رواية إعلان ممول
الفصل السادس عشر 16 السابع عشر 17
بقلم رحمة نبيل & فاطمة طه سلطان
قال داوود كلمته وترك صداها يرن داخل عقل افكار لدقائق أو ساعات أو ...لا تعلم كم من الوقت ظلت واقفة بهذا الشكل وهي تراه يبتسم لها بعدما قال بكل بساطة أنه يود التقدم لخطبتها، أو مهلًا ربما اساءت هي فهمه، ربما لم يأت للتقدم لها ويقصد معنى أخر من كلماته، لا تدري، لكن ما تعلمه أنه من المستحيل أن يتقدم داوود بالفعل لخطبتها، هذا مستحيل....
وداوود الذي لاحظ ملامح الاستنكار تعلو وجهها، تنحنح ثم قال :
_ مش هتدخلينا عشان نتكلم جوا ولا ايه يا افكار ؟!
_ نتكلم في ايه ؟!
رفع داوود حاجبه وقال مجددًا نفس ذات الكلمة التي تسببت في حدوث خطأ داخل أسلاك عقلها منذ ثواني :
_ موضوع الجواز يا أفكار.
شهقت أفكار بقوة ليتراجع داوود مرتابًا، وهي نظرت حولها تحاول الاستيعاب، وبعدها نظرت له مشيرة على نفسها :
_ أنا ؟؟ جاي تتقدم ليا أنا ؟؟
هز داوود رأسه بنعم لتتسع بسمة أفكار المصدومة شيئًا فشيء، ثم تحركت بسرعة كبيرة داخل المنزل الخاص بها تصرخ بعدم تصديق في النساء:
_ يلا يا حبيبتي منك ليها، يلا فضينا المولد، كل واحدة تروح تشوف مصالحها .
تحدثت امرأة بحنق شديد :
_ يووه هو ايه أصله ده يا افكار يا اختي، هو كل ما الجدع ده يجي تطردينا كده ؟! ايه خايفة الباشا يشوف خطيبته بتشتغل ايه ؟! بتستعري من شغلك ولا ايه يا أفكار !!
قالت أفكار وهي تدفع السيدة :
_ أنا بستعر منكم انتم شخصيا والله يا سامية .
شهقت سامية لتطلق أفكار ضحكات صاخبة وهي تخرج النساء من الغرفة :
_ كل واحدة تقعد في حتة ناشفة في البيت عشان تنشف، اقولكم خلوا اجوازكم يقبلوكم بشكلكم ده وبطلوا فرك شوية وكل يوم عند الكوافيرة .
خرج الجميع وهم يتهامسون بحنق شديد على ما تفعل أفكار، بينما داوود يراقبهم هامسًا بعدم فهم :
_ هم الستات دول منشفوش من آخر مرة ؟؟ أنا كل ما اجي الاقيهم في الشباك بيزغرطوا، ولا دي وظيفتهم ولا ايه بالضبط ؟؟
ضحكت أفكار تدعوهم للدخول على الرغم أنها لم تصدق حتى الآن وكأنها في حلم، وكما حدث آخر مرة جلس الجميع على الطاولة التي تقبع في غرفة الضيوف، لكن هذه المرة بوجود حامد الذي كان يحدق حوله بفضول شديد قبل أن تقع عيونه على سكر التي ابتسمت له وهي تقول بصوت منخفض مخافة أن يستمع لها داوود :
_ بقولك ايه يا أقرع يا قمر أنت، ما تيجي اقرألك الفنجان ؟؟
اعتدل داوود في جلسته وهو ينظر صوب أفكار يقول بجدية كبيرة :
_ زي ما قولت برة يا افكار أنا كنت جاي وحابب اطلب ايدك للجواز..
تنفست أفكار بعنف وهي تحاول تصديق ما تراه وتسمعه :
_ أيوة بس...بس حضرتك ...يعني ...
صمتت تحاول أن تقول ما تفكر به، منذ متى وينظر لها داوود نظرة الرجل لامراة يرغبها بالزواج، هي لطالما ظنت أنه ينظر لها نظرة المبتلى للمصيبة...
هي لا تصدق ذلك، وفي الوقت نفسه لن تنكر الفرحة العارمة التي دبت في أوصالها...
ابتسم داوود يشعر ما تفكر به :
_ عارف بتفكري في ايه، أنا نفسي مصدوم من القرار، امي لما بلغتني امبارح اللي حصل في خطوبة روضة مكدبش عليكِ اتعصبت ومكنتش حابب اني اتحط تحت الأمر الواقع، لكن لما نمت وصحيت حسيت فجأة براحة كبيرة أوي .
فجأة ومن بين ذلك الحديث انتفض الجميع على صوت سكر التي كانت تنتظر انتهاء حامد من شرب القهوة، ترفع يديها عاليًا تقول:
_ دي بركة دعايا كل صلاة فجر أصل أنا بيني وبين ربنا عمار.
نظرت لها جيهان بشك وريبة وكذلك فعلت أفكار التي أضحت مقتنعة أن قدوم داوود هنا إما أن يكون معجزة دعوات والدتها، أو أن والدتها فعلت له شيئًا..
عادت أفكار بنظرها لداوود الذي قال :
_ أنا جيت اتقدم ليكِ وأنا فعلا مقتنع بالموضوع رغم غرابته للبعض، لكني فعلا مستريح، بس عندي بعض الشروط أو نقدر نقول اني حابب احط النقط على الحروف .
في ذلك الوقت انسحب كلٌ من حامد وسكر صوب النافذة بعيدًا عنهم لقراءة الفنجان، بينما ظلت نظرات أفكار تحلق بصرها حول داوود بفضول شديد تستمع له يقول :
_ أنتِ متعملة يا افكار صح ؟؟
نظرت له أفكار بريبة :
_ اشمعنا ؟؟
_ سؤال عادي المفروض أنا كنت حاطط شرط وظيفة المربية مستوى جيد من التعليم .
هزت رأسها تقول بصدق وملامح مبتسمة :
_ أيوة أنا مستوايا التعليمي كويس اوي، انا اخدت شهادة تقدير وأنا في تانية اعدادي وكنت طالعة السابع مكرر.
ابتسم داوود بلطف لما تقول :
_ أنتِ تعليم ايه يا افكار ؟!
_ إعدادية ..
صُدم داوود من كلماتها :
_ إعدادية !؟ طب ليه مكملتيش للثانوي؟او اخدتي شهادة دبلوم ؟!
التوى ثغر افكار بحزن :
_ دخلت ثانوي بس مكملتش فيها خرجت قبل ما ادخل سنة ثانية وقتها كانت الظروف مش ولا بد بسبب مرض امي والبيت كان محتاج حد يشتغل فقعدت من الدراسة عشان اشتغل .
تنهد داوود يدرك أن أفكار تخفي خلف قشرتها الممازحة واللامبالية الكثير والكثير :
_ طب مش عايزة تكملي تعليم يا افكار ؟؟
نظرت له بعدم فهم ليوضح لها :
_ أنا هسجل ليكِ في الفصول المسائية يا أفكار وهحاول ارجعك تكملي دراسة، مش عارف هينفع ولا لا بس هحاول وبإذن الله تاخدي أي شهادة تساعدك في حياتك .
التوى فمها بحنق تردد :
_ بعد ما شاب ودوه الكُتاب .
ابتسم داوود يقول :
_ كويس أنك جيبتي سيرة الكُتاب .
_ ماله ؟!
_ هسجل ليكِ في حلقات دينية عشان تحفظي قرآن وتعرفي اكتر عن الدين وتستفادي لحياتك ونفسك قبل أي حد ..
اتسعت أعين افكار مما قال، هل يود تربيتها وتعليمها من الآن، أيخجل منها ؟؟
لماذا إذن جاء لخطبتها إن كان يفعل ؟؟
قال داوود وكأنه سمع صوت أفكارها الداخلية :
_ أنا بعمل كل ده عشان تكوني أنتِ راضية عن نفسك الاول وبعدين عشان اولادنا باذن الله لو الأمور اتيسرت، عشان تكوني قدوة حسنة ليهم، ووقت ما تتسألي تعرفي تجاوبي صح.
ختم حديثه ببسمة جعل رفضها لشروطه صعبًا، ابتلعت ريقها تهز رأسها كالمغيبة ثم قالت فجأة :
_ أيوة بس أنا مش هيكون عندي وقت بسبب الشغل و..
