رواية المطلقه
الفصل التاسع 9
بقلم حكاوي مسائية
قد يخونك العالم كله وتجد العزاء في شخص واحد .
قد يهجرك كل الناس فتصاحب ابطالا وفرسانا على صفحات كتاب .
قد تضيق بك الدنيا وتجد الرحابة في صدر صديق .
قد تتعب وانت تبني قصرا وتموت على سرير مشفى .
كل هذا يهون مادامت لم تخنك صحتك ،ولم يهجرك توأم روحك،ويسعك صدر ولدك.
مريم لم تغفل يوما عن مهاتفتي، كنا نتكلم كثيرا ،تحدثني عن غالية الصغيرة ،وعن الحياة التي دبت في القصر الحزين ،وأنقل لها أخبار والديها ،فقد حرصنا أن نكلمهما ونزرع خيط أمل يربطهما بمريم .
كلمني هشام يسألني عن بابا
-هل رأيت بابا قريبا يا حورية ؟
-لا ،كلما كلمت ماما فيديو كول ،يكون قد نام .
-وانا كذلك رغم أنني حرصت أن أغير مواعيد مكالماتي .
اذهبي اليه يا حورية ،أخشى أن ماما تخفي عنا شيئا .
-حاضر ،سأسافر يوم السبت صباحا .
وقد فعلت .وصلت بعد ساعات من القيادة في جو تغير من البارد الى الحار كلما اقتربت ،مدينة ساحلية قريبة من الشمال لن تعرف ابدا حر مدينة داخلية قريبة من الجنوب .
الطريق السيارة تكاد تكون مقفرة ،اقطع مسافات لا ارى عربة ولا سيارة ،ولا مخلوقا،هي طريق سهلة نعم ولكن الطريق الوطنية مأهولة اكثر ،اعانني كوب القهوة لأحتفظ بتركيزي حتى وصلت .
فتحت البوابة بعد ان أطلقت البوق وانتظرت ان يفتح البواب ولم يفعل، ناديته فلم يجب ،مشيت حتى الباب الداخلي وفتحته ،وناديت
-يا أهل الدار .
لا مجيب ،صعدت السلم ،كل الغرف خالية .
-ربما في بيت جدي .
اغلقت البابين وقصدت فيلا جدي ، مرة أخرى لا احد .
انتابني القلق ،فأخذت الهاتف
-ماما اين انت؟
-نحن في المزرعة ،وانت ؟
-سأكون عندك بعد قليل .
دخلت من البوابة الحديدية الكبيرة ،على طريق الصفصاف بين الضيعتين تذكرت يوم رأيت مروان ينام بالسيارة ،وتذكرت ،نعم عادت كل الذكريات المرة ،مازالت مرارتها لا تفارق حلقي ،تنسيها حلاوة احداث او مرارة عاشها غيري ،ولكنها عالقة هنا تكفي هبة ريح من الأمس ليعود الماضي كله .
على الطريق الظليلة وقفت ،هذه الدموع التي تجمعت بصدري يجب ان تخرج هنا قبل ان أصل الى الفيلا .
اخيرا وصلت ،نزلت من السيارة وتوجهت الى النافورة وسط الحديقة ،نزعت سترتي القطنية ،وغسلت وجهي وذراعي ،قبل ان أدخل ضاحكة
-ليس في العالم كله ماء ،كماء عيون بلدي ،حلو وبارد ،كم اشتاق اليه.
-تشتاقين لماء العين فقط .
-ولك يا رحمة الله على أرضه .
عانقتها ،حضنها لا يختلف عن حضن ماما ،حضن محب مشتاق معطاء، صدق من سماها رحمة .
-وانا سوط الله عليك ؟
-حاشا لله يا اطيب ماما ،انت فقط الظابط القاسي .
قرصت خدي
-لابد انك اشتقت لقرصة بجذر فخدك،هههه
-ااااي ،مجرد ذكرها يؤلم ،ولكن الحق ،ان اي خطأ كانت هي عقابه اتوب عنه الى الأبد .
ضحكت ماما وهي تعانقني
-حبي لك جعلني اقسو عليك،وانا اعلم ان ماما رحمة ستهون عليك.
-ما قسوتك الا تأهيل لمواجهة قسوة العالم ،دمت لي ماما .
