
رواية كانت وما تزال
الفصل الاول 1
بقلم حكاوى مسائية..
خرجت الصغيرة ذات العشر سنوات وراء أمها التي تحمل زادا لزوجها المنهمك بالعمل بحقل القمح.
سيقان السنابل الخضراء ماتزال خجولة غضة تعافر لترفع رأسها نحو الشمس،تستقبل خيوط الماء القليل الذي يجود به ابو علي عليها منذ ساعات الفجر الأولى ،ماء عزيز في هذه الأرض الجنوبية الصلدة كأبناءها.
-عودي يا بهية الى الدار.
-بل أريد أن أذهب معك الى أبي.
-والله ما افسدك إلا دلاله لك.
تقافزت الصغيرة جذلى الى جانب أمها تسبقها ضحكتها .تلك التغريدة التي سمعها ابو علي فاستقام يطالع حبيبتيه من بعيد ورد على ضحكتها بضحكته وفتح لها ذراعيه ليستقبلها حضنه الحاني.
-أمي أرادت أن أعود إلى البيت
-وانت رفضت كعادتك،
التفت الى زوجته باسما
-مالك وبهية يا ام علي،دعيها تأتيني ببشائر النهار،والله كلما رأيتها صباحا اتفاءل بيومي ولا أُخذَل.
-هاهي بين يديك،وهل امنعها عنك إلا رفقا بها من بعد المسافة؟
-لا أتعب يا أمي ،فحضن أبي يذهب كل تعب.
أفاقت من شرودها على صوت رفيقتها في السكن.
-يا غالية،انا ذاهبة،قد أتأخر فلا تنتظريني.
التفتت الى الجدار ،وهي مستلقية على فراشها
-ومتى انتظرتك،لولا خوفي من البقاء وحدي ما قبلت وجود واحدة مثلك معي.
عادت صور الماضي تحتل تفكيرها فانتفضت مستغفرة.
-الأحسن أن اقوم لأصلي ركعتين واذكر الله ،وإلا انحدرت قي بئر الحزن مرة أخرى.
في المطعم حيث تعمل غالية ورفيقتها سلمى ،وقفت بالغرفة الصغيرة جدا تغير ثوبها بلباس العمل وتضع عليه مئزرا أحمرا صغيرا خاصا بالنادلات،وعلى رأسها منديلا بنفس اللون عقدته تحت خصلات شعرها من الخلف.
ماكادت تخطو نحو المطبخ لتمر عبره الى صالة المطعم حتى بادرها شاب وسيم أنيق
-أين غالية ؟
دمدمت قبل أن تجيبه(والله لا أعرف ما يعجبكم فيها)
-ليس وقت عملها سيدي ،تركتها نائمة بالبيت.
همهم بشيء لم تسمعه قبل أن يلتفت ليصعد سلما صغيرا من الألومنيوم نحو مكتبه.
قامت تدور في البيت ،دخلت غرفة سلمى ترتبها كما اعتادت أن تفعل،سلمى مهملة،كأنها مراهق يعتمد على امه ،بعد ذلك دخلت الى المطبخ لتُفاجَأ بكم الأواني بالمغسل،وعلى الرخامة.
-متى تتعلمين أن جلي الأواني من ضمن الطبخ.
بعد أن جالت بنظرها على المطبخ ورضيت بما رأت،خرجت نحو الصالة الصغيرة تنفض الأريكتين القديمتين وترتب عليهما وسائد اختلفت ألوانها هي ما تعطيهما الحياة.
أخيرا ،جلست وبيدها كوب من الشاي،تقلب كتابا على الطاولة الصغيرة أمامها.
كبرت الصغيرة لتصبح صبية ذات جمال شرقي أخاذ،ماتزال تجري نحو أبيها بالحقل،يتبعها علي الذي يصغرها بسنتين،تضحك للحياة ،وكيف لا وهي ضمن القليلات من البلد اللائي يتابعن تعليمهن،فقد سمح لها أبوها بالدراسة حبا فيها و طاعة لوالدته الغالية.
-انتظري يا بهية ،وكفي عن الضحك ،تجلبين إليك نظرات الفلاحين.
-لا تهمني نظراتهم ياعلي.
