رواية سارقة الهوي
الفصل السادس عشر 16
بقلم مني السيد
دبت مارية على الأرض بقدميها فهي لا تستطيع الصبر على هذا الجوع الذي استبد بها وفي نفس الوقت تشعر انها اذا انصاعت لكلامه ستخضع لكل ما يقول بعد ذلك!!
تدخلت منى بسرعة :
-" بصي يا ميرو احنا ناكل دلوقتي احسن انا السكر بتاعي خلااااص هيغم عليا وانتي عارفة انا قولتلك اننا لازم احنا التلاتة نكون ع السفرة دا القانون الاول للبيت دا وبعد الغدا نبقا نقعد مع بعض كلنا ونفهم ونشوف الدنيا هتمشي ازاي ايه رأيك؟؟ يالا بقا عشان خاطري يرضيكي صحتي تتأثر واتعب يعني"
وكأنما اهدتها منى حجة للموافقة، فهي بالفعل لم تكن تستطيع معارضتها في اي شئ كلاهما تعلمان مدى حب الواحدة للأخرى.
-" عشان خاطرك انتي بس يا منمن وعشان خاطر صحتك بس"رمقت يوسف بنظرة جانبية غاضبة ثم جلست تتناول الطعام.
بعد انتهائها اخذت مارية تزيل الاطباق ولم تلمس الاطباق الخاصة بنادين نظر إليها يوسف بتعالي ثم حمل اطباقه بنفسه وذهب بها خلفها إلى المطبخ وقبل ان يسرع خارجا استوقفته:
-" عجبتك الملوخية بالارنب"
ابتسم رافعا احدى حاجبيه:
-" بصي هو انا مبحبش الاكل بارد واضطريت استناكم عشان ناكل مع بعض فالأكل كان برد خالص "
اعتدلت في وقفتها مبتسمة وهي تستعد لقوله أن الطعام لم يعجبه.
فاستطرد قائلا:
-" بس مع ذلك الأكل كان تحفففة، حقيقي بجد تسلم ايديها"
ضغطت مارية على أسنانها ثم تركت الاطباق بعنف فأحدثت صوتا مفجعا للغاية فصرخت منى قلقة:
-" فيه ايه يا ولاد ايه اللي وقع حاسبوا لا حد يتعور"
-" لا متقلقيش يا ماما دي بس ميرو مش عارفة تحط الاطباق فوق بعض كويس"
وتركها مع غيظها وذهب ليجلس مع والدته يتسامران وشعرت أن تدليله لها بهذا الاسم يغيظها أكثر مما يفرحها، فاستأذنت لتكمل ترتيب حجرتها وملابسها.
ولأول مرة تشعر بالحنين لنهال ولوالدتها معا، تشعر أنه ينقصها شئ ما!! وكأن قلبها أُخذت منه قطعة ويستمر النزيف من مكان هذه القطعة المفقودة!!
طرقت منى باب غرفتها فمسحت دموعها بسرعة وأذنت لها بالدخول.
جلست منى على حافة السرير وهي تقول :
-" ايه دا ايه دا ايه دا الجميل بيعيط ليه عشان غلاسة يوسف؟؟! متزعليش منه هو بس بيحب يناغشك"
-" لا ابدا يا منمن يوسف ايه وبتاع ايه " واستدركت نفسها حين اضطربت ملامح منى من هذا الاستهزاء بابنها فأكملت:
-" انا بس حاسة اني غريبة وماما وحشتني اوي ومش هعرف حتى اكلمها"
اقتربت منها منى تحتضنها بصدق :
-" ايه غريبة دي !! انا مش عاوزة اسمع الكلمة دي تاني ابدا انتي بقيتي واحدة مننا خلاص ولو ع الام وحنان الام تعالي يابت اما اديكي شوية حنان تعالي هنا" وبدأت منى تدغدغها في كل انحاء جسدها ومارية تحاول الهروب وصوت ضحكاتها تملأ المكان وكأنها فقدت السيطرة تماما.
انفتح الباب فجأة وبعنف ويوسف يقف كباب آخر بذلك الطول وتلك العضلات وتقطيبة حاجبيه المخيفة اسكتت كلتاهما وكأن الطير حط على رأسيهما !!
