
رواية كانت وما تزال
الفصل الرابع4
بقلم حكاوى مسائية.
التقتا أما باب العمارة،ضحكت سلمى سعيدة
-أول مرة ندخل معا.
-لأن السيدة عتيقة تهتم بشاي المساء للطلبة ،أنا شغلي الفطور والغذاء فقط.
-أحسن ،هكذا نستغل وقتا أكثر في مذاكرة محاضرات اليوم.
كانتا تتحدثان وهما تصعدان السلم ،في الطابق الخامس استقبلتهما ام وفاء أمام باب شقتها.
-مساء الخير
-مساء الخير ،كيف أمست وفية.
-بخير ،وهي بالمطبخ تعد لك الشاي ،وأصرت أن انتظرك،تفضلا.
مازحتها سلمى محتجة:
-الآنسة وفية تنتظر غالية،ما محلي انا من الإعراب.
أطلت وفية من وراء أمها.
-صديق صديقي صديقي. مرحبا دكتورة.
-لأجل دكتورة هذه ،قبلت صداقتك.
ضحكن كلهن لخفة ظل سلمى ودخلن الى الصالون ،وضعت وفية الشاي والحلويات ،ثم تقدمت تحمل كعكة شوكولاتة بفخر.
-الحلويات إعداد أمي،وانا حضرت هذه لأجلك دكتورة.
-مرة أخرى؟! عندا فيكما سآكلها وحدي.
وضعت الطفلة يدها على فمها.
-والله ما قصدت.
ضحكت غالية وهي تضمها إليها
-لا تعتدّي بتلك المجنونة ،شكرا لك حبيبتي،هاه أخبريني كيف انت الآن؟
-بخير ،اخذت المسكن ونمت ،وانا أفضل الآن.
-الحمد لله،اعتني بنفسك جيدا ،وكلمي أمك عن كل شيء ،وانا معك كلما احتجت إلي.
وضعت سلمى قطعة كعك بفمها قبل أن تقول وهي تشير الى نفسها.
-وأنا...يمكنك أن تعتمدي علي أيضا،شرط ألا تنسيني كلما أعددت كعكة كهذه.
-لن تنساك فهي وفية.
نظرت إليها الأم بامتنان. همست لها.
-تحب وفية ،رغم أن اسمها وفاء،لكنها تكرهه.
-ادعيها بما تحب،ربما لها أسبابها.
تنهدت مجيبة
-سبب واحد ومهم،هو السبب في كل شيء.
ربتت على ركبة مضيفتهاقبل أن تقف قائلة .
-خير دائم بإذن الله، شكرا حبيبتي وفية،هيا سلمى وراءنا عمل كثير.
في يوم واحد ،عرفت ،دون قول صريح،أن عتيقة تحاول أن تبقي المركب متوازنا على الماء،وأم وفاء تحمل هما كبيرا آخره ابنتها وفاء والله أعلم بأوله. وهي ليست حمل هموم أخرى.
أما ثريا ،والدة وفية ،فليست بحاجة إلى ما يعيدها الى الماضي،تكفيها ابنتها التي لا تستجيب لاِسمها وتفضل عليه وفية ،لأنها ما استطاعت أن تغيره.
وفاء،ابنة عمها ذات السبعة عشرة ربيعا،استنجدت بزوجة عمها
-سيزوجونني رجلا مطلقا،ارجوك زوجة عمي،كلمي عمي ،أريد أن أكمل تعليمي.
ضمتها إليها بحنان،تعرف قسوة أبيها ولامبلاة أمها،او هكذا ظنت، أنها تعرف.
-اطمئني،سأكلم عمك،وارسلك عند ابنتي ثريا،هناك اكملي تعليمك وابتعدي عن عاداتنا بتزويج القاصرات.
قبلتها ممتنة
-لا حرمني الله منك،يعني سأذهب إلى المدينة؟
-وكل ما أطلبه منك أن تجتهدي وترفعي رأسي.
هزت رأسها بفرحة
-سأفعل،سأفعل.
لم تستغرب إذعان أخ زوجها ولا زوجته،بسهولة سمحا لها بأخذ وفاء عند ثريا.
تزوجت ثريا منذ سنوات ،وأوقفت دراستها مع أول مولود،ابنها هشام، من البيت ساعدت زوجها واشتغلت على حسابات شركته الفتية للسيارات وقطع الغيار.
بدأ بمعرض للسيارات المستعملة،وبشد الحزام ،استطاعا أن يجعلاها شركة للسيارات قديمها وجديدها، مع قطع الغيار،وبأرض خلف المعرض الكبير،أنشآ ورشة كبيرة للإصلاح.
من عامل ارتفع العدد لعمال كثُر،كما ارتفع الرصيد بالبنك.
عاد سعيد زوجها يوما يزف إليها المفاجأة.