_ بخصوص الشغل فأنا مش حابب أنك تشتغلي يا أفكار، جه الوقت اللي تاخدي فيه نفَسك وتعيشي عشان نفسك وراحتها..
شعرت أفكار بقلبها ينتفض بقوة من كلماته، أبتلعت ريقها وهي تفكر أنه لم يسبق أن فعل أحدهم لأجلها هذا، لم يسبق أن فكر أحدهم في راحتها...
استفاقت على صوت جيهان تقول بحنان :
_ عندك حد نقدر نتكلم معاه يا افكار؟؟ عم خال أي حد نطلبك منه رسمي ياحبيبتي ؟؟
نظرت لها أفكار ثواني تقول بتردد :
_ عندي اخواتي الرجالة، عندي أخين.
أتسعت أعين داوود يهتف بصدمة :
_ عندك اخوات ولاد ؟؟ وهما فين من حياتك يا أفكار ؟؟
صمتت افكار ولم تتحدث بكلمة تنظر ارضًا بخجل من إخوتها وكل ما يفعلون بها، وقبل أن يتحدث داوود بكلمة إضافية انتبه فجأة لغياب حامد المريب :
_ امال فين حامد ؟؟
__________
من العادات المتعارف عليها بعد الخطبة أن تقوم عائلة العروس بدعوة العريس للغداء وعائلته ولكن امتنعت عائلة ياسر عن الحضور بسبب حفل زفاف أحد جيرانهم، لذلك جاء ياسر بمفرده..
جعلت روضة والدتها تصنع له وليمة تكفي أكثر من عشرة أشخاص، كانت تريد إبهاره حتى يشعر بحبها ووقتها سيصبح خاتم في إصبعها حينما تأتي النقود الذي أخبرها عنها...
في الطبق الكبير الموضوع أمامه كانت تقوم روضة بوضع الأصناف المختلفة به حتى يصبح كل شيء أمامه..
غمغم ياسر في نبرة باردة:
_صراحة يا طنط الورق عنب المرة دي مش مستوي كويس..
نظرت له والدة روضة لا تصدق وقاحته فهو بعد عدة دقائق سيقوم بابتلاعها وابتلاع الطاولة الخشبية مع الطعام وبكل وقاحة يخبرها بأن هناك صنف لم يعجبه..
ثم أسترسل حديثه وكأنه لا يفعل شيء:
_ولا البشاميل مش سايح كده زي اللي أمي بتعمله، أيه يا طنط عاملة الأكل من غير مزاج ولا أيه؟!.
ضحكت والدة روضة ثم قالت بغيظ شديد:
_هي امك من امتى بتعمل أكل ده من يوم عيد ميلادك وأنتَ عندك خمس سنين مشوفنهاش عملت حاجة.
رفع ياسر حاجبيه وتصنع عدم الفهم وهو يسألها ببراءة شديدة:
_قصدك ايه يا حماتي؟!.
تحدث والد روضة مستجيبًا لنظرات ابنته المستغيثة من تصرفات والدتها:
_يا ابني ما أنتَ عارف امك ومرات خالك دايما بيهزروا ويناقروا في بعض.
نهضت والدة روضة وهي تقول في تهكم:
_أنا هخش أشوف الكيكة اللي سبناها في الفرن وصلت لفين أحسن تتحرق ومتعجبش ياسر.
ثم رحلت بعدها..
وهنا تحدث ياسر في ضيق وكأنه يهدد به روضة ووالدها:
_هو في أيه يا روضة؟! في أيه يا خالي؟! هو أنا لو مكنش مرغوب فيا مكنتوش عزمتوني العزومة دي، بدل ما هي واقفة على الواحدة في كل كلمة هقولها.
غمغم والد روضة بهدوء وهو يلعن من داخله تصرفات زوجته:
_متزعلش يا ياسر يا ابني وبعدين أيه الكلام العبيط ده؟! ده بيت خالك وبعدين ده طبع مرات خالك مش عارفها يعني؟! وبعدين بصراحة بقى من ساعة ما قعدت عمال تطلع عيوب في الأكل.
قال ياسر في نبرة عادية:
_أنا بتكلم بعفوية معاها علشان واخد عليها ومعتبرني خلاص ابنها بما انها بقت حماتي معرفش هي مالها؟!
أردفت روضة بحجة استطاعت خلقها في ثواني:
_ما أنتَ عارف يا ياسر يعني أنا ماما متعلقة بيا شوية فهي هتلاقيها بس مضايقة شوية ففكرة اني اسيبها وكده متاخدش الموضوع على قلبك، وبعدين ده أنا عاملة ليك بسبوسة وجلاش يستاهلوا بوقك.
نهض ياسر وهو يقول بهدوء:
_ماشي شوية بقا هاتيهم وكده علشان أنا نفسي اتسدت دلوقتي بسبب اللي حصل سبيني أهدى.
أنهى حديثه وذهب ناحية المرحاض حتى يغسل يده مما جعل روضة تميل على والدها قائلة بضيقٍ:
_ياريت يا بابا تقول لماما تهدى شوية مش كده...
عاد ياسر مرة أخرى متمتمًا وهو يميل على والد روضة:
_في موضوع عايز أتكلم معاك فيه يا خالي افتكرت أقولك قبل ما أغسل ايدي.
سأله والد روضة باستغراب بينما روضة كانت لا تفهم شيء:
_موضوع ايه ده؟!.
_عايزين نحدد ميعاد كتب الكتاب.
ردد والد روضة مستنكرًا:
_كتب كتاب ايه يا ابني ده أنتم مكملتوش اسبوع على الخطوبة؟!..
تحدث ياسر بهدوء ومكرٍ وهو يجد روضة تنظر له بصدمة:
_علشان أكلم روضة براحتي وأحس إني في حرية لاني ملتزم بضوابط الخطوبة وكمان يا عمي أنا احتمال أسافر تاني وعلشان كده لازم اكون كاتب الكتاب علشان أخلص ليها ورقها وكل حاجة.
أتسعت ابتسامتها كالحمقاء لا تصدق...
هل حقًا سوف تسافر معه؟!...
___________
عقب جملة داوود بحث بعيونه عن حامد داخل الغرفة لكنه لم يبصره، وفجأة وجده يجلس على أريكة أسفل النافذة حيث كانت تجلس النساء سابقًا لتجف، وأمامه تجلس والدة افكار وتحمل بين يديها فنجان قهوة فارغ، وفورا فهم داوود ما يحدث.
انتفض من جلسته يقترب منهم بغيظ يسمع صوت حامد يردد وهو ينظر داخل كوب القهوة بفضول :
_ يعني انتي شايفة إن كل اللي بيحصل في حياتي ده من العين ؟!
هزت سكر رأسها وهي تشير لنقطة سوداء داخل الكوب :
_ اهو شايف النقطة السودة دي ؟؟ هي دي العين، عين كبيرة قد كده محشورة في حياتك، وفيه جنبها مناخير كمان .
اتسعت عين حامد قبل أن يضرب فخذه بحسرة :
_ عين ..أيوة هي عين فعلا أنا قولت اللي بيحصل ليا ده اكيد عين، ده أنا حياتي متدمرة، يعني جوازتين ومفلحتش، عين مين دي اللي جابت أجلي ؟!
نظر فورًا لسكر يقول بلهفة :
_ طب اعمل ايه عشان احل كل ده ؟!
ابتسمت سكر تنظر للفنجان وهي تقول ببسمة بلهاء :
_ تتجوز التالتة .
اتسعت عين حامد بصدمة قبل أن يضيقها مجددًا يقول بجدية واستنكار :
_ وده هينفع ؟!
_ ليه لا والعلم عن الله، اقولك ..اتجوز افكار بنتي اهو أنت عاقل وراسي وناضج مش زي اخوك التاني اللي اللهم احفظنا ملسوع كل شوية يقعد يزعق ويصرخ.
وعلى ذكر الصراخ انتفضت أجساد الاثنين على صوت داوود الذي صرخ بجنون :
_ أنتم بتعملوا ايه ؟؟ ايه الجهل والهبل ده ؟؟
أشارت سكر وهي تعتدل في جلستها ببرود :
_ اهو شوفت، ملبوس الواد ده، اقولك أنتم تاخدوه وتروحوا السيدة زينب تدعوله ربنا يهديه هناك .
