رواية سارقة الهوي
الفصل الثامن عشر 18
بقلم مني السيد
وكأن لا أحد لديه الاستعداد لفتح الباب وافساد تلك اللحظة، تثاقل يوسف وهو ينهض لفتح الباب لنادين التي كانت كالعادة تحمل صينية من الطعام.
وبعيون خجلة تحدثت نادين
-" ازيك يا استاذ يوسف انا حضرتلكم النهاردة شوية كشك انما ايه هاتكلوا صوابعكم وراهم"
-" بتتعبي نفسك انتي والله يا نادين بس حقيقي مفيش داعي لكل دا احنا خلاص بدأنا نستقر ووضبنا حاجتنا وهنعمل أكل وكل حاجة دنا حتى مامتي طباخة بريمو"
-" يعني هاتكسفني يا استاذ يوسف !! ثم شمشمت بأنفها وهي تقول :
-" انت لسه موضبتوش الشقة ولا ايه دي شكلها عاوزة تنضيفة محترمة"
هنا تدخلت منى بنفاذ صبر :
-" لا يا نادين يا حبيبتي دي مش ريحة الشقة الشقة نضيفة وزي الفل دي ريحة الفسيخ اتفضلي معانا"
شبت نادين على قدميها لترى منى وتقول:
-" اهلا ازي حضرتك يا طنط انا آسفة والله مكانش قصدي "
ابتعد يوسف عن مستوى رؤيتها ليسمح لها بالحديث مع والدته فانتهزت الفرصة ودلفت تضع الصينية على السفرة
-" خلاص ابقوا كلوه بالليل لسه الوقت بدري"
تدخلت مارية بحدة:
-" لا الاحسن تشيليه يا نادين لانه اولا مش لايق على لاكل اللي هناكله وثانيا احنا اكيد مش هناكل الحاجات دي بالليل"
نظرت لها نادين ممتعضة وهي ترى الأطباق وامام كلٍ من مارية ومنى الفسيخ ولا يوجد في طبق يوسف الا التونة فاستمرت في الحديث وكأن مارية لم تتحدث من الأصل وقالت:
-" ايه دا شكلك مبتحبش الفسيخ يا استاذ يوسف؟!"
أجابها يوسف :
-" ايوة فعلا انا مبحبش الفسيخ"
تحدثت وهي تنظر لمارية بنظرة متعالية :
-" شوفت بقا انا جيت ف وقتي ازاي زي ما يكون قلبي بيحس بيك"
رمت مارية منديلها التي كانت تستعد لتضعه على ساقيها بعنف على الطبق فاحدث دويا ونظر الجميع إليها وتحدث يوسف متخلصا من هذا الموقف :
-" خلاص يا نادين سيبي الاكل هنا بس من فضلك متتعبيش نفسك تاني اديكي شايفة احنا كل واحد بياكل اللي بيحبه هنا"
تركت نادين الصينية وهي مغلوبة على أمرها ثم قالت وهي ترجع ضفيرتها الكستنائية الرائعة إلى الوراء :
-" خلاص اسيبكم انا بقا تاكلوا بالهنا والشفا"
واستأذنت للخروج وأوصلها يوسف حتى الباب ثم عاد ليجلس على السفرة وهو يرى مارية قد اعتدلت لتواجهه بنظرات متحدية وكأنها تقول ( وريني بقا هتاكل من انهي طبق)
نظر لها يوسف باستغراب :
-" فيه ايه مالك ؟"
-" لا ابدا كُل "
-" منا هاكل"
-" طب يالا .... اتفضل"
تحدثت مارية وكأنها تتوعده اذا مد يده في طبق نادين نظر إليها مطولا وإلى والدته التي تنظر إليهما في تسلي وكأنما يوسف في اختبار من سيربح المليون وفي انتظار إجابته على السؤال الأخير ثم نطق البسملة وبدأ يأكل من طبق التونة خاصته!!!
فاعتدل الجميع وكأنه احسن الإجابة وربح المليون وبدأوا في الأكل براحة.
*************************
في المساء ارتدت مارية ملابس مريحة ثم فتحت باب غرفتها وهي متوقعة وجود منى بالخارج تشاهد التلفاز كعادتها في هذا الوقت ولكنها وجدت يوسف وحده هو من يشاهده. انتبه لها فور خروجها من حجرتها ناظرا إليها منتظرا ما ستقوله!!
-" امال فين منمن ؟؟ في اوضتها؟"
وأشارت إلى حجرة منى وهي تتوجه إليها فاستوقفها يوسف :
-" ايوة في اوضتها بس نايمة"
توقفت مارية في منتصف الطريق وقد تهدل كتفاها في خيبة أمل:
-" مش من عادتها يعني تنام في الوقت دا!"