كانت مريم تقف وتبتسم ،تغيرت كثيرا وزاد جمالها
-من هذا الملاك الواقف هناك ؟
جرت الي تفتح ذراعيها وقد سبقتها دموعها
-حورية اختي .
ضممتها الي
-مريم حبيبتي ،زدت جمالا .
-بفضلكم بعد الله.
-واين غالية الصغيرة ؟
-تنام بفراش ماما .
نظرت الى زوجة عمي ،تكاد السعادة تنطق بعينيها
-لابد انها استيقظت الآن سأحضرها .
ذهبت مسرعة ،تصعد السلم برشاقة، صغرت،نعم صغرت رحمة سنينا ،تذكرت قول حنة
الفرح يصغر والقرح يكبر .
-احضر الشاي ماما ؟
-لا يا مريم ،سنأكل بعد قليل .
جاءت ماما رحمة تحمل طفلة كالبدر بين يديها ،تبتسم لها وتلعب بيديها الصغيرتين على وجهها ،وهي سعيدة بها لا تكف عن تقبيلها، وتدس وجهها في عنق الصغيرة تشم رائحتها ،وهي تضحك ضحكتها الملائكية.
اخذتها منها
-تعالي يا غالية ،تذكرين حورية ،هاه حورية كما اوصيتك ،لا خالتي ولا عمتي ،نحن صديقتان بنفس العمر .
ضحكن على كلامي ،وغالية تمد يدها الى زوجة عمي ،وكلما ابعدتها عنها صرخت باكية .
-هاتها يا حورية ،لا تبكيها !
-سأغار عليك منها ،صرت تحبينها اكثر مني .
جاءني الجواب من ورائي
-والصغير حتى يكبر ،يا حورية .
-بابا حبيبي .
جريت اليه احضنه ،ياااه كم هزل ،احس اضلعه تحت يدي ،وما هذا الانحناء بكتفيه، شاخ ابي قبل أخيه الأكبر .
غالبت دموعي وانتقلت الى حضن عمي
-عمي كم اشتقت اليكم .
-حوريتي ،اشتقنا لك حبيبتي .
جاءت ماما الى بابا ولفت ذراعها على ذراعه
-فاجأتنا حورية يا عمر ،بقدومها
-وكيف هي مفاجأتي؟
-سعيدة طبعا .
تأبطت ذراعه الأخرى وسرت معه حتى جلس متهالكا على الأريكة .
-اتعبتني يا صالح بهذه الجولة ،مالي ولسقي الزيتون !
-المشي والهواء النقي مفيد لك اخي .
-سنحضر الغذاء ،كل وتمدد قليلا لترتاح .
-ليتك تتركينني ارتاح ،لا شهية لي للأكل .
-الأكل جاهز ،ويجب أن تأكل قبل ان تأخذ الدواء .
لم استطع ان انظر اليه اكثر ،وهو يجاهد ليتكلم ،فدخلت المطبخ مع مريم ،نحمل الاطباق الى المائدة .
دار الحديث حول المائدة عن عملي ،وعن غالية الصغيرة ،لا تنزل عيني عن بابا ،يلوك المضغة بفمه دهرا فبل ان يدفعها برشفة ماء .
كل العيون عليه ،وعينا عمي تكاد تفر منها الدمعة .اما ماما فكأن معدتها موصولة برغبته في الأكل ،لا تكاد تأكل شيئا وعينها عليه .
اخيرا تمدد واغمض عينيه .
-اين ملف بابا الطبي ؟
-تعالي معي .
اخذت الملف اقرأه ،تشمع
الكبد .
-منذ متى علمتم بمرضه؟
-ثلاثة أشهر .
-وهل حصل عنده استسقاء ؟
-نعم ،وذاك ما يشعره بالانتفاخ والشبع، يريد ان يزيل بعضا من السائل ليحس بالراحة ولكن الطبيب يؤخر ذلك .
-نعم ،لأن إزالة او استخراج السائل سيزيد الاستسقاء وبكثرة ،وصحته لا تسمح باستخراجه اكثر من مرتين .
ولماذا أخفيت عنا مرضه ؟ماذا كنت تنتظرين ؟
-لست انا ،بل هو ،لا يريد ان تقلقي انت او هشام .
-ساكلم طبيبه ،واكلم هشام .
ليلا ،كلمت هشام ،وشرحت له حالة ابي .
