رواية سارقة الهوي
الفصل الواحد والعشرون 21
بقلم مني السيد
بخطى حثيثة خرجت مارية من الحمام متوجهة إلى غرفتها وشعرها ينثر على وجهها نقاط المياه البلورية التي نزلت ترسم على رقبتها خطًا يجري سريعًا وكأنه في سباق للمسها. وفجأة اشتبكت منشفتها الكبيرة ذات الشراشف المتشابكة بمقعد السفرة فمنعتها من الانزلاق عن جسدها بأعجوبة وهي تشد المنشفة العالقة وتحاول تحريرها بمنتهى القوة.
انحلت عقدة المنشفة لتندفع فجأة بظهرها للوراء وتجد نفسها تصطدم بحائط صلد، حائط دافئ، حائط يحتويها بذراعيه خوفا من سقوطها كعادته .. وكعادتها!!
لم تكن تجرؤ على الالتفاف لمواجهة هذا الحائط الذي تشعر بضربات قلبه تدق في ظهرها الملاصق لصدره، مستريحة باحتوائها هكذا، منعمة بدفء جسده عكس جسدها الذي بدأ في الارتجاف طمعا في المزيد من الدفء!!
وبصوت متحشرج يبدو انه عانى كثيرا لإخراجه:
-" مينفعش تخرجي من الحمام كده تاني"
أومأت برأسها وهي ما تزال في نفس موضعها فأردف بصوت خفيض وهو يقترب من أذنها مغمض العينين ليأخذ نفسا من عبقها دون أن تشعر هي بذلك:
-" طب يالا اتفضلي روحي على اوضتك"
-" رمشت بعينيها عدة مرات وهي تهز رأسها ولكنها لم تتحرك قيد أنملة
-"مارية عشان خاطري روحي على اوضتك ارجوكي"
كانت نبرة الرجاء في صوته تزيد من وهنها وارتعاشة ساقيها فنطقت أخيرا:
-" انا لو اتحركت خطوة واحدة بس البشكير هيقع"
أخذ يوسف نفسا عميقا للمرة الثانية ولكنها شعرت هذه المرة بأنفاسه تلهب بشرة كتفيها.
تحدث يوسف أخيرا وقد اختفى صوته تقريبا:
-" انا هادخل اوضتي دقيقة واخرج ملاقيكيش"
هزت رأسها بسرعة مذعنة وابتعد هو بروية وللوهلة الأولى شعرت بالبرودة تسري في جميع أنحاء جسدها حين ترك مكانه فارغا، سمعت صوت اغلاق باب غرفته فابتلعت لعابها بصعوبة وأخذت تلملم منشفتها ثم فرت هاربة إلى غرفتها !!
كانت تود لو أنها تقيم في غرفتها للعام القادم. كيف ستخرج أمامه بعد ما حدث كيف سنتظر في وجهه؟ كيف ستقاوم عدم لمسه مرة أخرى؟
حمدت الله ان عينيها لم تلامس عيناه وهي في هذه الحالة وأن ظهرها فقط هو من شعر بدفء جسده. ابعدت تلك الأفكار بسرعة عن ذهنها وتذكرت ان الطعام مازال على الموقد فذهبت مسرعة إلى المطبخ وأخذت تحضر الطعام وهي تفكر كيف ستجلس معه على منضدة واحدة بعد ما حدث منذ قليل!!
سمعت منى صوت جلبة الأطباق فأسرعت تخرج من غرفتها :
-" ايه يا ميرو خلاص الاكل استوى ؟ !"
تلعثمت مارية قليلا :
-" هه .. ااه .. ايوة استوى"
-" مالك يا حبيبتي فيه حاجة؟!"
-" لا ابدا مفيش "
كانت وجنتاها مازالتا على احمرارهما وهي ترمق باب حجرة يوسف بين الفينة والأخرى إلى أن انفتح الباب فاعتدلت بسرعة تخفي وجهها خجلا وتعطيه ظهرها ولكنها حين فعلت ذلك تسمر الاثنان مكانهما على ذكرى ناعمة حدثت بالكاد منذ دقائق!!
-" فيه ايه ياولاد مالكم متسمرين كده ليه هو فيه ايه بالظبط"
أسرعت مارية دون كلام إلى المطبخ مرة أخرى تحضر باقي الأطباق وجلس الجميع على السفرة ومارية لا تستطيع حتى ازدراد لعابها !!