أشار داوود بصدمة لنفسه :
_ يدعولي أنا ؟؟ أنا برضو اللي ربنا يهديني؟
هزت سكر رأسها في الوقت الذي انتفضت فيه جيهان صوب ولدها كي تمنع معركة وشيكة أخرى وأفكار تدخلت وهي تربت على صدرها :
_ معلش حقك عليا يا داوود ست كبيرة ومتقصدش والله .
نهضت سكر من خلفها تقول بعناد شديد :
_ لا اقصد الواد ده عايز يروح لشيخ ولا يعملوله جلسات زار يمكن يتعدل ..
صمتت ثم قالت وكأنها لا ترى قرب انفجار داوود :
_ اقولكم أنا هجوز البت أفكار لاخوك العاقل الراسي ده و...
وقبل أن تكمل جملتها انفجر داوود في وجهها يمنعه عن التخلص منها حامد ووالدته بينما سكر تختفي خلف أفكار وهي تتحدث من وراء ظهرها :
_ شوفتوا ؟! جالكم كلامي ؟؟ حد يقرأ عليه آية الكرسي خلي عفريته ينصرف.
_ ده انا هطلع عليكِ عفاريتي واحد واحد يا ست أنتِ...
قاطعته جيهان وهي تسحبه بعيدًا :
_ خلاص يا داوود هو كل ما نيجي هنا تتخانق معاها، مش كده يا بني ما تعقل شوية بس، أنت ايه اللي حصلك .
وافقتها أفكار وهي تترجاه أن يهدأ تدرك أن افكار والدتها التي ترعرت عليها تحتاج أوقات طويلة لتتغير :
_ أيوة والله دي سكر طيبة وعلى نياتها خالص بس هي عقلها برضو على قدها بسبب السن .
_ هو ايه اللي عقلها على قدها؟!، أنا زي الفل هو اللي ملبوس وعقله مش سليم .
نظر لها داوود بشر لتصرخ جيهان في حامد :
_ أنت واقف تتفرج، خد اخوك وأخرج برة يا بني خلينا نلم الليلة، وأنتِ يا افكار خدي لينا ميعاد مع اخواتك يا حبيبتي وبلغينا ماشي ؟؟
هزت أفكار رأسها وهي تراقبهم يسحبون داوود للخارج والذي كان يتوعد لوالدتها بأنه هو من سيصلح تفكيرها بنفسه ولو كان بالقوة .
تنهدت أفكار وهي تلقي نفسها على الأريكة تتنفس الصعداء، ثم فجأة ابتسمت تقول متجاهلة كل ما حدث:
_ داوود اتقدملي ...
وفجأة تلاشت البسمة حينما تذكرت حديث جيهان، هي ستحضر أشقائها ؟ أي كارثة تلك التي وقعت على رأسها؟؟
_________
بعد عودتهما من منزل أفكار بدل داوود ملابسه وكذلك والدته، ثم خرج ليجلس معها أمام التلفاز...
وأثناء جلستهم أتى حامد الذي قد تركهم أمام المنزل وذهب لشراء الحلوى وبعض المقرمشات التي يريدها أولاده وأعطاهم أياهم ووضعهم في غرفتهما ثم خرج من الداخل ليجلس مع والدته وشقيقه.
تحدثت جيهان في هدوء:
_بس والله البت أفكار دي غلبانة.
أبتسم داوود بسخرية شديدة وهو يعقب على حديث والدته:
_خلاص يا امي لسه هتقولي غلبانة؟! وبعدين أنا خلاص لبست فيها مش محتاجة تقنعيني بقا اللي جاي بتاعها هي وبس.
سألته جيهان بعدم فهم ، بينما حامد يعقد ساعديه ويستمع الحوار بفضول وأدب دون النطق بكلمة:
_يعني ايه الجاي بتاعها لوحدها؟!
أردف داوود بصرامة وجدية:
_يعني الخطوبة دي مش هتدخلي فيها وأي خطوة هتحصل يا امي ملكيش دعوة بيها سبيني أشوف الجوازة دي هتنفع ولا لا أنا هرتاح معاها ولا لا، وهي نفسها هتستريح ليا ولا لا من غير ما تدخلي في اي حاجة لو سمحتي.
تحدثت جيهان في لوم شديد:
_والله عيب عليك يا داوود يا ابني من امتى يعني وامك بتدخل في اي حاجة؟!.
حسنًا لو كان شخصًا غريبًا لكان قد صدق حديثها بسبب نظرات عيناها الساخطة ونبرتها التي تعاتبه بها..
_امي علشان خاطري مش وقته أحنا لو كنا عند أفكار النهاردة ده مكنش علشان أنا ميت في دباديبها لا ده علشان الحاجات اللي أنتِ بتقولي مبتدخليش فيها ومبتعمليش حاجة خالص.
ثم أسترسل داوود حديثه بجدية:
_المهم لازم تشوفوا واحدة تانية تيجي البيت تقعد مع الولاد علشان أفكار مش هتيجي تاني.
غمغمت جيهان في استنكار:
_ هو أحنا كنا بنعمل أيه يا ابني النهاردة لما تقولي أفكار مش هتيجي تاني؟!!.
عقب داوود بتوضيح لما يريد قوله:
_أحنا كنا هناك علشان نطلب ايديها مش علشان نرجعها الشغل، هشوفلك غيرها متقلقيش وبعدين يعني عيب تفضل تيجي وانتي تخليها تعمل كل حاجة في البيت وكمان انا مش هينفع اشوفها كل يوم وتكون معانا في البيت.
قالت جيهان بعدم فهم:
_بتقول كلام يقنع بس مش بيخش دماغي برضو يا ابني كالعادة بس أعمل اللي يريحك وخلاص هعملك ايه؟!! وبعدين هي أفكار هتوافق على الكلام ده؟!.
ضحك داوود ثم هتف بوعيد:
_ده عشرة في المية من اللي أفكار هتسمعه من تعليمات علشان ناخد خطوة كمان.
تحدث حامد أخيرًا خارجًا عن صمته في سخرية من تصرفات شقيقه:
_هو أنتَ رايح تتقدملها وتتجوزها ولا تكره البت عيشتها هي هتتجوز ولا هتتربى من أول وجديد؟! ده أيه الهم ده؟؟
كان قد نسى داوود وجود شقيقه بسبب صمته الذي طال لذلك عقب على حديثه في تهكم:
_اه وانا منتظر نصيحتك دي بصراحة هاخد نصايح منك أنتَ..
ولم يعطه فرصة أن يعقب بل أسترسل داوود حديثه بجنون وهو يتذكر ما فعله شقيقه مع والدة أفكار:
_وبعدين أيه اللي أنتَ عملته مع أم أفكار ده؟!.
أردف حامد ببساطة:
_ما تبطل بقا أفوره يا داوود عملت ايه يعني؟!! كنا بنتسلى وأنتَ عمال تكبر الموضوع زيادة عن اللزوم.
_تتسلى في قراءة الفنجان؟! أنتَ عارف ذنبها ايه يا حامد قبل ما تتكلم لو مش مقتنع بكلامي أبحث وأنتَ هتعرف ذنبها ايه وبعدين فنجان أيه اللي هتقرأه هو أنتَ هتعلق غلطاتك على شماعة الفنجان؟!.
نهض حامد بضيقٍ شديد وهو يقول بانفعال:
_لا أنتَ هتقعد تصدعني وتتكلم كلام ملهوش لازمة أنا هخش أقعد مع العيال أحسن، وبعدين خليك في جوازتك متفكرش في حاجة أنا هجيب حد يقعد مع عيالي ويساعد امي في البيت يا داوود بس ياريت تبطل تدي دروس للي حواليك وتوفرها لنفسك.
انهى حديثه ثم غادر تحت نظرات داوود المشتعلة وهو يغمغم بنبرة مسموعة:
_ دكتور ورئيس قسم ابنك ده في قلب الترابيزة وأنه يطلع نفسه الملاك البرئ.
أردفت جيهان في حنان وبنبرة خافتة:
_بلاش تقول كلام يضايق أخوك يا داوود أنا عارفة أنه غلطان من ساسه لراسه وخرب حياته بس مش هنقعد نتكلم على حاجات خلصت مهوا مفيش فايدة من الكلام اللي حصل حصل، وهو مضغوط نفسيًا أنا حاسة بيه.
