميضا سيعمي الأعين،ظنت أن أم علي ستنظر الى الحلية  الذهبية بعين المحروم، ولكن خاب ظنها ،فأم علي لم تسأل عما ستقدمه ك(رشم)لابنتها،بل رهنت القبول بحضور الحاج ،شيخ القرية وكبيرها ليخطب بهية من ابيها،بل واشترطت أن تكمل تعليمها.

ماهذا؟! ألم يعد للمال قيمة؟ وإبراهيم، أليس مطمع كل الفتيات؟!

ربما هو تدلُلً طمعا في الأكثر ،ربما قال إبراهيم لهم شيئا او وعدهم بشيء!!!ربما.

عادت تجر ذيول الخيبة ،ولم تخف نظرة الانهزام بعينيها على ابنها المتلهف للبشرى

-مابك أمي؟كأنهم رفضوا.

-رهنوا القبول بحضور والدك.

-وأبي سيرفض. 

قالها والدمع يفر من عينيه.

-حقهم يا ولدي، ثم أن الوقت مازال باكرا،تقول أم علي أن بهية ستكمل تعليمها ،وإن كانت بينكما خطبة لن تكون قبل أن تجتاز امتحان الباكالوريا.

وقف يدور بمكانه ،يفرك جبينه بيمناه

-وانا لا أريد إلا ضمانا انها لن تكون لغيري،مستعد أن انتظرها عمري كله.

شهقت أمه تضرب على صدرها

-مابك ابراهيم ،كأنها الوحيدة في الدنيا.

-هي كذلك أمي، هي الوحيدة هنا وهنا .

وأشار الى قلبه وعقله.

-كأنها سحرتك، أم علي رمت عليك تعويذة!!!!

-تسحر لي ثم ترفضني، بأي منطق تفكرين أمي.

-هي لم ترفض ،اشترطت حضور والدك.

-وخطبة بعد عام ونصف.

-اختر غيرها وأزوجها لك اليوم قبل غد.

-لا أريد غيرها أمي .

غادر يمسح دموعه،وتركها تبتلع غصتها،عازمة أن تكلم والده.

راح اب علي مساء الى بيته،استقبلته زوجته بحبها ولطفها المعتاد، أحاطته ابنته بسعادة تغمر قلبه ،ودغدغ ابنه فخره بكلامه الذي يسبق سنه.

أسرة احاطها الله بعنايته، سعيدة راضية بالقليل.وأهم كنوزها كل فرد بقلوب الآخرين.

بعد أن اشتركوا وجبة العشاء ،وحكى كل منهم يومه،خلد علي وفاطمة للنوم ،بينما جلست أم علي مع زوجها بغرفتهما لحديثهما الخاص.

-جاءت زوجة الشيخ لنا اليوم.

-خير إن شاء الله؟

-جاءت تخطب بهية لإبراهيم.

-هل علمت بهية؟ 

-لا.

-إذن اكتمي الخبر،لا داع لتعرف،بهية ستكمل تعليمها كما ترغب، والشيخ لن يزوج ابنه إلا بمن تكون مثله جاها ومالا.

-ولهذا اجبتها أن الكلام للرجال ،وانك ستجيب الشيخ حين يأتي خاطبا.

-أنهيت الأمر أم علي، الشيخ لن يأتي ،وكفى الله المومنين القتال.

بغرفة أخرى، أكثر فخامة واغلى تأثيثا 

-ياحاج هو ولدك الوحيد ،بالله عليك لا تكسر خاطره.

-لأنه ابني الوحيد فهو أملي الوحيد ،سأزوجه الأغنى والانسب، سيصبح عضوا في البرلمان، له شأن في جميع القبائل المجاورة لنا،فكيف أكسر عوده بزواجه من بهية.

-أحبها يا حاج،أقسمت عليك بحبيبك محمد الذي شبكت يديك بشباكه أن توافق.

-عليه الصلاة والسلام. سينساها يا حاجة ،تأكدي انه سينساها،مدللك اعتاد أن تعطيه كل ما يطلبه،هذه المرة لا يا حاجة،هذا زواج، مصاهرة ونسب،ولن ارضى لابني بأقل مما انتويت.

-ولكن....

-انتهى الكلام يا حاجة.