أجابها بوسف ساخرا:
-" ما هو الديناميت اللي انتو كلتوه دا ينيم جمل انا افتكرتك انتي كمان نمتي انتي ازاي منمتيش ؟"
-" أصل انا كان نفسي اوي اتمشى ع الكورنيش وكنت متحمسة اوي وعشان كده معرفتش انام انا عاوزة اخرج واشوف البلد وكان نفسي منى تكون معايا بس خلاص مش مشكلة المرة الجاية بقا نبقا نخرج سوا " ثم توجهت إلى باب المنزل فاستوقفها يوسف للمرة الثانية :
-" ايه ايه انتي رايحة فين؟ "
وببساطة أجابت :
-" نازلة"
هب يوسف واقفا :
-" نازلة رايحة فين؟"
-" الله منا لسه قيلالك نازلة اتمشى على الكورنيش"
-" لا مفيش نزول "
قذفت حقيبتها الصغيرة إلى الأرض واندفعت باتجاهه وكأنها متسابق في حلبة مصارعة واقتربت منه وهي تضغط على أسنانها وتضع يديها في خصرها محاولة السيطرة على غضبها :
-" نعم قول تاني كده"
التقط يوسف مفاتيحه وهاتفه ثم قال:
-" مفيش نزول لوحدك انا نازل معاكي انا كمان عاوز اتمشى شوية"
وكأن شلالا توقف فجأة عن الجريان توقفت دماءها المندفعة عن السريان !!
-" ا...انت هتنزل معايا"
-" ايوة فيه ايه مالك ينفع بردو اسيب اختي تنزل تتمشى لوحدها كده وترجع متأخر!!"
-" اهاااا اختك اااه طيب يالا بينا "
وخرج الاثنان ولم ينس يوسف ان يبعث برسالة لوالدته تطمئنها على مكانهم حين تصحو من النوم.
كانت مارية تتقافز في الشارع وكأنها لا يكفيها المشي:
-" الله انا فرحانة اوي اوي عارف انا كان ممكن ادفع نص عمري واتمشى التمشية دي من زمان "
قهقه يوسف :
-" ولا تدفعي نص عمرك ولا حاجة اديني بمشيكي اهو من غير ما تدفعي مليم، بس عدي الجمايل"
ضحكت مارية:
-" حاضر هاعدها كده يبقا واحد اهو "
-" انتي فلاسة اوي واحد ايه بس دنا من أول يوم شوفتك فيه وانا ليا عليكي جمايل"
توترت مارية وهي تفهم مقصده وبدأ وجهها في التجهم فانتبه يوسف لذلك فصحح قائلا:
-" مش سندتك وخليتك متوقعيش ولا ناسية !!"
تذكرت مارية ولامت نفسها على تفكيرها السئ به هل كان يقصد ذلك فعلا ام يقصد شيئًا آخر!!
-" وتاني مرة سندتك بردو يوم الحفلة"
قفزت مندهشة:
-" ايه دا انت عرفتني في الحفلة!!"
-" طبعا يا قطة ولا اكمنك كنتي لابسة قطة فكراني مكنتش هاعرفك!!"
توقفت لتواجهه :
-" ازاي دانت مشوفتنيش غير مرة واحدة وكانت يادوب ثواني"
ودون أي تفكير ردد يوسف :
-" عيونك!!"
ظلا الاثنان متوقفان وكلا منهما يسرح في الآخر وعيني يوسف لا تبرح عن خاصتها!!
استدرك يوسف نفسه سريعا ثم التف إلى الي الخلف وكأنه يكمل طريقه بالرغم من أنهما كانا يسيرا للأمام.
-" انا اقصد ان الحسنة اللي في عيونك يعني كانت علامة مميزة عشان كده افتكرتك وعرفتك"
لم تتفوه مارية بكلمة وكأن كلمة عيونك السابقة أغنتها عن أي كلمات أخرى وظلت صامته كما فعل هو الآخر إلى أن وجد عربة صغيرة تبيع الحمص فسألها:
-" دوقتي الحلبسة قبل كده؟"
ضحكت مارية وهي تعتقد انه يستهزئ بها :
-" ايه دا ايه حلبسة دي فيه حاجة اسمها كده بجد ولا انت بتهزر؟!"
-" لا والله دي أكله بجد انتي بتحبي الشطة؟!"
-" اها بحبها، هي دي أكله فيها شطة؟!"
-" ايوة ايوة تعالي ادوقهالك"
ظلت مارية تأكلها بشراهة وهي تتكلم والحمص في فمها :
-" امممم اممم اممم الحلوسة دي اختراااع تحفة اوي تجنن"
قهقه يوسف :
-" لا لا احفظي كويس بقا اسمها الحلبسة بال ب "
-" ايوة ايوة خلاص حفظتها حلا بسة"
-" ايوة تمام كده بس قوليها على بعضها بقا حلبسة"
قالتها مارية بطريقة صحيحة تلك المرة:
-" هي منى بتحبها الحلبسة دي؟!"