_يا امي أنا عايزه يفوق لنفسه ويفوق لعياله ويبطل يحرضهم على امهم ويخرب دماغهم أكتر هما كده كده متأثرين باللي حصل فبلاش عك أكتر.
تحدثت جيهان مؤيدة حديثه صغيرها:
_معاك حق يا حبيبي خلاص متزعلش نفسك أنا هتكلم معاه بعدين على رواقة كده....
___________
بعد مرور يومان تقريبًا..
تجلس أفكار على المقعد الخشبي المتهالك أمام المرآة وهي تشعر بأن هناك خطب ما، صدقًا هي لا تفهم ما يحدث!!!
هل حقًا داوود يجلس في الخارج مع عائلتها من أجل أن يتقدم لخطبتها؟!
متى حدث كل ذلك؟!!.
أرتدت تنورة بيضاء وبلوزة من اللون الأزرق السماوي وفوقهما أرتدت حجاب مزركش، بناءً على اختيارات صديقتها وردة التي تجلس على الفراش خلفها بوجه عابس ويظهر انعكاسها في المرأة، فتجد أفكار دومًا أن وردة فتاة تستطيع تنسيق والفهم في تلك الأمور كالملابس والزينة أكثر منها، ولكنها لم تقبل أن تضع أي شيء على وجهها...
غمغمت أفكار في استغراب:
_مالك يابت يا وردة متنحة كده ليه؟!!.
أردفت وردة وهي تلوي فمها بتهكم:
_لا ياختي مفيش حاجة.
خرجت ضحكة ساخرة من أفكار وهي تنهض من مكانها وتجلس بجانب صديقتها على الفراش:
_والله وأنا هتوه عنك يا بت في أيه؟!.
قالت وردة في انفعال طفيف وهي تخفض نبرتها قدر الإمكان:
_صراحة بقا يا أفكار أنا زعلانة منك وقلبي كنافة بسببك مكنتش أتوقع أنك تعملي فيا كده.
سألتها أفكار بريبة فما الذي فعلته ولا تدركه:
_عملتلك أيه مش فاهمة يا وردة؟!!!.
تحدثت وردة بنفاذ صبر:
_في أنك بقيتي تكدبي عليا يا أفكار وتخبي عني حاجات كتير وأنا مش واخده منك على كده، من امتى يعني بتخبي عليا؟! وبقالك فترة منيماني وتقوليلي الراجل مبهدلني والراجل عاملي وأنتِ كنتي بتسرحي بيا أديه جاي يتقدملك أهو.
أردفت أفكار محاولة الدفاع عن نفسها:
_والله الموضوع مش زي ما أنتِ فاكرة والله يا بنتي أنا مش فاهمة أيه اللي بيحصل والله خايفة لما أطلع برا يطلع برنامج الصدمة مهوا اللي بيحصل ده مش طبيعي ومش قادرة أبلعه.
رمقتها وردة بعدم تصديق ثم قالت بعتاب شديد:
_ايوة يابت أسرحي بدماغي أسرحي، هتلاقيكي بتسمعي كلام أمك وفاكرة اني هحسدك، هو في حد هيفرح ليكي قدي ده أنتِ صاحبة عمري يا أفكار ده أنا مليش غيرك، وكنت فاكرة أننا قريبين من بعد.
غمغمت أفكار والدموع تجمعت في عيناها وتهدد بالنزول:
_والله وأنتِ صاحبتي الوحيدة يا وردة ومفيش واحدة في الدنيا دي بحبها قدك وصدقيني أنا مخبتش عليكي حاجة كل الحكاية إني لما روحت خطوبة المخفية خطيبته ياريتني ولا روحت ولا اتنيلت، حصل اللي حصل ...
__________
اليوم هو اليوم الموعود والذي ستجلس به بشكل رسمي مع داوود للاتفاق على الخطبة، الأمور تسير بشكل جيد، بل رائع، هذا إن استثنينا وجود شقيقها الأكبر والذي كان كالشوكة في الحلق ( خليل العزيز ).
تنهدت أفكار وهي تنظر لخليل والذي بمجرد وصوله حتى جلس في الغرفة التي عملت على تحضيرها للمقابلة، وبدأ يتناول الفاكهة ويرتشف من العصير الذي احضرته لأجل هذه المناسبة .
زمت شفتيها بغيظ، لكنها لم تتحدث بكلمة فقط تأمل أن تمر المقابلة على خير...
في الخارج وأمام الباب كان داوود يقف وهو ينظر لحامد بتحذير :
_ زي ما قولتلك يا حامد والله لو لقيتك قاعد مع سكر بتعمل التخاريف والهبل ده، ما هاخدك معايا في مناسبة تاني وهبلغ عنكم أنتم الاتنين .
زفر حامد بغضب شديد بسبب حديث داوود المتكرر عن ذلك الأمر منذ خرجوا من المنزل، حتى أنه كان يرفض إحضاره في البداية، لكن بعد إصرار والدته وحديث حامد له أنه لن يسلم أذنه مجددًا لسكر رضخ ووافق باحضاره..
طرق داوود الباب وانتظر ثواني حتى سمع صوتًا رجوليًا من الداخل يقول بنبرة رخيمة :
_ أيوة مين ؟؟
نظر داوود لوالدته قبل أن يفتح لهم خليل الباب ليبصره مع اهله، نظر لهم خليل يمرر عيونه عليهم ثم قال :
_ أيوة مين ؟!
رفع داوود حاجبه ينظر للحلوى بيده، ثم لعائلته، هل تلك الأمور لا توحي بهويتهم أم ماذا ؟!
_ مساء الخير يا فندم، أنا داوود ودي عيلتي، اعتقد الآنسة أفكار عطت لحضرتك فكرة عن حضورنا ؟؟
نظر لهم خليل يفرك ذقنه ثم أشار لهم بالدخول :
_ أيوة عارف طبعا بس كنت بتأكد.
وبمجرد أن خطوا للمنزل انتزع منهم خليل الحلوى يقول ببسمة صغيرة :
_ عنكم أنتم، اتفضلوا اتفضلوا .
أعطاها له داوود ببسمة وحسن نية، ثم تحرك للداخل تاركًا خليل يرمق العلبة ببسمة واسعة يمني نفسه بالعودة لمنزله وتناولها مع زوجته واولاده، فجأة سمع صوت أفكار ينادي باسمه فاخفى العلبة داخل المطبخ بين الأواني كي لا يراها أحد، وتحرك للداخل يقول بصوت حاول تضخيمه :
_ يا اهلا يا اهلا، نورتونا والله ...
جلس الجميع واستقروا على المقاعد ليستهل حامد _ وباعتباره الكبير _ الحديث وهو يتحدث بهدوء وبسمة واسعة :
_ اعتقد أن حضرتك عندك فكرة عن سبب وجودنا هنا انهاردة ..
_ لا والله انا معرفش اوي أنتم عايزين ايه ؟!
رفع داوود حاجبه وقد كان ذلك الرجل ومنذ دخوله يثير حنقه وريبته، لكنه لم يتحدث احترامًا لأفكار وعائلتها .
تنحنح حامد يقول ببسمة :
_ احنا هنا انهاردة يا استاذ عشان نطلب ايد الآنسة أفكار أخت حضرتك لاخويا داوود، ويكون شرف كبير اوي لينا لو وافقت ..
نظر لهم خليل من أعلى لاسفل نظرات لم تنل اعجاب داوود المرة، ثم قال :
_ أيوة أيوة ..ويا ترى بقى الاستاذ داوود اخوك بيتشغل ايه ؟!
نظر له داوود ثواني قبل أن يقول بهدوء :
_ أنا فاتح محل عطور كبير، غير أن عندي عمارة مأجرها ..
تدخل حامد يقول بجدية :
_ وعندنا معارض أثاث بتاعتنا احنا الاتنين ورث من والدنا، بس أنا اللي بديرها عامة، لكن داوود ليه فيها .
ابتسم خليل وقد شعر بأن واخيرًا طاقة القدر قد فُتحت أمامه:
_ عال عال...
تدخلت جيهان تقول ببسمة :
_ أمال فين أفكار ؟؟ مش باينة يعني .
