رواية سارقة الهوي
الفصل التاسع والثلاثون 39
بقلم مني السيد
-" انتي اتجننتي يا نادين هنا ازاي بس؟!!"
-" يابنتي اسمعيني .. أولا محدش عمره هيتوقع ان انتي عندي او حتى في المنطقة كله هيدور بعيد، ثانيا ودا الأهم هتقدري تشوفي يوسف وتتطمني عليه وفي نفس الوقت تقعدي بالراحة كده وترتبي افكارك من ناحية مامتك وكده .. ايه رأيك؟!"
قامت نادين من جانب مارية وأبعدت الحقيبة من الجانب الآخر وجلست مكانها واردفت :
-" واديكي شايفة بابا مسافر في شغله في البحر ومش عارفة هيجي امتى وانا قاعدة لوحدي وليكي عليا مش هضايقك خالص واهو احنا الاتنين نجرب احساس الأخت ونشوف هنتخانق ونضرب بعض ولا هنحكي لبعض على كل حاجة قبل ما ننام"
لمعت عيناهما معًا وبدأت مارية تستسيغ الفكرة خاصة وانها ستكون بالقرب من يوسف. ستراه كل يوم من وراء الشباك .... ستطمئن عليه.... ستتأكد بمرور الأيام انه سينساها !!! لابد وان ينساها ليكمل حياته لابد أن تتأكد بنفسها أنه نسيها لتمضي في طريقها المجهول !!!
هزت رأسها بتردد فقفزت نادين فَرِحة وهي تصفق بكلتا يديها ثم انهالت عليها احتضانًا وتقبيلًا.
***************************
في ڤيلا حامد فخري
كانت شهيرة تزرع الأرض جيئة وذهابا وهي تفرك بيديها دون أن تتكلم وعيناها تدوران وكأنهما على وشك الخروج من محجريهما. وصمت رهيب يخيم على المكان إلا من وقع خطواتها المضطربة.
نفث حامد بنفاذ صبر ثم تكلم أخيرًا :
-" انتي شايفة أن اللي بتعمليه دا هيوصلنا لحاجة يعني؟!!"
شقت شهيرة الصمت المطبق بصراخها غير المتوقع:
-" أنا مش شايفة حاجة ومش عارفة حاجة ولأول مرة ف حياتي ابقا مش عارفة اعمل حاجة ولا حتى افكر!!"
-" طب تعالي نشوفها ف الفنادق ولا حاجة"
-" مش هتروح عشان عارفة اني هلاقيها هناك بسهولة هي عاوزة تهرب مني مش عاوزاني يا حامد مش عاوزاني"
ألقت كلماتها الأخيرة وهي تشحذ أنفاسها من داخل صدرها كمن يجاهد لإنتزاع قطنة بيضاء من أشواك غصن جاف تعلق بها غصبًا.
اقترب منها حامد محتضنًا إياها برقة :
-" وليه متقوليش أنها خايفة، أو زعلانة، أو حتى متلخبطة!!"
نظرت له من بين ضباب دموعها :
-" خايفة ؟؟! خايفة مني أنا .... طب زعلانة مني ليه؟! ومتلخبطة من ايه احنا ما صدقنا لقينا بعض"
-" خايفة من الوضع الجديد اللي عمرها ما اتخيلته لانها طول عمرها عارفة ان مامتها ماتت وزعلانة من ابوها، وكمان الست اللي كانت فكراها زي أمها وكمان ممكن تكون زعلانة منك انك عرفتي ومقولتلهاش ، وبعدين انتي مش شايفة ان كل الحاجات اللي هي فيها دي تلخبط"
اندست شهيرة بين ذراعي حامد لأول مرة منذ زواجهما كقطة متجمدة وجدت ملجأها وكأن الأخير كان بانتظار هذه اللحظة فضم ذراعيه أكثر حولها مطمئنا. تمتمت شهيرة من بين غصة حلقها بوهن:
-" طب هنعمل ايه دلوقتي يا حامد معقولة هاسيبها بعد ما لاقيتها ... يعني كنت بدور عليها شبر شبر في ايطاليا وتيجي مصر هنا وتضيع مني ؟!!
-" متقلقيش هنلاقيها إن شاء الله هنلاقيها"
رن هاتفها ولم يتحرك حامد ليجعلها تتفقده فانسحبت بهدوء قائلة:
-" هاشوف مين "
-" الو ... ايوة يا يوسف ... لا لسه مفيش اي اخبار...تمام .. حاضر لو فيه اي حاجة هبلغك"
تنهدت وعادت مكانها باكية:
-" حتى يوسف اهو ميعرفش حاجة عنها!!