-" ايه الصوت دا انتي نسيتي نفسك ولا ايه احنا في مصر، في شارع وسط ناس وجيران، ايه صوت الضحك والمرقعة دي"
اغمضت مارية عينيها وهي تنهض ببطء وكأنما تحارب جسدها الضئيل من الانقضاض عليه :
-" اولا انا معملتش فرقعة ثانيا ايه يعني لما اضحك هو الضحك ممنوع في مصر يعني ولا ايه، هما كل المصريين كشريين زيك كده"
اقترب منها بعنف فارتدت للوراء لاارديا ونهرت نفسها لتلك الحركة الغبية في حين كان الشرر يتطاير من عينيه وهو يقول:
-" انتي قليلة الادب وشكلك ملقتيش أم تربيكي ومرات ابوكي دي دلعتك عشان تفضي دماغها ، لكن هنا مفيش دلع ومرقعة انتي فاهمة"
صدمته كلماتها وتلميحاته بأنها بدون أم حقيقية تحسن تربيتها. لم تتحدث، لم تثر، لم يعلو صوتها كما توقع الجميع. كل ما فعلته أنها ظلت تحدق فيه دون أن تنبس ببنت كلمة ودون أن تشيح نظرها عنه بنظرة يملؤها الألم وعيون مغرورقتين تكاد تفيض بدموعها لولا محاولاتها الصمود!
لم يعلم لماذا ندم على كلماته في التو واللحظة لماذا أصلا يؤذيها بكلماته لماذا يتصيد لها الأخطاء. كان جل ما يريده في هذه اللحظة أن يعتذر!!! بل أن يأخذها بين ذراعيه نادمًا متأسفا على مافعله للتو. ولكن جزءا منه يأبى إطاعة قلبه فتحرك مسرعا في اتجاه الباب ثم التفت وقال لها موجزا :
-" اعملي حسابك تصحي بدري بكرة احنا رايحين مشوار مهم الصبح "
وصفق الباب خلفه!!!
اقتربت منها منى في ترقب وهي تحاول مواساتها عما حدث منذ قليل فأسرعت تضع يديها الاثنتان أمامها تمنعها من الاقتراب:
-" انا كويسة ... انا كويسة يا منى مفيش حاجة بس بعد اذنك محتاجة ارتاح"
هزت منى رأسها في ألم على حال تلك المسكينة وخرجت بهدوء متوجهة إلى غرفة يوسف الذي وجدته قد أطفأ الانوار ووضع الوسادة فوق رأسه. هي تعلم أنه يفعل ذلك حين يكون متضايق أو متعب نفسيا، ولكن لا لن تقف مكتوفة الايدي وتصمت على تلك المعاملة التي يعاملها بها فأشعلت النور وأغلقت الباب ورفعت الوسادة بحزم وهي تقول:
-" قوم كلمني قووووم انت بتعمل كده ليه بتعاملها كده ليه هي عملتلك ايه عشان كل دا"
بهدوء عكس ما يتحمل الموقف أجاب:
-" لو سمحتي يا ماما انا عاوز انام عشان هاصحى بدري بكرة"
وحاول أخذ الوسادة مرة أخرى ولكن منى منعته:
-" استنى هنا مفيش نوم قبل ما افهم انت بتعمل معاها كده ليه مش حاببها ليه مع انها بنت حلوة وكويسة"
زفر يوسف بحنق:
-" مش حاببها يا ماما مش حاببها اعمل ايه طيب يعني"
نظرت له منى بشك:
-"لييييه طيب؟"
-" اهو هو كده مش طايقها"
-" ماشي يا يوسف انا مش هاقدر اتدخل ف قلبك واقولك حبها ولا متحبهاش لكن على الاقل عاملها كويس مفيش داعي لتوتر الاعصاب دا كل شوية ، ولاحظ انها هنا لوحدها ملهاش حد واحنا المفروض نكون جنبها خصوصا انها جاية هنا عشان خاطرك وخاطر شغلك"
-" هي مش جاية هنا عشان خاطري ولا حاجة هي جاية عشان هي شاهدة في قضية كبيرة زيي زيها بالظبط وأصلا انا عملت فيها جميل اني جبتها هنا، حياتها كانت في خطر اصلا هناك يعني المفروض تتلم وتعرف ان احنا اصحاب فضل عليها"
نهرته منى بصوت مرتفع:
-" يوسف ماااالك انا اول مرة اشوفك بتتعامل بالحدية دي مع حد وايه الغرور اللي انت فيه دا انت عمرك ما كنت كده ولو هي فعلا زي ما انت بتقول زيها زيك يبقا مش انت اللي عملتلها كده، اللي جابوك هنا هما اللي جابوها يعني انت متفضلتش عليها بحاجة"
لو تعلم والدته أنه هو من أصر على حضورها إلى مصر بل على وجودها معهم خصيصا كعائلة واحدة ماذا عساها تقول؟؟! هو نفسه لا يستطيع تفسير ذلك لنفسه فكيف يفسر لها !!!