-غدا سنترك هذه الشقة.
-لا أريد تغيير شقتنا،بها ذكرياتنا الجميلة،كل قطعة أثاث اشتريناها معا.
قدم لها مفتاحا
-وسننتقل الى فيلا تليق بك،جهزتها بذوقك كما تحبين،أردت أن أفاجئك بها.
لم تكن صعبة الإرضاء،فابتسمت له وأحاطت عنقه بيديها
-وانا عندي لك مفاجأة أجمل،انا حامل.
استقبل الخبر كأنه أول حمل لها،بفرحة وهدية .وبعد شهور جاء طه ،ابنهما الثاني.وأصبح يدللها بأم البنين.
تقف بظهر زوجها،كما تأمن وهي بحضنه ،بينهما الحب والثقة ،وحياتهما مودة ورحمة.
تزور أهلها كل حين ،زيارات تثير حسد نساء القرية،فهي تأتي بسيارة رباعية الدفع،تلبس كبنات المدينة ،اي نعم لباسها محتشم فهي تربت على ذلك،ولكنه لباس تحلم به كل فتاة.
بلغ طه الخامسة من عمره،لتتفق مع زوجها على حمل آخر ،لعله يكون بنتا،المهم أنه سيكون الأخير. وجاءت وفاء ابنة عمها وهي في شهرها الثاني من الحمل،حالات غثيان،صداع ،وساعات نوم طويلة .
فرحت برؤية امها، وفرحت أكثر لأن وفاء ستعيش معها،رغم وجود الخادمة ،فالولدان أُهمِلا بسبب الحمل،وهي لا أخت لها ولا صديقة ،لهذا رأت وفاء غيثا من السماء.
لم تكن وفاء أجمل من ثريا،ثريا التي سميت بهذا الاسم لجمالها الرومي،أمها أمازيغية شقراء،اورثتها جمالها وطيبتها وحب أبيها لها.أما وفاء فكانت عادية ،وفي أقل من شهر تعلمت من زميلاتها بالثانوية أصول التزين،فتغيرت ملامحها كثيرا تحت اللمسات السحرية لكل تلك الأصباغ.
كما تمنت،رزقت بابنتها،وهي بالمشفى في غرفتها اجتمع حولها والداها وزوجة عمها ووفاء،وقربها يقف سعيد يحمل طفلته
-ماذا ستسميها؟
نظرت إليه هامسة بحب.
سبقته وفاء مجيبة
-سموها وفاء.
نظرت نحو سعيد نظرة لاحظتها ثريا،نظرة ليست بريئة،ولكنها تثق بزوجها .
-نسميها وفاء.
صدمت لموافقته،ولكنها رأت فرحة الجميع حولها،كلهم يثقون أن وفاء أختها وتحبها، وحدها رأت نظرته إليها وهو يقبل وجنة ابنته.فأخذتها منه،ومسحت بيدها موضع قبلته.
غادروا جميعا ،وبقي معها يمسك يدها ،ويتغنى بجمالها وحبه لها،استغفرت الله انها شكت في حسن نواياه،فلابد انه يعتبر وفاء اختا صغيرة.
بعد سبعة أيام، أخذت الصغيرة بالسيارة للتطعيم عند دكتورة الأطفال،مرت الى متخصص في حفلات العقيقة لتوصيه على حفلة ابنتها بعد أيام، هاتفت والدها ليحضر الذبيحة، وعادت إلى البيت.
تركت الصغيرة بغرفتها وتوجهت نحو جناحها لتغير وتستريح قليلا قبل أن تصحو الرضيعة،فتحت باب الجناح لتسمع همهمات وضحك مكتوم،تقدمت لتفتح الغرفة وترى ما لم تتخيله يوما:وفاء وسعيد على فراشها.
أفاقت لتجد أباها وأمها قربها،بينما يقف سعيد على بعد خطوات ،بقضم أظافره كعادته عندما يتوتر.بمجرد أن رأته اجهشت باكية .
ضمتها أمها الى صدرها،تربت على ظهرها
-اصبري،كل مُر سيمر .
ابتعدت وقد جحظت عيناها
-هل عرفتم.
هزت أمها رأسها.
-نعم،لقد أبلغتنا وفاء.
أصابها الخرس،وفاء اخبرتهم؟ لماذا تفضح نفسها؟
جاءها الجواب وعمها وزوجته يدخلون عليهم دون خجل
-خجل
-يجب أن يصلح خطأه.
صاحت زوجة عمها.
-أهكذا تحافظين على الأمانة؟
عقب عمها.
التفت الى سعيد يمسك بياقته
-ستتزوجها وإلا سجنتك.
صاح به أخوه
-ابنتك لم تعد قاصرا،أسجنهما معا بتهمة الزنا.
تباكت أم وفاء
-ليتكم تركتمونا نزوجها،انتم السبب ،سنفضح في البلد.