**********************
-" وآخرة اللي بتعمله دا يا يوسف ايه انت مش مدرك اللي بيحصل حواليك؟!"
-" ايه يا ماما اللي بيحصل حواليا ؟! إن البني آدمة اللي عاشت معانا فوق الست شهور مش لاقينها ومش عارفين هي فين!!!"
-" يا يوسف دا مستقبلك يا حبيبي اللي بتضحي بيه دا "
هب يوسف من مكانه حانقًا وهو يقول:
-" يووووه يا ماما ماله مستقبلي !! انا بس عاوز اتطمن عليها الله"
رفعت منى حاجبيها ثم دلتهما فوق عينيها ببؤس:
-" أول مرة تتصرف معايا بالطريقة دي يا يوسف "
زفر يوسف ثم أخذ نفسًا عميقا واقترب من والدته بندم:
-" انا آسف يا ماما بجد ارجوكي اتحمليني شوية انا تعبان مش قادر اتنفس يا أمي"
-" للدرجة دي يا يوسف ؟؟!"
هب واقفًا مرة أخرى ثم تنهد:
-" انا داخل انام"
جلست منى متحسرة هي تعلم أنه يحبها وهي أيضا تعشقها ولكن الموضوع هنا هو مستقبل يوسف الذي ظل يبني فيه لسنوات طوال، مستقبل يوسف الذي تحملت فيه فرقته لسنوات وحتى حينما اجتمعا ذاقت معه وبال الغربة وعاد عقلها ليذكرها بإن مارية هي التي هونت عليهما معا ذاك الشعور. هي بين نارين حبها لمارية وتعاطفها مع ظروفها وفي نفس الوقت تهديدها لمستقبل يوسف بالرجوع إلى حتى ما قبل الصفر لطالما حلمت بإبنها كسفير وحتى قد شطحت بأحلامها لتراه وزيرا في يوم من الأيام ولكن لا يوجد وزير حماه مسجون في قضية آثار!!!
************************
شدت الفتاتان الغطاء حولهما ونادين تشعر بالسعادة الغامرة لوجود مارية معها ولو حتى على سبيل التجربة ليومين فقط.
أما الأخيرة فكانت تشعر بالغربة والغرابة!!
-" تفتكري يا نادين ايه اللي هيحصل ف حياتي تاني؟؟ طب انا هارجع امريكا ولا هافضل هنا وهعمل ايه هنا ك؟! ولا حتى هنا؟؟؟؟؟؟؟""
تحدثت نادين بمرح
-" هايحصل ايه يعني ياما دقت ع الراس طبول يعني هتشوفي ايه اكتر من البلاوي اللي انتي فيها دي!!"
نظرت لها مارية بجمود ثم ودون إرادة منها قهقهت ضاحكة من كلمات وتعابير وجه نادين:
-" والله عندك حق هيحصل ايه اكتر من اللي حصل !!"
-" الا قوليلي يا مرمر هو انتي ف امريكا يعني عمرك ما حبيتي ولا كان فيه حد كده ولا كده؟!"
ضحكت مارية للمرة الثانية :
-" لا للاسف انا كان عندي حاجز من الرجالة من طريقة تعامل بابا معايا وكنت حاسة ان كل الرجالة زيه لحد ما في يوم...... بصيت ف عيونه كنت زي اللي اتكهربت وانا بين ايديه وهو بيحاول يسندني عشان ماقعش ، اول مرة حد يسندني يا نادين!!"