-اذهبي إلى الطبيب غدا ،افهمي منه كل شيء ،واسأليه عن العلاج ولو بالخارج.
مما قرأت بالملف ،عرفت ان حالته متقدمة ،ولكنني أملت ان اسمع غير ذلك .
-حالة والدك متأخرة جدا ،يمكنك ان تري ذلك في الأشعة ،وكذلك نتائج التحاليل .
عمر صديق قديم ،ومنذ سنوات مرض كبده بسبب الخمر ،ونبهته كثيرا ،ولكنه لا يسمع كلامي .
-كيف اهمل صحته ونصائحك، هل هو جاهل ؟
-الخطأ انه يراني وكم طبيبا آخر نشرب معه ،ولكنه اغفل اننا نشرب كأسا او اثنين ،ونغادر، بينما هو ينادم المغادر والقادم حتى يثمل .
-والحل ،هل هناك علاج ؟
-العلاج الوحيد هو زرع جزء من الكبد ،لأن كبده اتلف تماما ،وانما أخرنا عملية سحب سائل الاستسقاء خوفا عليه من تلوث جرثومي،وصحته لا تتحمل.
كلمت هشام ،ومن فرنسا سأل وعرف ان العملية يمكن إجراءها يالمستشفى العسكري ،هناك أطباء عالميون. ولكن يجب تسجيل بياناته وكذلك بيانات المتبرع.
عدت بالخبر الى ماما وعمي
-نذهب لنسجله غدا .
-يجب ان يكون معنا.
-نذهب ،ونسجل بياناتي كمتبرع .
-وانا كذلك .
-لا يا حورية انت مازلت صغيرة ،انا اتبرع له .
-سني يؤهلني اكثر ،الكبد تعوض الجزء المأخوذ منها ،يا أمي.
جاءت زوجة عمي ،وحتى مريم ،الكل مستعد للتبرع بجزء من كبده .
انهى عمي الكلام قائلا .
-سنذهب انا وحورية، نحن الأقرب له دما ،ويمكن ان يكون أحدنا مؤهلا للتبرع .
بالمستشفى ،رقد وقد انهكته الرحلة ،امي بجانبه تأخذ يده ،يرفض ان يتبرع له احد ،ويرفض العملية .
اجريت لنا انا وعمي التحاليل ،وخرجنا الى مطعم قريب للأكل.
رن هاتفي
-مرحبا هشام .
-اين انتم ؟
-نحن بالرباط ،اجرينا التحاليل وننتظر النتيجة .
-اين انتم ،لقد وصلت واريد ان اجري التحاليل ايضا .
-ادخل الى المستشفى ،سنأتي اليك.
اسرعنا اليه ،كان بالغرفة قرب ابي ،لا يستطيع ان يتحكم في دموعه .
جاء الطبيب يأخذه ليحلل ،وبعد ذلك ،اتى ومعه ممرضين
-سنسحب بعض السائل لنريح المريض ،ولكن العملية ستكون بعد ان يأخذ الأدوية ،وتتحسن حالته قليلا ،ضعف جسمه الآن يمنع تخديره،.
أجريت عملية السحب من ثقب أحدثه بجانب من البطن .احس ابي بالراحة، وطلب أكلا .افرحنا طلبه كثيرا .وخرج عمي مع الطبيب ،بينما اسرعت وهشام لنحضر لبابا اكلا .
من بعيد لمحت عمي يجلس على كرسي امام الغرفة ،ويضع وجهه بيديه ،هيأته انبأتني بأن الأمر جلل .
-ادخل يا هشام ،وأكله بيدك ،شوقه إليك سيجعله يذعن لك .
اخذت يد عمي ،فنظر الي ،كأنه عاد من بعيد ،بعيد جدا ،لم يسمعني احدث هشام ،ولم يحس بوصلونا ،فقط لمسة يدي إعادته الى عالمنا .
عيناه بلون الدم،ومازال اثر الدموع على خديه .
-تعال يا عمي ،نجلس بحديقة المشفى .
قام يتبعني وانا امسك يده كالمغيب. اجلسته على مقعد خشبي وجلست بجانبه .
-ماذا قال الطبيب يا عمي؟
اجهش عمي ،وما أقسى بكاء الرجال ،لابد ان قلبه انفطر لتفيض دموعه وينقطع نفسه .
مررت يدي على ظهره وقد استجابت دموعي لبكاءه .
