رواية سارقة الهوي
الفصل الثامن 8
بقلم مني السيد
بهدوء وروية على عكس ما يختلج به صدره فتح باب سيارته وركبها دون أن ينبس ببنت شفة. ورجع بالسيارة للخلف بهدوء ما قبل العاصفة. عيناه المستشيطة لا تفارق عيني مارية المتشفية وبالأخير رفع اصبعه السبابة لمارية مهددا دون كلام! وانطلق من فوره بسرعة حتى ارتجفت منى عند سماعها صوت صرير عجلات السيارة وهي تلمس الأسفلت فور خروجه للطريق!!!
بدأت منى في البكاء وهي لا تصدق انها فعلت ما فعلت للتو مع وحيدها
-" ايه اللي انا عملته دا بس مش ممكن لا مش ممكن انا هاروح اتصل بيه يجي ياخدني انا آسفة يا مارية بس مقدرش اسيبه كده"
ربتت مارية على كتفها
-" متقلقيش هو اكيد بردو مش هيجيلو قلب يسيبك زعلانة هتلاقيه دلوقتي هيلف ويرجع تاني"
-" لا مش هيعمل كده دا عِندي وانا عارفاه انا هاروح اتصل بيه"
وبالفعل توجهت منى نحو خيمتها لتلتقط هاتفها وتسمع الصدمة بأن هاتف يوسف مغلق وبدأت ف النحيب ودموعها تتساقط وتنهمر دون ان تستطيع ردعها.
سمعت مارية نحيبها عن بُعد فساقها لم تكن تساعدها على المشي بسهولة مما جعلها تصل متأخرة لخيمة منى
-" ايه حصل ايه؟! زعلك؟ قالك حاجة؟"
هزت منى رأسها نافية وقالت وهي تنتحب
-" قفل تيلفونه اول مرة ف حياته يعملها "
حاولت مارية تهدئتها وهي تشعر بالندم لانها سبب كل ذلك:
-" لا متقلقيش مش معقول يعملها معاكي اكيد فصل شحن ولا حاجة عشان هو كان مسافر فترة طويلة"
لم تقتنع منى بحديث مارية وهبت واقفة
-" انا لازم امشي دلوقتي مش هقدر استنى للصبح انا هطلب اي عربية توصلني"
هدأتها مارية وهي تقول "خلاص اهدي انا هاروحك"
اعترضت والدتها قائلة
_" تروحيها ازاي برجلك دي انا هاجي معاكم وانا اللي هاسوق"
_ " ياماما متقلقيش رجلي الشمال هي اللي وجعاني وانا هسوق باليمين وانتي معلش لازم تفضلي هنا مع الولاد هما كده كده هيمشوا بكرة بعد الظهر يعني كلها كام ساعة وخلاص"
زفرت نهال
_" انا عارفة مش هرجعك عن اللي ف دماغك خلاص روحي بس طمنيني عليكي كل شوية"
هنا تدخلت منى
_" يا جماعة انا مش عاوزة ازعج حد انا هطلب عربية وخلاص"
_ ردت مارية وهي تشعر بتأنيب الضمير لأنها السبب في كل ما حدث " لا طبعا الوقت اتأخر مش هينفع نسيبك لوحدك وخلاص الموضوع انتهى انا اللي هوصلك يعني انا اللي هوصلك"
أذعنت منى لرغبة وتصميم مارية خاصة وهي تريد اللحاق بابنها بأقصى سرعة لتراضيه عما بدر منها منذ قليل.
كانت مارية تشعر بألم شديد في ساقها اليسرى وهي تركن السيارة امام منزل منى نظرا لطول الساعات التي قادت فيها السيارة وحاولت الابتسام رغما عنها لتطمئن منى وهي تساعدها في حمل حقائبها مع بزوغ اول بصيص للنهار الملبد بالغيوم وذلك الهدوء المقيت الذي يزيد الجو كآبة مما جعل قلب مارية ينقبض الا انها حاولت طمأنة منى بالرغم من ذلك :
_" شوفتي ياستي ادينا وصلنا اهو ان شاء الله تتصالحوا وتبقوا كويسين"
خرجت منى بلهفة من السيارة وهي تهز رأسها تقنع نفسها بذلك وفتحت الباب بلهفة كبيرة وهي تقول
_" تعالي يا مارية اتفضلي معايا ريحي رجلك" قالتها وهي تسرع إلى حجرة يوسف
دلفت مارية لتضع حقيبة منى بجانب الباب وهي تقول
_" لا انا هامشي انا حطيتلك الشنطة اهو و...."