قال خليل بهدوء واضعًا قدم فوق الأخرى بجدية :
_ موجودة أفكار وهي هتروح فين يعني ؟؟ الاول نتفق على الأساسيات وبعدين نشوف أفكار مش يمكن ميعجبنيش الكلام أو نختلف في الموضوع ونلغي الحوار كله ؟؟
علت الدهشة والصدمة ملامح داوود الذي لم يفهم المعاني المبطنة خلف حديث ذلك الرجل، لكنه افترض حسن نيته وقال مبتسمًا :
_ ربنا ما يجيب أي اختلاف، هنختلف على ايه يعني ؟!
ابتسم له خليل يقول بجدية :
_ المهر والشقة وكل الامور دي ...
اعتدل داوود ينظر لوالدته، ثم حدق بخليل يقول:
_ اللي تطلبه أفكار هعمله أنا معنديش اي اعتراض على شيء ولا ...
قاطعه خليل دون أي مقدمات يلقي في وجهه ما يريد دون مواراة مبتسمًا بسمة مثيرة للاستفزاز :
_ ٢٠٠ ألف..
اتسعت أعين حامد بشدة من ذلك الوقح وكذلك جيهان التي تعجبت حديثه بتلك الأمور قبل التعارف وموافقة شقيقته، هو فورًا طرح عليهم ما يريد دون أي مقدمات.
نظر له داوود قليلًا وما كاد يفتح فمه حتى انتفض الحميع على صرخة أفكار التي اقتحمت الغرفة غاضبة وقد كانت تراقب من بعيد حتى فاض بها الكيل :
_خليل......
انتفض جسد خليل، بينما استدارت الرؤوس جميعها صوب باب الغرفة حيث تقف افكار حاملة بين يديها صينية عليها العديد من اكواب العصير، تقدمت ووقفت أمام الطاولة منصف الغرفة تحديدًا تضع الاكواب أمامها، ثم استقامت تحدج خليل بشر جعله يبتلع ريقه وهو يبعد عيونه عنها مدعيًا عدم الاهتمام .
تنفست افكار بصوت مرتفع، ثم نظرت الجميع مبتسمة :
_ بعتذر يا جماعة بس هو كده خليل دايما بيحب يهزر..
اعترض خليل على حديثها بقوة :
_ لا مش بهزر، أنا بتكلم بجد، مهرك يكون ٢٠٠ ألف هو أنتِ شوية ولا ايه ؟؟
كان يتحدث بجشع جلب العار لنفس أفكار وهي تشعر برغبة عارمة في البكاء، هو يجلس هنا ويتاجر بها كما لو كانت بضاعة يود كسب أكبر سعر من خلفها .
عضت شفتيها تقول بقهر :
_ خليل لو سمحت مـ
قاطع داوود كل ذلك يقول دون مقدمات :
_ موافق ... أنا اساسا اللي كنت هعرض عليكم اكتر من كده بكتير، افكار تستحق ملايين الدنيا، والمبلغ ده قليل كمان .
كان يتحدث وهو ينظر لأفكار ببسمة صغيرة بعدما همس داخله أنه لن يجاري ذلك الجشع في حديثه، لكن التماع أعين افكار بالدموع جعلته يتراجع عن قراره، ابتسم لها يغمض عيونه وكأنه يطمئنها .
ابتلعت افكار ريقها وهي تحاول التنفس كي تتجنب سقوط دموعها تنظر لوالدتها بحزن، ترفع يدها تمسح دموعها دون أن يراها أحد، لكن داوود والذي لم يكن ينزع عيونه عنها رآها، ليشعر بالضيق الشديد ..
_ اللي تطلبه افكار أنا تحت امرها تشاور بس وكل اللي تحبه هيكون عندها على طول .
نظرت له افكار بأعين تلتمع بالدموع وهو ابتسم لها، في تلك اللحظة سمع داوود صوت والدتها تقول أثناء جذبها للجلوس :
_ واحنا مش عايزين غير أنك تحافظ على بنتي، لا عايزين اكبر مهر ولا افخم قاعة، أنت بس حافظ على بنتي وصدقني مش هتلاقي حد يشيلك في ضيقتك ولا يقف جنبك زي افكار، جدعة وبتشيل الكل وتبدي مصلحتهم على مصلحتها.
نظرت لها افكار بحب، بينما خليل أطلق صوتًا حانقًا رافضًا ولم يكد يعترض حتى زجرته سكر بأعين تطلق لهيبًا محذرة إياه أن يتدخل في الحديث، تؤكد على ما قالت :
_ أنا المسؤولة والوصية على بنتي وانا الكبيرة هنا وكلمتي هي اللي هتمشي، أنا مش ببيع بنتي، أنا بشتري راجل، الفلوس آخر همي، كل اللي عايزاه تاخد بالك من أفكار وبس .
نظر لها داوود ببسمة ثم حدق في وجه افكار بحنان شديد :
_ في عيوني يا امي .
ابتسمت سكر تربت على فخذ ابنتها التي تجلس جوارها، لتميل عليها افكار بحب شديد وهي تحاول كتم دموعها تشكرها في قلبها وتنظر لها بحب وامتنان كبير .
بينما سكر والتي لم تمتلك يومًا في هذه الحياة اغلى من صغيرتها، تلك الفتاة التي رُزقت بها في سن كبير ليُصدم الأطباء من حملها بعد كل تلك السنوات، وتشعر هي بالقلق والخوف من خطورة حملها أن تتأذى بسببه، لكن يشاء الله أن يصبح ذلك الحمل سببًا في رزقها بأفكار، الوحيدة التي ضمتها حينما نبذها الجميع، من كانت تعتني بها وتتحمل كامل مشاكلها وتذمرها وحنقها، رفيقتها الوحيدة .
ابتسمت جيهان لأفكار بحنان وحب :
_ موافقة يا افكار يا بنتي على داوود ابني مش كده ؟؟
نظرت افكار بطرف عيونها صوب داوود الذي كان مبتسمًا ببشاشة كعادته، ثم هزت رأسها بنعم تخفي رأسها في كتفه سكر بخجل شديد، وفورًا أطلقت سكر زغاريد عالية سعيدة، بينما خليل كان يشعر بالنقمة على كل ما يحدث والقهر لضياع فرصته في الخروج ببعض الجنيهات، لكن لن يدع الأمر يفوته دون أن ينال بعض المكاسب لنفسه ...
بدأ الجميع يقرأون الفاتحة تحت نظرات متبادلة من الجميع، وحينما انتهوا تحدث حامد بسعادة لأجل شقيقه الصغير :
_ باذن الله حابين الخطوبة تكون اخر الاسبوع ده لو مفيش مشاكل...
نظرت لهم افكار بخجل وخليل اعترض سريعًا :
_ لا طبعا، آخر الأسبوع ايه ؟؟ مش هنلحق نجهز الدنيا و...
قاطعه داوود يعلم جيدًا أنه سيقف كالشوكة بحلقه خلال هذا الزواج، لكن لا بأس هو ليس غرًا ويستطيع التعامل مع هذا النوع .
_ الخطوبة هتكون للعيلة بإذن الله الحلويات والحاجة السقعة علينا حسب العادات، وكمان فروع النور والفراشة وكل ده هدية من حامد اخويا هو نادرها زمان يعملي خطوبتي على حسابه، مش كده يا حامد ؟!
نظر له حامد بدهشة شديدة، لكن فجأة فهم ما يرنو إليه داوود ليبتسم ويقول بهدوء :
_ اه صحيح أنا فعلا عملت كده، كل الفراشة على حسابي أنا، أنا عندي اغلى من داوود وافكار ؟؟ ولو تحبوا نشوف أي قاعة عادي، أنتم بس اطلبوا .
ابتسمت افكار لهم وهي تشعر بأن الحياة واخيرًا بدأت تبتسم لها وتفتح لها الاحضان ..
لكن فجأة اعترض خليل سريعًا :
_ لا قاعة ايه وحوارات ايه، احنا عايزين فراشة في الشارع عشان الناس كلها تحضر، وحتى الفرح مش هنعمله في قاعة هنعمله هنا في الشارع، في حتة ارض على اول الشارع واسعة نعمل فيها فراشة واجيب درامز واعمل الف ليلة وليلة .