-بل يجب أن تهتمي،فأنت بلغت السادسة عشرة ،لم تعودي صغيرة .
-مازلت صغيرة، مهما بلغت سأبقى صغيرة.
نظر إليها علي غاضبا،هذه البلهاء لا تشعر انها كبرت ولا ترى أن جسدها تغير كثيرا.
لم تكن نظرة علي وحدها الغاضبة، فهناك عيون تتابعها بغيرة وغضب،عيون زاد سوادها بينما احمر بياضها فأصبحت كأنها أتون بركان مستعر.
فرشت المفرش على الأرض،وضعت عليه صحن الأكل وجلست على ساقيها بينما تربع أبوها وأخوها قبالتها.
-انا التي طبخت لك اليوم أبي.
-إذن فسآكل عسلا اليوم.
-مهما فعلَت لن يكون ألذ من طبيخ أمي.
ضحك ابو علي لمشاكسة ابنه لأخته،ظل حجب الشمس وصوت القى السلام
-السلام عليكم عم ابو علي.
-وعليك السلام ابراهيم ،تفضل معنا.
-بالهناء ،سبقتكم.
-لكل طعام لذته،وهذا شهد من يد بهية.
-مادام كذلك سأشارككم فيه.
نظر اليه علي شزرا،لا تعجبه نظراته لأخته.
-كيف حال والدك ؟
-بخير الحمد لله،استقبل اليوم طبيبة المستوصف.
-أخيرا،نرجو أن تكون خيرا من الذي سبقها.
-أكد أبي في طلبه أنه يريد طبيبة حتى تستفيد منها نساء البلد.
شردت بهية، طبيبة تعالج النساء، نساء يرفض رجالهن أن تكشفن على رجل ولو للعلاج،فكن زمنا تحت رحمة الممرضة وقابلة البلد. طبيبة بيدها العلاج،وتكون أول من تستقبل المواليد،رحمة من الله للأمهات وأولادهن،ابتسمت وهي تقرر أنها يجب أن تراها.
استرق نظرة إليها فسَرَّته ابتسامتها الشاردة، يكبرها بأربع سنوات،رآها تكبر أمامه،لاحظ تغير جسدها،وجمالها الذي ما حظيت به غيرها من فتيات البلد ،إعجابه بها يزيد كل حين ،ولا تبرح تفكيره ساعة.
رغم أنه التحق بجامعة المدينة الأقرب للبلد،ولكنه يجزم أنه لم ير مثيلتها في الجمال والبراءة.
رنة منبه الهاتف على الطاولة أعادتها للواقع،جمعت بمحفظة صغيرة كتابها وكراسة كبيرة ،ثم دخلت غرفتها لتغير ثيابها وتغادر نحو الكلية.
تسير على رصيف مترب،لايسمع لحذاءها وقع،حذاء بسيط أسود تغير لونه بفعل الغبار،الغبار الذي طال أسفل ثوبها الفضفاض،أسود كالخمار الذي تحرص أن لا تظهر من تحته شعرة.بل تدنيه حتى يكاد يغطي حاجبيها.
لباسها البسيط القديم،أثار حولها تنمر أترابها خلال الشهور الأولى بالكلية ،ولكن تجاهلها لكل ما ومن حولها ،جعلهم يتخلون عن انتقادها او انتقاد لباسها.
وقفت لتسلم على جمع من الطالبات
-صباحكن سعادة.
-وصباحك يا غالية،مع هذه الابتسامة لابد أنك تمكنت من محاضرة الأمس.
-والفضل لك بعد الله ،ولكن جميعا،لولاكن ما استطعت أن اوفق بين العمل والدراسة.
-سلمى ؟
-ذهبت إلى المطعم ،(ضحكت)واحدة منا هنا والأخرى هناك.
-ولكنها ليست مثلك ،كثيرا ما تتعثر.
-سأحرص أن نعمل معا على الدروس مستقبلا،سأضطر أن أجبرها على السهر قليلا،هي خميرة نوم.
-يجب أن تجدا حلا فالسنة المقبلة سنبدأ العملي ،ولا مجال للتغيب.
-اللهم يسر.