************
في الصباح كان يوسف يرتدي ملابسه وخرج من حجرته وهو متجهم الوجه ليجد والدته تحضر الفطور فقال باقتضاب:
-" صباح الخير"
كشرت منى وجهها بشكل مضحك وهي تقلده:
-" صباح النور"
لم يلتفت لمزاح امه وسأل بحذر:
-" هي صحيت ولا لسه؟!"
لم تجبه والدته كمن لم تسمعه فأعاد السؤال بملل:
-" يا ماما ردي عليا هي صحيت ولا لسه هنستنى بقا لما تفوق وتاخد حمام وتلبس وتظبط نفسها انا مش عارف ايه اللي انا عملته في نفسي دا والله"
في هذه الاثناء كانت مارية تخرج بكامل هيئتها وترتدي زي رسمي عبارة عن بنطال اسود وچاكيت يماثله سوادا وترفع شعرها كعادتها في ذيل حصان ولكن لأعلى هذه المرة مما أضفى عليها مزيدا من الجدية والإباء ولأول مرة كانت تضع كحلا لعينيها يزيد من جمالها ويظهر طول رموشها مع تلك الحسنة المميزة بجانب احدى عينيها. تلك الحسنة التي جعلته لا يستطيع نسيان تلك العينان، وتلك الرموش، وتلك الجميلة التي يقف أمام جمالها البسيط مشدوها لا يستطيع التفوه ببنت كلمة. وهي تبادله بنظرات يملؤها التحدي وكانت هي أول من تحدث بعد برهة من الصمت المقيت:
-" انا جاهزة! يالا بينا ؟!"
قالتها بثقة وهي تتساءل وكأنه هو من سيؤخرهم بعد وصلة التذمر التي قالها منذ قليل.
تنحنح ليفيق نفسه قليلا ثم قال بصوت متحشرج وباقتضاب:
-" ايوة يالا بسرعة"
تدخلت منى معترضة:
-" ايه دا مش هتفطروا، امال انا واقفة بحضر كل دا لمين"
مالت مارية على خدها تقبلها وهي تأخذ قطعة من الخيار وتبتسم لها وكأنها شخص آخر غير التي كانت تتحدث بتجهم منذ قليل:
-" معلش يا منمن مشوار مهم اوي ومش هنتأخر وهنرجع نتغدى مع بعض وهاجيبلك أكله حلوة وانا راجعة اعملي حسابك على كده بقا انا اللي عازماكي النهاردة"
ونظرت ليوسف نظرة جانبية ذات معنى لتتحداه وكأنها تعلن الحرب!!
كانت الساعة تدق التاسعة صباحا وهما مازالا ينتظران منذ قرابة الساعة في هذا المكتب!! وبعد ساعة أخرى من الصمت كان كلا منهما كبركان يغلي ويفور وينتظر كلمة من احدهما لينفجر في وجه الآخر إلى ان دلف رجلا تبدو عليه الهيبة ويتبعه شابا صغيرا كظله ويحمل له حقيبته وسط نظرات ممتعضة من مارية وقد نالت ساعات الانتظار من هدوئها ونفذ صبرها وتكاد تفتك بهذا الشخص الذي طال انتظارهم له وما زاد من حنقها تلك النظرات الشرهة التي يرمقها بها وهو يمد إليها يده ويشد عليها طويلا:
-" اهلا اهلا اهلا دا ايه النور دا ايه الجمال اللي ع الصبح دا"
سحبت يدها من يده بصعوبة ولم تلحظ المارد الذي يكاد ينفجر بجانبها وتحدثت بعصبية:
-" احنا قربنا نبقا الضهر على فكرة "
وببرود متناهي أجاب الرجل:
-" ايه دا هو انتو جايين من بدري؟!"
رفعت مارية حاجبيها وهي تكاد تسب وتنظر له بذهول وهو يسلم على يوسف ويجلس على مكتبه براحة ويقول:
-" سوري بس شكلكم جيتو بدري اوي"
هنا تدخل يوسف بنفاذ صبر:
-" ممكن ندخل في المهم لو سمحت"
تضايق الشخص من طريقة يوسف فارجع ظهره للوراء وهو يقول بتعالي:
-"طيب في الاول احب اعرفكم بنفسي انا العقيد رأفت زايد مقدم في قطاع الأمن الوطني وانا اللي هاشتغل معاكم في القضية دي"!!!!!!