-" انتو مالكم بالظبط هو دا يا ميرو المحشي اللي هتموتي وتاكليه"
أسرعت مارية تضع الطعام في فمها :
-" اهو يا منمن والله طعمه تحفة بجد"
-" بالهنا والشفا يا حبيبتي وانت يا يوسف أكلك عجبك"
تنحنح قليلا قبل أن يتكلم :
-" هو انتي مستنية رأيي يعني مانتي عارفة ان كل أكلك تحفة واني مبقدرش اقاومه"
انسحبت مارية من لسانها دون أن تفكر:
-" ولما هو كده امال مش بتاكل المحشي ليه ماهو بردو من عمايل ايديها !!"
نظر بداخل عينيها مما أربكها وجعلها تندم على نطقها لتلك الكلمات.
وتحدثت منى :
-" ما تجرب تدوقه يا يوسف هيعجبك اوي بجد"
نظرت له مارية بنظرات متحدية لا تعلم لماذا كل هذا العناد على تلك الأشياء التافهة الا ان ذلك يمتعها كثيرا !!
ودون أن يطرف بنظره عن عينيها .... وشفتيها .. قال :
-" هادوق" وغرز شوكته في طبقها وأخذ قطعة من الملفوف على فمه مباشرة وأخذ يمضغها بتروٍ وبنفس التروي قال:
-" عشان خاطرك اعمل اي حاجة" احمرت وجنتاها اكثر من ذي قبل حتى أصبحت كحبتي طماطم في حين التفت هو إلى والدته التي تشاهد ما يحدث بتعجب
-" صح يا ماما مش انا عشان خاطرك اعمل اي حاجة!!"
-" طبعا يا حبيبي المهم عجبك الكرنب؟!
-" جميل يا حبيبتي تسلم ايدك" ثم تحول صوته إلى الجدية فجأة والتفت يوجه حديثه لمارية:
-" ما تتقليش في الاكل اوي عشان لسه هنروح المطعم اللي قال عليه رأفت بالليل"
-" ايوة ايوة حاضر متقلقش انا عارفة انا بعمل ايه"
-" اخر مرة قولتي كده فيها قضينا الليلة في المستشفى"
تحدثت مارية بعصبية
-" يعني اقوم من ع الاكل يعني عشان تستريح"
لم يعرها اهتماما وكأنها لم تتحدث وكأن اللحظة الحالمة التي مرت بهم منذ قليل لم تحدث من الاساس !!
أكملت طبقها عنوة ثم دخلت غرفتها غاضبة متسائلة كيف يتحول من حال الى حال كيف ينظر في عينيها حتى يذيبها في لحظة، ثم في اللحظة الأخرى يتجاهلها وكأنها لم تكن !!
********************
طرقات على باب الشقة كانت تعلم صاحبتها وسمعت يوسف يفتح لها باب الشقة مرحبا بيشاشة عكس حاله منذ قليل مما أغاظها أكثر:
-" اهلا اهلا ازيك يا نادين عاملة ايه احنا بجد مش عارفين نشكرك ازاي"
رددت نادين بخيبة أمل وهي تحاول اخفاء انحراف شفتيها المضمومتان بخيبة:
-" على ايه يااستاذ يوسف مانت قولت قبل كده احنا اخوات!!"
-" هو انا اطول يبقا عندي اخت امورة كده زيك "
احمرت وجنتا نادين على الرغم من غضبها من مسألة الأخوة هذه، وكانت قد قررت أن تحول هذه الأخوة لشئ آخر وستصبر حتى النهاية حتى تحقق مبتغاها!!
أشار إليها يوسف للدخول لغرفة مارية :
-" اتفضلي مريم جوا في اوضتها"
توجهت نادين لحجرة مارية ثم طرقت الباب ففتحت الأخيرة باب حجرتها لتجد كلا من يوسف ونادين أمام الباب.
كان الحزن يخيم على مارية فرحبت بنادين بقليل من الحزن:
-" اهلا يا نادين اتفضلي انا متشكرة بجد انك بتطلعي تديني الحقنة دنا نفسي بنسى معادها"
نادين-" هو انا اقدر انساكو بردو"
رفعت مارية إحدى حاجبيها في عدم ارتياح لقد ظنت انها انتهت من دلال نادين حين أخبرها يوسف بأنهم جميعا أخوة ولكن يبدو أن الأمر لم ينتهي بالنسبة لها!!
-"تعالي يا نادين ادخلي"
دلفت نادين ورأت ملابس مارية التي كانت تجهزها للخروج ليلا.