-سيشفى يا عمي ،سيكون بخير ،لابد ان أحدنا سيطابق حالته ويتبرع له .
-يمكننا كلنا ان نتبرع له ،ولكن المانع فيه .
خرب اخي كبده بالخمر، وقلبه أضعفه التدخين ،العملية خطر عليه يا حورية .
-قل لي بالظبط ما قاله الطبيب .
-اخي قلبه ضعيف لن يتحمل التخدير ،وإن غامر الجراح قد ينشر الكبد السموم بالجسم ،يعني انه اثناء العملية إن لم يتوقف القلب يقتله التسمم .
-والحل .
-مجرد أمل ،أمل ان يحدث العلاج تغييرا مع أكل صحي ،وإذا تبين بعد فحص جديد ان جسمه يستطيع التحمل سنجري العملية .
-هل سيبقى بالمستشفى ؟
-لا ،سيصرح له بالخروج ،ويتابع العلاج بالبيت ،وكل اسبوع يسحب منه سائل الاستسقاء.
روتين تعودته وحفظته منذ كنت متدربة بعدد من المستشفيات ،كلما يئس طبيب من حالة ،كتب لها علاجا مطولا وصرح بالخروج .
تهت من عمي ومن نفسي ،كم رأيت حالات ميؤوس منها ،وماظننت ان تكون من أهلي يوما ،وجود والدي بحياتي امر بديهي ،اب قوي ،سليم معافى ،وإن مرض لابد ان يشفى ،ابي ليس حالة بمستشفى ،انه ابي ،لايمكن أن يصبح حالة ،لا يمكن .
ورأيت ما اثار انتباهي ،سقط عصفور صغير من اعلى شجرة على العشب ،نزلت امه بجانبه ،ترفرف وتحوم حوله ،لا حول لها ولا قوة لتعيده الى عشها ،صوتها كأنه صيحة استنجاد ،وما أجابها منجد ،قمت اسرع لعلني انقذه ،ولكن قطا سمينا كان أسرع مني ،فعدت مهزومة .في لحظة هزمت مرتين .
جاءت أميمة وليلى ومدام أمينة لعيادة والدي ،أثر في حضورهن،وزاد تفهم مدام أمينة
-ابقي مع أسرتك ،سأعوض غيابك .
عدنا امي وهشام بسيارة عمي ،وانا رفقة والدي بسيارة إسعاف .
مر أسبوع وآخر ،سحب السائل مرتين بعد عودته الى البيت ،في المرة الثانية حذرنا الطبيب من إمكانية تلوث ،ونبهنا لملاحظة الا يكون بخروجه الى المرحاض دم ،فذاك اشد خطرا وقد يدخله في غيبوبة لانه دليل على تمزق الأوعية الدموية .
لم تتحسن حالته ،بل تدهورت أكثر ،أصبح لا يستطيع التمدد بسبب ضيق التنفس ،ولا الجلوس بسبب كثرة السائل بالبطن .
-خذيني الى المصحة ليزيلوا لي السائل فقد اثقل بطني وضاق صدري .
-ازلنا منذ يومين فقط يا بابا .
تعال سنخرج سويا الى الجبل .فالملل يزيد احساسك بالمرض ،وانت تحب الجبل ،تعال نذهب انا وانت في نزهة .
في مكان بالجبل اعتاد ان يأخذنا اليه ،شجرة سرو كبيرة ،يمر تحتها جدول صغير ،يلتقي بأقرانه ليكونوا ساقية تنحدر حتى تلتقي بشبيهاتها وتنحدرن في نهر يمر محاذيا للمدينة يسقي الضيعات المحيطة .وضعت الكرسي الطويل ،وأجلسته عليه ،استدار ليضع رجليه في الجدول ،ازحت شبشبه، ووضعت قدميه في الماء البارد .
جلست الى جواره ننظر الى المدينة أسفل الجبل ،وهناك بالأفق لون الغروب كأنه لهيب يحرق حدود المدينة
-لو تعرفين كم استحلي برودة الماء على قدمي ،ليته يجري على كبدي .
-ما يؤلمك يا بابا .
-هل ترين لهيب الشمس هناك بالافق، احس مثله نارا تحرق كبدي .
وضعت رأسي على كتفه ،ليتني أستطيع أن اخفف عنه ،ليتني ابرد نار مرضه ،ليتني...
