رواية سارقة الهوي
الفصل السابع 7
بقلم مني السيد
كانت منى تفرك يديها ببعضهما البعض في توتر ومارية تحاول تهدأتها
_" متقلقيش انتي مالك خايفة كده ليه هو هيعمل ايه يعني بالموقع مش انتي بتقولي انه مسافر يعني مش هيقدر يجي اكتر حاجة ممكن يعملها انه يبعتلك عربية توصلك البيت ولو دا حصل انا او ماما هنيجي معاكي متقلقيش"
_" ربنا يستر انا عارفاه مجنون"
انقضى اليوم في مرح ولم يعاود يوسف الاتصال وهذا ما أقلق منى أكثر وفي نهاية اليوم دلف كل منهم إلى خيمته ما عدا مارية والمشرفة اللتان ظلتا تحرسان الاطفال أمام النيران وبعد حوالي الساعة تثاءبت المشرفة وهي تقول
_" رح روح نام اشي ساعة فيكي تضلي لوحدك لحتى فيق م النوم"
_" اهاا اتفضلي انا أصلا متعودة ع السهر ف المستشفى عادي"
_" ايه منيح واذا ما فقت بعد ساعة فيكي تفيّقي جيسيكا المشرفة المساعدة او توم نحنا متفقين على هيك"
_" اوكيه تمام لو تعبت هاصحي حد فيكم"
اقتربت مارية من خيمة والدتها ومنى تطمئن عليهما وحين تأكدت من نومهما قررت ان تتمشى بجانب البحيرة القريبة أمام مكان التخييم.
تهادت مارية في مشيتها وهي تضع يديها في جيبها وتنظر إلى المياه السوداء بشرود .....
وانتفضت على صوت من خلف أذنها تماما يهمس ببحة رجولية صارمة
_" هو دا المكان اللي امان وتمام" لم تستطع السيطرة على نفسها وهي تستدير لتتحقق من أن ما سمعته حقيقة وليس من وحي خيالها وانزلقت قدماها نحو البحيرة الباردة وهي ترفرف بيديها في الهواء محاولة التمسك بأي شيء. مع محاولة يوسف امساكها من خصرها إلا ان حركتها السريعة العشوائية ادت بها للوقوع فعليا في البحيرة الباردة للغاية.
وكأنما اختفت نهائيا عن سطح البحيرة لم يلق لها أثرا. لم يفكر كثيرا وقفز بسرعة في البحيرة المظلمة بمياهها الباردة التي تكاد تكون متجمدة. حاول الغوص لأسفل وهو لا يرى شيئا في هذا الظلام، ولكنه ظل يبحث في جميع الأنحاء بيده التي يحركها يمينا وشمالا ولكن لا جدوى!! ضاقت انفاسه وهو مازال يحاول حساب المكان الذي سقطت منه ومدى إمكانية غوصها لأسفل إلى أن ارتطمت يده بجسدها فأمسكها بقوة وسحبها لأعلى بسرعة وهي كالجثة الهامدة.
شقت شهقته التي التمس فيها انفاسه هذا الصمت الليلي المظلم ونظر إليها بين يديه وهي لا تتنفس ووجها ابيض شاحب يكاد يضيء من شحوبه وسط هذا الظلام. حملها بسرعة ثم ارقدها أرضا وبعد أن تردد لبرهة اتخذ قراره ودنا منها ممسكا أنفها بيده ثم تلمس شفتيها معطيا إياها من انفاسه!!!!
**********
سعلت مارية مرات متتالية وهي تقذف الماء من فمها وقطرات المياه تنهمر على وجهها من هذا المنحني فوقها في قلق يتأكد من إستفاقتها. ظلت تحدق لوجهه غير واعية. هل هو بالفعل موجود هنا؟؟! هل تراه حقا! هل انقذها بالفعل وقذف بنفسه في المياه الباردة لإنقاذها!!!!!
وأخيرا سألها
_" انتي كويسة؟!"
ظلت محدقة فيه ببلاهة فسألها مرة أخرى
_" مارية انتي كويسة حاسة بحاجة؟!"
وكأنما تسمع اسمها للمرة الأولى هزت رأسها في وهن وبصوت متحشرج ناضلت لاخراجه
_" I'm fine انا تمام"
ثم نظرت حولها وبدأت في الارتجاف وازرقت شفتيها وشحب وجهها أكثر فأكثر
_" تمام ايه بس دانتي ازرقيتي، قومي تعالي معايا قومي" حاولت الاعتراض بهز رأسها فقد خارت قواها ولا تستطيع أكثر من هز رأسها. فهددها يوسف
_" لو مقومتيش لوحدك هاشيلك" حاولت مارية النهوض ولم تقو على ذلك فساعدها بيده إلى ان وقفت على ساقيها المرتعشتان وأسنانها تصتك ببعضها البعض في صوت مسموع. نظر إليها يوسف نظرة المحذر ثم وضع يديه خلف ظهرها وساقها ثم حملها متوجها إلى سيارته.