-وأنا لا ارضى الفضيحة لأخي،سيتزوجها.
هزت ثريا رأسها بالرفض،تشهق ودموعها سيل على وجنتيها.
امسك والدها كفها
-يجب أن توافقي ابنتي،الفضيحة ستطال أولادك بعد ابيهم، سيطلقها بعد شهر ،وتعود الى البلد.
دخلت كالإعصار
-لا لن يطلقني ،فأنا حامل في شهرين.
التفت نحو صهره
-تسكنها شقة بعيدا عن ابنتي.
هز رأسه موافقا
-وطلقها بعد أن تلد
-مرة أخرى هز رأسه. خرجوا جميعا ولبثت أمها معها ،لا تخرج من غرفتها،ذبح أبوها عقيقة الطفلة ،وليتها حضرت لتغير اسمها المقيت،كانت تسمعهم بالطابق الارضي،وهشام يحكي لها ما يراه.أما سعيد فقد اختفى.
بعد أيام،خلا البيت عنهم،نزلت السلم لتجدهما معا بالصالون.هب واقفا ،امسك يديها
-حبيبتي،بحثت عن شقة ولم أجد واحدة مناسبة.
أشاحت بوجهها عنه ،كلمت الخادمة
-اين هشام وطه.؟
-بالمدرسة سيدتي.
-ما رأيك لو أسكنها شقتنا القديمة الى ...
قاطعته بعنف
-لا،شقتي لا.
وقفت بجحود ،لا حياء على وجهها
-إذن ابقى هنا.انا أيضا زوجته ،ولي الحق أن اسكن هنا.
لم تكلمها،عادت إلى جناحها بعد أن أمرت الخادمة أن تأتي لها بالأكل.
مر شهران،تأخذ الطفلين الى المدرسة ،وتختفي هي والرضيعة ،لا تحتك بهما ،ولا تسمح له بدخول غرفتها. ثم في يوم ،وكان يوم احد،نزلت السلم رفقة أولادها ،والخادمة تحمل حقيبتين.
وقف أمامها
-الى اين حبيبتي؟
-لست حبيبتك،وسأذهب الى شقتي ،هناك انتظر ورقة طلاقي.
-بماذا تهذين ؟ لن أطلقك. انا احبك ثريا
-وانا لا أحبك ولا أكرهك،أنت لاشيء، لا تستحق مني ولا حتى الكره.
تركته مشدوها وخرجت.
تحمد الله انها وافقت عندما أصر أن يكون لها مرتب على عملها كمحاسبة للمعرض،ثم بعد ذلك أصبحت شريكته بالشركة ،وتعرف كل درهم يدخل الحساب.
فتحت الشقة وتنفست الصعداء،لقد غيرت فيها كل شيء،لم تُبْقِ على مايذكرها به،غرفة الضيوف أصبحت لها وغرفتها لأنها الأكبر جعلتها لهشام وطه ،بينما وضعت بغرفة الأطفال سريرين أحدهما للطفلة.
الطفلة التي لم ينادِها احد منهم باسمها،فإذا حضرت كانت"أنتِ"وإذا غابت كانت"هي".
جهزت مكتبا بالشركة بعيدا عن مكتبه،وبه تولت إدارة الحسابات،مع حرصها الشديد ألا تلتقي به ولو صدفة.رغم محاولاته لتستقبله بشقتها ولكنها كانت ترفض.
حساب الشركة بالبنك يستلم إمضاءيهما معا ولهذا تحكمت في كل درهم يسحبه، وهذا ضيق الخناق غلى زوجته الثانية، فأصبحت حياته معها جحيما،وقد رأى منها وجهها الحقيقي،دمامة خِلقَتها وقد أصبحت مواد التجميل شحيحة بيدها لشح المال،وفُجر خُلُقها وقد تأكدت أن سعيد وماله بيد ابنة عمها.
ثم سمعت أن وفاء أنجبت ولدا ،وأن أمها أصبحت تعيش معها بالفيلا.
بلغت الصغيرة عامين حين سمحت له بحضور عيد ميلادها،جلس يراقبها تخطو خطواتها المتعثرة خلف أخويها، ناداها
-تعالي وفاء،وفاء
ولكنها لم تستجب ،بل التفت إليه هشام ذو الرابعة عشرة من عمره
-لا وفاء هنا،نحن لا ننطق هذا الاسم الكريه.
-ولكنه اسم أختك
-اختي لا اسم لها. أفضل من اسم الغدر والخيانة.
خرجت من المطبخ
-هشام ،لا تكلم أباك هكذا.
اتجه نحو غرفته
-انا اصلا لا أريد أن أكلمه.
اقترب طه
-وفية ،سنسميها وفية.
لم يجبه ،بل توجه نحو الباب منهزما.