لم تكمل مارية حديثها لأنها سمعت صوت صدمة قوية بالأرض فأسرعت للاعلى حيث سمعت صوت الاصطدام وهي فَزِعة وهالها ما رأت، فقد كانت منى ملقاة على الأرض وهي تمسك بناحية صدرها اليسرى بشدة وعينيها فزعتان متسعتان على آخرهما والاحمرار يكاد بغطي على لونهما الحقيقي وهي تشير للخزانة المفتوحة الفارغة من الملابس. وهي تناضل لأخذ أنفاسها بصعوبة. هرعت إليها مارية وجلة وسرعان ما شرعت في إنقاذها كطبيبة محترفة ولكن ضربات قلب مارية كانت تدق فوق العادة. كانت دائما ما تشعر بالخوف على كل مرضاها ولكن تلك المرة منى ليست مريضتها، منى بالفعل شخص عزيز عليها. بعد ان هدأت أنفاس منى أسرعت مارية لأقرب مكان لشراء المستلزمات الطبية التي تحتاجها لإكمال اسعافها ورجعت مرة أخرى للمنزل وظلت بجوارها وهي تعلق لها بعض المحاليل منتظرة حتى تنتهي وتختبر وظائفها الحيوية. ودون ان تشعر سقطت في سبات على هذا المقعد الغير مريح وانتفضت على صوت غلق الباب فأسرعت كالنمرة الثائرة لتصب جام غضبها على يوسف وطريقة معاملته لوالدته.
وبادرته حين رأته
_" بذمتك انت بني آدم انت؟؟"
رفع حاجبيه مندهشا من وجودها في منزله ثم وكأنه أدرك شيئا ما قال فزعا
_" ماما كويسة جرالها حاجة هناك ايه اللي حصل عملتي فيها ايه" وأسرع متوجها لحجرة والدته ولكنه لم يجدها فعاد مرة أخرى إلى مارية التي عقدت ذراعيها أمام صدرها ناظرة إليه بحنق وهي تقف على ساقيها بصعوبة. جذبها من مرفقها بحدة
_" ردي عليا فين ماما وانتي ايه اللي مقعدك هنا عملتي فيها ايه؟!"
نزعت ذراعها من يده بحدة وهي تحاول أخفاض صوتها ليحذو حذوها
_" مامتك ماستحملتش انها تزعلك وجت جري وراك بعد ما سيادتك قفلت تيلفونك ولما جت ملقتش حد ف البيت وشافت الدولاب فاضي ضغطها ارتفع وكانت هتجيلها أزمة قلبية وكانت هتروح فيها بسببك" امتقع وجه يوسف وكأن روحه تُسحب منه حرفيا. ابتلع ريقه وحاول التحدث
_" انا .. انا دولابي كده من ساعة ما سافرت .. طب ..طب هي ف مستشفى ايه دلوقتي" قالها وهو يبحث عن مفاتيح سيارته التي ألقاها فور مجيئة وهو لا يدري اين يبحث تحديدا.
_" متتعبش نفسك هي هنا فوق في الاوضة دي" وأشارت إلى حجرته، فدلف بسرعة وهو يقول
_" انتي ازاي تسيبيها كده مودتهاش المستشفى ل... "
وحين رآها محاطة بالمحاليل استند إلى الباب وكأنه لا يستطيع الوقوف بالفعل. وانحنى ظهره كمن يحمل أثقالا اودت بكتفيه نحو الأرض. لم تتوقع مارية ان تراه بهذه الحالة وهي التي قد تعودت منه على الجمود والتكبر ولكنه الآن كطفل صغير تاه عن أمه. عيناه معلقتان بكل تفاصيلها. لا تعلم لماذا كانت على وشك البكاء؟!! هل يصعب عليها أن ترى هذا الرجل الشديد يكاد يبكي؟! أم أن احساس فقدان الأم يؤثر بها هي شخصيا!!!
لم يتزحزح يوسف طوال الليل من مكانه على المقعد المقابل للسرير الذي تنام به والدته على الرغم من محاولات مارية أن تحثه للذهاب للنوم ولكنه كان يرفض بحزم ودون حتى أن يتكلم أو ينبس ببنت شفة.
غفت مارية على الاريكة خارج الغرفة وقد كانت تضبط المنبه خاصتها حتى تتابع سير المحلول في عروق عزيزتها منى.