كانت الساعة تشير الى العاشرة ليلا حين دخلت سلمى ،نفضت قدميها الواحدة تلو الأخرى لتقذف الحذاء أين ما وقع وهي تتأفف
-حسبي الله في من نادى بالمساواة.
ضحكت وهي تجيبها
-ومن أجبرك على السير على نهجه ،عودي الى طريق أمك وارتاحي.
-أمي!هه،ومن دفعني كل هذه السنوات دفعا لأصل الى الجامعة ،موال وحيد لا تحيد عنه:لو تعلمت وكان لي مدخول خاص لما أذلني ابوك.
-هي م-هي مخطئة إذن لأنها لا تريد لك ذلا عاشته؟
-بل أخطأت لأنها أنجبتني ،لما رأت حياتها البئيسة مع زوج مهمل ومؤذ،الأفضل أن ترفض الإنجاب،هاهي أضافت أنثى مضطهدة الى هذا العالم.
مازالت تضحك وهي تجادل رفيقتها
-الأفضل أن تجتهدي لتحقيق أملها وتخرجي من دائرة الاضطهاد، على الأقل لتحس انها أنقذت ابنتها من ذل رجل.
-هلا أخبرتني لماذا تضحكين؟
-لسعادتي بعالمي الجميل.
قالتها وهي تفتح ذراعيها وترفع وجهها مغمضة العينين،فقذفتها سلمى بوسادة صغيرة
-خسئت انت وعالمك الجميل.
جذبتها من يدها
-تعالي لنضع وليمتنا الدسمة ،ونتعشى قبل أن أشرح لك محاضرات اليوم.
-وليمة؟ ودسمة!لو لم أكن أعلم أنه الأرز بالحليب مثل كل يوم لطمعت،ثم انا لا قدرة لي على شيء، إنما اتوق الى وسادتي لأنام وأنسى عالمي الجميل.
تذكرت، سأل عنك المدير اليوم .
-كأنه لا يعلم أين أنا!
-سؤال لابد منه كلما رأى سحنتي.
-دعيه يسأل.
أخذت كل واحدة صحنها من الأرز وجلستا على الأريكة أمام تلفاز قديم يحتاج خبطة او اثنتين لتظهر الصورة على شاشته.
-الله !مسرحية (سك على بناتك)سهرة ضاحكة .
نظرت اليها وهي تعلم أنها لن تتم عشاءها قبل أن يغلبها النوم.وكما توقعت نامت سلمى،اخذت الصحن من يدها ،وجلبت غطاء دثرتها به بعد أن مددت رجليها على الأريكة .ابتسمت لها بحنان اخوي
-تصبحين على خير.
على سريرها الصغير ،تنظر الى السقف الذي لا تراه في الظلام.
-قومي يابهية ساعديني على الجلي.
-ولماذا انا وليس علي؟
-لأنني رجل وانت فتاة.
-لست رجلا بعد ،لابأس أن تساعد ،ألا ترى أنني مشغولة بدروسي.
-قومي يا بهية،تعلمي شغل البيت احسن لك ،ينفعك في بيتك .
-انا اريد أن اكمل تعليمي وأصبح طبيبة مثل دكتورة المستوصف.
سخر علي
-دكتورة مرة واحدة ،اتعرفين كم سنة تلزمك لتصبحي طبيبة ؟
-أعلم ،ولعلمك أبي موافق.
-صحيح يا أبي؟ موافق أن تضيع سنوات عمرها لتصبح طبيبة ؟
-نعم ،وانا معها في كل ماتحتاجه،المهم والمطلوب منها أن تركز وتجتهد لتصبح الدكتورة بهية علام.
ضحك علي مشككا في قدراتها ،بينما قالت امها
-وإلى أن تصبحي دكتورة ،قومي لتساعديني،هيا.
قامت تضرب الأرض بقدمها تذمرا، بينما تعالت ضحكاتهم في البيت الريفي البسيط.
في صباح اليوم التالي ،كانت وأخوها متوجهين نحو المدرسة ،حين تجاوزتهما سيارة كبير البلد مثيرة زوبعة من التراب أعمى عيونهما وأثار لديهما نوبة سعال.فتحت عينيها على صوته معتذرا
-اعتذر ياعلي،الى اين تذهبان؟
-كما ترى ،هذه طريق المدرسة.