التوى ثغر داوود يهز رأسه:
_ باذن الله وقت الفرح يبقى نتكلم في الموضوع، الفرح بيكون على العريس يا استاذ خليل وقتها باذن الله كل اللي تحبه افكار هيحصل، اظن كده اتفقنا ؟؟
نظر له خليل بحنق لتبادر سكر وتقول :
_ اتفقنا يا بني، شوف لما روحت السيدة زينب ودعيت هناك وشك نور ازاي وربنا هداك ..
_ ليه كده يا حجة سكر ما كنا ماشيين كويس وكنتِ زي الفل من شوية .
قالت سكر بحنق :
_ يووه وانا قولت ايه يعني ؟؟ أنت يابني شيطانك قوي على فكرة .
تدخلت جيهان قبل اشتعال النقاش مجددًا تقول ببسمة واسعة مطلقة الزغاريد :
_ خلاص يا جماعة عدوها لبعض، الف مبروك يا بت يا افكار .
ختمت حديثها تنهض وهي تطلق زغاريد عالية تعانق افكار وداوود ينظر لها ببسمة، خجلت منه افكار بشدة تدفن رأسها داخل كتف جيهان تتلاشى النظر له، لكن من يوقف ضربات قلبها الذي يكاد يثقب صدرها ويقفز منه ؟؟؟
_____________
_أحنا اسفين يا ماما.
خرجت تلك الجملة من فم "علي" و "زياد" في الوقت ذاته، أثناء جلوسهما مع والدتهما في غرفتها وهي تجلس على الفراش تحتضن الصغيرة مريم..
تمتمت ألاء بضيقٍ وهي تنظر على الحائط تتجنب النظر لهم:
_والله أسفين على أيه ولا أيه؟!.
تحرك زياد ووقف أمامها مباشرة:
_يا ماما أحنا بنحبك وعرفنا غلطنا ومش هتتكرر تاني سامحيني لو سمحتي.
كان ينظر لها بمهارة وهو يغلق ويفتح عيناه ببراءة تجعلها تنسى ما أقترفه هذا الصغير..
وهي ترمقه بضعف شديد، بينما تحدث علي في توضيح ودفاع عنه وعن شقيقه:
_وبعدين يعني أحنا عملنا كل ده علشان أنتِ وبابا ترجعوا مش أكتر، لأن بابا كان زعلان أوي وهو قاعد معانا بقاله فترة وبيبات معانا.
كررت ألاء كلمة طفلها الأخيرة بعدم فهم، حتى أنها ظنت أنها قد أخطأت في السمع:
_بيبات معاكوا؟!.
هز علي رأسه في إيجاب، بينما زياد الذي كان يقف أمام والدته أستطاع أن يشعر بفضولها الرهيب لذلك تحدث بمكر طفولي وقد لمعت عيناه بخبث:
_أقولك ليه يا ماما بابا بايت معانا وتصالحينا؟!.
لم تتحدث ألاء فضولها قوي جدًا، ولكن في الوقت نفسه ما أقترفوه كان كبير...
لذلك تحدث متصنعة اللامبالاة:
_والله تقول أو لا مش مشكلتي، ثم عيب تنقل الاخبار بين الناس.
تحدث علي بالنيابة عن شقيقه في ضيقٍ يبدو أن تلك الذريعة لا تهم والدتهما فتحدث وقد أنطلت عليه الخدعة دون الاهتمام بشيء :
_متخانق مع مراته وسايب ليها البيت وسمعته بيتكلم مع ستو ومش عايز يروحلها..
هل ظهر شبح ابتسامة على شفتيها؟!...
نعم ظهر..
فرح قلبها كالحمقاء وكأن ذلك الخبر اسعدها مهما حاولت أن تدعي عكس ذلك في قرارة نفسها تعترف.
____________
أتصلت بها جيهان في الصباح الباكر لتخبرها بأنها جالسة في المنزل حزينة ووحيدة، بعد ذهاب الأطفال إلى منزل ألاء، ووجود أولادها في العمل وطلبت منها الاتيان لمساعدتها في صنع الغداء ولتأنس بها...
ولم ترفض لها أفكار الطلب، تحب تلك المرأة رغم شعورها في بعض الأحيان أنها تستغلها، ولكنها تراها ذات عقل صغير مثل والدتها تمامًا لذلك تلبي طلباتها ولا تعترض على أي شيء.
جاءت وصنعت مع الطعام أو بمعنى أصح بمفردها لا تدري أفكار كيف وصلت تلك المرأة إلى هذا العمر ولا تستطيع صُنع أغلب أصناف الطعام؟!..
أرتدت أفكار حجابها وقررت أن تذهب فلقد تأخرت وتعلم أن موعد داوود على المجئ قد أتى وهي تشعر بالخجل الرهيب من رؤيته بعد تقدمه لخطبتها رسميًا.
أردفت جيهان بهدوء:
_ما تخليكي يا أفكار شوية.
تحدثت أفكار برفض سريع:
_خليني أيه بس يا جيجي ده أنا أتأخرت أوي يدوبك أروح.
قالت جيهان في حب:
_طيب يا بنتي اللي تشوفيه، بس انا مبسوطة أوي باللي حصل وأن داوود اتقدم ليكي..
غمغمت أفكار بشكٍ وخجل رهيب للمرة الأولى يراودها صدقًا لم تشعر بهذا الخجل كله في خطبتها السابقة:
_بعني مش حضرتك اللي اجبرتيه؟!
خرجت ضحكة عالية من جيهان وقالت بعدها في سخرية:
_شكلك لسه متعرفيش داوود يا بنتي، مهما حصل داوود مش بيعمل حاجة مش على هواه ولا بيمشي ورا حد طول عمره من وهو عيل صغير ماشي بدماغه وبالصح وبالغلط اللي فيها ومهما الدنيا اتقلبت مش بيسمع كلام حد غير نفسه وهو اللي جه وقالي عايز يخطبك أنا نفسي مصدقتش.
بتلك الكلمات البسيطة عززت جيهان من ثقة أفكار فهي مازالت لا تصدق ما حدث حقًا وكأنها تعيش حلم جميل، هل حقًا ستصبح خطيبة لداوود؟!..
هو رجل يتخطى مواصفات فارس أحلامها التي تمنتها يومًا ما في مراهقتها حتى..
ترى بأنها لا تستحقه...
كلام جيهان جيد وأسعد قسم بداخلها ولكن القسم الأخر مازال يشعر بالقلق لفرق الحياة بينهما .
قاطع أفكارها مع ذاتها صوت باب الشقة يُغلق ويُفتح ويطل منه داوود وهنا أنتفضت أفكار مرة واحدة ووقفت بينما داوود أقترب منهما وأتضحت له الرؤية أفكار هنا؟!
ماذا تفعل هنا؟!
وفي هذا الوقت؟!..
تمتمت داوود في استغراب:
_أنتِ بتعملي أيه هنا يا أفكار؟!.
حاولت أفكار أن تجد أي تعقيب قد يخرج منها، وتحدثت بعفوية وكأنها مازالت تتعامل معه كأنه رب عملها:
_أنا جيت علشان الست جيهان طلبتني.
رمق داوود والدته في غيظ شديد، فقد أخبرها بألا تتحدث معها وألا تعاملها أنها مازالت تعمل في منزلهم!!!!..
حاولت جيهان أن تدافع عن نفسها بسبب نظراته القاتلة متمتمة بارتباك:
_ده يا ابني أفكار هي اللي اصرت تيجي تشقر عليا لما عرفت إني قاعدة لوحدي مش كده يا أفكار؟!
قالت أفكار كاذبة:
_أيوة أيوة صح أنا اللي جيت أشوفها علشان لقيتها قاعدة لوحدها صعبت عليا، وبعدين خلاص ده أنا كنت ماشية حالا اهو.
رمق داوود والدته بوعيد ولا يريد الحديث في الأمر أمام أفكار، لذلك تحدث بهدوء محاولا السيطرة على أعصابه قدر المستطاع...
_ماشي أنا هوصلك علشان الوقت اتأخر جدا.
____________
تحركت بسرعة صوب باب المنزل تفتحه بعد عدة طرقات، وبمجرد أن فعلت صُدمت من رؤيته بعد هذه الأيام يقف وهو ينظر لها ببسمة صغيرة :
_ مساء الخير يا أمنية عاملة ايه ؟؟
تراجعت أمنية للخلف بملامح مكفهرة :
_ مساء النور يا حامد، اتفضل .