-" طبعا الكلام دا كله على سي يوسف مش كده "
ابتسمت مارية ابتسامة حالمة وفي نفس الوقت يائسة ثم تنهدت قائلة:
-" هو يا نادين هو "
-" طب احكيلك انا بقا على حبعمري"
ضحكت مارية على طريقة نادين ف نطق الكلمتين المنفصلتين وحاولت تقليدها:
-" قولي ياختي على حبعمرك"
اعتدلت نادين ف الفراش وهي تنظر ف الفراغ بنظرات جوفاء:
-" بصي يا ستي كان ظابط كبير اوي وقيما وسيما كده ولبسه كله كان سينليه"
صححت لها مارية:
-" سينييه"
-" ايوة ايوة هو دا المهم شافني مرة لما كنت بشتغل في ال.... ترددت قليلا ثم أردفت في المستشفى الخاص اول ما اتخرجت من مدرسة التمريض كانت امه عيانة ويومها فضل يبصلي ف الرايحة والجاية بعد ما اتطمن على امه وبعدين طلب رقمي عشان لو امه احتاجت حاجة في البيت يعني اعلقلها كانيولا اديها إبرة كده يعني"
اعتدلت مارية هي الأخرى في فراشها متمتمة:
-" هاا"
-"وبعدين فضل بقا يكلمني ويقولي اد ايه انا جميلة وانه حبني من اول دقيقة واد ايه اتعلق بيا لحد ما في يوم كلمني وقالي ان مامته تعبانة ومحتاجة حد يعلق لها محلول قولت بقا فرصة عشان مامته تتعرف بيا وتحبني بقا وكده"
-" ها ومامته دي طلعت ست كويسة؟!"
-" لأ طلعت ست مش موجودة"
-" ايه دا يعني ايه؟!"
-" يعني جابني البيت وهو فاضي امه مكنتش موجودة ولا حد خالص وطبعا انتي عارفة كان عاوز ايه؟"
-" يا خبرررررر وانتي عملتي ايه اديتيله اللي هو عاوزه؟!"
-" اتلمي يامارية هو احنا ف امريكا هنا ولا ايه"
-" لا مقصدش يعني اقصد ايه اللي حصل طيب؟!"
ترقرقت الدموع في مقلتي نادين وهي تسرد وكأن الجرح مازال يؤلمها جسدًا وروحًا:
-" قاومت طبعا وعلى اد ما كنت بحبه ونفسي يلمسني ويحضني ويبوسني زي اي بنت على اد ما حسيت يومها بالنفور والكره ليه ولكل لمسه لمسهالي.
زقيته بعيد وانا بحاول الملم في نفسي عارفة قالي ايه لما لقاني بقاومه بجد مش بتدلع يعني ولا حاجة؟"
-" قالك ايه؟"
-" قالي احمدي ربنا اني بصيت لحتة ممرضة معفنة زيك انتي تطولي واحد زيي كان يعبرك لا وكمان فكراني هاتجوزك ولا ايه انتي مش شايفة انك متليقيش بيا ولا بعيلتي!!!"
انهمرت دموعها فجأة وكأنما كانت تحبسها منذ حدث ذلك الحادث الأليم!
تحركت مارية نحوها محتضنة اياها وهي تربت على كتفها :
-" خلاص اهدي اهدي يا نادين كلب وراح هو اللي ميستاهلش ولا يليق بواحدة ف جمالك ورقتك وطيبة قلبك"
كفكفت نادين دموعها ثم ابتسمت صامدة:
-" يالا على رأيك كلب وراح ابن الوارمة دا بس بعد ما علقني بيه ٨ شهور بحالهم"
-" هي مامته كانت وارمة فعلا؟"
ضربتها نادين بالوسادة :
-" نامي يا مارية نامي انا مفياش حيل اقعد افهمك دي شتيمة يا حبيبتي شتيمة"
ضربتها مارية بوسادتها هي الأخرى وهي تقول:
-" مش كان حلم من أحلامك نضرب بعض اهو ادي الأخوة ظهرت على حقيقتها اهي وبنضرب بعض قومي بقا خدي حقك مني هه"
وانقلب المشهد الدرامي إلى مشهد كوميدي بقدرة مارية الخارقة وظلت الفتاتان تقهقهان طوال الليل إلى أن راحتا في سبات عميق.
*************************************
في الصباح وفور خروج نادين من شقتها وجدت من يقف حائلا بينها وبين بوابة العمارة المهترئة ويحجز عنها الشمس بطوله الفارع.
اقترب منها متسائلًا :
-" لو سمحتي .... هو الاستاذ يوسف ساكن هنا صح؟!"
بعد عدة لحظات من التحديق في ذلك الممشوق رمشت نادين بعينيها ثم قالت:
-" مين حضرتك وعاوز ايه؟"
-" وانتي مالك ... انا سألتك سؤال محدد يا تعرفي إجابته يا لأ"
انتفخت فتحي أنف نادين واستعدت للرد في حين أردف قبل ان تنفث دخانها :
-" بس من الواضح انه ساكن هنا وإلا مكنتيش سألتيني عاوز ايه ممكن بقا تقوليلي ساكن ف انهي دور"
-" بما أن حضرتك فكيك اوي كده ولقطتها وهي طايرة ف ممكن تخبط على باب باب وتستخدم ذكائك اللامحدود دا وتعرف هو ف أنهي دور"
رفع حاجبيه غير متوقع لذلك الرد وتلك المعاملة الفظة بعد تلك النظرات الهائمة منها في أول الأمر.