لا يدري علي لم لا يحب ابراهيم ابن كبير البلد
-هل اوصلكما في طريقي؟
-شكرا ،نفضل المشي.
-ربما اختك تعبت فالطريق طويل حتى المدرسة .
-اطمئن،اعتدنا أن نقطعها كل يوم ،نشكر لطفك.
امسك يد اخته مبتعدا ،بينما تابع ابراهيم تلك التي لم تسمعه صوتها وكأنها احست أنه اشتاق لرنته بصدره قبل أذنيه.
ابن كبير البلد ،كل يوم يقصد الجامعة على متن سيارة بسائق،يعود مساء لأن أباه رفض أن يعيش بعيدا عنه وعن أمه، هو الولد الوحيد على أربع بنات،المدلل الغالي،الوريث الغني،أراض وماشية وبيت كبير ،وفوق كل ذلك منصب متوارث من سابع جد :كبير البلد.
كأنه كان ناويا،في طريق العودة ،على نفس الطريق المتربة، كان هو السائق،وكان مسرعا بشكل متهور،وكانت كما اعتادت مع اخيها،تمسك يده ويحمل عنها حقيبتها،ربما فقد السيطرة كما ادعى،ربما كان قاصدا،ولكنها رأت السيارة متوجهة إليهما،دفعها علي يبعدها عن الطريق،فسقطت بينما صدم هو ،بعد عدة أمتار توقفت السيارة لينزل ابراهيم والسائق
-والله ماقصدت ولا تعمدت،هيا لنأخدكما الى المستوصف.
الر*عب الذي استحوذ عليها والألم الذي اخرس علي ،جعلاه يتصرف،حمل السائق عليا ليضعه على المقعد الخلفي وهو يجاهد ليكتم دموعه،فالرجل لايبكي،بينما امسك ابراهيم ذراعها يوجهها نحو السيارة .الى جانب أخيها الذي احست بألمه،انسلخ جلد ذراعه،ولكنه كان يمسك ساقه ،شحب وجهه ،يزم شفتيه مستميتا حتى لا تخرج آهة ألم منهما،لا تشعر بشيء،مايزال الذهول غالبا عليها،مع الخوف على علي،لم تحس بجروحها التي صبغت ثيابها بالد*م.
في المستوصف،طمأنتها الدكتورة على نفسها ،مجرد خدوش وكدمات،بينما يجب نقل علي الى مستشفى المدينة لأجل أشعة على عظم الساق لأنها متأكدة انه مكسور ،وهناك يعالجه طبيب العظام.
-تفضلي لأقلك الى بيتكم وأخبر عم ابا علي.
-يمكنك أن تذهب لإحضار أبي ،و انا سأنتظره هنا.
-سيبقى السائق مع علي،يجب أن ترتاحي فهيا لأوصلك.
-وانا قلت لا،إن كنت تريد أن تساعد فافعل ما قلت لك ،وإلا فيكفينا منك ما رأينا يا ابن الشيخ.(وهو كبير القرية )
الدكتورة الشابة كانت تتابع الحوار،لاحظت نظرات ابراهيم لبهية،وعرفت انها تخفي الكثير الذي لم تستطع التكهن به أو تفسيره.
-مادمت المتسبب في هذا ،فأضعف الإيمان أن تسرع حتى تنقل الصبي الى مستشفى المدينة .
هم ليغادر فصارت الى جانبه وهمست له
-والأفضل أن تتكفل بجميع مصاريف علاجه .
-كنت سأفعل دون أن تقولي.
-إنما أحببت أن أذكرك.
غادر بينما عادت اليهما الدكتورة مبتسمة،تربت على ظهر بهية مواسية،بينما تضمد الممرضة جروحها.
كسر ساق علي جعلها تتغيب عن الدراسة حتى يشفى ،لا مجال للتفكير برحلة الذهاب او العودة وحيدة رغم وجود العديد من أبناء وبنات البلد في نفس المدرسة،و أعطى ابراهيم ذريعة ليزور بيت ابي علي ،الظاهر ليطمئن على علي ،والباطن هو رؤية بهية والتقرب منها..