رواية سارقة الهوي
الفصل الرابع عشر 14
بقلم مني السيد
في مطار القاهرة كانت منى تعدو عدوا وتدب الأرض بقدميها فرحا، ويوسف يدفع الحقائب التي تبدو كهرم رابع ويكاد لا يظهر من خلفها. وجه حديثه لمارية وهو ينظر لحقيبتها المفتوحة بغضب وتدلى منها سماعات الطائرة:
-" ايه اللي ف شنطتك دا؟ انتي اخدتي سماعات الطيارة معاكي؟!
تلعثمت مارية :
-" دي سماعات يعني مش حاجة غالية انا أصلا نسيتها في التيلفون يعني مش قصدي"
نظر إليها يوسف بغضب وهو يزفر:
-" السماعات دي أصلا مبتدخلش ف التيلفون دا انتي مش بتكلمي حد عبيط "
وحاول أن ينهي الموضوع حين رأى احمرار عينيها وقد كانت على وشك البكاء فاستطرد:
-" وبعدين انتي ايه الشنط اللي جايباها دي كلها انتي مهاجرة!!"
انساقت مارية مع تغيير الموضوع فقد كانت بالفعل تشعر بالحماس فها هي قد حققت أمنية عزيزة عليها بأن تزور مصر وما لبثت أن قالت :
-" دنا سايبة نص حاجتي هناك دا غير اني لسه هاشتري حاجات بقا من هنا واقولك على سر كمان انا واخدة شنطة من شنط بابا دا لما يعرف مش بعيد يجي هنا يقتلني" ثم ضحكت ضحكة ندم وأردفت -" الله يكون في عون نؤنؤ بقا هي اللي هتاخد الزعيق والبهدلة كلها"
كانت تتكلم بمرح طفولي كمن يذهب في رحلة مدرسية لأول مرة. وهو يتعجب من تحولاتها المفاجئة بين البكاء والمرح:
-" لا مفيش الكلام دا"
-" عبست بوجهها وهي تنظر إليه :
-" هو ايه اللي مفيش الكلام دا، دا ابويا وانا عارفاه"
-" لا أنا قصدي على انك هتشتري حاجات من هنا مفيش الكلام دا"
-" انت بتهزر أكيد !! يعني ايه مفيش الكلام دا انت هاتتحكم فيا من أولها؟؟"
ترك يوسف سلة الحقائب الضخمة والتف إليها بكامل جسده:
-" هو انتي ليه واخده كل حاجة انها تحكم ومش عاوزة تفهمي الظروف اللي احنا فيها احنا جايين هنا على اساس اننا نازلين من السعودية نهائي عشان مفيش فلوس تقوليلي انتي هاشتري حاجات وبعدين احنا هنعيش وهنسكن في حتة فقيرة عشان منبانش وسط الناس ومش عاوز اي مظهر من مظاهر الغنى يبان عليكي دا غير انك مش هتستخدمي اي حسابات بنكية او حتى كريديت كارد باسمك الحقيقي نهائي هنا فهمتي ولا بردو دماغك متربسة انه تحكم" ثم همهم بصوت مسموع
-" عملالي فيها فيمنست وعمالة تعترض وخلاص"
كانت مارية تفكر في ما قاله يوسف للتو وشعرت ان لديه كل الحق فيما يقول ولكن همهمته الأخيرة جعلتها تتوقف في منتصف الطريق غاضبة
-" هو ايه اللي انت بتقوله دا انا مسمحلكش"
زفر يوسف ثم امسك بمقبض السلة ليدفع الحقائب مرة أخرى وبدأ في المضي قدما دون أن يعيرها انتباها، ظلت على حالة غضبها وهي واقفة حتى نادت منى عليهما بلهفة:
-" يالا يالا ياولاد انتو بتتملكعوا كده ليه؟!"
تحركت مارية غصبا وأسرعت لتلحق بمنى وقررت ألا ترافق أو تتحدث مع يوسف فكلما تكلما كلما زاد غضبها!!