-" اه بتحبها وبتعرف تعملها كمان "
-" الله بقا دانا هاهيص في الحلبسة دي "
أخذ منها بوسف كوبها يبعده عنها :
-" كفاية بقا انتي أكلتي منها كتير اوي عشان بطنك متوجعكيش"
مسحت فمها بمنديل ثم قالت:
-" ايوة صح ماشي تمام يالا بقا عشان نحلي" نظر إليها يوسف باندهاش :
-" نحلي؟؟! انتي بتودي الاكل اللي بتاكليه دا كله فين انتي لسه فيكي نفس تاكلي"
-" ايوة انا بحب الاكل يالا بقا هتعزمني ولا فلست ولا ايه "
ضحك يوسف وهو يوجهها لمكان الحلى :
-" ماهو الصراحة بطريقة اكلك دي شكلنا هنفلس قريب "
-" شوفت بقا كان عندي حق ازاي اقولك نتقاسم في المصروف انا عارفة نفسي"
ضحك يوسف وكأنه لا يريد تعكير صفو هذا اليوم والدخول في نقاشات عقيمة:
-" لا ياستي كلي براحتك متقلقيش مستورة الحمد لله وبعدين انتي كل اللي الاكل اللي بتحبيه اكل رخيص مش هنفلس من شوية حلبسة يعني "
-" انت عارف الحلبسة دي فيها شوية من دقة الكشري، وكأنها تذكرت شيئا :
-" الكشريييييي!!!! انا بقالي ياما اوي مأكلتوش كانت نؤنؤ بتعملهولي ف البيت تعالا ناكله والنبي يا يوسف"
شعر انه أمام طفلة وهي ترجوه بهده الطريقة:
-" ايوة بس انتي كده هتلخبطي الدنيا وبطنك هتوجعك بجد احنا لسه مخلصناش البسبوسة اللي ف ايدينا"
-" لا لا متقلقش انا نفسي فيه اوي وبطني مادام عارفة ان انا نفسي فيه مش هتوجعني"
ضحك يوسف ملئ فيه :
-" يا سلاااام بطنك عارفة طب يالا يا مجنونة"
وبالفعل ذهبا إلى مطعم الكشري ومارية تأكل بتلذذ وتقول ليوسف:
-" فايتك نص عمرك والله جرب حتى تاخد طبق صغير"
-" لا لا مقدرش انا بطني متعرفش اللي بطنك تعرفه انتي دكتورة وعارفة تظبطي السيستم بتاعك انا لا"
ضحكت مارية ونادت على النادل بعد ان انتهت من طبقها وهي تقول:
-" واحد رز بلبن بقا "
نظر لها يوسف مندهشا :
-" مارية اهدي شوية كده هاتتعبي بجد وبعدين احنا لسه قاعدين في مصر يعني عندك وقت تاكلي كل حاجة"
كان وقع اسمها بصوته كأنه موسيقى راقصة أو هادئة لا تعلم ولكنه يبعث شعورا لذيذا يسرى في انحائها حين ينطقه.
-" خلاص والله دا آخر حاجة وهنروح ونجيب شوية رز بلبن لمنمن كمان عشان عيب ناكل كل دا ومنجبلهاش "
-" خلاص اوكيه يالا بينا"
***********************
في الطريق للمنزل شعرت مارية ببعض التوعك في معدتها إلا انها ابت البوح بذلك حتى لا يصدق كلام يوسف ويؤنبها مرة أخرى على كل ما التهمته من طعام. طمأنت نفسها قليلا بأنها وفور وصولها ستأخذ دواءا مما جلبته معها من امريكا. سلمت على منى وهي تشعر بمعدتها تمزق نفسها ثم استأذنت لدخول حجرتها وما إن أغلقت الباب حتى فتحته مرة أخرى وهي تهرع إلى الحمام ممسكة ببطنها وفمها في آن واحد. هرع كلا من منى ويوسف خلفها:
-" فيه يا حبيبتي مالك ايه اللي حصل انت اكلتها ايه يا يوسف ايه اللي حصل"
تحدث يوسف بقلق:
-" استني بس يا ماما لما نشوف مالها "
وطرق الباب عدة طرقات وهو يسمع صوت تقيؤها ولكنها لا تجيبه.
-" ردي عليا يا مارية انتي كويسة ردي لو سمحتي لو مردتيش هادخل انا بقولك اهو"
لم تستطع إجابته فقد كانت معدتها كساحة حرب بالسيوف وكأنما تُطعن من الداخل. لم يجد يوسف بدا من فتح الباب فوجدها تحاول التماسك امام الحوض وهي مازالت تتقيأ. امسك بشعرها يرجعه إلى الوراء ويحاول تهدئتها وهو يربت على ظهرها بخفة:
-" متخافيش .. متخافيش انا معاكي"
صرخت من بين لهاثها :
-" اطلع برا مش عاوزة حد يشوفني كده"
بلل يده بالماء وأخذ يمسح على وجهها ويهدئها:
-" مش هسيبك الا لما ترتاحي "
كانت عيناها تزوغ في دوائر كتلك التي تدور في رأسها وفجأة سقطت مغشيا عليها !!!