خطى حامد للمنزل وهو ينظر ارضًا يسعل بخفة كي ينتبه أهل المنزل لوجوده، نظرت له أمنية تقول بهدوء :
_ تعالى مفيش غير امي اللي هنا وبتصلي جوا .
هز رأسه يلحق بها، ثم استقر على أحد المقاعد في البهو وبمجرد أن جلست أمامه بادرته أمنية تتساءل بفضول رغم معرفتها الإجابة :
_ خير يا حامد ؟؟ فيه حاجة ولا ايه !!
تعجب حامد حديثها وطريقتها في طرح سؤاله بكل هذا التهكم والحنق :
_ خير إن شاء الله، أنتِ نسيتي أنك ليكِ بيت وزوج المفروض ترجعي ليهم ولا ايه ؟! عجبتك القعدة في بيت أهلك يا أمنية ؟!
ابتسمت أمنية بكل سخرية لكن داخلها كانت تقفز انتصارًا، لقد جاء لها وحده بعدما اشتاق لها وشعر بالوحدة في غيابها :
_ لا منستش، بس أنت اللي شكلك نسيت، بدليل سايبني كل الايام اللي فاتت هنا من غير ما تفكر ترفع سماعة تليفون حتى وانت اللي غلطان يا حامد .
زفر حامد بخفوت، ثم رفع عيونه لها يقول بجدية :
_ أمنية أنتِ كمان غلطانة، مكنش يصح تقفي تزعقي في وشي برة البيت وقدام اخويا وامي ومربية العيال .
_ قدام مربية العيال ولا ام العيال يا حامد ؟؟
نفخ حامد بحنق شديد :
_ ايه يا أمنية هو أنتِ بتحولي الكلام على مزاجك؟!
_ يعني تنكر اني جيت شوفتكم بعيوني واقفين سوا ؟!
صرخ حامد بصوت حاول أن يخفضه قدر الإمكان مذكرًا نفسه أنه خارج المنزل :
_ وهو أنتِ شوفتينا واحنا بنرقص سلو ولا كنت واخدها في أحضاني ؟! دي كانت بتتخانق معايا يا أمنية .
نظرت له أمنية تتساءل بحدة :
_ وياترى بقى الأستاذة ايه اللي جابها تتخانق معاك وليه ؟؟
انتفض حامد بقوة يشعر بدمه يفور :
_ يوووه يا أمنية، هو أنتِ حالفة بالله تلاقي أي سبب للخناق والنكد، يعني أنا جاي كل ده عشان وحشتيني واصالحك وأنتِ قاعدة تدوري على أي حاجة تنكدي بيها؟؟ مش عايزة ترجعي معايا قوليلي متفضليش تتحججي بحوارات تانية .
في تلك اللحظة وقبل أن تتكلم أمنية تدخلت والدتها والتي فرغت لتوها من الصلاة :
_ روحي يا أمنية جهزي شنتطك عشان ترجعي مع جوزك .
نظرت لها أمنية برفض شديد، هي لم تفرغ بعد من التحدث معها، لكن نظرة من والدتها جعلتها تنظر مرة أخيرة صوب حامد تقول بهدوء :
_ ماشي يا حامد هرجع معاك بس اتمنى تكون دي آخر مرة تزعلني بالشكل ده .
ختمت حديثها تتحرك للغرفة وحامد يراقبها بعيون غامضة، وفجأة أفاق على صوت حماته تردد جواره ببسمة :
_ كويس يا بني أنك سمعت كلامي وجيت تراضيها، حافظ على بيتك يا حبيبي وسيبك بقى من أي حاجة تبوظ حياتك .
نعم هو جاء بناءً على طلب تلك المرأة، حدثته في الهاتف وطلبت منه أن يأتي ليأخذ زوجته ويكفيه بعادًا، بعدما كان قد قرر ألا يأتي في هذا الوقت ابدًا، هو ما يزال يحتاج فرصة للتفكير، لكن حديثها معه اخجله وجعل يرضخ لها ويأتي لأخذ زوجته .
دقائق وخرجت أمنية تودع والدتها ببسمة، ثم تحركت مع حامد للخارج تحت نظرات والدتها التي ابتسمت تدعو لهما بالتوفيق..
وحامد يسير جوار أمنية ببال شارد وقلب تائه، أين الطريق الصحيح له ؟؟ لا يدري هو فقط يسير دون وجهة محددة ..
________________
تجلس جواره في السيارة وهي تشعر بالخجل الشديد، فهذه أول مرة تصبح مع داوود في مكان واحد وحدهما، راقبت حركات يده على المقود وهو يقود باحترافية، تحركت عيونها ببطء على ملامحه تكتشف في هذه اللحظة فقط أنها معجبة بملامحه، معجبة بها منذ الوهلة الأولى التي رأته بها .
وسيم هو لا تنكر .
ابتسمت دون وعي وهي ترى بسمته تتسع شيئًا فشيء، صعدت بعيونها حتى عيونه لتُصدم أنه ينظر لها، شهقت تبعد عيونها بسرعة صوب النافذة وداوود أطلق ضحكات صاخبة وقد ادهشه هذا الجانب الأنثوي الخجول من أفكار .
ياالله تلك الفتاة لغز كبير كلما ظن أنه فك احجيته وجد نفسه مكتشفًا احجية اضافية، لكنه وللحق يستمتع بفك كل رموزها وشفراتها .
فجأة شعرت افكار بتوقف السيارة، نظرت حولها تقول بعدم فهم :
_ وقفنا ليه هنا ؟؟
نظر لها داوود ببسمة، ثم هبط من السيارة يقول بجدية وهو يتحرك صوبها يفتح لها بابها :
_ تعالي هشتريلك حاجة حلوة ..
نظرت له افكار لثواني بعدم فهم، فتلك الكلمات التي سمعتها تسببت لها في بلاهة لحظية حتى أجبرها داوود بعيونه أن تهبط .
هبطت تنظر له بعدم فهم وهو أشار لها كي تتبعه، تراه يدخل محل كبير مبتسمًا :
_ علي قالي أنك بتحبي الايس كريم والكيكات اللي بالشكولاته مش كده ؟!
هزت أفكار رأسها تقول بخفوت :
_ أيوة .
ابتسم لها داوود يتوقف جوار ارفف الحلوى يحمل العديد والعديد من حلواها المفضلة يضعها بين يديها دون حسبان لتتسع أعين افكار بصدمة تراه يشير لها كي تتبعه :
_ تعالي نجيب عربية عشان كده مش هينفع.
فجأة وجدته يسحب عربة يضع بها ما تحمله، ثم أشار لها كي تسير خلفه، تراه يضع الكثير من الحلوى، حلوى تعرفها وأخرى تراها للمرة الأولى، شعرت بقلبها يرتجف وهي ترى بسمته لها حينما يسألها إن كانت تفضل هذه أو تلك ؟؟
هل تحلم ؟؟ نظرت حولها تحاول ايجاد إشارة على أنها تحلم، كأن ترى طبق اسباجتي يتسوق جوارها، أو ترى هرة ترتب أرفف البضائع، لكن لا شيء، كان كل شيء طبيعي ..
إذن هذه حقيقة ؟؟
ولهذه الفكرة انتفض قلب أفكار بقوة تشعر بشعور مخيف، شعور مخيف أو ربما لم يكن، ربما هو ليس مخيفًا، بل هو فقط ...غريب .
أن يهتم بها أحدهم...شعور لم يسبق أن جربته افكار، والآن هي تراه وتشعر بها، هناك من يهتم بها، بل ويدللها ويفسدها اهتمامًا .
يهتم بها أحدهم، بعدما عاشت حياتها لا تهتم هي بنفسها .
توقف داوود أمام ثلاجة المثلجات يخرج منها الكثير والكثير لأجلها وهو يحاول انتقاء من كل نوع واحدة.
وإن جاء أحدهم الآن وسأله ما الذي يفعله، ستكون إجابته هي لا اعلم ..هو لا يعلم ما حاجته لكل ذلك، فقط ...فقط يود اسعادها، بعدما رأى ما حدث البارحة مع أخيها واستشعر كم الإهمال الذي تعانيه افكار من اخوتها، وساءه أن يراها تكابد وتحمل مسؤوليات عدة فوق أكتافها، حتى أنها لم تكد تتفرغ لتدلل نفسها، شعر أنه يود لو يشعرها ببعض الدلال، بعض الاهتمام، يود أن يسعد افكار، ولم يعلم كيف يفعل ذلك مع امرأة، فالمرة الوحيدة التي قرر اهداء امرأة هدية من اختياره حدثت كارثة وكاد يُفضح وكل ذلك بسبب تلك الفتاة خلفه .