-" منمن ... هو يعني بتتعكعوا"
أطلقت منى ضحكة عالية :
-" اسمها بتتملكعوا مش معرفش ايه اللي انتي قولتيه دا ومعناها بتدلعوا يعني"
-" لا انا مكنتش بتدلع هو ابنك دا بيعرف يدلع!!
ضحكت منى مرة أخرى :
-" مش قصدي الدلع دا قصدي يعني بتمشوا براحة وتقفوا وتأخرونا كده يعني"
هزت مارية رأسها :
-" اااااه"
غمزتها منى بحركة خبيثة بعض الشئ
-" وعلى فكرة يوسف بيعرف يدلع اوي ميغركيش منظره"
تلعثمت مارية وشعرت بغباء ما قالته منذ قليل:
-" لا لا انا مش قصدي كده .. ا انا قصدييي..."
حدثتها منى بجدية وكأنها تصدقها :
-" -" ايوة ايوة انا عارفة ان مش قصدك كده طبعا امااال"
فضّلت مارية الصمت فكلما نطقت كلما غاصت في بحور متلاطمة مع هذا اليوسف !!!
******************
كان المساء قد حل عندما وصلت السيارة إلى شارع ضيق غير ممهد يكسوه التراب والعمارات وكأنها تحتضن بعضها في صفوف غير متوازية او حتى متساوية ولكن حمدا لله فالبناية التي سيسكنون فيها تطل على شارع دائري واسع إلى حد ما. وشرع يوسف يحمل الحقائب وحاولت مارية مساعدته فنهرها بحزم:
-" متشليش حاجة اطلعي اقعدي فوق انتي وماما وانا هاجيب الشنط كلها "
-" ايوة بس انا عاوزة اساعدك أو اشيل شنطي انا على الاقل"
جز على أسنانه :
-" وانا مش عاوز مساعده اسمعي الكلام مرة واحدة ف حياتك"
تنهدت حانقة:
-" طيب انت حر" والتفت تساعد منى في الخروج من السيارة حين وصل إلى مسامعها صوت ناعم يأتي من نافذة الدور الأرضي
-" بصي يابت يا سلمى الواد مز وعضلات ازاي الصراحة قمر قمر"
نهرتها صديقتها :
-" يابت اسكتي لا يسمعك"
تنهدت الأولى حالمة وهي ترد -" ياريييييت"
تركت مارية يد منى بعنف والتفتت تنظر لتلك الفتاة بغضب يكاد ينتزعها من مكانها"
فاحمرت وجنتا الفتاة في حين تكلمت صديقتها بهمس :
-" شوفتي اهم سمعوكي ويالهوي بقا لو اللي سمعتك دي تبقا مراته هتبقا عيشتك سودا"
-"تفي من بؤك دا مش لابس دبلة وبعدين انا سمعت من عم علي السمسار اللي أجرلهم الشقة ان واحدة ست كبيرة وعيالها كبار هيسكنوا ف الشقة يعني دي اكيد أخته"
-" ولما هي أخته بتبصلك بغيط كده ليه دي شكلها هتولع فيكي"
-" ماهي دي بقا هتبقا عمة عيالي الحرباية " وانطلقتا في الضحك لدرجة أن يوسف لاحظهما فاندفعت الفتاتان للداخل خجلا.
كانت مارية تستشيط غضبا من حديث الفتاتان وهي تنظر ليوسف بغيظ
(على ايه يعني عمالين يتكلموا عليك كده ، عشان وسيم حبتين وعندك شوية عضلات ولا عشان طويل وليك هيبة ولا يمكن عشان دقنك الجديدة اللي تجنن دي)
انتزعها يوسف من شرودها في ملامحه:
-" ايه بتصوريني ولا ايه "
ارتفع صوتها فجأة:
-" ايه دا ايييه دا وسع وسع كده عشان مش عارفين نعدي"
نظر لها يوسف بعدم فهم وهو يتمتم :
-" دي مجنونة دي ولا ايه"
ومن خلف النافذة الخشبية سمعت قهقهات الفتاتان واحداهما تقول:
-" مش قولتلك عمتو الحرباية "
بعد أن وصلتا لشقتهما في الدور الأول
-" ادخلي انتي يا منمن ريحي احنا جايين من لفة طويلة اوي تحبي افضيلك الشنط بتاعتك"
-" لا يا حبيبتي انا فعلا مش قادرة اقف على رجلي هاغير هدومي من الهاند باج دي ولما اصحى نبقا نفضيهم"
-" خلاص تمام انا كمان تعبانة اوي هادخل انام شوية مع اني متحمسة اوي عشان الف واشوف البلد"
كان يوسف على أعتاب باب الشقة مع آخر حقيبة
-" هو ايه اللي تلفي وتشوفي البلد انتي عاوزة تنقطيني"
ببرود أجابته متصنعة عدم معرفة معنى الكلمة:
-" يعني ايه انقطك؟!"