على الجانب الآخر من الباب كان واقفا يتنصت،سمع قرار أبيه الذي أدمى قلبه وأدمع مقلتيه،انسحب نحو غرفته محزونا ما بيده حيلة. 


أفاقت على طرقات على الباب، همت أن تفتحه قبل أن تعود لتضع خمارها على رأسها،منذ افترقت عن عائلتها واغتربت هنا وحدها ،ما رأى شعرها  أحد ولا حتى رفيقتها سلمى ،حريصة هي على خمارها في كل وقت وحين.

فتحت الباب لتبتسم بحنو.

-أهلا-أهلا حبيبتي .

-اهلا بك غالية.حضَّرت لك هذا.

مدت يدها بقالب حلوى.

-ماهذا وفية ،سيزيد وزني بكل هذه الحلوى التي تعدينها لي.

-ستصبحين أجمل.

رأت لمحة حزن مرت بعينيها

-مابك غالية ،كأنك ترفضين أن يزيد وزنك!

ابتسمت وطردت الذكرى من بالها وعينيها

-فعلا ،أفضل أن أبقى كما أنا حتى لا أحتاج ثيابا أكبر. تعلمين (أشارت بيدها وغمزت بعينها) الميزانية على قد الحال.

-كل ثيابك واسعة سوداء ،مهما زدت وزنا لن تحتاجي غيرها.

نكست رأسها تخفي الحزن الذي كسا محياها

-ضعي الحلوى بالمطبخ وفية وتعالي لنراجع ما حفظته أمس.

-أُسمعك وصححي لي التجويد .

-هيا إذن. 


على حصير أمام العشة وسط الحقل تجلس أمام أبيها تسمعه سورة الملك ،سعيد هو انها كادت تختم القرآن حفظا وتجويدا، في سباق مع أخيها نحو هدية موعودة كجائزة لمن يختم أولا.

-أحسنت بهيتي،بقي لك القليل ونقول مبارك عليك ولك.

- بل ستقولها لي يا أبي.

ضحكت ناظرة الى أخيها

-أنا وصلت سورة الملك وانت .

-تعديتها،ألم تقل لها ابي؟

- العبرة بالنهاية بني.

-هكذا إذن ،غدا سأختم القرآن ،اتحداك بهية .

-وانا قبلت التحدي علي.

ينظر إليهما مبتسما

-تعلمان من الفائز في سباقكما؟ انا وأمكما، لا تستغربا، يوم القيامة يأتي والدا حافظ القرآن وعلى رأس كل منهما تاج .تصورا!!!!

-ومن يستحقه غيرك وامي، انتما من يشجع ويساعد .

قال علي بينما هبت تعانقه

-أطال الله عمرك ابي.

-وأسعدني بكما دنيا وآخرة. 

-السلام عليكم.

تجهم علي بينما رد أبوه السلام مبتسما.

-وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، اهلا بك ابراهيم.

أحس برفض علي وتململ بهية فقال حرجا:

-رأيتكم وانا عائد الى البيت فأحببت أن أسلم.

-مرحبا ولدي، اقعد لو أحببت 

-لا أظنه متفرغا أبي،ثم إنه دوري لتراجع معي لا تضيع وقتي.

-فعلا عمي،كما قال علي ،يجب أن أذهب هناك عمل ينتظرني، الى اللقاء.

غادر متوترا، محرجا خجلا

-لماذا يا علي؟

-لا أحبه أبي.

-ومتى كرهنا غيرنا يا علي؟ 

-لا أكرهه،ولكنني لا أحبه،ولا أحب اقترابه منا .

نظر نحو اخته نظرة لم تخف على أبيه الذي فهم غيرته عليها،بعد ما حكت له زوجته عن زيارة أم إبراهيم، فهم أن هذا الأخير يحوم حول ابنته،فما ارتاح باله بعد ذلك أبدا. 


على مائدة العشاء يجتمعون كل مساء ،مائدة منخفضة يتحلقون حولها على زريبة صوف من نسج أم علي.

-كلي يا بهية .

-لا يا أمي ،سأكتفي بحساء الخضر.

-حسنا فعلت ،وإلا ستصبحين كأبقار الشيخ.

ضربت كتفه ممتعضة

-كأنك بجسد آلهة الإغريق. 