-" ايه دا انتي خارجة ولا ايه؟"
-" ايوة خارجة بالليل مع يوسف "
-" امممم يابختك والله بيوسف دا بيفسح اخته ويخرجها امال هيعمل ايه مع مراته هيييييح بقااا"
قذفت مارية بالكوفية التي كانت في يدها على الفراش بعنف:
-" ميغركيش منظره دا رخم وبارد ومتحكم "
-" اخص عليكي ازاي تقولي عليه كده دا قمر وعسل وبعدين دا احلى حاجة المتحكم دا تحسي انه بيشكمك"
-" بي... ايه؟؟؟
قهقهت نادين -" لا مش هاعرف اشرحهالك دي بس يعني تحسي كده انه راجل وحمش كده وكلمته بتمشي ع الكبير والصغير"
-" هو انا فهمت الأولى عشان افهم التانية"
كانت نادين تحضر الحقنة وهي تتحدث مع مارية
-" الا قوليلي يا مريم هو انتي ازاي مبتعرفيش عربي كويس كده قصدي الكلام المصري يعني مع ان اخوكي ومامتك عادي"
تلعثمت مارية :
-" هه أ .. أصل يوسف اتولد هنا وعاش هنا شوية انما انا اتولدت هناك وانتي عارفة بقا السعودية مفيهاش كلام كتير وكده فتلاقيني مش بفهم نص الكلام بس بحاول اهو احفظ الحاجات اللي مش عرفاها"
هزت نادين رأسها بعدم اقتناع ثم قالت:
-" يالا لفي بقا عشان اديكي الحقنة"
استدارت مارية وهي تلهث وتكاد تبكي:-" بالراحة والنبي يا نادين عشان خاطري"
-" هو انا عمري وجعتك ولا انتي كل مرة هتعمليلي الحبتين دول يابنتي اجمدي"
أغمضت مارية عينيها بشدة وعي تقول -" حاضر حاضر اهو" وكتمت أنفاسها كمن يخاف أن تنغرز به سكينًا
بعد ان انتهت نادين:
-" يالا ياستي خلصنا"
-" ايه دا بجد خلاص كده"
-" كل يوم تقولي نفس الكلام ، سيبك بقا من الحقنة والدلع بتاعك دا ، بقولك ايه انا بكرة يوم اجازتي وهاخرج مع اصحابي نتغدى ونتفسح بكرة ايه رأيك تيجي معانا"
اتسعت عينا مارية فرحًا :
-" بجد انا ممكن اجي معاكي انتي واصحابك بجد "
-" اه والله امال انا بقولك ليه استأذني من يوسف وهستناكي بكرة ننزل سوا ع الساعة ٥ كده ايه رأيك "
-" اوكيه اتفقنا بكرة هاتلاقيني على بابكم الساعة ٥ بالدقيقة "
-" طب مش لما تستأذني من يوسف الاول ولا صحيح انا نسيت دا طيب ومبيرفضلكوش طلب"
قلبت مارية شفتيها
-"هو انا لازم يعني استأذن منه"
ضحكت نادين وهي تلملم أشيائها
-" هو انتي جديدة في الاخوية يا بنتي ولا ايه "
-" لا أصل يعني انتي عارفة في السعودية مفيش خروج وكده والحاجات دي جديدة عليا"
-" ايوة صح تمام خلاص شوفي هيقولك ايه وبلغيني "
-" خلاص اوكيه"
*********************
في المساء ارتدت فستانا مزركشا بالورود الصغيرة يتخطى ركبتها بقليل وعليه حذاء عالي الرقبة وتلف رقبتها بكوفية تتماشى مع ألوان الفستان الذي يحدث بأنوثتها ولا حرج، وأسدلت شعرها خلف الكوفية مع جاكيت خفيف قصير وهي تقول :
-" انا جاهزة يالا بينا"
ظل واقفا قليلا وكأنما يقيمها ثم تحدث أخيرا بكلمة مقتضبة دون أن يبدي رأيه :
-" يالا"
وصلا إلى المطعم وهي تسأله:
-" احنا متفقناش هنفتح كلام في الموضوع ازاي ادام الراجل"
-" احنا مبنتفقش اصلا!!"
قطبت حاجبيها لماذا يعاملها هكذا ماذا حدث لكل ذلك ؟!
اخذت نفسا عميقا ثم دلفت إلى داخل المطعم وجلست حيث نصحها رأفت. رفع يوسف إحدى حاجبيه:
-" دانتي حافظة كلامه بالمللي اهو"
تجاهلته مارية وكأنه لم يتحدث وأخذت تبحث عن الرجل الذي رأته في الصورة إلى أن وجدته:
-" اهو الراجل موجود اهو اروح اقف جنبه واعمل كأني بتكلم في التيلفون وبدور على شغل وكده"
-" لا استني مش هينفع كده"
زفرت مارية :
-" امال ازاي هو ليه كل الامور لازم تمشي بمزاجك يعني، عاوز تبقا حمش؟!"