لم تكن تعلم بم شعرت تحديدا فتلك هي اول مرة تُحمل هكذا كطفل صغير!! وشعرت بنفس مشاعر الاثارة والحماس الذين يشعر بهما الطفل حين يُهدهد ويقذف في الهواء ! مزيج من الخوف والفرح والاستمتاع والترقب.
في السيارة وضعها بهدوء وحرص ثم أشعل المكيف لتدفئتها. خرج من السيارة واستدار متوجها ليأخذ بعض امتعته من الحقيبة الخلفية للسيارة وأخرج بعض الملابس ثم دلف إلى السيارة مرة أخرى
قال وهو يسلمها بعض ملابسه
_" اتفضلي البسي دول عشان تدفي وانا هاروح بعيد لحد ما تغيري"
احمرت وجنتاها رغم شحوبها وحاولت الاعتراض فقاطعها بصوت حازم:
_" مفيش اعتراض البسي ولما تخلصي اندهي عليا، انا كمان هاغير هدومي هناك عند الشجرة دي"
تسرعت قائلة
_"انا معايا هدومي ف الخيمة وبعدين انت كده تبرد تعالى غير هنا ف العربية في الدفا وانا هاخرج برا"
لمحت على شفتيه شبه ابتسامة ثم تلاشت بسرعة وقال
_" لا خليكي براحتك انا دقيقتين وهكون خلصت انتي اكيد هتاخدي وقت"
هزت رأسها والخجل يلفها من رأسها وحتى أخمص قدميها وأسرعت تنفذ ما قال.
ودون ان تشعر بعد ان انتهت من تغيير ملابسها فتحت ذاك الدرج الصغير الموجود امامها بالسيارة ففضولها يكاد يقتلها لمعرفة اي شيء عن هذا اليوسف المبهم!!!
انتفضت حين وجدته يفتح السيارة ويقول
_" مش هتلاقي حاجة هنا تعجبك!!"
تلعثمت دون إرادة منها وهي تحاول ان تفهمه انها لم تفتحه لتسرق منه شيئا كما يظن ولكن ماذا ستقول له بدلا من ذلك هل تقول له (كل ما اردته هو اكتشافك!!)
_" مفيش داعي للتبرير انا عارف ان دا مرض عندك ومبتقدريش تقاوميه بس محاولتيش تشوفي دكتور اظن لو الموضوع دا اتكشف هاتزعلي اوي وفيه ناس كتير هتبعد عنك"
انعقد حاجبيها وهي تشعر بتلميحاته!! هل يهددها بإخبار منى مثلا؟؟!
_" يعني ايه يعني هازعل وناس كتير هتبعد عني قصدك ايه؟!"
انتظرت قليلا وقبل ان يهم بالكلام اردفت بعصبية
_" ولا اقولك مش محتاج تقول قصدك ايه انا فهمتك كويس" ولم تجد بدا من قلب الاتهام إليه :
-" وبعدين انت ايه اللي جابك كده فجأة وانت عارف اني بغير هدومي"
لم تعطه الفرصة ليرد او يدافع عن نفسه مع علمها بأنه جاء بعد وقت طويل من تغيرها لملابسها، ففتحت باب السيارة بعنف وخرجت مسرعة، فتح هو الآخر باب سيارته ولكن بهدوء ينافي عصبيتها وسرعتها وهو يقول بنفس ذات الهدوء المغيظ
_" انتي فهمتي غلط على فكرة ! وانا فاهم كويس انتي بتعملي كده ليه "
استدارت بعنف
_" غلط ولا صح بقا انت اصلا ملكش دعوة ب...." وفجأة سقطت جراء انزلاق قدمها في حفرة صغيرة مما جعلها تصرخ صرخة مدوية شقت سكون هذا الليل. أسرع اليها يوسف وانحنى نحوها يحاول مساعدتها وهو ينهرها
_" هو انتي اييييه ؟؟ماشية تقولي يا حوادث "
_" ابعد عني بقولك، احسن مش هيحصلك كويس انا بقولك اهو"
_" انتي بتقوليلي انا الكلام دا؟!"