داعب نور الصباح الغائم وجه مارية وكأنه يشعر بثقل تلك الليلة، مطت جسدها الملتوي على تلك الأريكة وهي تفتح عينيها ببطء لتجد نفسها مغطاة بغطاء سميك كملمس الدببة ولكن وزنه خفيف لدرجة ان لم تشعر به او حتى تشعر بمن غطاها به. ابتسمت قليلا يبدو أن يوسف ليس كمان تظن متعجرف بلا احساس تشعر انها قد ظلمته قليلا. اتسعت عينيها على آخرهما وهي تنهر نفسها على عقلها السارح في أشياء غريبة ونسيت منى ومرضها. هبت واقفة وهي تمسح وجهها بيديها وتدلف للغرفة بسرعة ووجهها يكاد يكون شاحباً إلا أنها وبمجرد دخولها زفرت ارتياحا لرؤيتها منى تحتضن يدي يوسف وكلاهما يبتسمان ويتحدثان بحميمية.
التفتت إليها منى
_" مارية تعالي ادخلي مالك مخضوضة كده ليه انا كويسة متقلقيش"
دلفت مارية وهي تمسك بإحدى يديها لتستشعر النبض وباليد الأخرى تتابع سير آخر قطرات المحلول وتقول:
_" الحمد لله على سلامتك خضتيني عليكي اوي امبارح بجد"
_منى" لا متقلقيش انا بقيت زي العفريتة حتى بصي" واعتدلت منى لتقف الأ ان يوسف منعها بحزم:
_" لا لا لاااااا انسي مفيش حركة من السرير لحد م الدكنور يجي ويطمني عليكي بنفسه"
تحدثت مارية لتطمئنه على حالتها إلا أنه قاطعها بتعجرفه المعهود:
_" انا قولت لما الدكتور بتاعها يجي هو عارف حالتها ومتابعها من الألف للياء ومتشكرين منك جدا تعبناكي لحد كده" ثم أخرج دفتر شيكات وكتب مبلغا يضاهي مرتبها الشهري وهو يقول:
_" انا عارف ان الدكاترة هنا مرتبهم مش قليل بس اعتقد دول كفاية عليكي وشكرا مرة تانية"
عضت منى شفتيها على ذلك الموقف المحرج لمارية وهي لا تستطيع التفوه ببنت شفة فهي مازالت تحت تأثير ليلة أمس وما حدث من يوسف حين غضب منها لا تستطيع أن تغامر مرة أخرى ومن أجل مارية أيضًا!!!
نظرت له مارية ببرود وهي تكاد تنفجر بداخلها مثل البارود:
_" اولا فعلا انا مرتبي أعلى من كده بكتير ، ثانيا مفيش حاجة تساوي عندي إني انقذ حياة إنسان خصوصا لو كان عزيز عليا زي منى. بس أنا لو لقيت أي بني آدم في الموقف دا هاكون جنبه زي ما عملت مع منى بالظبط حتى لو البني آدم دا معندوش احساس او ذوق"
ثم استدارت خارجة بغضب وهي تلملم أشيائها وتدون بعض الاشياء في ورقة جانبيه ثم التفتت إلى منى وهي تحاول الابتسام :
_" الف سلامة عليكي يا منمن لما يجي الدكتور بتاعك انا كتبتله تشخيصي وكل الادوية والحاجات اللي اديتهالك" ثم نظرت إلى يوسف وهي تكمل حديثها :
_" لو فيه أي غلط تقدروا تشتكوا مني في إدارة الصحة عادي " لوت فمها ثم غادرت مسرعة وهي تكاد تسب نفسها
(انا اللي غلطانة اني بتكلم معاك أصلا انت واحد حيوان عديم الاحساس عاملي فيها فاهم ف كل حاجة. والله لولا منى كنت ضربتك بأي حاجة ف ايدي.
ركبت سيارتها وانطلقت من فورها محدثة صوتا عاليا يكاد يضاهي صوت غضبها الداخلي.
بعد سويعات قليلة دلف الطبيب المتابع لحالة منى إلى الغرفة وبدأ بفحصها وهو يسأل:
"Who gave you these medicine?"
_" مين اللي ادالك الادوية دي؟"
تحدث يوسف قائلا بشك:
There was a doctor with her when that happened"
_" كان معاها دكتورة لما حصل اللي حصل" ثم مد له يده بالورقة التي كتبتها مارية وهو متحفز كالأسد الذي وجد فريسته أخيرا :
_" Here is a list of the medicine she had given to mum"
_" دي قايمة بكل الادوية اللي اديتها لماما"
أكمل وهو مازال على تحفزه:
_"If there is anything wrong please let me know"
_" اذا كان فيه أي خطأ لو سمحت قولي"
تمعن الطبيب في الورقة جيدا ثم مط شفتيه قائلا:
_" mmmmm of course I will"
_" اممممم بالطبع هابلغك!!!"