جمع قبضته أمام وجهها وهو يزمجر كوحش على وشك التهام فريسته :
-" بقولك ايه انا مش ناقصك تسمعي الكلام من سكات وخلاص ومش لازم كل شوية افكرك احنا هنا ليه"
-" يوووووه اف بقا اف بجد"
سمعا طرقات خفيفة على الباب فأسرع يوسف ليفتح الباب ووجد أمامه شابة حسناء بضفيرة كستنائية طويلة تسندها على كتفها بعناية وتمسك بصينية مغطاة. عرفتها مارية على الفور فهي تلك الفتاة التي كانت تتحدث عن يوسف مع صديقتها في الدور الأرضي
تنحنحت الفتاة وهي تنظر ليوسف بخجل قائلة
" مساء الخير انا نادين جارتكم اللي تحت انا عرفت انكم لسه جايين من السفر وقولت اكيد تعبانين وجعانين فحضرتلكم شوية سندوتشات بسيطة كده وبكرة هاطلعلكم غدا هيعجبكم اوي" قدمت الصينية ليوسف الذي جاملها وهو يأخذ الصينية
-" كلك ذوق والله مش عارف اقولك ايه بس مكانش فيه داعي لتعبك دا كله" احمرت وجنتا الفتاة خجلا، ووجنتا مارية غضبا وهي تتابع ما يحدث وتلك الابتسامة السخيفة التي يبتسمها يوسف لتلك الفتاة الجميلة نعم جميلة هي لا تستطيع ان تنكر ذلك بملامحها الهادئة اللطيفة
-" ولا تعب ولا حاجة يا استاذ ......"
أجابها يوسف
-" يوسف اسمي يوسف يا نادين"
ازداد احمرار وجه الفتاة وهذه المرة فرحا بنطقه لاسمها
وأسرعت تهبط على الدرج مسرعة خجلة
كل هذا ومارية تعقد ساعديها أمام صدرها كمن يشاهد فيلما سخيفا
نظر لها يوسف ببرود وهو يبتسم :
-" تعالي كلي لما نشوف نادين عاملالنا أكل ايه اممممم الله الله فلافل بيتي وبطاطس وبتنجان مقلي وشكشوكة ومخلل كمان "
-" ايييه دا ايييه دا مينفعش تاكل الاكل دا بالليل كده غلط"
-" بقولك ايه سيبيني استمتع بالاكل دا مأكلتوش من زمان اوي"
-" ليه يعني ماهي الفلافل موجودة ف كل حتة في امريكا والفرايز كمان هي الكشكوشة بتاعتك دي بس والميكس دا يجيب herat attack على طول انا بقولك اهو "
-" اعوذ بالله ياشيخة ايه الكلام دا وبعدين دي فلافل بيتي مصري مش زي اللي بالحمص اللي بيعملوها في امريكا ودي بطاطس طبيعية مقلية في الزيت وعملت تشششش مش زي الفرايز المتلجة بتاعتكو دي تعالي تعالي دا الاكل فعلا طعمه حلو اوي"
استدارت مارية تدلف إلى غرفتها دون رد وصفعت الباب بقوة وهي تكاد تضربه بقدميها غيظا
-" قال عملت تششش قال وهي يعني الفرايز مبتعملش تش اوف اوف "
وسلمت جسدها وعقلها للفراش وراحت في سبات عميق بعد أكثر من ثلاثة أيام من السفر المضني.