نظر إليها ببرود ثم وجه أنظاره نحو قائمة الطعام وهو يقول بلا مبالاه:
-" لا عاوز ابقا رخم وبارد ومتحكم"
عضت شفتيها، وفهمت أنه سمع حديثها مع نادين !!
-" انا كان لازم اقولها كده على فكرة مش هما الاخوات بيبقوا غلسين مع بعض كده ومش طايقين بعض، انا اسمع كده يعني"
نظر إليها بطرف عينيه متجاهلا تبريرها:
-" هتاخدي ايه"
-" انت معندكش اخوات زيي اكيد مش هتعرف"
-" لا كان عندي !!"
اتسعت عيناها وارتفع حاجباها دهشة
-" ايه دا بجد كان ولد ولا بنت وراح فين ؟"
-" كانت بنت واسمها مريم !! احنا عملنالك بطاقة وباسبور بورقها على فكرة "
-" طب يعني انت بتقول كان .. ايه اللي حصل يعني"
"اتوفت في حادثة هي وبابا الله يرحمهم الاتنين"
ارتخت كل ملامحها وتحولت من الدهشة إلى الحزن :
-" يا حرام الله يرحمهم عشان كده منى بتخاف عليك اوي صح"
هز رأسه موافقا:
-" وانا كمان بتجنن لو دبوس شكها بس"
ابتسمت ابتسامه عريضة وهي تضع يدها على خدها وتنظر إليه بصميمية:
-" ربنا يخليكو لبعض "
ظل محدقا في ابتسامتها ولمعة عينيها لبرهة ثم نظر لقائمة الطعام التي لم يرى او يقرأ ما فيها من الأصل ثم اردف:
-" وعلى فكرة مفيش خروج بكرة مع نادين"
تأهبت كنمرة متمردة مستعدة للانقضاض :
-" نعم نعم هو ايه اللي مفيش خروج بكرة وانت مالك اصلا ولا انت عاوز تعمل زي ما هي بتقول وتكرمشني"
ضحك من قلبه يغيظها :
-" اكرمشك ايه بس اسمها اشكمك "
-" نسيب بقا الموضوع الاساسي ونمسك ف كلامكو اللي انا مش عارفاه دا انا هاخرج بكرة يعني هاخرج بكرة"
لمح يوسف الشخص المطلوب وهو يقترب منهما ولا يلتفت إليهما فقال مسرعًا :
-" وموضوع الشغل دا تنسيه تماما انتي فاهمة"
فغرت فاهها غير فاهمة :
-" نعم والشغل كمان امال احنا جايين ن... " قاطعت نظراته كلماتها، وسمعت أحدهم يتكلم خلفها لأحد النادلات ففهمت على الفور:
-" انت عاوزني بعد كل السنين اللي قضيتها بدرس طب دي اقعد في البيت ، انا دكتورة يا استاذ فاهم يعني ايه دكتورة حرام عليك اضيع مستقبلي وتقعدني جنبك في البيت بعد التعب دا كله"
-" هو كده انا معنديش اخوات يروحو يباتو في مستشفيات وناس خارجة وناس داخلة عليهم"
كادت مارية تبكي من شدة تفاعلها مع الموقف :
-" يعني ايه امال انا كنت بدرس ليه حرام عليك كده امال هاشتغل فين انا مقدرش افتح عيادة وانا لسه مبتدئة "
-" اهو هو دا اللي عندي بقا مفيش شغل في مستشفيات وخلاص"
-" طب قولي انت هاشتغل فين طيب لو مشتغلتش في مستشفيات حرام عليك يا يوسف"
-" انا قولت اللي عندي"
هبت مارية واقفة وكانت دموعها بالفعل انهمرت تأثرا بجدية يوسف، واستدارت مسرعة فاصطدمت بذاك الواقف خلفهم يباشر العمل ويستمع إلى حديثهم
-" آسفة بعد اذنك " وفرت هاربة إلى الحمام وأخذت تبكي بشدة لا تعلم لماذا بكت ولم كل هذا التأثر، يبدو انها كانت تبحث عن حجة للبكاء فأرجوحة يوسف تشعرها بالغثيان العاطفي. فهي تارة لا تستطيع التوقف عن التفكير به، وتارة أخرى تفكر كيف تنقض عليه انقضاضا. إلى جانب أنها بالفعل افتقدت كل شئ في حياتها ويزداد شعورها بالوحدة كلما مرت الايام ولا تعلم هل ما قاله يوسف من عدم خروجها مع نادين حقيقة أم جزء من هذه التمثيلية التي انقلبت ضدا عليها وجعلتها تبكي ثم فكرت هل يا ترى ستؤتي هذه المسرحية ثمارها ويعرض عليها الرجل العمل أم أن هذا التقمص كله ضاع هباءًا!!!