ابتسم داوود لا يصدق كيف ساقه القدر لها، كيف وصل لتلك اللحظة مع افكار ؟!
ابتسم بسمة واسعة وهو يسحب العربة ليدفع ثمن كل ما اشتراه، ثم استدار صوب افكار التي كانت تراقبه بأعين ملتمعة بالدموع وملامح مصدومة ..
حمل الحقائب يخرج من المكان مبتسمًا يقول :
_ بتحبي ايه تاني نجيبه ؟؟
نظرت له افكار، ثم نظرت حولها لا تعلم ما تقول، وفجأة انفجرت في بكاء عنيف جعل داوود يرتعب وهو يقترب منها حاملًا الحقائب :
_ افكار مالك ؟؟ حصل ايه ؟! بتعيطي ليه ؟؟ مالك يابنتي حصل ايه كنتِ كويسة .
بكت افكار بتأثر لكل ما يفعل لها، يالله هل هكذا شعور أن يهتم بك أحدهم ويحنو عليك، لتعترف دون شعور منها وبكامل الأسف :
_ أنا... أنا أول مرة ... أول مرة حد يعاملني حلو كده ويجيبلي كل الحاجات الحلوة دي .
نظر لها داوود يتأوه بشفقة ممازحًا فقط ليخرجها من لحظة الرثاء تلك، يالله كيف دفنوها خلف كل تلك المسؤوليات التي لم تكن واجبًا حتى عليها :
_ خلاص يا افكار، حقك عليا بعد كده مش هعاملك حلو وهديكِ بالجزمة لو تحبي .
ضحكت افكار من بين دموعها بلا شعور ليبتسم لها يشير لها بعيونه أن تتحرك صوب السيارة :
_ ليكِ عليا يا ستي كل ما تخلصي الحلويات هجبلك غيرها لغاية ما تبقلظي واطفش منك .
ضحكت افكار أكثر وهي تنظر له بشكر وهو شرد بضحكاتها، ونظراتها، اه من تلك الفتاة، اين كانت تدفن تلك الرقة والهشاشة، كل ذلك كان تحت أكوام القوة الوهمية التي كانت تدعيها ؟!
ابتسم لها يقودها صوب السيارة حتى يعيدها للمنزل قبل أن تتأخر، صعد يعد نفسه سرًا أن يحافظ على ضحكاتها ويعوضها كل ماسبق وعانته ....
__________
_قولت أيه يا خالي؟!.
تحدث ياسر بتلك الكلمات وهو يجلس مع خاله في المقهى بعيدًا عن المنزل؛ حتى لا ترفض زوجته، فهو يريد إقناعه كما أستطاع أن يقنع روضة..
تمتم والد روضة بعد أن أخذ رشفة من كوب القهوة المتواجد أمامه على الطاولة:
_والله يا ياسر مش عارف أقولك ايه يا ابني بس حاسس أنه لسه بدري أوي ده معدهاش يابني غير كام يوم على الخطوبة.
هتف ياسر بأصرار رهيب من نوعه:
_يا خالي ما أنا قولتلك هسافر ولازم علشان أسافر وأحضر ورق روضة أننا نكون كاتبين الكتاب علشان الإقامة وغيره وبعدين دي بنت خالي يعني أخاف عليها من نفسي من قبل أي حد وأحنا واحد وعمري ما هظلمها أبدًا، وبعدين هو كتب الكتاب أيه يعني؟! هو مجرد ورقة وكل حاجة هتكون زي ما هي.
لا يدري والد روضة هل هو اقتنع حقًا..
أم أنه شعر بالملل من اصراره..
لكن على أي حال أردف بنبرة هادئة وهو يحاول انهاء الحديث:
_خلاص هشوف روضة رأيها ايه..
إذا أتى الأمر إلى هنا..
الباقي سهل فهو اقنع روضة بكل سهولة وكلمتها يعرفها قبل أن تنطق بها...
__________
بالقرب من منزلها كان داوود يسير بجانبها بخطوات هادئة وهو ينظر أمامه...
كان الصمت يعم عليهما وكان هو سيد الموقف بعد اقترابهما من المنزل...
لكن قرر داوود أن يقطع هذا الصمت بعد أن توقف عن السير لتتوقف هي الأخرى وتنظر له بنظرات مستفهمة...
_أفكار ممكن أطلب منك طلب؟!.
رمقته بقلق هل يود فسخ الخطبة التي لم تبدأ بعد؟!.
_أتفضل يا أستاذ داوود.
غمغم داوود في تهكم وهو يرمقها في نظرات مغتاظة:
_أعتقد اللقب ده المفروض يتلغي ولا أيه؟!.
رغم صعوبة أن تتحدث معه دون ألقاب ولكنها هزت رأيها مؤيدة حديثه؛ فابتلع هو ريقه متمتمًا بهدوء:
_ياريت لما أمي تتصل بيكي مرة تانية متروحيش البيت غير ضيفة طول ما احنا ماشيين في موضوع الخطوبة دي.
حاولت أفكار أن تقول أي شيء ولكن منعها داوود بحركه من يده وأسترسل حديثه بوضوح ولطف:
_أنا عارف أني كويس وعارف أنها اللي طلبت منك كده هي ست كبيرة وطول عمرها مش متعودة تعمل حاجة بنفسها ولما بتصدق حد يشيل عنها ومتقلقيش أصلا خلال أقرب وقت أنا هجيب حد يساعدها في البيت، وحامد قال أنه بيدور على واحدة تقعد مع الولاد، أنا مخطبتكيش علشان تفضلي تقومي بنفس الدور أحنا محتاجين ندرس بعض وبس فاهمة يا أفكار؟!
هزت رأسها بإيجاب مما جعله يتحدث مداعبًا أياها:
_هو أنتِ هتفضلي تهزي في رأسك طول الطريق؟!.
أبتلعت أفكار ريقها بخجل ثم قالت:
_فاهمة خلاص، يلا علشان أنا اتأخرت وأمي عماله ترن وأنا عماله أكنسل عليها...
ثم قالت حينما ألقت نظرها على المكان حولهما:
_وبعدين تقدر تمشي خلاص أنا كلها كام خطوة وأكون في البيت.
هتف داوود رافضًا وهو يسير لتتبعه:
_لا لازم اوصلك لغايت البيت...
أمام منزلها كان شقيقها يخرج بانفعال رهيب من المنزل وخلفه سكر وهي ترتدي ملابسها المنزلية وفوقها خِمارها المنزلي وهي تحاول أن تردعه:
_يا ابني استني الغايب حجته معاه.
تحدث خليل بغضب جامح:
_والله لاوريها أصل البت دي عيارها فالت مهو كله من تربيتك ليها يا اما، سايبة ليها السايب في السايب دايما علشان كاسرة عينك وبتصرف عليكي..
رفع بصره بتلقائية ليجدها تأتي برفقة هذا الشاب الذي تقدم لخطبتها منذ أيام، وهنا تراقصت الشياطين أمام عينه وهو يقترب منها هاتفًا وهو يجذبها من ذراعيها بجنون قائلا:
_أنتِ كنتي فين يا بت أنتِ معاه؟! وراجعة متأخر ولا همك أيه ملكيش حاكم والله لأكسر عضمك...
أستنكر داوود طريقته فهو منذ رؤيته لهذا الرجل لم يرتح له أبدًا لذلك وضع داوود يده على يديها التي يمسكها بعنف رهيب وغمغم داوود:
_أنتَ مجنون ولا شكلك كده ما تحسن ملافظك وتراعي أننا في الشارع متتعاملش معاها بالاسلوب ده.
تحدثت أفكار بتوتر وهي تبتلع ريقها:
_روح يا داوود وسيبني أنا هتفاهم معاه..
قاطعها خليل الذي أمسكها بعنف أكثر:
_لا حنينة يابت والله لاوريكي يا أفكار هربيكي من أول وجديد أنا لغاية ما تحترمي نفسك..
كان داوود ينظر له بغضب رهيب حتى أنه على وشك أرتكاب أفعال جنونية تأتي في مخيلته لم يفعلها يومًا.......