في الصباح استيقظت منى على أصوات عالية من غرفة يوسف فأسرعت إليه وبصوت يحاول الاستفاقة قالت:
-" فيه ايه يا يوسف بتكركب ف ايه الصبح كده ؟!"
-" ابدا يا حبيبتي برتب حاجتي بس، وبعدين انتو بقالكم ياما اوي نايمين قولت اعملكوا شوية دوشة تصحيكوا انا صاحي من بدري"
رفعت منى حاجبيها :
-" بقا انت بتعمل الدوشة دي عشان تصحينا؟؟ تصحينا مين بالظبط انت طول عمرك مبتحبش تصحيني من النوم"
نظر لها برهة ثم قال
-" لا انا مش قاصد اعمل دوشة بس لما صوت الكركبة طلع قولت مش مهم اهو فرصة ماما حبيبتي تصحى ونحضر الفطار سوا ولا صحيح انا مش هاحضر حاجة روحي صحي صاحبتك بقا هي تساعدك انا دلوقتي ديك البرابر"
سمع الاثنان صوت خف يزحف بتثاقل وفي الأخير ظهرت صاحبة الصوت وهي تتحرك بصعوبة وشعرها ينتشر حول وجهها الوردي كهالة داكنة تحدد ملامحها أكثر وعينيها النصف مغمضتين وهي تسير بلا وجهة لا تعرف إلى أين هي ذاهبة !!
كان يوسف ووالدته ينظران إليها بتعجب وعلى شفتي يوسف شبه ابتسامة راضية أو كأنه حقق مراده أخيرا...
-" الحقيها يا ماما الحقيها لا تدخل عند الجيران"
أسرعت منى تستوقفها :
-" ايه يا مارية رايحة فيين استني"
توقفت مارية أمام يوسف تماما وحينها فقط فتحت عينيها كاملة ثم وقفت تبتسم كالبلهاء وهو يبادلها البلاهة عينها ومنى تقف في المنتصف تتعجب من بلاهتهما معا !!!
اعتدل يوسف في وقفته حين عبست مارية فجأة وكأنها استفاقت للتو ثم قال:
-" ايه يا ماما احنا مش قولنا مسمهاش مارية خلي بالك بقا لا تغلطي تاني اسمها مريم هه مريم"
عقدت مارية حاجبيها وهي تتساءل:
-" هي مش كان اسمها نادين مين مريم دي كمان"
ابتسم يوسف بلؤم فقد اكتشف أنها ظلت تفكر بهذا الأمر طيلة الليل.
وأسرعت منى توجهها إلى الحمام وهي تنظر ليوسف وتقول:
-" يالا يا حبيبتي يالا ادخلي الحمام وفوقي كده عشان انا مش عارفة انتو فيه ايه مالكم النهاردة ولا هو تغيير الجو أثر على دماغكوا ولا تعب السفر ولا ايه "
خرج يوسف وأغلق باب غرفته خلفه وهو يوجه حديثه لمارية:
-" ها هتفطرينا ايه النهاردة يا مريم"
كانت منى مازالت توجه مارية إلى الحمام وتلك الأخيرة تمشي وكأنها لم تسمع شيئا وهي تتمتم في غضب:
-" نادين تعشيه ومريم تفطره هارون الشديد بقا هو"
ضحكت منى ثم صححت لها :
-" اسمه هارون الرشييييييد مش الشديد"
أشاحت مارية بيدها وهي تدلف إلى الحمام وهي مازالت تتساءل من هي مريم هذه !! يبدو الاسم مألوفًا للغاية ؟!"
بعد ان استفاقت قليلا من نعاسها، أخذت حماما دافئا ومشطت شعرها فتحت باب الحمام ولوهلة تذكرت أنها لم تأخذ ملابسها معها إلى داخل الحمام ولا يوجد عليها إلا ذلك البشكير الصغير الذي يبدي اكتر مما يخفي. أغلقت الباب بسرعة وشكرت حظها انها تذكرت ذلك قبل ان تخرج ولكنها ظلت تفكر ماذا ستفعل وكيف ستخرج؟؟!