كبرت وفية ،واتضح أن ابن وفاء من ذوي الاحتياجات الخاصة ،إعاقة شاملة، وكلما حملت يجري الدكتور تحليلات تظهر احتمال تشوه او إعاقة بالجنين، فتجهضه.
وهاهي وفية قد حاضت ،تكره اسمها،تكره أباها،و لا تثق بأحد خارج اسرتها الصغيرة.
-أمي،انظري إلي.
فتحت عينيها لترى طفلتها تلف خمارا حول رأسها.
-ماهذا؟
-خمار،قالت الدكتورة أنني أصبحت مكلفة الآن.
-وهل انت مقتنعة؟
-نعم أمي،لقد بحثت وعرفت أن عليَّ فرضُ الحجاب.مارأيك؟
-وهل سيكون لي رأي في فرض الله،المهم أن تثبتي على الطاعة،وأن تكون نابعه من قلبك.
تعالي ،اجلسي.
أفسحت لها مكانا بجانبها،ضمت يديها الصغيرتين داخل كفيها بحنان
-الحجاب يتعدى الخمار واللباس الواسع الساتر،الحجاب هو ستر من النار،صِدق الكلام حجاب،صدق العمل حجاب،صدق المشاعر حجاب،الإخلاص في العبادات حجاب. في كل خطوة في حياتك تخشين الله حجاب.
الحجاب شعار المسلمة فلا تسيئي إليه،فهمتني؟
-نعم أمي،فقط كوني معي لتقوِّميني.
ضمتها بحب
-انا معك لا تنسي هذا أبدا.وابدا لا تشكي في حبنا لك .
-انصحي ولدك،انا اتفقت مع الهواري،عقد القران يوم الجمعة ،والزفاف الخميس الذي بعده.
هكذا قرر وينفذ. يحركه كدمية بخيوط،لارأي له،ولا حق في الرفض.
قلب أمه ينزف حزنا عليه،ولكن ما باليد حيلة.
حضر زفافه ،الجسد حاضر والبال غائب،أما القلب فدفين بجانب حبيبته.
دخل غرفته ليجد عروسه تجلس على طرف السرير،ارتجاف يديها ينبئ برعشة الخوف التي تتملكها،اقترب ببطء،عقله يحثه على القرب،قلبه يئن رفضا،وعينه تأمل أن تكون هي ،أن ترى وجه الحبيبة لما يرفع عنه الخمار الأبيض .
امتدت يد مرتعشة، وقلب واجف،ازاح الخمار،لا ليست هي،وكيف اعتقد ان تكون هي،فهل يعود الميت.
طرقات على باب الغرفة نبهته الى واجبه،فأسرع لينفذ .
خرج بعد أن أخذ حمامه،لتدخل إليها أمها مع اخريات لا يعرفهن،لايريد أن يعرف،ولا يهتم.اسرع نحو شجرة الأركان القريبة من حقل الذرة ،شجرة كأنها تمردت عن مجموعتها وجاءت وحدها لمكانها،كأنها قصدت أن تكون شاهدة عليه.
استلقى متكئا على جذع الأركانة، غطى عينيه بذراعيه وعاد لذاك المساء.
ضمها إليه باكية ،لو يستطيع لشق صدره وجعلها جوار قلبه
-لا تخافي حبيبتي،سنتزوج،انا احبك.
-لا ،انت لا تحبني،لو أحببتني لحميتني من نفسك ،ولا ،لن نتزوج،لو كنت متأكدا أن أباك سيقبل لاتنتظرت حتى أزف إليك.
-انا اعشقك بهيتي،وانت تحبينني،سأفعل المستحيل لنتزوج،ثقي بي.
-وثقت بك وهاهي النتيجة ،تأخذني تحت شجرة ،صمَمْت عن تذرُّعي،وعميت عن دموعي.
قامت تضم إليها ثوبها،نظرت نحو الأفق حيث تشتعل الشمس غاضبة ترفض المغيب،كأنها تحارب الظلام القادمالقادم من الأفق المقابل.
-لقد قتلتني،والسلاح يد ابي،أبي الذي احبني فخذلته،لا سامحك الله.
وكأنها سهم انطلقت نحو حقل أبيها.
عاد من ذكراها و
التفت الى حجر تلون بأثر الحناء التي لا يعرف من يصبها عليه .
-لماذا يا بهية ،لماذا أخبرت أباك وضحيت بنفسك،لماذا حرمتني منك ومن حبنا.
عاد مرة أخرى الى يوم سأل عنها علي
-علي أين بهية؟
-لا شأن لك بها.
-بل هي شأني يا علي،ساعدني فأنا أحبها وأريدها.
-هو انت إذن،تعال لترى بهية .
أخذه الى الشجرة الوحيدة
-هنا ،بهية مدفونة هنا،حيث ذبح*تها دفنها أبي