_" ايوة بقولك انت هكون بقول لمين يعني. اتفضل بقا من ادامي انا مش محتاجة مساعدة من حد"
نهض واقفا ووضع يديه في جيبه منتظرا منها أن تنهض وحدها وهي تنظر إليه من أسفل كطفلة عنيدة تكتم تأوهاتها عنادا. واستدار الاثنان حين سمعا صوت منى ونهال يتوجهان نحوهما
وأسرعت نهال محاولة الانقضاض على يوسف
_" عملتلها ايه يا حيوان انت. انت فاكر انها لوحدها لااااا دنا هاكلك بسناني"
كل ذلك ويوسف يحاول التملص من نهال بصعوبة دون ان يؤذيها وحينها فقط تنبهت منى لابنها الذي لم تكن تراه في الظلام.
_" ابعدي يا نهال ابعدي دا يوسف ابني"
توقفت نهال عن محاولاتها البائسة لضرب يوسف وأخذت تلتقط أنفاسها بصوت مسموع. في حين توجهت منى إليه تطمئن عليه
_" ايه يا يوسف يا حبيبي؟ جرالك حاجة؟ وريني وشك؟ انت جيت ازاي وامتى؟ وشعرك مبلول كده ليه ؟"
زفر يوسف وهو يسحب يد والدته
_" يالا بينا من هنا يا ماما وابقا ارد على كل اسئلتك في بيتنا"
أسرعت مارية تقول بعناد
_" منى مش هتمشي من هنا" استدار إليها وهو يجز على أسنانه ويُطبق على سلامياته
_" ليه بقا ان شاء الله يا حضرة الدكتورة؟!
لم تجد مارية سببا لتقوله له. هي لم تكن تنوي سوى مضايقته واستفزازه فقط.
_" عشان ... عشان احنا جايين مع بعض ولازم نروح مع بعض"
رفع حاجبه متهكما
_" ياسلام.... مش انتي قولتي مش عاوزة مني حاجة امال عاوزة تروحي معايا ليه دلوقتي"
نظرت له بتحدي مغيظ
_" انا مقولتش كده انا قولت ان انا اللي جبتها معايا وانا كمان اللي هارجعها"
_" مش لما تعرفي تقومي من مكانك الاول هتسوقي ازاي انتي اصلا كده برجلك المسلوخة دي"
قبضت مارية على التراب بجانبها تنتوي على حركة طفولية ولكنها منعت نفسها بالأخير لأن منى والدته كانت تقف بجانبه وقد ينالها بعض من هذا التراب الذي ارادت قذفه به. ضمت شفتيها بغضب ثم صرخت
_" انا برجل مسلوخة انا ... طب اتفضل بقا اتفضل امشي من هنا بدل ما اخليك تبقا امنا الغولة "
انفجرت كلا من منى ونهال في الضحك على هذين الطفلين المشاكسين. فنظر لها يوسف بعتاب
_" يالا يا ماما يالا نمشي من المكان دا لو سمحتي"
وجذبها من يدها نحو السيارة مرة أخرى
فدفعت يده بلطف
_" استنى بس يا يوسف يعني ينفع يعني نسيب مارية كده!"
- " متقلقيش يا ماما هي دكتورة وهتعرف تصلح نفسها"
استشاطت مارية للمرة الثانية وهي ترفع صوتها
-" ايه تصلح نفسها دي فاكرني لعبة انا ولا عروسة خشب"
تحدث يوسف باستهزاء
-" عروسة !! هو انتي خشب اه بس اكيد مش عروسة"
حاولت مارية النهوض بعنف وهي تستحضر في ذهنها كل الشتائم التي تعرفها ولكنها توقفت حين وجدت منى تنهره
-" ايه يا يوسف الكلام دا عيب كده انا عمري ما شوفتك كده اتفضل اعتذر لمارية حالا يالا"
دوت ضحكاته المقهقة في هذا الظلام الهادئ وكأنها انذار حريق
-" اعتذر لمين يا ماما؟! انتي بتهرجي؟ بقولك ايه يالا بينا من هنا لو سمحتي قبل ما اتعصب اكتر من كده واعمل حاجات تزعلك مني اكتر"
وقفت منى بجانب مارية وهي تنظر إليه بتحدي وتعرف انها ستحصل على اعتذاره لمارية بسهولة جراء تلك الحركة
-" انا مش هامشي معاك الا لو اعتذرت لمارية وكمان لازم اتطمن على رجلها"
رفع يوسف حاجبيه مندهشا من والدته
كيف تفعل ذلك؟؟ كيف ترفض له طلبا بل كيف تتحداه؟؟!
استطردت منى
-" ها هاتعتذر ولا تركب عربيتك وتمشي!!!"
نظر إلى والدته نظرة مطولة غير مصدق ما يحدث، ثم إلى مارية التي تحدقه بنظرة مستمتعة وهي تكاد تهز حاجبيها كيدًا ، واخيرا هز رأسه مرارا وهو يمط شفتيه ولا أحد يعلم ماذا سيختار او على ماذا ينوي!!