-و هل رأيتهم يا بهية؟

-رأيت صور تماثيلهم أبي، يتخدهم الشباب مثالا ويحاولون بالرياضة والحمية أن يكونوا مثلهم.

-أنت قدييييمة بهية ،أصبح القدوة اليوم لاعبو الكرة .

-رأيت معظم زملائك يتشبهون بهم ويحلقون رؤوسهم على شاكلتهم. 

ضحك علي

-ويسخرون مني لأنني برأيهم اشبه العسكري .

تدخل ابوهما في الحوار بعد أن كان صامتا مراقبا 

-وهل تؤثر بك سخريتهم؟

-أبدا أبي،أولا لأن تسريحتي تناسبني شكلا وموضوعا،ثانيا لو رأيتهم مهتمين بشكلهم،والمشط يتنقل بينهم من يد ليد لرأيت أنهم مدعاة للسخرية. 

شهقت ام علي.

-مشط !!!ايمشطون بالمدرسة ؟

-بالمدرسة ،خارجها،بالطريق،لا تنقصهم إلا المرآة ولهذا كل منهم مرآة صاحبه.

تنهد الأب

-فعلا،كل منهم مرآة صاحبه (يعني بها شيئا آخر )ولهذا لا أريدك أن تصاحب أمثالهم.

يطيل النظر اليهما ،هما دخره، وهمه. هما الأمل في الدنيا وصلاحهما الشفيع في الآخرة ،هما كل دنياه ومسؤولية آخرته.

-مابك اباعلي؟

أعادته من شروده، فابتسم مجيبا

-لاشيء،تعب اليوم ،سأذهب لأستريح.

لم تغب عنها نظرته اليهما،وخمنت فيم يفكر ،فقامت تتبعه

-وأنا أيضا سأنام،هيا قوما إلى فراشيكما  .

-تصبحين على خير أمي .

قبلاها وغادر كى منهم إلى مرقده.

عاف الأكل ،وهجره النوم ، فظهر ذلك جليا في انخفاض وزنه والهالات السوداء حول عينيه، لا يكاد يبرح فراشه إلا ليمر بين الحقول لعله يلمحها في غدوها إلى أبيها او رواحها، بل حتى رؤية علي تبعث بريقا من السعادة بنفسه.

وأمه حزينة لحزنه، تراقبه،تضمه،تقسم عليه بمحبتها حتى يأكل مايسد رمقه،وتحاول كل ليلة مع أبيه.

-بالله عليك ارح قلبي وقلبه.

-اتركيه يا حاجة ،سيبرأ منها غدا أو بعد غد، اتركيه يحزن يومين على أن يشقى العمر كله.

-وهل في زواجه ممن يحب الشقاء؟

-في خروجه عن طوعي كل الشقاء، في سلوكه غير الطريق الذي رسمته له كل الشقاء،في سخطي عليه كل الشقاء.

-شقاء من يا حاج؟ شقاؤك لأنك لن تصل لما خططت له أم شقاؤه وشقائي معه؟ هو وحيدي وسعادتي من سعادته،فاختر بين ما تحلم به وبيننا انا وابنك.

لأول مرة بحياتها تخالفه،وتخيره بل وتقف بوجهه. أمر مرفوض،مرفوض،كأن الدنيا ماعادت الدنيا ،كيف والحاجة ليست هي من عرف.

-تهددينني يا حاجة!!!

-و لك ما تختاره يا حاج.

رفع يده دون وعي لتنزل على خدها لأول مرة في حياتهما معا. وضعت يدها مكان صفعته،واشتعلت نظرتها لهيبا

-أما وقد فعلتها يا حاج ،فاعلم أنني لن أسامحك أبدا ،ولن أسمح أن تكسر قلب ولدي أبدا ،و حتى لا تظن أنني اهدد فقط ،فطلاقي بكفة وزواج ابراهيم وبهية بكفة،فاختر يا حاج.

لم تترك له مجالا ليجيب، دهشته من نفسه وقد صفعها،صدمته وهي تطلب الطلاق إن لم يسعد ابنه،أمران جمداه ولم يتحرك وهي تغادر مخدعهما ،مرة اخرى،لأول مرة منذ زواجهما.

    

               الفصل السادس من هنا 

               لقراءة باقي الفصول من هنا 



تعليقات



<>