غابت الشمس كما غاب الأمل
-تعال نذهب يابابا .
اخذته الى البيت ،ساعده عمي وهشام ليصل الى فراشه .
أمي ،كفراشة احترقت أجنحتها ،ضائعة قلقة ،لولا زوجة عمي ومريم ما اشتعل موقذ ببيتنا ،ولولا اوامر عمي ما وضع أكل على المائدة .
سنأخذه غدا لنريحه قليلا بسحب آخر .
هكذا قرر عمي ،ولكن اخاه لم ينتظر الى الغد ،تأوهه يصل إلى القلوب قبل الآذان .
وصلنا المصحة ،ادخلوه الى غرفة الأشعة لمراقبة الأمعاء إن كان بها دم .هشام يذرع الارض قلقا ،بينما جلست الى جوار عمي
-تعلم يا عمي أن الصحة مثل المرأة .
-كيف يا حورية ؟
-المرأة مهما احبتك وعشقتك ان حافظت عليها وصنتها صانتك وما فارقتك ابدا ،وإن اهملتها وخنتها وقسوت عليها هجرتك، تدوس على حبها في أول خطوة للفراق وتهجر .
-كذلك الصحة ،لو حافظت عليها صانتك، وان اهملتها وخنتها وقسوت عليها ذهبت ولم تعد .
-وبابا خان صحته وقسا عليها بالخمر والسجائر والسهر ،لابد انها ملت ويئست فهجرت.
خرج الطبيب .
-خذوه الى البيت ،لا أرى فائدة من بقاءه هنا .
-الن تريح بطنه بسحب ولو قليل .
-ليس ببطنه سائل ،خذوه الى بيته .
نكس رأسه وذهب .اسرع عمي يحمل اخاه ويجري به الى السيارة ،على باب البيت ما حملته رجلاه، وما كاد يضعه بفراشه حتى استرخي بهدوء .
جاءت امي لتضع المخدات تحت ظهره كما اعتاد ،لأنه لا يتمدد بسبب ضيق التنفس ،ولكنه منعها ،
-اتركيه فهو مرتاح كما هو
-صحيح يا عمر ،انت مرتاح هكذا ؟
لم تسمع منه فاقتربت بأذنها الى شفتيه
-نعم ،انا مرتاح اطمئني .
لمست رجليه ،باردتان لا حياة فيهما ،لمست جبينه ،قطعة ثلج .
-أخي ،عمر ،كلمني .
صوته لا يسمع ،فاقترب منه أكثر
-حورية ،يا صالح .
-حورية ابنتي في قلبي وعيني يا اخي ،كلهم في عيني ،اطمئن يا قلب أخيك .
اقرأ لي قرآنا يا صالح .
قرأ له فابتسم .
-صالح يا أخي ....سامح مروان ،سامحه يا اخي لترتاح انت .
-عمر ،اخي ،اخي .
رفع سبابته ،فرفع عمي صوته بالشهادة ،وارتفعت اصواتنا كلنا بالشهادة، وقعت يده على صدره كما وقع وجه اخيه عليه باكيا .
مر كل شيء بسرعة ،دفن بجانب والده ،وبعد أيام العزاء ،خلا البيت إلا من أهله .وابن عمي جاء وذهب معزيا كالغريب.
الصمت الحزين ساد المكان وحده صوت غالية ينبئ بوجود حياة بين الجدران.
وجاء موعد فراق آخر ،انا وهشام ،يجب ان نسافر .
وقفت ماما بلباسها الأبيض تودعنا ،نظرت اليهم ،مابقي من أسرتي، امرأتان ورجل .
ترى هل يعود هشام ذاك الطائر المهاجر ،يوما الى موطنه ،ومروان ،كيف يختفي بعد اليوم الأول هكذا ،رأيته يبكي ،عانق هشام وبكى ،جثا على ركبتيه يعانق أمي ويبكي ،ينظر الي والى امه وأبيه من بعيد ويبكي .احسست بكاءه صادقا ،ما كان تمثيلا ولا ادعاء ،فكيف اختفى ولم نره بعد ذلك ،وانا ،الى متى سأبقى بمنفاي وحيدة ،لابد ان أعود ،من أجل أمي ،من أجل عمي ،من أجل رحمة ،سأعود من أجل حورية ،سأعود