ازاحته نادين بيدها ثم حاول المرور إلا أنه منعها بجسده مرة أخرى متسائلًا:
-" انتي تعرفي مريم؟!هي موجودة دلوقتي؟!"
-" عادت ادراجها مرتبكة وهي تسأله بشك :
-" ودي عاوز منها ايه دي كمان؟! وانت مين أصلا كده جاي تطقس عن كل اللي ف البيت"
-" اتطقس!!!"
قلدته نادين محاكيةً لعجرفته :
-" اه تطقس "
-" انتي شكلك لمضة ومش هتفيديني روحي شوفي شغلك"
وأفسح لها الطريق لتعبر فوقفت مكانها قائلة:
-" وانت شكلك نهارك مش فايت النهاردة يا تقول انت عاوز ايه يا تورينا عرض كتافك"
-" انتي قليلة الذوق اوي على فكرة دنا حتى ف بيتكم"
أشارت لباب منزلها :
-"قليلة الذوق في عينك ما تنقي كلامك يا استاذ انت وبعدين باب بيتنا اهو وانت براه يعني مش ضيف وعازمينك مثلا، لكن انت حد متطفل وانا مش مستريحالك بصراحة، وبعدين انت لو تعرف الاستاذ يوسف ما ترن عليه هو يقولك هو ساكن فين واذا كان أصلا يرضى يستقبلك أو لأ"
رفع حاجبيه بتعجرف ثم قال:
-" انتي شكلك مش عارفة انتي بتتكلمي مع مين"
وكأنه ضغط على زر الانفجار الخاص بها صرخت نادين:
-" هو كل واحد شايف نفسه هيقولي انتي مش عارفة بتكلمي مين !!
احسنلك تمشي من هنا دلوقتي بدل ما اعرفك انت بتتكلم مع مين
والم عليك اهل الحتة واخليهم يعرفوك كمان هما مين"
أشار إليها بسبابته دون أن يتحدث واستدار خارجا وقبل أن يخرج التفت إليها مرة أخرى قائلًا:
-"هشوفك تاني على فكرة"
عقدت ذراعيها حول بعضهما وردت بنفس تعجرفه:
-" ماظنش"
ارتدى نظارته ثم دلف إلى سيارته الرياضية وانطلق بها.
تأففت نادين :
-" كتك القرف وانت حليوة بس يا خسارة الحلو ميكملش دا ايه الحظ دا ياربي بس"
زفرت مقطبة وتوجهت إلى عملها وهي تفكر في آلامها التي حكتها لمارية بالأمس ليتجسد لها الماضي بنفس كلماته في هيئة ذاك الوسيم البغيض!!
***************************
في صباح اليوم التالي
كانت نادين تستعد للذهاب إلى عملها بعد ليلة أخرى من الحديث الطويل مع مارية وحكاياتها الهائمة عن وفي يوسف !!
- "بقولك ايه نادو انا بفكر افتح تيلفوني و...."
وقبل أن تتم حديثها قاطعتها نادين:
-" اوعي تعملي كده لأن هتوصل رسايل لكل اللي ...."
وقبل أن تتم حديثها هي الأخرى كان هاتف مارية يرن وانتفضت الأخيرة وألقت الهاتف من يدها ليقع أرضًا وهو مازال يصرخ والمتصل طبعًا معروف!!
صرخت مارية هي الأخرى :
-" اعمل ايه ... اعمل ايه انا دلوقتي ارد ولا مرودش ولا اعمل ايه"
-" انتي ايه اللي خلاكي تفتحيييييه بقولك هتوصل رسايل لكل اللي اتصلوا بيكي ولقوه مقفول"
أجابت مارية بذعر:
-" وانا كنت اعرف منين طيب يعني
كانت نادين تحاول الحفاظ على هدوئها ولكن بلا جدوى فظلت تصرخ فيها بصوتٍ عال:
-" اهدي اهديييي"
إلى أن صمت رنين الهاتف وصمتت الفتاتان معه صمتٌ قاتل ليكسر حاجز الصمت طرقات هادئة على الباب!!
